الحمد لله رب العالمين، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ ال} [الحشر: 18- 19].
أيها الإخوة: تعالوا نعاتب أنفسنا، هذا هو موضوعنا في هذه الليلة.
الحاجة إلى معاتبة النفس ومحاسبتها
ما أشد حاجتنا إلى معاتبة النفس ومحاسبتها!
إن هذه المعاتبة والمحاسبة هي التي تجعل النفس تتحرر من أسر الشهوات، وتتحرر من الظلمات.
وبالمعاتبة والمحاسبة تقام النفس على الصراط المستقيم، فإن الله ندبنا إلى ذلك، فقال: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]، وقد قال أمير المؤمنين عمر : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18].
وهكذا كان رضي الله تعالى عنه يحاسب نفسه وهو أمير المؤمنين كما جاء عن أنس قال: "سمعت عمر بن الخطاب يومًا وخرجت معه حتى دخل حائطًا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك" رجاله ثقات [رواه مالك في الموطأ: 2/ 992، رقم: 24].
وقال مالك بن دينار -رحمه الله تعالى-: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائدًا" [تاريخ دمشق، لابن عساكر: 56/420] كان كتاب الله لها قائدًا.
وقال ميمون بن مهران -رحمه الله-: "التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح" الذي يحاسب شريكه.
وكانوا رحمهم الله تعالى يحاسبون أنفسهم.
ونحن فينا علل كثيرة، في أنفسنا أمراض كثيرة تحتاج إلى علاج، وإذا استمرت الأحوال دون تصحيح فإنه يخشى علينا من الهلكة.
وإذا نظرت فيما حولك تجد في بعض هذه الجموع التي جاءت إلى طريق الحق تريد الاستقامة، ترى فيها خيرًا كثيرًا ولا شك.
ولكننا لا نعتبر بالكثرة وإنما بالحقيقة.
بكاء السلف من خشية الله
والحقيقة أنه يجب علينا أن نحاسب أنفسنا وأن نعاتبها هل فينا خوف من الله كما ينبغي؟ هل يوجد عندنا شيء مما كان يوجد عند السلف من البكاء من خشية الله -تعالى-؟ هل إذا تليت آيات الله حركت في أنفسنا ما يجب أن يتحرك، واقشعرت الجلود والنفوس والقلوب لذكر الله -عز وجل-، ثم انقادت إلى طاعته ومرضاته؟
الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ [الرعد: 28]، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
عن القاسم بن محمد قال: "كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرًا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إننا نحج؟ حتى كنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فجأة، فقام بعضنا فأخذ السراج، وخرج يستصبح يبحث عن شيء لإصلاحه وإيقاده، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
وقال المروذي لأحمد -رحمه الله-: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من يطالبه ربه بأداء الفرائض! ونبيه يطالبه بأداء السنة! والملكان يطالبانه بتصحيح العمل! ونفسه تطالبه بهواها! وإبليس يطالبه بالفحشاء! وملك الموت يراقب قبض روحه! وعياله يطالبونه بالنفقة؟!".
وكم مرة يأتي ذكر النار علينا، ونسمع ذلك كثيرًا، فماذا حرك ذلك في أنفسنا؟ أليس فيها من الأهوال وأنواع العذاب ما لو نزل على جبل، نزل ذكره على جبل لصار خاشعًا متصدعًا من خشية الله؟
عن عبد الله بن مسعود في قوله تبارك وتعالى: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل: 88] قال: "زِيدُوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال" إسناده صحيح [رواه أبو يعلى: 5/ 65، رقم: 2659، والطبراني في الكبير: 9103].
إذن، هذا عذاب! زدناهم عذابًا فوق العذاب، فكيف بالعذاب الأصلي؟
فلا شك أن المؤمن يعاتب نفسه على عدم تحرك الخشية أو الخوف من الله في نفسه إذا تليت مثل هذه الآيات، وإذا حصل من التذكير بالله أو ذكر لأهوال جهنم أشياء لم تحرك فيه أو لم تحرك في نفسه شيئًا، لا شك أنها تحتاج إلى معاتبة، لا شك أن نفوسنا من كثرة المعاصي والانشغال بالدنيا وكثرة الوقوع في الآفات قد قست.
معاتبة النفس على الرياء وحب الشهرة
نحن ما هو حالنا ونحن نعاتب أنفسنا؟ ما هو حالنا في إخفاء العمل؟
العمل واجب ومطلوب ولا شك في ذلك، لكن هل حاولنا إخفاء العمل كما كانوا رحمهم الله تعالى يخفونه؟ أليس الواحد منهم كان يحمل جراب الدقيق ليلًا على ظهره ليعطيه فقراء أهل المدينة؟ أليس الواحد منهم كان إذا نشر مصحفه فدخل عليه رجل غطاه بثوبه حتى لا يراه وهو يقرأ؟
ما رئي الربيع متطوعًا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، كان يجعل تطوعه كله في البيت حتى لا يرى.
نحن نحب الشهرة ونتطلع إليها، ونريد أن نذكر وأن يعلو اسم الواحد منا بين الناس على عكس ما كانوا رحمهم الله تعالى، خرج ابن مسعود ذات يوم فأتبعه ناس فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشي معك، قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع".
نحن نرى لأنفسنا حقًا وشأنًا ومكانة، وهم كانوا -رحمهم الله تعالى- يغمطون أنفسهم، ولا يرون لها حقًا، بل كانوا يحتقرونها، حتى قال عبد الله : "لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب" [صفة الصفوة: 1/ 153].
وكان بعضهم، وهو بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخًا كبيرًا في السن، قال: هذا خير مني، عبد الله قبلي، وإذا رأى شابًا، قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب".
فعندنا طرب إذا سمعنا ثناء الناس، بخلاف السلف -رحمهم الله تعالى-، محمد بن واسع دخلوا عليه يعودونه، وهو يقول: "ما يغني عني ما يقول الناس إذا أخذ بيدي ورجلي فألقيت في النار، أو بيدي ورجلي فألقيت في النار، وكان يقول لجلسائه: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي".
نحن أصحاب المجاملات، ونحن الذين يتزين بعضنا لبعض، ويخفي بعضنا عن بعض أشياء كثيرة.
