الأربعاء 16 شوّال 1445 هـ :: 24 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

فوائد الشدائد


عناصر المادة
بعض حِكم الشريعة
بعض فوائد الشدائد وثمراتها
الآلام والمصائب فيها تجريد وتقوية للإيمان
المصائب سبب لتكفير الذنوب
المصائب تقع ليقوم المسلمون بإغاثة إخوانهم
أصاب الأمة مصائب كانت سبباً في عودتها إلى الله
يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب
وهذه الشدائد التي تعتري المسلم وتعتري المسلمين هي خير لهم في الحقيقة
وهذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر والتقوى أكثر من ذي قبل
الشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم
في الشدائد يفزع الناس إلى الله ويؤوبوا إليه، ويتوبوا إليه، ويتضرعوا إليه
أنها تربي جيلاً قوياً قادراً على المواجهة
التمحيص وظهور الحقائق
أنها أبرزت طاقات ومواهب وقدرات لم تكن ربما موجودة من قبل
وإن من فوائد الشدائد: أن تظهر العبادة من قبل المخلصين في وقت المحنة
وأيضاً فإن من الأمور التي تظهر في الشدائد أحكام فقهية ما كان لتبحث لولا الشدائد
الأشهر الحرم وفضل صيام عاشوراء

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

بعض حِكم الشريعة

00:00:33

فإن الله -تعالى- هو الحكيم.

والحكمة: وضع الأمور في موضعها المناسب.

وكل ما خلقه عز وجل وشرعه لحكمة بالغة، قد يطلع عليها العباد وقد لا يطلعون، وقد يستنبطها ويعرفها الراسخون في العلم دون غيرهم.

لم يخلق الله -تعالى- شيئاً عبثاً:  أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115].

وقال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ  [ص: 27].

وقال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 16- 17].

وقد ذكر لنا في كتابه أنواعاً من الحكم على تشريعه وأحكامه، فمن ذلك: قوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ  [الذاريات: 56] فبين الحكمة من خلق الجن والإنس.

وقال عن الصلاة:  وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45] وهذا من حكمة تشريعها.

وقال عن الزكاة:  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا  [التوبة: 103] فهي تكفير لسيئاتهم، ورفعة لهم عند ربهم، وتطهير لنفوسهم بسببها.

وقال عن الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  [البقرة: 183].

وقال عن الحج:  وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ  [الحج: 27 – 28].

هكذا إذًا، التقوى حكمة شرع الصيام، وشهود المنافع من حكم الحج: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ  .

بين لنا لماذا شرع الجهاد، فقال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ  [البقرة: 193] حتى يكون الحكم له، الشرع شرعه في الأرض مطبق، الجميع يخضع لحكمه، هكذا الحكمة من الجهاد.

وأما إنزال الكتب فقال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف: 12] فهو منذر ومبشر: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  [الحديد: 9].

لماذا خلق الموت والحياة؟  الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا    [الملك: 2].

لماذا جعل عدد أصحاب النار من الملائكة القائمين عليها؟ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا  [المدثر: 31] لماذا كانوا تسعة عشر؟

بين، قال:  وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا  ليأتي أبو جهل وأمثاله ويقولون لقومهم: كل مجموعة يتكفلون بواحد، وأنا أكفيكم البقية، ويستهزؤون بالعذاب، ويستهزؤون بهذا العدد فتنة لهم.

تأمل -يا عبد الله- في الآية، لماذا تسعة عشر؟  وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً   عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30]،  وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ  هذا العدد  إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا .

وفي الجانب المقابل؟  لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ  [المدثر: 31].

لماذا كانت الأموال التي كانت تأخذ من الكفار بغير قتال لا توزع على المقاتلين، وإنما لها مصارف خاصة؟

 مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً  متداولاً  كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ [الحشر: 7] بيان للحكم لماذا؟ توزيع الثروة، وعدم جعل المال في يد طبقة محصورة في المجتمع: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ .

كانوا في الجاهلية من العيب الكبير جداً أن يتزوج الشخص مطلقة الذي تبناه، عندهم عادة التبني المحرمة، يأخذ أي ولد ليس من نسبه فيلحقه بنسبه، يتبناه، إذا تزوج هذا الولد امرأة، لا يمكن لمن تبناه أن يتزوجها ولو طلقها، عندهم في الجاهلية عيب كبير يخالف العادات والتقاليد.

فلما كان زيد بن حارثة عند النبي ﷺ يقال له: زيد بن محمد، ولما نزل قوله: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ  [الأحزاب: 5] رجع  إلى اسمه: زيد بن حارثة، قد تزوج زيد زينب، ثم طلقها، فكيف أراد الله أن يبطل هذه العادة الذميمة التي لا أصل لها عند الجاهلين؟ كيف أراد أن يبطلها عندهم، وأناس قد خرجوا لتوهم من الجاهلية، وبعضهم في نفسه حرج كبير من أن يتزوج إنسان مطلقة ابنه بالتبني؟

كان كسر هذه العادة والتقاليد البائدة المذمومة على يد محمد بن عبد الله ﷺ شخصياً، ليتزوج زينب بعدما طلقها متبناه السابق زيد بن حارثة: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا  [الأحزاب: 37] تحطيم هذه العادة، والقانون الجاهلي، على يد محمد ﷺ شخصياً، بأن يزوج بزينب من فوق سبع سموات، عقد عقده الله.

لما نزلت الآية دخل النبي ﷺ لزينب مباشرة،  زَوَّجْنَاكَهَا ، لم يكن ولي وشهود وعقد معتاد؛ لأن العقد كان أجل من هذا وأعلى، عقد في السموات، لماذا؟

لتحطيم هذه العقيدة الجاهلية،  لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا  [الأحزاب: 37].