نحن لو قارنا حالنا بحال السلف الذين كان يقول قائلهم هذا الكلام: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي" نفعل أشياء من الذنوب كثيرة، ثم نتجمل أمام الناس بالمظهر الحسن، ونتظاهر بلباس التقوى، وفي أحدنا من الذنوب ما الله به عليم.
وقال رجل لابن عمر: "لا نزال بخير ما أبقاك لنا الله، قال: ثكلتك أمك وما يدريك ما يغلق عليك ابن أخيك بابه؟".
وإذا كان الواحد منا إذا أثني عليه في مجلس انتفش وانتفخ وأحس بنشوة وطرب فإنهم -رحمهم الله- كانوا بخلاف ذلك، قال أحدهم: "رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله" يعني الإمام أحمد "وقد أثنى عليه شخص وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، قال: بل جزى الله الإسلام عنا خيرًا".
ومن أنا؟ وما أنا؟ وفي أنفسنا نحن عجب كثير، يعجب الواحد بعمله، ويعجب برأيه، مع أن الإعجاب بالرأي مصيبة، وقد لا نفكر بالخوف على أنفسنا من هذا العجب رغم أنه يورد المهالك، الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، قال رجل لابن عمر: "يا خير الناس وابن خير الناس، فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه".
كان الواحد منهم يرفض أن يثنى عليه، والواحد منا اليوم إذا سمع ثناء، لسان حاله، يقول: هات الزيادة، وليثن غيرك، ونحو ذلك.
وهم -رحمهم الله- كانوا لا يرون أنفسهم شيئًا، يحتقرون أنفسهم غاية الاحتقار، حتى كان الواحد منهم يقف في عرفة يسمع بغير قصد، وهو يقول: "اللهم لا ترد هذا الجمع من أجلي".
بل كانوا إذا لم يعرفوا سروا بذلك، كان للواحد منهم سمعة بغير قصد، فكان إذا جهل حاله في مكان أو بلد قدم إليه سر بذلك، قال الحسن: كنت مع ابن المبارك يومًا فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس فزحموه ودفعوه فلما خرج لي قال: ما العيش إلا هكذا، يعني حيث لم نعرف ونوقر.
وبينما هو في الكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك انتهى إلى حديث وفيه قال عبد الله: وبه نأخذ، مكتوب تعليق على الكتاب، قال عبد الله -يعني- ابن المبارك : وبه نأخذ، فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلت : الكاتب الذي كتبه، فلم يزل يحكه بيده حتى درس وذهب، ثم قال: ومن أنا حتى يكتب قولي.
هذا وهو من السلف -رحمهم الله تعالى-، إنهم كانوا حريصين على كسر الفخر وإذهاب العجب من أنفسهم والرياء، لا يمكن للواحد منهم أن يختال وأن يزدري الناس.
معاتبة النفس على الحرص على المال
وكذلك فإننا إذا نظرنا إلى أنفسنا في مسألة حرصنا على المال، إذا جاءنا المال ماذا نفعل به؟ يفرح الواحد فرح الأشرين، وربما حصل في نفسه من الفرح بالدنيا والتعلق بها لما جاءه هذا المال ما لا يعلمه إلا الله .
والواحد منهم كان يأتيه المال فيفرقه يمينًا وشمالًا، لما أرسل عمر إلى أبي عبيدة أربعمائة دينار، قال للغلام: "اذهب بها إلى أبي عبيدة ثم تلة ساعة في البيت، تشاغل في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، قال: فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين: خذ هذه، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فأرسل بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا، ولبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحى بهما إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك، وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض".
كيف لا يكونوا بعضهم من بعض وهم قد رباهم النبي ﷺ.
ولذلك خرجت هذه النماذج متشابهة، زهدهم في الدنيا موجود، خوفهم من الله موجود، ليس في واحد منهم ما يقدح في إخلاصه أو في تقواه رضي الله تعالى عنهم، ولذلك أخبر الله أنه رضي عنهم: رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة: 8].
معاتبة النفس على الانزلاق في متاهات التجارة
ولو نظرنا إلى ما أصاب الناس اليوم من جراء الاشتغال بالتجارة والبيع والشراء، دخل عدد من الناس في التجارات، دخلوا في أنواع من البيوع والشراء لكن دخولهم ما كان دخولًا لله، أو أنهم دخلوا في البداية يحدثون أنفسهم أن دخولهم لله فإذا به ينقلب ويصبح انشغالًا بالدنيا فتعسوا فعلًا، كما قال النبيﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم [رواه البخاري: 2887].
الواحد من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- لما كان يحتاج إلى العمل ويحتاج إلى الشغل، يحتاج عمر بن الخطاب أن يعمل في مزرعة، هل كان عمله في المزرعة شهوة للدنيا؟
الجواب: كلا، وإنما كان يعمل للحاجة، لا بد أن يكسب قوته، وأن يكسب حاجته، ولكن هل كان عمله في الدنيا يمنعه أو يشغله عن طلب العلم؟
كلا.
ولما عقد البخاري -رحمه الله تعالى- بابًا في كتاب العلم، بعنوان: "التناوب في العلم"، أتى بقصة عمر : "كنت أنا وجار لي من الأنصار" وذكر القصة وفيها التناوب، واحد يبقى ليعمل، والثاني يذهب إلى المسجد، ينزل ليسمع الحديث من النبي ﷺ فيرجع إلى صاحبه فيخبره بما حصل وبما قيل، وبما حدث به النبي ﷺ[ينظر: صحيح البخاري: 1/ 29].
طالب العلم لا يغفل عن النظر في أمر معاشه.
هذه مسألة مقررة ولا شك ليستعين به على طلب العلم وغيره، ولكنه يأخذ بالحزم بالسؤال عما يفوته في يوم غيبته.
هذه الفائدة العظيمة التي ذكرها ابن حجر -رحمه الله تعالى-.
الآن بعض الشباب ربما جاءتهم بعض الخواطر في الاشتغال بالتجارة فدخلوا فيها، وفتحوا محلات، وذهبوا يعملون في صفقات، ويذهبون في سفريات، ويستوردون البضائع، ويحضرون المعارض، ويأخذون وكالات ويشتغلون، وهذا أمر جيد إذا قيد بالضوابط الشرعية.
لكن هؤلاء الذين فتحوا المحلات أو جلسوا يبيعون فيها أو راحوا في السفريات والأعمال ماذا أصبح حالهم؟
لقد تدهور الكثيرون منهم تدهورًا شنيعًا.
لقد اشتغلوا بالدنيا فقست قلوبهم.
لقد أعرضوا عن مجالس ذكر كانوا يحضرونها.
لقد تركوا كتب علم كانوا يقرؤون فيها، ولذلك بعضهم باع كتبه، أو قال: أهبها على استحياء، أو أجعلها وقفًا أو أجعلها في مسجد، ونحو ذلك، تخلصوا من الكتب التي كانوا يقرؤون فيها.
وكان لهم صحبة طيبة، يجلسون إليهم، يتعلمون منهم، ويستفيدون منهم، تركوا ذلك كله.
كنت أحادث شخصًا قبل يومين بالهاتف وقد دخل في تجارة من هذه الأنواع، وكان الرجل من قبل من المبكرين إلى الصلاة الذين يأتون المسجد محافظين على الجماعة، ويحضرون حلق العلم والذكر، وفيه شيء من الرقة، ثم ذهب الرجل في شيء من التجارة وسافر، ودخل في وكالات واستثمارات، واشتغل في أنواع من هذه الصفقات، فقلت له: هل لا زلت تحضر درسًا في الأسبوع؟ قال: لا، وللأسف، ما عدت أحضر شيئًا مطلقًا من الدروس، لا مع أصحابي ولا في المسجد، ما عدت أحضر شيئًا من الدروس.
ولذلك فإن هؤلاء الذين ينزلقون في متاهات الاشتغال بالتجارة، ولا يقدرون أنفسهم حق قدرها، ولا ينضبطون بالضوابط الشرعية يكون ذلك وبالًا عليهم، ربما يدخل في التجارة يقول: أنا غرضي إفادة الإسلام، وسأجعل جزءًا من أرباحي في سبيل الله، وفعلًا قد يجعل أشياء من الصدقات، لكن لو نظر في النهاية إلى ما آل إليه أمره من قسوة القلب والابتعاد عن طلب العلم وعن الدعوة إلى الله وعن الأخوة الصالحة لوجد الفرق شاسعًا، والبون عظيمًا بين حاله الآن بعد اشتغاله وقبل ذلك.
وما أحد يقول: أنه لا يمكن الجمع بين التجارة والعبادة والطاعة.
هناك من أهل العلم من يشتغل بالتجارة، عدد من العلماء، ومن أشهرهم ابن المبارك -رحمه الله تعالى- قيل له: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟ كيف تستورد تأتي بالبضائع تبيع وتشتري وأنت تحثنا على الزهد وتعظنا فيه؟ فقال: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا ابن المبارك ما أحسن ذا، ما أحسن ذا.
وكان بعضهم يشتغل بالتجارة، ويقول: لولا المال لتمندل بنا هؤلاء، يعني لتلاعب بنا السلاطين وأذنابهم، وصاروا يذهبون بنا يمينًا وشمالًا، واحتجنا إليهم في طلب الأموال، ولذلك كانوا يستقلون بالتجارة، لكن هل كانوا ينغمسون فيها بالكلية؟ أو يقول الواحد كما يقول الواحد في هذا الزمان، يقول: أنا أحتاج فترة تأسيس، أنا أحتاج تفرغاً للعمل سنتين أو ثلاث ثم بعد ذلك أرجع إلى ما كنت فيه أو ستة أشهر، ولكن في الحقيقة ينغمس ويتدرج في الانغماس تدريجيًا حتى تذهب السنوات الثلاث والسبع والعشر وهو يتردى من أسفل إلى أسفل، وهكذا حال كثير منهم.
معاتبة النفس على طلب الرئاسة والحرص عليها
وفينا من العيوب أيضًا : طلب الرئاسة، الحرص عليها، السعي إليها، تمنيها، بذل الغالي والنفيس من أجلها.
ولا شك أن الذي يحرص على الرئاسة دون أن يكون هناك تقوى من الله فإنه يفسد دينه، فإن الحرص عليها يفسد الدين كما يفسد الذئب في زريبة الغنم إذا أفلت فيها وهو جائع؛ كما دل عليه حديث: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه [رواه أحمد: 15784، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
ما أفسد لها للدين، ما أفسد منها للدين، ما أفسد للدين من حرص الشخص على المال والشرف، عن يوسف بن أسباط سمعت سفيان يقول: "ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى، صارت هي المطمع، صار السعي إلى المنصب هو المطمع، حتى لو بذل دينه، حتى لو تنازل عن أشياء من الإسلام، حتى لو عمل مخالفات شرعية، همه الوصول إلى المنصب، حتى لو نافس غيره ممن هو أحق منه من المسلمين يفعل ذلك، وليس الكلام موجهًا إلى من يتوجه لسد ثغرة يدرأ بها عن الإسلام وأهله شرًا، ومن كان عنده استعداد لهذا النوع فهو مأجور إذا كان يعلم من نفسه القدرة والحكمة لفعل هذا ولا يطلبه للدنيا ويسعى إليه للفخر، ولكن كثيراً من الناس سعيهم ومسابقاتهم في الوظائف هي من جنس حب الرئاسة المذموم.
معاتبة النفس على عدم الانقياد للحق
من العيوب التي فينا أننا لا ننقاد إلى الحق بسهولة، وربما لا ننقاد إلى الحق أبدًا، نبصر بعيوبنا فنكابر، والواحد ينصح فيدافع عن نفسه، ويقول: ليس في ما تقول لي، لست بكذا، ولست بكذا، أبدًا ما قصدت هذا القصد.
وهو في نفسه في قرارة نفسه يعلم يقينًا أن هذا قصده وهذه نيته، ولكنه يكابر ويأبى ويصر على تبرئة نفسه.
وحتى في النقاشات العلمية، بعضنا في المجالس إذا تبين له الدليل وعرف أنه ليس على شيء أصر على رأيه، إما تعصبًا أو مكابرة أو حتى لا يقال إنه تراجع، ويعتبر أن التراجع ضعف ومهانة وذلة، فتقول له النفس الأمارة بالسوء : كيف تتراجع في المجلس أمام الناس أمام فلان وفلان؟ لو تراجعت فقلت : يا فلان جزاك الله خيرًا، بينت لي الحق أنا رجعت، أو أن يسكت يعتبر أن السكوت أو التراجع ذل، وأنه لا يصلح له أن يفعل ذلك، فيكابر ويصر بغير دليل، ولا عنده من الله حجة ولا برهان، عن أبي حنيفة بن سماك وحدثه ابن أبي ذئب وكان من كبار الفقهاء بحديث، فقال له: أتأخذ بهذا أتأخذ بهذا الحديث؟ فضرب صدري وصاح كثيرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله ﷺ وتقول تأخذ به، نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه.