وهكذا أخبرنا سبحانه وتعالى أنه كتب المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه لا توجد مصيبة تحدث إلا وهي مكتوبة منذ زمن بعيد، لماذا أخبرنا بهذا؟

 مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ  في اللوح المحفوظ  مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ  [الحديد: 22] لماذا أخبرنا؟ لماذا كتبت في اللوح المحفوظ؟ لماذا كتبت قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟

قال:  لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ  لكي لا تحزنوا على أي نفع يفوتكم، وأي ربح وفائدة،  لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ  [الحديد: 23]؛ لأنك إذا أصبت بمصيبة فاتك شيء من المال أو الولد، أو نحو ذلك، تقول: مكتوب مقدر منذ زمن بعيد،  كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا  [الأحزاب: 6].

وإذا جاءك مال مفاجئ لا تأشر ولا تبطر، وإنما تقول: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا  مقدر ومكتوب ولا بد من حصوله،  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ  [الحديد: 23].

عندما خرج الصحابة محرمون إلى مكة شاء الله أن يجعل صيداً، والصيد محبب إلى العرب، والنفس تتوق إليه أن تمسك بالصيد، أن تظفر به، وطعامهم على الصيد، شاء الله أن يكون الصيد قريباً من أيدي المسلمين، بل لا يحتاج حتى إلى رميه بسهم، الرمح يكفي، بل حتى الرمح لا يحتاج  إليه، يضع اليد عليه ويأخذه، بمتناول اليد، تصور الغزال والحبارة والأرنب، وهذا الصيد يؤخذ بمجرد مد اليد، أمر عجيب لماذا؟

المحرم لا يجوز أن يصيد صيد البر، قال تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ  لماذا؟ ابتلاء، لماذا؟  لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ الذي يمتثل الأمر لا يصيد وهو محرم، اختبار، ابتلاء، حتى إذا ثبت الثابتون ارتفعت درجاتهم وعظمت حسناتهم عند ربهم، فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ  [المائدة: 94].

لماذا جعل الله الخلق متفاوتين؟ لماذا جعل ناساً أغلى من ناس؟ لماذا فاوت بينهم في طبقات الدنيا نسباً ومالاً ومنزلة وسلطاناً وجاهاً وقوة؟

 أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف: 32] لماذا؟

لحكمة عظيمة هذا التفاوت، ناس أغنى من ناس، وناس أعلى من ناس في السلطة، لماذا؟

 لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ  [الزخرف: 32].

لو كانوا كلهم أغنياء ولا واحد سيجد خادماً ليخدمه، لو كانا كلهم رؤساء لن يجد أحد سائقاً ليسوق به، لو كانوا كلهم أثرياء ما وجد أحد عاملا ًيبني له جداراً أو يحفر له بئراً، أو ينظف له بيتاً، أو يسوس له دابةً، أو يدرب له خيلاً، أو يصنع له حديدةً، حكمة عظيمة، لا تستقيم حياة البشر إلا بهذا.

هذا التفاوت، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا  [الزخرف: 32] فيعمل الموظفون عند أرباب الأعمال، ويعمل الأجراء عند الذي استأجرهم، وهكذا..

لكنه ذكر بأن هذه القضية في استعمال الناس لبعضهم، واستئجار بعضهم لبعض، واستخدام بعضهم لبعض أن هذا في الدنيا، أما في الآخرة:  وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ  [الزخرف: 32].

ما هو المستفاد من كل هذه الأمثلة؟

أن الله -تعالى- لا يخلق شيئاً إلا لحكمة، ولا يفعل شيئاً إلا لحكمة سبحانه وتعالى، لا يوجد في أفعال الله شر محض لا خير فيه، لا بد أن يوجد فيه خير مهما ظهر لنا أن فيه شر، قال تعالى: والخير كله في يديك والشر ليس إليك ، ولذلك فإن الشر ليس في أفعاله ولكن في مفعولاته، يعني: مخلوقاته، فالمخلوقات التي فيها شر، أما خلقه، فعله في الخلق، فعله تعالى، قيامه بالخلق ليس فيه شر، ولذلك قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ  [الفلق: 1 - 2] فالشر في خلقه، ليس فيه ولا في أفعاله سبحانه.

أفعاله لحكم، هذا الكلام مهم جداً عند النظر إلى الواقع، حتى الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب، والقحط، والزلازل، والبراكين، حتى وجود الكفر في الأرض لحكم، حتى قيام الناس بقتل بعضهم البعض لو حصل لحكم، حتى خلق إبليس لحكم، فيظهر من خلقه لإبليس من الحكم ما لا يراه إلا أهل العلم.

عندما تتجلى قدرته تعالى في خلق المتضادات، والمتقابلات، فيرى العبد ربه قد خلق هذه الذات، إبليس التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، كما خلق جبريل في الطهر، والزكاء، وهو مادة كل خير.

وظهرت قدرته التامة في خلق المتضادات من الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحر والبرد، ونحو ذلك، كل هذا دليل على قدرته على الخلق.

هذا التفاوت والتباين والتضاد دليل على كمال قدرته.

وفي خلق إبليس فوائد: من ظهور أسمائه تعالى كالقهار، شديد العقاب، سريع الحساب، ذي البطش الشديد، الخافض والمذل، وهكذا..؛ لأنه لا بد من وجود متعلق لهذه الأسماء، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال، وإنما هو عز وجل يقهر ويعاقب، ويبطش ويخفض ويذل، بهذا..

كما خلق إبليس الذي يوقع بعض الناس في الذنوب فيتوبون، يظهر من خلال ذلك آثار أسماء الله من الحليم والعفو والغفور، والستير، وهكذا..، ولو لم يكن إبليس ما أذنب أحد ولم يتب أحد بالتالي، ولم تظهر آثار أسماء الله، الحليم العفو، الغفور، الستير، وهكذا..، التواب من أسمائه.

وكذلك تحصل العبودية المتنوعة لولا خلق إبليس ما قام الجهاد، ولولا وجود الجهاد ما كان شهداء، ولذلك تتفاوت مراتب الناس بسبب خلق إبليس، بسبب خلق إبليس صار فريق في الجنة وفريق في السعير، ولو لم يكن إبليس لكان الناس كلهم بلا دوافع للشر، ولذلك فإنه تعالى يخلق لحكمة عز وجل، ليس في أفعاله، ليس في خلقه عبث.