وقد مضى قول الشافعي -رحمه الله-: "ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، وما قبله أحد إلا هبته واعتقدت مودته".
وقد ناظر الشافعي -رحمه الله- رجلًا من أهل العلم، انتهت المناظرة بأن رجع كل منهما إلى قول صاحبه، الشافعي ترك قوله واقتنع برأي الآخر، والآخر ترك قوله واقتنع برأي الشافعي يعني أنهم رضي الله تعالى عنهم ما كان التعصب رائدهم أو أنهم كانوا يتناقشون ويتجادلون لإظهار النفس، أو أن ينتصر الشخص في المجلس أو يفحم الخصم أو يسكته، بل إنهم كانوا يتناظرون للوصول إلى الحق.
معاتبة النفس على التسرع في الفتوى بغير علم
ومن البلايا التي فينا والطامات، تسرعنا في الكلام في الدين، والإفتاء والإخبار، هذا حلال وهذا حرام، مخالفين أمر الله أو نهي الله : وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل: 116].
فترى الواحد منا في المجلس إذا طرحت مسألة علمية أو قضية سارع بالكلام فيها والجزم والإخبار عن الحكم مع أنه بعيد كل البعد عن المعرفة به، ولا عنده فيه لا دليل ولا قول عالم، لا عنده فتيا عالم ولا دليل، ومع ذلك يسارع إلى الجزم بالحكم والكلام به عن رأيه المجرد دون أن يكون عنده قاعدة أو يكون عنده أهلية للكلام في مثل هذه المسائل.
هذه الجرأة على دين الله جرأة مذمومة، لو كانت المسألة في آلة من الآلات أو دواء من الأدوية لهان الخطب، ولكن المسألة في الدين، ومع الأسف صار دين الله في المجالس عرضة لأن يدخل فيه كل الناس ويدلون بآرائهم، ولكن إذا صارت القضية في مسألة اقتصادية أو طبية سكتوا إلا أهل القراءة والخبرة أو العلم بهذا الفن، فصار دين الله عند الناس أرخص من الدنيا، أرخص من قضايا الدنيا، صار دين الله مشاع يتكلم فيه كل واحد من أنصاف المتعلمين والمثقفين والجهلة والعامة يتكلمون في الدين، عن نافع: أن رجلًا سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمعه، فقال له: يرحمك الله أما سمعت مسألتي؟ فقال: بلى، سمعت السؤال ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهم في مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا بها.
كانوا يتدافعون الفتيا كل واحد يدفعها إلى الآخر ويقول: اسأل فلانا حتى تعود إلى الأول، تدور الفتوى على عشرة أو أكثر ويأبون الكلام فيها للتحرج لأن الواحد منهم يعلم الإثم المترتب على الفتوى أو على أن يفتي بشيء لا علم له به، وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] هذا من أكبر الجرائم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، ومن أفتى بفتيا غير ثبت أو أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه، الإثم على من أفتاه كما أخبر النبي ﷺ.
معاتبة النفس على عدم احترام كلام الله
ومن عيوبنا أيضًا التي نعاتب أنفسنا فيها: عدم احترامنا لكلام الله -تعالى-، لا يظهر على الواحد منا أثر الحفظ.
الآن الحمد لله انتشرت مسألة حفظ القرآن، وصار هناك أعداد من الذين يحفظون القرآن الكريم، وهذا شيء طيب ولا شك، ويثلج الصدر، ويشعر الإنسان ببرد في نفسه مما يرى من كثرة الحفاظ وتوالي المتخرجين من حلق التحفيظ.
ولكن هل ظهرت آثار هذا القرآن المخزون، أو هذا القرآن المحفوظ في النفس أو في القلب؟ هل ظهرت على نفوس الحفاظ على محياهم أو محياهم؟ هل ظهرت على وجوههم على في تصرفاتهم وأفعالهم؟ هل كان كلام عبد الله بن مسعود واقعًا فينا، وفي الذين يحفظون كتاب الله أو أجزاء كثيرة من كتاب الله؟
قال عبد الله بن مسعود: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا، حليمًا حكيمًا سكيتًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا ولا صخابًا، لا يكون بذيئاً، ولا صياحًا، غير مرتفع الصوت بالصياح، ولا حديدًا، لا يكون وقحًا، ولا يكون جلفًا، وإنما يكون سهلًا لينًا ينقاد، المؤمن كالجمل المربوط إذا أقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ، المؤمن يألف ويؤلف".
فهل ظهرت آثار حفظ القرآن على الذين يحفظونه؟ وهل ظهر الأدب الذي ينبغي أن يتأدب به عليهم؟
هذا مما ينبغي أن نعاتب أنفسنا به كذلك.
معاتبة النفس على قسوة القلب وعدم النشاط في العبادة
من الأمراض التي أصبنا بها: قسوة القلب، عدم النشاط في العبادة، الفتور والتكاسل عن الطاعات، هذه ولا شك من عيوبنا، وإذا جاء الملك للإنسان منا بخاطرة عبادة، ولا شك أن كل خاطرة عبادة مبعثها الملك؛ لأن الشيطان مع الإنسان موكل به يأمره بالشر، والملك يأمره بالخير، ما في خاطر خير في نفسك إلا ومبعثه من هذا الملك الذي هو معك مقترن بك، وخاطر الشر من الشيطان المقترن بك، كلما جاء الملك للواحد فينا بخاطرة من صدقة أو صلاة أو صيام أو تلاوة أو دعاء أو ذكر واستغفار، ونحو ذلك من أنواع الطاعات والعبادات كالعمرة أو الحج، إلا وتجد النفس الأمارة بالسوء تتثبط وتثبط، وتأتي قضية لعل وعسى والتسويف، بخلاف ما كانوا عليه رحمهم الله تعالى من النشاط في العبادة والمسارعة فيها، عن أسد بن الوداع عن شداد بن أوس: أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وكان الواحد منهم يطيل الصلاة ويطيل العبادة مما نتبرم منه نحن اليوم، نحن لو أطلنا شيئًا من إطالتهم لسئمنا أشد السأم، وتبرمنا أشد التبرم، قالت بنت لجار منصور بن المعتمر: يا أبت أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ أين الخشبة التي كانت في سطح جارنا منصور منصوبة وقائمة، لم أعد أراها؟ قال: يا بنية ذاك منصور كان يقوم الليل، ليس خشبة، ذاك منصور كان يقوم الليل رحمه الله تعالى، لكن من قيامه وسكونه وخشوعه رضي الله تعالى عنه ورحمه حسبته الجارية والبنت الصغيرة أنه خشبة، ونحن لا نصدق متى ننتهي من الركعات حتى نذهب ونندس للنوم.
معاتبة النفس على المعاصي والانغماس في الدنيا
ولا شك أن هذا الداء الذي فينا مما أصابنا من المعاصي والانغماس في الدنيا والبعد عن الله -عز وجل-، هذا من صدأ القلب الذي أصاب قلوبنا، من دخان أنفاس بني آدم، ومن كثرة الأكل والنوم والخلطة والضحك والاهتمام بالدنيا، لا شك أن لهذه الأشياء آثار سلبية على النفوس، قال عاصم بن عصام البيهقي: بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه، وضعه للتلميذ، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله ما تغير، فقال: سبحان الله، رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل كيف يتفق هذا؟ كيف يتفق هذا؟ فكان الحث منهم على العمل، النشاط والمسارعة لأنهم امتثلوا أمر الله: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران: 133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [الحديد: 21] هذا العرض فما بال الطول؟
يا جماعة العرض كعرض السماء والأرض، ومعروف أن الطول أكثر من العرض أليس كذلك؟
الجنة عرضها كعرض السماء والأرض فما بالك بطولها؟
معاتبة النفس على السهو عن العمل
ومن الأشياء أيضًا التي نحن في سهو عنها مسألة المحاسبة التي تنتج العمل، فإن مجرد أن يتذكر الإنسان بعض الأشياء دون أن يكون بعدها للعمل ليس أمرًا مفيدًا بالغاية المطلوبة، ونحن مع كثرة الخلطة ما صار الواحد فينا يجد مكانًا أو مجالًا لمحاسبة نفسه، صرنا في حال الخلطة مع الأصدقاء والأقرباء والناس والزملاء في العمل، وفي الدراسة، وغيرها، ما عندنا مجال للخلوة بأنفسنا، فالواحد إذا ما كان مع أصحابه كان مع أقربائه، أو كان مع أهله، أو كان مع جيرانه، أو كان مع الناس في الدكاكين، كان في الأسواق، وهذه الخلطة التي تمنع الإنسان من أن يجد لنفسه وقتًا يحاسب نفسه فيها لا شك أنه يخسر بذلك خسرانًا عظيما.
وكانوا رحمهم الله لهم لحظات ساكنة يحاسبون فيها أنفسهم، قال إبراهيم التيمي: "مثلت لنفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفس أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، لما تمثل نفسه في الجنة ثم تمثل نفسه بالنار، سأل نفسه، ماذا تريد؟ قالت: أعمل صالحًا، أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي".
أنت الآن في الأمنية وهي أنك في الدنيا فاعملي.
وكانت هذه المحاسبة مستمرة عندهم بحيث أنهم -رحمهم الله تعالى- كانوا يذكرون من فضلهم ومن سبقهم، كما مر بعضهم على خباب وهو يبني حائطًا له، خباب اكتوى سبع مرات، اكتوى سبع مرات يعالج نفسه بعد ذلك، والله مد له في الأجل، وجاءت الفتوحات وفتحت عليهم الدنيا، قال قيس: "أتيت خبابًا وهو يبني حائطًا له، فقال: إن أصحابنا الذين مضوا لم تنقصهم الدنيا شيئًا، وإنا أصبنا من بعدهم شيئًا لا نجد له موضعًا إلا في التراب، هذا المال نبني به شيء نجعله في التراب.
وعن أبي وائل قال: "عدنا خبابًا فقال: هاجرنا مع النبي ﷺ نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله تعالى فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي ﷺ أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها" فهو يعتني بها وينميها ويكثرها، مع أنهم كانوا يعملون في الحلال ولا أشغلتهم الدنيا عن طاعة الله، وإنما كانوا إذا نودي للجهاد قاموا وواصلوا الجهاد، مع أنهم قسموا الغنائم في المعركة التي قبلها، وعندهم أشياء كثيرة من الدنيا، لكن الدنيا ما قعدت بهم عن الجهاد في سبيل الله أبدًا، كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده من تواضعه، لباسه مثل لباس عبيده، ليس له فضل عليهم، فهذا العمل منه يذكر إخوانه الذين سبقوه بالإيمان وأنهم أفضل منه لأنهم ما أخذوا من الدنيا شيئًا، ولما قدم الإفطار لأحدهم، قدم الطعام، طعام الإفطار لأحدهم، ذكر من مات من إخوانه الذين سبقوه ما أخذوا شيئاً، فبكى حتى ترك الطعام وقام عنه.
إذن، هذه النفسية التي يحاسب الإنسان فيها نفسه ويذكر أن هناك من إخوانه من ذهب ما أخذ شيئاً من الدنيا، فيحصل في نفسه من هذه الأشياء التي تنفعل في نفسه وتعتمل في نفسه ما يجعله يذكر الله ويحاسب نفسه على هذه الأموال التي بين يديه.
إن هذه النفسية لا تكون إلا وليدة كثرة العبادة وذكر الله والتضحية في سبيل هذا الدين، والتربية على هذا الدين هي التي تنتج هذه النماذج.