بعض فوائد الشدائد وثمراتها

00:20:45

وكذلك فإنه إذا قدر المصائب والآلام فإنما هي لحكم، فإذا ابتلي بعض الناس بآلام مبرحة قال: ماذا فعلت؟ ولماذا هذا الألم كله؟ لماذا يذرني هذا العذاب؟ لماذا يتركني أتألم كل هذا الألم؟

الآلام والمصائب فيها تجريد وتقوية للإيمان

00:21:10

هذه الآلام والمصائب -يا عباد الله- امتحان: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ   [البقرة: 214].

الآلام والمصائب فيها تجريد وتقوية للإيمان، فيها دليل على ضعف الإنسان، لو ما في مرض لطغوا أكثر وبغوا.

الآن مع الأمراض هم في هذا الطغيان، فكيف لو كانت أجسادهم سليمة لا تصيبها آفة ولا يعتريها مرض، كيف كان الطغيان سيكون؟

المصائب سبب لتكفير الذنوب

00:21:49

المصائب سبب لتكفير الذنوب، والعبد قد ينجو من النار ليس بالأعمال التي يقوم بها، لكن بالمصائب التي تقع عليه: ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطت عنه بها خطيئة  [رواه مسلم: 2572] هناك درجات ترفع  ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة  [رواه الترمذي: 2399، وقال: "حديث حسن صحيح" والحاكم: 7879، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، الألباني: "حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3414] هناك أجور تكتب.

بل من الآلام والأمراض ما يكون سبباً لصحة الجسم فارتفاع الحرارة، والحمى تظهر أخلاق رديئة في الجسم تسبب له مزيداً من الصحة بعد المعافاة من المرض.

ويعرف الأصحاء نعمة الله عليهم إذا رأوا المريض، ويعرف المريض نفسه نعمة الله عليه بالصحة قبل أن يمرض، ويلجأ إلى ربه بالدعاء.

عندما يصاب بالمرض يضعف ويتضرع:  فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ  [الأنعام: 43].

المصائب تقع ليقوم المسلمون بإغاثة إخوانهم

00:23:03

المصائب تقع ليقوم المسلمون بإغاثة إخوانهم، لماذا تقع المصائب؟ لماذا يقدر الله المصائب على المسلمين؟

 مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى  [رواه مسلم : 2586].

مصائب كثيرة نزلت بالمسلمين، ومصائب متوقعة عند بعض المحللين أقوى من ذي قبل، ستقع كوارث في حسابات بعض الناس على المسلمين أقوى من ذي قبل، فيتساءل الناس: لماذا؟ لماذا يسلط الكفار؟ لماذا تقع المصائب هذه على المسلمين، قصفاً وقتلاً وتشريداً، ونهباً للثروات؟

لو لم يكن لدينا إيمان وبصيرة ستزل قدم بعد ثبوتها.

وسيقول الناس مندهشين: لماذا؟

أما الذين يعلمون أنه تعالى لا يفعل شيئاً ولا يخلق شيئاً ولا يقدر شيئاً إلا لحكم فإنهم سينظرون بعين البصيرة، وليس بعين البصر القاصرة.

أصاب الأمة مصائب كانت سبباً في عودتها إلى الله

00:24:19

عباد الله: أصاب الأمة مصائب كانت سبباً في عودتها إلى الله، الناس الآن في طغيان، في غفلة، في لهو، في انشغال بالدنيا، في استمتاعات مباحة، وكثير منها محرمة، كيف يردون إلى الطريق المستقيم؟

مما يقدره الله في ردهم: كوارث، مصائب، ترجعهم إلى الصراط المستقيم، تجعلهم يتضرعون، يرفعون أكفهم، يجأرون إلى الله تحت الخطر، تحت القصف، في الدمار، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ  [الأنعام: 43].

يا عباد الله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا  [الروم: 41] لماذا؟  لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  [الروم: 41]، ليذيقهم ويعجل لهم بعض العقوبة في الدنيا لعلهم يتوبون، ويعودون إلى الله.

ثم قد يكون من بعد هذه الكوارث والحروب خير عظيم للسلمين ولو بعد حين، لكن الناس يستعجلون، عائشة قدر الله عليها بأن تفتن بالزنا من قبل المنافقين، كانت لا تنام، جف دمعها من كثرة البكاء، شدة، هم وغم، مصيبة، وألم لنفسها ولأهلها، ولزوجها ﷺ، لكن بعدما نزلت البراءة شهر كامل، بيت النبوة في محنة عظيمة جداً.

لما تنزل البراءة تكون منزلة عائشة بعد البراءة أعظم من منزلتها قبل البراءة، ولو أنها تعذبت وتألمت لكنها لما صبرت وكانت بريئة شاء الله أن يبتليها لترتفع درجتها:  إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  [النــور: 11] مع أنه في الظاهر مصيبة عظيمة، وشر مستطير، بيت النبوة، كلام في العرض، اتهام بالفاحشة، ومن؟! زوجة النبي ﷺ، ابنة الصديق .

ويتكلم من يتكلم والإشاعات تنتشر، والأخبار تتناقل، بلبلة في المدينة، المدينة النبوية كلها اهتزت لهذا الحدث، ومع ذلك في الآية:  لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  [النــور: 11]، في عاقبته ونتيجته، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  [النــور: 11]، ولذلك لا بد أن يكون عندنا نظر بعين البصيرة والإيمان ونور القرآن لهذه الأحداث التي تقع.

عباد الله: قتل سبعون من الصحابة، خيار، فضلاء، عباد، زهاد، مجاهدون في سبيل الله، حمزة عم رسول الله، مصعب بن عمير حامل اللواء، وغيرهم، وغيرهم، وجرح في المسلمين كبير، وجراحات فيهم، وفي وجه النبي ﷺ، لماذا المصيبة؟

لحكم، إنها قد تظهر شراً لكنها لحكم، قدر الله أن يداول الأيام بين الناس، فتكون الغلبة للمسلمين مرة، ولأولئك مرة وهكذا، حتى تكون العاقبة في النهاية للمتقين.

يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب

00:28:45

ليميز الصادق من الكاذب، ليكون ذلك من أعلام النبوة، قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا، وننال منه، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة [رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773].

يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، المنافقون رجعوا من المعركة، المنافقون انسحبوا، مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ  [آل عمران: 179]، هذه أحد المعركة، ميزة النفاق، أظهرته، والله تعالى يريد أن يظهر النفاق، حتى يعرف المسلمون الحقيقة، ويستخرج تعالى العبودية من نفوس أوليائه في السراء والضراء، فيصبرون، وكيف يكون الصبر إذا لم توجد مصيبة؟

والصبر من العبادة نصف الدين.

ولو أنه نصر عباده دائما وأظفرهم على عدوهم في كل موطن لطغت النفوس، وارتفعت وتعالت: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [الشورى: 27]، فهو يُدبر عباده وهو بهم خبير بصير، مرة سراء، ومرة ضراء، مرة شدة، ومرة رخاء، مرة قبض، ومرة بسط، تدبير للعباد، هذا تدبير من الله، هذا هو التدبير، يُدبر عباده سبحانه وتعالى، ويمتحنهم بالغلبة والانكسار والهزيمة لكي يعقبهم بعد ذلك عزا ونصراً بعد أن يرجعوا إليه، ويتوبوا، فإذا ذلوا إليه رفعهم، وإذا ارتفعوا عاقبهم،  وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123]، لكن وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا  [التوبة: 25]، فإذا أراد أن يعز عبده وأن ينصره كسره أولاً ليجأر إليه فيجبره وينصره على مقدار لجوئه إلى ربه وذله بين يديه، وانكساره عنده.

ثم هذه المعركة كان فيها شهداء، ولولا الهزيمة والقتل ما كان هذا العدد من الشهداء لكن الله يريد أن يكرمهم، وأن يقبضهم إليه لكي ينالوا عنده ذلك الثواب العظيم، والجزاء الوافر، والشهادة عنده من أعلى مراتب الأولياء، وهو يريد تعالى أن يطغى الأعداء لكي يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى يعلم عباده دروساً كما ترى في سورة آل عمران، ينقيهم من الذنوب، يمحص المؤمنين، يمحص المنافقين، يقدر المصائب لمغفرة الذنوب، يعزي العباد: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا  [آل عمران: 169]، هذا عزاء،  بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  [آل عمران: 169 - 170].

وهكذا تكون المصائب في مصلحة المسلمين نهاية.

ويذهب من رؤوس الكفر والطواغيت من يذهب، ويتعرى من الباطل ما يتعرى، وتسقط ألوية للانحرافات ما كانت لتسقط إلا بهذه الأحداث، وتظهر الحقائق، ويجد الجد، وتنفسح الميادين لنصرة الدين، وتكون الحاجة للعمل الدؤوب فيخرج الشباب من اللهو إلى البذل، من النوم إلى العمل، يتسابق الناس إلى التقديم من بعد البخل، ويجودون بعد أن أمسكوا بالأموال.

عباد الله: إن الخضر خرق السفينة وقتل الغلام لماذا؟ ظاهرها شر، لكن لتنجو السفينة من يد الغاصب: وَكَانَ وَرَاءهُم  أي أمامهم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا  [الكهف: 79]، فإذا رآها معيبة تركها؛ لأنه يريد النفيس الجيد، والغلام إذا كبر كان سيكون كفراً لأبويه.

أيها المسلمون يا عباد الله: لقد كان سجن بعض العلماء سبباً في تأليف كتبهم؛ كما ألف شيخ الإسلام كثيراً من كتبه في السجن.

ولما حبس السرخسي -رحمه الله- في جب كان ذلك سبب تأليف كتابه العظيم: المبسوط في الفقه.

وهكذا ألف من ألف، وانتفع المسلمون، بسبب شيء يظهر أنه شر ولكنه في النهاية يكون خيراً.

ولذلك فمهما حدث من الأحداث، ومهما حصل من الكوارث، ومهما حصل للمسلمين من القتل والتشريد والحروب، ويتكلمون عن مليوني لاجئ، وعن إصابات خطيرة، وقتل شنيع.

يتكلمون عن نهب للثروات، لكن هذه أفعال الله وأقدار الله ولا يعلم ماذا سيحدث إلا الله: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253].

والمطلوب من العباد أن يكونوا متأهبين لإرضاء الله في كل وقت وحين، وأن يسارعوا لنجدة الإسلام وحمل هذا الدين، وأن يكونوا عند حسن الظن مهما حدث ومهما قام، وأن ينظروا إلى الواقع بعين البصيرة والإيمان، وليس بعين الدنيا التي تقول: قتل هذا! وخرب هذا! ويا خسارتاه! ويا ويلاه! ويا ثبوراه! فذلك لا يجدي شيئا.

وليقوم الناس من غفلتهم، الله يدبر عباده، يوقظ أهل الغفلات ، ويعيد أهل المعاصي والسيئات، ويتخلص العباد من كثير من المجرمين، ثم يكسر الله الظالمين، ويولي الظالم على الظالم، هذه سنة ربانية، قال تعالى:  وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ  [الأنعام: 129]، فيسلط هذا على هذا وهذا على هذا، هذا التسليط لماذا؟  بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ  [الأنعام: 129].

 وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا  [الأنعام: 129]، فيتسلط عليه ويذله ويقهره، ثم يقهر الله الثاني، وهكذا..

 

وهذه الشدائد التي تعتري المسلم وتعتري المسلمين هي خير لهم في الحقيقة

00:36:51

عباد الله: وهذه الشدائد التي تعتري المسلم وتعتري المسلمين هي خير لهم في الحقيقة: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له  [رواه مسلم: 2999].

وعندما تنزل الشدائد بالمسلمين فإن الله ينزل من المعونة على قدر البلاء؛ كما قال ﷺ: إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤنة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء  [رواه البزار: 8878، وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1961]، وفي رواية أخرى: وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة  [رواه البيهقي في شعب الإيمان: 9483، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني: 1664].