معاتبة النفس على السكوت عن المنكر
من العيوب التي فينا ونحن نعاتب أنفسنا عليها: قضية السكوت عن المنكر، وعدم التغيير، رغم أننا نرى أمامنا المعصية تفعل، نرى أمامنا المنكر قائماً، نرى أمامنا حدود الله تنتهك، نعلم يقينًا أن هذا حرام، نعلمه يقينًا بالأدلة وبفتاوى العلماء، ثم لا نغير شيئًا، ولا يلتفت أحدنا أو ينبس ببنت شفة في سبيل تغيير هذا المنكر، وربما لا يفكر أصلًا، أو لا يعتلج في نفسه شيء من قضية التغيير، حتى التردد ربما لا يحصل، ويمر أمام المنكر وكأن شيئًا لم يكن، قال أبو عبد الرحمن العمري: "إن من غفلتك إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفًا ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا، إن من غفلتك إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه تتجاوز وتمر ولا كأنه يوجد منكر، ولا تأمر ولا تنهى خوفًا ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا.
وقد ضرب السلف -رحمهم الله- المثل الأعلى في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر، والجرأة في الحق، فهذا الأوزاعي لما بعث إليه عبد الله بن علي، وكان من كبار السفاكين والسفاحين، اشتد ذلك عليه، وقدم ودخل عليه، والناس سماطان، فريقان، حصل كلام واختلاف في قضية خروج عبد الله بن علي هذا وسعيه في الحكم والإمارة، فقال عبد الله بن علي للأوزاعي: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قال: فتفكرت ثم قلت: لأصدقن، واستبسلت للموت، لأن هذا الشخص سفاح ما في عنده شيء أسهل من سفك الدماء وأن تطير الرؤوس عن أجسادها، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث الأعمال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله... الحديث، كأنه يقول له: إن كان خروجك لله فأنت على خير، وإن كان طلباً لملك، وطلباً لإمرة، وطلباً لدنيا فأنت ولك، وبيده قضيب ينكت به، ثم قال: يا عبد الرحمن، ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان عن مطرف بن الشخير عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي ﷺ قال: لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث وساق الحديث، فقال: أخبرني عن الخلافة، وصية لنا من رسول الله ﷺ؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله ﷺ ما ترك علي أحدًا يتقدمه".
هذا فيه رد على أهل البدع الذين يقولون: إن علياً عنده عهد من النبي ﷺ بالخلافة من بعده، قال الأوزاعي لذلك الرجل: "لو كان فيه وصية، كان علي ما ترك أحدًا يتقدمه" كان جاء وقال: أنا أولى منك، تنح جانبًا، ثم تقدم هو، إذا كان عنده وصية لتقدم، قال: "فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت -الأوزاعي-: إن كانت لهم حلالًا فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حرامًا فهي عليك أحرم، إن كانت لهم حلالًا لا يجوز لك أن تأخذها فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حرامًا أخذوها بغير وجه حق فهي عليك أحرم؛ لأنك ستأخذ المال الحرام وتضيف إليه إثمًا آخر وهو الغصب، فأمر بي فأخرجت، قال الذهبي: "قد كان عبد الله بن علي ملكًا جبارًا سفاكًا للدماء صعب المراس".
ومع هذا فالإمام الأوزاعي لصدعه بمر الحق كما ترى لا كخلق من علماء السوء الذين يحسنون ما يقتحمون به من الظلم والعسف لأهل الجور، ويقلبون لهم الباطل حقًا -قاتلهم الله-، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق.
معاتبة النفس على إهمال الزوجة والأولاد
كذلك من الأشياء والعيوب التي عندنا مما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إهمالنا لأهل بيوتنا، إهمالنا للزوجات، عدم تعليمهن، إهمالنا للأولاد عدم تربيتهم، ربما يكون أولاد الواحد يخرجون إلى الشوارع ويتعلمون الألفاظ البذيئة، وربما يمارسون الفواحش، ويكون المسئول عنه واحد ممن يظهر عليه آثار الالتزام أو سيما التدين، ومع ذلك هذا حال أولاده وإخوانه الصغار، فأين الإحساس بالمسؤولية؟ وأين أثر قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6].
أين هذا من إهمالنا نحن لحال أهلينا وحال أولادنا وزوجاتنا بل وآبائنا وأمهاتنا؟
وقد كانوا رحمهم الله يهتمون بذلك اهتمامًا عظيمًا، قال عبد الرحمن رستة: سألت ابن مهدي عن الرجل يبني بأهله، واحد يدخل بزوجته، أيترك الجماعة أيامًا؟ هل يجوز له ترك صلاة الجماعة؟ هل يجوز للعريس أو للعروس أن يترك صلاة الجماعة أيامًا لأنه إذا دخل بأهله فانشغل بزوجته وهو حديث عهد بها وبشهوته فربما تفوت عليه الصلوات يصعب عليه إدراك الجماعة؟ هل ترخص لهذا العروس الجديد، للزوج إذا دخل بزوجته أن يترك الجماعة أيامًا؟
وهذا تراه شائعاً عند بعض الناس يقولون: أول فجر وأول جمعة، وثلاثة أيام، يبتدعون من عندهم مقادير معينة للصلوات أنه لا يأتيها ولا يصليها ولا يركعها في الجماعة؛ لأن هذه رخصة، يعتقدون أنها رخصة، وأنه ليس عليه إثم إذا فعل ذلك، أيترك الجماعة أيامًا؟
قال: "لا، ولا صلاة واحدة".
الآن العلاقة بقضية الأهل والأولاد، وحضرته صبيحة بني على ابنته، ابن مهدي يفتي أنه لا يجوز لهذا الشخص أن يتخلف عن صلاة الجماعة، بني بابنته في الليل، في الصباح، صبيحة بني بابنته، خرج فأذن، ثم مشى إلى بابهما؛ باب البنت وزوجها، فقال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة، الرجل للمسجد والمرأة تقوم تصلي في البيت، فخرج النساء والجواري خرجوا فقلن: سبحان الله، أي شيء هذا؟ هذه أول ليلة، هذا أول فرض، فقال: لا أبرح حتى يخرجا إلى الصلاة، لا أبرح، لا أتحرك، حتى يخرجا إلى الصلاة.
فالاهتمام بالأهل، النبي ﷺ كان يطرق فاطمة وعلي ليلًا على صلاة النافلة، على الصلاة المستحبة، ويأمرهما بالصلاة، فكيف بقضية إهمال الأهل والأولاد في الأمر بالصلاة الواجبة؟
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طـه: 132]
الحقيقة أننا كثيرًا ما قصرنا ونقصر في أمر أهالينا بالصلاة، وهذا أمر مما نعاتب أنفسنا به أشد المعاتبة، ذلك لأننا سنشترك في الإثم لو سكتنا عن القضية، لو سكتنا عن محاربة المنكرات في البيوت سنأثم ولا شك.