وتدور على المسلمين رحى الحروب، وكيد الأعداء، ويتجمع عليهم معسكر الشر، ويكون في ذلك شدة، ومصائب تنزل، ولكن هذه الشدائد لا تخلو من فوائد، ومن ذلك انتظار الفرج وترقب انكشاف الغمة من الله -تعالى-؛ لأنه ليس لها من دون الله كاشفة.

وقال : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا  [الشرح: 5 - 6] وهذا الترقب والانتظار لا بد أن يكون مصحوباً من المسلمين ببذل الأسباب لكشف البلية، وأخذ ما يمكن أخذه لدفع المصيبة وتخفيف آثارها، ولكن ينبغي أن لا يغيب عن أذان المسلمين أن انتظار الفرج عبادة، بل عبادة عظيمة وباب أجر عظيم من الله سبحانه وتعالى.

وهذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر والتقوى أكثر من ذي قبل

00:39:18

عباد الله: وهذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر والتقوى أكثر من ذي قبل، أكثر من حين لم تنزل من قبل، فيظهر من صور الإيثار ما يظهر.

ولذلك حفظ لنا تاريخنا في قصة أولئك النفر في معركة من معارك الإسلام الخالدة لما طاف المنقذ بالماء على الجرحى، فرأى جريحاً فأشار إليه أنه يريد أن يشرب، فلما أدنى منه الماء، لمح الجريح جريحاً مسلماً آخر، فأشار إلى هذا الحامل للماء أن يذهب إلى الثاني، فلما قرب الماء من الثاني لمح ثالثاً فأشار إليه اذهب إلى الثالث، فلما ذهب إلى الثالث وجده قد فارق الحياة، فلما رجع إلى الأول فإذا به قد مات، ولما ذهب إلى الثاني إذا به قد مات رحمهم الله.

 وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].

في أوقات الحروب والشدائد تظهر أنواع من بذل المعروف لم تكن معروفة عند الناس، ولا منتشرة، لكن الشدة التي تجمعهم في المصيبة تقرب بين نفوسهم، وتظهر روح الإخوة بينهم، بل تزيل كثيراً من العداوة الشخصية التي كانت في نفوسهم، وتجعلهم متحدين أمام الخطر والعدو الذي نزل شره.

وهكذا يتوحد المسلمون في المصيبة ما لا يتوحدون في غيرها، ويظهر من آثار البذل والتعاون والإيثار مالم يكن يظهر من ذي قبل، وقد ظهر في المسلمين من الخير في حفر الخندق، وهذه القوة العجيبة التي عملوا بها يدفعهم في ذلك الإيمان، ونصرة دين الإسلام، والدفاع عن حريم المسلمين، ومدينة النبي ﷺ، فحفروا ذلك الخندق، حفروه في أيام معدودات! حفروه بالرغم من البرد القارس! والمساحة الطويلة التي شقوا فيها ذلك الخندق! كيلو مترات! بعمق يفترض أن لا تعبره الخيل وتقفز من فوقه! وعرضٍ! وهكذا كان الخندق بين الحرتين!

عباد الله: وظهر من آثار التعاون في مواجهة شدة يأجوج ومأجوج بين ذي القرنين ومن معه، وتشغيله للقوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً، تعاون كذلك، حمل عليه الشدة التي كانت تعاني من ذلك القوم:  آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا  [الكهف: 96]، نحاساً مذاباً، فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي [الكهف: 97 - 98] تواضع لله بعد الإنجاز، هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي  [الكهف: 98].

الشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم

00:43:36

والشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم، وقال النبي ﷺ في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري:  إن الأشعريين  وهم قوم أتوا مسلمين من اليمن، إذا أرملوا في الغزو  أي: فني زادهم، وكأن الواحد قد التصق بالرمل من القلة،  إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد  كل المدخرات تخرج وتجمع،  ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم  [رواه البخاري: 2486، ومسلم: 2500]، وهكذا المواساة في الشدائد والإيثار في أوقات المحنة.

في الشدائد يفزع الناس إلى الله ويؤوبوا إليه، ويتوبوا إليه، ويتضرعوا إليه

00:44:43

عباد الله: في الشدائد يفزع الناس إلى الله ويؤوبون إليه، ويتوبون إليه، ويتضرعون إليه:  فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ  [الأنعام: 43]، ولذلك حكت لنا كتب التاريخ الإسلامي عند خروج النار لقرب المدينة في الحجاز وهي من أشراط الساعة، ورأى الناس ببصرى الشام، بعيداً عن المدينة، أعناق إبلهم على ضوء نار الحجاز.

بل إن بعضهم كتب الرسائل التي على ضوء تلك الناقلة، خرجت هذه النار العظيمة على مسيرة أربعة فراسخ من المدينة، ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوماً لم تنقطع، وسالت إلى جهات ترمي بشرر، كانت تحرق الحجارة وتذيبها.

لما حصل هذا صاحبها زلزال عظيم ورجفة شديدة، وفزع الناس، وخافوا خوفاً عظيماً ودخلوا كلهم الحرم، المسجد النبوي، واستغفروا وأنابوا إلى الله، ولهجت الألسن بالدعاء، وأمير المدينة أعتق جميع ممالكيه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة إلا أن النار لم تنقطع.

وهكذا استمرت آية عظيمة وإشارة صحيحة إلى أشراط الساعة، وصفها الواصفون، بالرغم أنها في أرض ذات حجر لا شجر، ولا نبت تأكل بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله، وتحرق الحجارة وتذيبها، حتى تجعلها كالطين المبلول، ثم خمدت بأمر الله، وانطفئت.

والشاهد: كيف أن الناس فزعوا إلى ذكر الله، ودعائه، ودخلوا الحرم، واجتمعوا فيه يلهجون إلى الله بلسان مضطر أن يذهب عنهم الضر.

أنها تربي جيلاً قوياً قادراً على المواجهة

00:47:25

وكذلك من الآثار العظيمة للشدائد: أنها تربي جيلاً قوياً قادراً على المواجهة، بعد أن تذهب جيلاً فيه الميوعة والانحلال والذل والمهانة، ليس بقادر على المواجهة، فلما رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة وقالوا بكل وقاحة:  يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ  [المائدة: 24- 26].

ولذلك مكث بنو إسرائيل في صحراء التيه يخرجون من الصباح للبحث عن مخرج ومنفذ فلا يأتي عليهم غروب الشمس إلا ويجدون أنفسهم في ذات المكان الذي بدأوا منه البحث، أربعون سنة يتيهون في الأرض لا يجدون مسلكاً يخرجون منه، ولا يهتدون إلى طريق يخرجهم من ذلك التيه، وكان من الحكم في هذه الشدة التي نزلت بهم، أن يذهب ذلك الجيل، يموت، الذي رفض دخول الأرض المقدسة، وتقاعس عن قتال الجبارين، ذلك الجيل الذي كان تربى في ظل فرعون على الذل والمهانة والاستعباد والطغيان، لم يكن يلح للفتح العظيم والأمر الجليل، ولذلك فسدت فطرته، فشاء الله أن يبقى في هذه الصحراء، ليموت فيها، ويخرج جيل جديد، أربعون سنة كفيلة بذهاب جيل ومجيء جيل آخر، قد تربى في شدة الصحراء، وهذه الظروف الصعبة ليكون فيما بعد أهلاً لأن يدخل الأرض المقدسة، عاشوا في جو الخشونة، صلب عودهم وجاؤوا على غير النموذج الذي كان عليه آباؤهم، فكانوا أهلاً للفتح لأمر الله.

فمن فوائد الشدائد إذًا: أنها تربي جيلاً جديداً، جيل المحنة المؤهل للنصر؛ لأن الجيل الذي قبله أفسده الذل والطغيان والاستعباد.

وربما يكون في بعض البلدان والأماكن والأزمان أفسدته الميوعة والانحلال، والمعاصي، والترف، فلا يكون أهلاً للنصر، فيبتلي الله المسلمين بالشدائد، قد تطول سنين لكي تذهب آثار الميوعة، والانحلال، والانحراف، فيخرج بعد ذلك خلقاً آخر، أو يكون من بعده جيل آخر يكتب الله الفتح على أيديهم.

التمحيص وظهور الحقائق

00:51:07

ومن فوائد الشدائد -يا عباد الله-: التمحيص وظهور الحقائق، وانكشاف البواطن، تمييز المسلم عن المنافق، والمنافق عن المسلم مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].

جزى الله الشدائد كل خير  وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي

الشدائد تظهر المنافقين، منهم الذين يرتمون في أحضان الأعداء؟ من الذين يوالون أعداء الله سبحانه وتعالى؟ من الذين يتعاونون معهم، ويشاركونهم، ويكونون معهم على باطلهم من هم هؤلاء؟

ينكشف المنافقون الذين كانوا يسترون عوراتهم بأمور واهية تنطوي على كثير من المسلمين، فالآن آن الأوان من الله عز وجل لينكشف الباطل، وتسقط تلك الأوراق التي كانت تستر عورات المنافقين، فيظهرون على حقيقتهم، وتعرف الأمة من أين أتيت؟ ومن أين كانت مصيبتها؟

ولذلك فإنه لما تولى ابن العلقمي الباطني الخبيث الوزارة لبعض بني العباس راسل التتر وأطمعهم في البلاد وسهل عليهم القدوم، وأنهم سيأخذون بغداد بسهولة، وهكذا أشار على الخليفة بمصانعة مللك التتر ومصالحته، وأن ملك التتر يريد أن يزوج ابنته من ابن الخليفة العباسي، وأن من المناسب أن يخرج الخليفة إليه للاجتماع به، وعقد ذلك القران العظيم، وكان الخليفة مطمئناً إلى هذا الباطني الخبيث لاهٍ بما كان عنده، غافل عن مصالح رعيته كما قال المؤرخون المسلمون.

فاستدعى الفقهاء وأعيان الناس، ووجوه من كان ببغداد، وخرج إلى ملك التتر، فأنزلهم خيمة، ثم جعل يأخذ منهم جماعة جماعة فيقتلهم ويقطع رؤوسهم حتى كان الخليفة من آخر الضحايا، وهكذا دخلوا بغداد، وأحرقوها، وقتلوا مليونين من المسلمين، وسكب تراث المسلمين في ذلك النهر، حتى تغير لون مائه من كثرة حبر الأوراق والكتب والأسفار التي سطرتها أنامل علماء المسلمين.

وهكذا حصلت المصيبة العظيمة بقتل الخليفة وانتهاك الديار وسقوط عاصمة الخلافة، نتيجة طبيعية لتعاون الباطنيين مع أولئك التتر.

وكذلك لما تحالف الفاطميون الباطنيون من أهل الرفض أيضاً من ملة ابن العلقمي ذاتها مع الصلبيين الذين جاؤوا لغزو البلاد الشامية، فتحالفوا معهم ضد السلاجقة المسلمين، ولكن الله أذاقهم من أولئك المتحالفين سوء العذاب.

وهكذا كان أهل جبل عاملة خنجراً  في خاصرة المسلمين.

وكان المارونيين من أكبر المتحالفين مع الصلبيين الذين جاؤوا لغزو ديار الإسلام، فيدلون قادة الحملات الصليبية على عورات المسلمين، حتى أذن الله بظهور أهل الإسلام، بقيادة قادة جدد قاموا بحمل لواء الجهاد كنور الدين وعماد الدين، وصلاح الدين، وغيرهم رحمة الله عليهم.

أنها أبرزت طاقات ومواهب وقدرات لم تكن ربما موجودة من قبل

00:55:50

عباد الله: كان من فوائد الشدائد أيضاً التي حصلت في تاريخ المسلمين: أنها أبرزت طاقات ومواهب وقدرات لم تكن ربما موجودة من قبل، فلما وصل الأسطول الصليبي إلى المياه المصرية أمام دمياط في العشرين من صفر سنة 647 للهجرة، واستطاعوا أن يحتلوا المدينة بعد فرار حاميتها، لم ييأس المسلمون، دبت فيهم روح المقاومة، هذه فائدة الشدائد، تظهر في المسلمين طاقات لم تكن موجودة من قبل، يهبوا لنصرة الدين بعد أن يروا المصيبة قد حلت، تستيقظ فيهم حاسة الانتقام لله ولدينه.