والآن المنكرات تزداد وتتنوع وتتشعب وتكثر، أصناف وألوان من المنكرات تغزو البيوت غزوًا استعماريًا شديدًا، وتسيطر على الأفكار، وتوقد الشهوات في النفوس، وتلقي بضلال الشبهات في القلوب، هذه قضايا واقعة ما هو موقفنا نحن تجاهها؟ أو ماذا فعلنا لأهلينا وأولادنا؟
هذه من الأشياء التي قصرنا فيها، ونعاتب أنفسنا فيها، ما هو موقفنا من الجهاد؟ هل نحن فعلًا الواحد منا يتمنى أن يجاهد؟ هل الواحد منا يتمنى الشهادة؟ هل الواحد منا يحدث نفسه بالغزو؟
ولو وجد أعذارًا في وضعه وحاله أنه لا يجب عليه الجهاد فرض عين، هل يحدث نفسه بالغزو أو الشهادة، أو أن القضية بعيدة المنال جدًا بحيث أنها لا تخطر له على بال، ولا تأتي له على قلب مطلقًا؟
لو كنا صادقين في موقفنا من الجهاد، لكنا نحدث أنفسنا على الأقل، بفرضيته، وأهميته، وأجر الشهادة، وفضل الشهادة، ونتمنى الشهادة، حتى إذا مات الواحد منا على فراشه نال أجر الشهادة، هذا خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة قال: "لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار".
يقول: هذا أرجى عمل، أحرس أنتظر والسماء تمطر وأنا أنتظر الصباح لنغير على الكفار، ثم قال: "إذا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله".
وابن أم مكتوم الأعمى، وهو أعمى، وهو معذور قال: أي رب أنزل عذري؟ فأنزلت: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء : 95]، فكان بعد يغزو ويقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر وأقيموني بين الصفين.
يقول: ننتهز فرصة أني مصاب بالعمى فلا أفر، فضعوا اللواء عندي.
حتى نساؤهم -رضي الله عنهن-، أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقالت: يا رسول الله إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه، من أجل ذلك وضعت عندي هذا الخنجر.
أبو طلحة قرأ قول الله تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالً [التوبة : 41] ، فقال: استنفرنا الله وأمرنا شيوخًا وشبابًا جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا في البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير، ما تغير مثلما يتغير الموتى أو يصيبه النتن.
معاتبة النفس على السلبية المانعة من القيام بالأعمال
ونحن أيضًا من الأشياء التي نعاتب أنفسنا فيها قضية السلبية.
السلبية القاتلة التي تمنعنا عن القيام بالأعمال.
السلبية القاتلة التي تقعد بنا عن ممارسة الأدوار الإسلامية المطلوبة في الواقع.
السلبية القاتلة التي تمنعنا حتى من تثبيت إنسان مسلم يتعرض لفتنة، الآن إخواننا الذين يتعرضون لفتن كثر، واحد يتعرض لفتنة المال، واحد يتعرض لفتنة المنصب، واحد يتعرض لفتنة النساء، واحد يتعرض لمحنة اضطهاد، ما هو دورنا؟
ولا شك أن كل واحد فينا يعلم على الأقل واحدًا ممن يبتلى أو يتعرض لفتنة أو محنة، ما هو دورنا في تثبيتهم؟ هل قمنا بأشياء في تثبيتهم؟ هل مددنا لهم يد العون الإسلامية بالتذكير والموعظة؟
كانت أدوار التثبيت متداولة في العصر الأول، لو واحد تعرض لمحنة يجد من إخوانه من يقف بجانبه، لو تعرض لشدة وكربة يجد من إخوانه من يساهم في تنفيسها عنه، يجد الواحد على الحق أعوانًا.
والآن يتعرض الإنسان لمحن وأنواع من الفتن فلا يجد ممن حوله من يقف، ولو حتى بكلمة ينصحه بها ويثبته، ولذلك تكثر حالات الانتكاس.
من أسباب الانتكاس أن هناك سلبية من المحيطين بالشخص المنتكس، لقد أحسوا بتقهقره، لقد رأوا بوادر الشر، لقد لمسوا مواطن ضعف في الشخص، لكنهم ما فعلوا شيئًا، ولذلك لو ناقشت بعض هؤلاء المنحرفين لقال لك: إن جزءًا من المسؤولية يقع على عاتق أصحابي الأول، إنهم ما كانوا حولي، إنهم ما كانوا حولي لما حصل لي ما حصل من الضعف، ولا أحد جاء ونصحني ولا ثبتني ولا لازمني، هم يعرفون أنني أنحدر، ما لازموني، تركوني أنحدر إلى الهاوية لوحدي.
الإمام أحمد -رحمه الله- لما حمل إلى المأمون أخبر أبو جعفر -رحمه الله- قال: "فعبرت الفرات" عبر الفرات من أجله، مع أنه الإمام أحمد، لكن ما قال: هذا الإمام أحمد ما يحتاج تذكير، ولا يحتاج نصح، لابد من ممارسة دور حتى لو كان الإمام أحمد، "فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر تعنيت، أتعبت نفسك، فقلت: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن، ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب، ليمتنعن خلق من الناس كثير" كلهم ينتظرون كلمتك، كلهم متوقفون عليك، ومع هذا فإن الرجل يعني الخليفة إن لم يقتلك فإنك تموت، لو ما قتلك الخليفة، هذا الذي يضطهدك فأنت ستموت لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب، فجعل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد علي فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله! ما شاء الله!
حتى أن أعرابياً ممن كانوا يعملون الشعر في البادية، لما سمع أن الإمام أحمد، محمول إلى المأمون، ذهب يدخل من مكان إلى مكان، حتى وصل إلى مكان الإمام أحمد وهو أعرابي، وجلس يقول له الكلام بالثبات على الحق، مع أنه أعرابي وهذا الإمام أحمد، لكن ما منعه ذلك من أن يؤدي دورًا في الموضوع.
حتى اللصوص في السجن كان الواحد منهم يقول للإمام أحمد: يا أحمد إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟
ويقول واحد من أهل السجن للإمام أحمد: إنما هي ضربة أو ضربتان بالسوط ثم لا تدري أين يقع الباقي؟ قال: فسري عني، وخفف ذلك عني.