في أيام الدعة والراحة والانبساط والاستمتاع بالأموال والزروع والثمار والأبنية لا تظهر هذه الطاقات، لا تظهر هذه القدرات، لا يظهر الباعث أصلاً لكي تبتكر وسائل جديدة للمقاومة، لكن لما غزا الصليبيون بلاد الشام ظهر في المسلمين من أذكياء الشباب من اخترع أبراجاً من المنجنيقات العظيمة فيها أخلاط من الزفت المشتعل، ومواد أخرى قد اخترعتها أيدي أولئك المسلمين، وابتكرتها عقولهم، يرمون بها الفرنجة، فكانت حريقاً عليهم، ابتكرت من قبل تلك العقول.

وكانت بعض الوسائل تثير الدهشة والإعجاب، ومن ذلك: أن مجاهداً من المسلمين قوَّر بطيخة خضراء وأدخل رأسه فيها ثم غطس في الماء إلى أن اقترب من معسكر الصليبيين فظنه بعضهم بطيخة عائمة في الماء، فلما نزل لأخذها اختطفه الفدائي المسلم وجره وأتى به أسيراً.

وتعددت مواكب أسرى الصليبيين في شوارع القاهرة في ذلك الوقت على نحو زاد من حماسة الناس، ورفع معنويات المقاتلين إلى السماء.

وهكذا تتكرر القضية في هذه الأيام على أرض فلسطين، في أيام المحنة والقتل، ونزول الأمور العصيبة، والمذابح الكبيرة، وهدم الديار، ومحاربة الأرزاق، وتجريف الأشجار، لم يرحموا كبيراً ولا صغيراً، ولا امرأة حاملاً، ولا طفلاً، ولا غير ذلك.

ووجد في المسلمين من عمل بعض أنواع من الصواريخ كصواريخ القسام وغيرها التي ابتكرتها أيدي المسلمين في فلسطين، وعملوا تلك من مواد بسيطة كما قالوا مصنعة من مواد أولية بحيث تستطيع النساء في البيت أن تحضرها، كما قال بعض المجاهدين في فلسطين.

وتجارب تقوم على أساس الدفع الذاتي، لم تكن هذه الصواريخ لتظهر على بساطتها إلا في أجواء المحنة والشدائد، وهكذا تكون الأمور -يا عباد الله-، يقول أحد المجاهدين في فلسطين: كنا نمارس أنواعاً من الإعانات بجانب المعارك، وكنا أحياناً نأتي لهذه الدكاكين التي أغلقها اليهود لنخرج منها بعض الأطعمة لنوزعه على المحاصرين، حتى الحلوى وزعناها على بعض الأطفال داخل البيوت المحاصرة، وكان المقاتلون يقرؤون أورادهم من القرآن، بالإضافة إلى أن معظم الشباب كانوا يصومون مع القتال.

وكان المقاتلون يأكلون وجبة واحدة في اليوم، وعادة ما تكون خفيفة مثل الساندتش، تلك هي وجبة الإفطار فقط، طيلة اليوم.

ونساء الحارة يقمن بطبخ الطعام للمقاتلين، هذا وضع إخواننا الآن، وإن روح الفكاهة والمرح لم تفارقهم حتى في ظل أعتى الاشتباكات، فيلحقون جنود اليهود بالرغم من شدة الحال مع نوادر وفكاهات يتبادلونها بينهم.

وذات يوم بينما كنا نقوم بهدم جدران أحد المنازل للتنقل للوصول إلى وحدة من اليهود متمركزة داخل أحد البيوت للانقضاض عليها، كان اليهود في ذات الوقت يقومون من الجانب الآخر بهدم الجدران للتنقل بين البيوت، وشاء الله أن نلتقي نحن وإياهم في غرفة واحدة، بعد أن كنا نهدم أحد الجدران من جهة، وهم يهدمونه من الجهة الأخرى، فلما رأوا وجوهنا ألقوا سلاحهم وهربوا، ودرات بيننا وبينهم معركة عنيفة تكبدوا خلالها عدداً من القتلى.

وإن من فوائد الشدائد: أن تظهر العبادة من قبل المخلصين في وقت المحنة

01:01:48

عباد الله: وإن من فوائد الشدائد: أن تظهر العبادة من قبل المخلصين في وقت المحنة، قال النبي ﷺ:  العبادة في الهرج كهجرة إلي [رواه مسلم: 2948] ومعنى: الهرج، الفتنة واختلاط أمور الناس، الفوضى العارمة، الفتن، يقوم أناس مع قلتهم يعبدون الله في ذلك الجو ولا ينسونه، يشتغلون بالعبادة ويتفرغون لها بالرغم مما حولهم من الفتن، هذا معنى حديث:  العبادة في الهرج كهجرة إلي .

وأيضاً فإن من الأمور التي تظهر في الشدائد أحكام فقهية ما كان لتبحث لولا الشدائد

01:02:32

وأيضاً فإن من الأمور التي تظهر في الشدائد أحكام فقهية ما كان لتبحث لولا الشدائد، مسائل فقهية ما كانت عقول فقهاء المسلمين لتخرج بالنتيجة لولا هذه الشدائد، ومثال ذلك: مسألة التترس، لو تترس العدو بمسلمين وهاجم بلداً مسلماً، فإذا أراد المسلمون في البلد أن يدافعوا عن مدينتهم ويرموا على الكفار ربما أصاب ذلك بعض المسلمين الذين أمسك بهم الكفار دروعاً بشرية، فما حكم رمي الكفار وسيقتل من المسلمين من الدروع البشرية؟

مسألة عويصة قتل المسلم كبير عند الله، ولكن ترك الكفار يتقدمون مصيبة أعظم، ولذلك قال شيخ الإسلام بجرأة عظيمة عجيبة حمله عليها علمه وفقهه العميق الواسع: وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم.

وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً، فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيداً، ومن قتل وهو في الباطل لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً.

وتظهر كذلك في كتابات الفقهاء المسلمين كلمات ما كانت لتظهر لولا هذه الشدائد والمحن، مثال على ذلك، قال الخرقي رحمه الله من فقهاء الحنابلة في وصف مناسك الحج والطواف قال: ثم أتى الحجر الأسود إن كان، فاستلمه إن استطاع وقبله.

ليس بغريب إتيان الحجر الأسود استلامه وتقبيله، الغريب هو قوله: "إن كان" يعني: إن كان الحجر الأسود في موضعه، إن كان الحجر الأسود موجوداً، والذين لا يعرفون التاريخ إذا قرأوا هذه العبارة قالوا: ما هذا الهراء؟ وما فائدة قول: "إن كان"، يمسح الحجر الأسود إن كان الحجر الأسود موجوداً، وهل يعقل أن لا يكون موجوداً؟ لكن إذا عرف أن القرامطة الباطنية قد أغاروا على مكة، وسفكوا دماء الحجاج، وعلوا على الكعبة، ورموا الجثث فوق سطحها، وسال ميزاب الكعبة بالدم، واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه، وأخذوه إلى هجر، ومكث عندهم ثنتين وعشرين سنة، وبقي المسلمون يطوفون بالكعبة هذه المدة بدون حجر أسود.

فيعرفوا عند ذلك لماذا قال فقيه مسلم: "إن كان".

وهكذا صلاة الطالب والمطلوب، إذا يهرب والعدو يلحقونه كيف يصلي والمطاردة تستمر ساعات، وكذلك بالعكس إذا كان يطارد عدواً، العدو يهرب والمسلم لا بد أن يمسك به، والمطاردة قد تستمر ساعات يصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة، ولو بغير سجود على الأرض، ولو بغير قيام عليها صلاة الطالب والمطلوب.

وهكذا تظهر مرونة الفقه الإسلامي، وشريعة هذا الدين العظيم، واجتهاد علماء المسلمين.

الأشهر الحرم وفضل صيام عاشوراء

01:06:46

عباد الله:  إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ  [التوبة: 36]، أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، كما قال النبي ﷺ) [وراه البخاري].

سمي الشهر المحرم، لكونه محرماً، سمي هذا الشهر بالمحرم تأكيداً لتحريمه، فلا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة: 36] أي في هذه الأشهر المحرمة، لأن الإثم فيها أظلم من الإثم في غيرها؛ لأنها عظيمة عند الله، أربعة أشهر حرم لا يراعي فيها الكفار الحرمات، ويريقون دماء المسلمين في الأشهر الحرم، وفي محرم لأنهم لا يرقبون في مؤمن إِلًّا ولا ذمة.

وأما نحن المسلمين فقد قال لنا ربنا:  فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ  [التوبة: 36].

وعظم حرمات هذه الأشهر، وجعلهن حراماً، والذنب فيهن أعظم، كما أن العمل الصالح والأجر فيها أعظم؛ لأن الثواب يتضاعف في المكان الفاضل، والزمان الفاضل، كما أن الإثم يعظم كذلك في الزمان الفاضل والمكان الفاضل؛ لأنها انتهاك حرمات.

عباد الله: قال النبي ﷺ في شهرنا هذا  أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم  [رواه مسلم: 1163] ظاهر الحديث أن المراد جميع الشهر المحرم، ولو قال قائل: لماذا لم ينقل أن النبي ﷺ لم يصمه كله؟

فقال بعض العلماء: لعله أوحي إليه بفضله في آخر عمره فلم يتمكن من ذلك.

ولذلك قال:  لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع  [رواه مسلم: 1134] ولم يعيش إلى قابل، ومات عليه الصلاة والسلام.

عاشوراء في هذا اليوم في هذا الشهر، نجى الله موسى ومن معه من فرعون ومن معه، إنه يوم صالح فصامه موسى، ونحن نصومه؛ لأننا أولى من بني إسرائيل بصيامه، كما فعل النبي ﷺ، فانتزع من اليهود تلك الميزة، وذلك الفضل.

ولأجل مخالفتهم استحب لنا نبينا ﷺ أن نصوم معه التاسع، فقال ﷺ:  لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع  [رواه مسلم: 1134].

إن هذا اليوم صيامه يكفر سنة، تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم.

والكبائر تحتاج إلى توبة، والصغائر تكفر، ولو كفرت ذنوب الإنسان كلها فإن صيام ذلك اليوم يزيد في درجاته.

إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يصوم التاسع لكن لم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ؛ كما قال ابن عباس في صحيح مسلم، فيستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً؛ لأن النبي ﷺ صام العاشر ونوى صيام التاسع.

وصيام عاشوراء وحده جائز، لكن الأفضل أن يضيف إليه يوماً قبله تاسوعاء، فإن لم يكن فيوم بعده لأجل المخالفة، مخالفة اليهود.

وفي هذه السنة يكون تاسوعاء إن شاء الله يوم الأربعاء، وعاشوراء يوم الخميس، فإذا أخبر الثقة بدخول الهلال وعمل بذلك الخبر وإلا أتم الناس الشهر الذي قبله ثلاثين يوما على القاعدة.

اللهم إننا نسألك أن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم اجعلنا لذكرك ملازمين، واجعلنا بشريعتك قائمين، اللهم اجعلنا بدينك مستمسكين يا رب العالمين.

اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد.

اللهم انشر رحمتك علينا يا ذا الفضل العظيم، وأيد المسلمين بنصر من عندك إنك على كل شيء قدير.

اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم اكسر شوكتهم، اللهم قوض دولتهم، اللهم دمر أسلحتهم، وعطل اقتصادهم يا رب العالمين.

اللهم عليك بالصليبيين، اللهم زلزلهم، اللهم خالف بين كلمتهم، وخذهم أخذاً أليماً إنك على كل شيء قدير، دمر أعداء الدين يا رب العالمين، وانصر المجاهدين، واحم حوزة الدين إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.