فالواحد لما يكون في محنة، ويجد من إخوانه من يقف بجانبه، يسر عنه، يشعر بشعور عظيم، يشعر بتثبيت، واليوم نحن نتخلى عن أداء هذه الأدوار المهمة جدًا التي يمكن أن ينقذ الله بها أقوامًا من الناس بسبب سلبيتنا القاتلة.
معاتبة النفس على التساهل في النظرة المحرمة للنساء
ومن الأمور التي نعاتب أنفسنا فيها في موضوع الفتن هذا التساهل الذي يحدث منا في فتنة النساء من النظرة المحرمة مخالفين قول الله : قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النــور: 30]، ومخالفين حديث النبي ﷺ: لا تتبع النظرة النظرة [رواه أبو داود: 2149، وحسنه الألباني].
ولا شك أن النبي ﷺ قد حذرنا من فتنة النساء، وقال: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء [رواه البخاري: 5096، ومسلم: 2740]، وقال: فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء [رواه مسلم: 2742].
واليوم بفعل هذا التبرج الشائع، وهذه الملابس التي هي زينة في نفسها التي جعلت الأمر أشد، وهذه الروائح والأطياب التي شاعت وانتشرت ووضعت مما جعل الأمر أنكى وأسوأ، وهذا الخروج من البيوت وأماكن الاختلاط وموضوع التصوير، وشيوع الأفلام جعلت من فتنة النساء اليوم أمرًا عظيمًا لا يثبت أمامه إلا من عصمه الله.
ولا شك أننا في وضع لا نحسد عليه في هذه القضية، وكثيرون هم اليوم الذين يطلقون أبصارهم إلى ما حرم الله، ويقولون: نحن لم نفعل فواحش.
نعم لكن هم مصرون، لو فرضنا أن النظرة من الصغائر فهم مصرون على الصغيرة، والإصرار قد حولها إلى كبيرة، كان أحد السلف في بعض المغازي، فتكشفت جارية، فنظر إليها فرفع يده فلطم عينه، وقال: لحاظة إلى ما يضرك؟
وقال عمرو بن مرة بعدما عمي: "ما يسرني أني بصير، قد كنت نظرت نظرة وأنا شاب، وهو شاب حصل أنه نظر نظرة".
وعن سعيد بن المسيب قال: "ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء".
قال علي بن زيد : قال لنا سعيد بن المسيب -وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى- : (ما من شيء أخوف عندي من النساء،) هذا وهو ابن أربع وثمانين سنة ، واحدة ذهبت والأخرى يعشو بها ويقول هذا.
ونحن اليوم يحصل عندنا من التساهل في موضوع النساء أمر عظيم جدًا، سواء في قضية أمرهن بالتستر والحجاب، أو التساهل في إخراجهن إلى أماكن الاختلاط والفساد، أو التساهل في النظر إليهن سواء كانت صورًا حية واقعية تتحرك في الشوارع والأسواق وعلى أبواب مدارس البنات والكليات وغيرها، أو كانت صورًا متحركة في أفلام، أو كانت صورًا مطبوعة في مجلات وأوراق.
أقول: إن ما حصل من التساهل في هذا أمر عظيم جدًا، قد جعل الكثير يقعون في المعاصي، وأمور تحركها الشهوات بسبب عدم غض البصر، ولربما وقع الواحد في فاحشة -والعياذ بالله- نتيجة تساهله.
هذا التساهل الموجود عند بعض الناس في بعض القطاعات، كما يوجد عند بعض الأطباء تساهل في النظر إلى المريضات، كما يحدث من تساهل بعض الباعة في النظر إلى النساء، وهم يعيشون بيئة من أسوأ البيئات، الباعة الذين هم في المحلات من كثرة ما يرون من الأجناس والأخلاط من هؤلاء المتبرجات أو السافرات المتعطرات، هذا التساهل الحاصل من قبل بعض هؤلاء الأطباء أو الباعة أو غيرهم من الذين يتعاملون في أوساط فيها نسوة، أو الموظفين في بعض الشركات، أو بعض الذين يتساهلون في أن يعمل بجانب سكرتيرة أو امرأة، ثم يقع بعد ذلك كما يقع وهي تأتي في الصباح إلى العمل متبرجة متعطرة، إذا كان يونس بن عبيد من السلف يقول: "لا يخلون أحدكم مع امرأة ولو كان يعلمها القرآن".
لا يخلون أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، ولو كانت القراءة منه وليست منها، لو كانت القراءة منه لا يجوز له ذلك، لا يخلون أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، فكيف بهؤلاء الذين يفعلون ما يفعلون من أنواع من انتهاك المحرمات؟
فهذه قضية مهمة من القضايا التي تنبئ عن عيوب خطيرة في أنفسنا.
معاتبة النفس على التساهل في الأخلاق
وإذا انتقلنا إلى مسألة الأخلاق، لوجدنا أن عندنا تقصيرًا عظيمًا، وأننا نعاني من عيوب كبيرة في مسألة الأخلاق، لوجدت الجبن والكذب والبخل هذه ثلاثة من أسوأ الأخلاق، موجودة عند الكثيرين، أو يكون في النفوس نصيب من كل خلق سيئ من هذه الأخلاق.
النبي ﷺ في معركة حنين أو بعد غزوة حنين لما جاء وفد هوازن يطلبون نساءهم وأبناءهم وأموالهم، النبي ﷺ قال: يا أيها الناس ردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ...[رواه أبو داود: 2694، وأحمد: 6729ن وقال محققو المسند: "حسن"] الحديث، ثم ركب راحلته وتعلق به الناس، يقولون: اقسم علينا فيئنا بيننا حتى ألجئوه إلى سمرة.
وبعضهم كان من الأعراب ومن حدثاء العهد بالإسلام، من مسلمة الفتح وغيرهم، حتى ألجئوه إلى سمرة فخطفت رداءه ﷺ، فقال: يا أيها الناس ردوا علي ردائي، فوالله لو أن لي بعدد شجر تهامة نعمًا هذه الإبل النفيسة عند العرب، لو أن لي بعدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم لا تلقوني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذوبًا حديث صحيح، رواه أحمد والنسائي عن ابن عمرو -رضي الله عنهما- [رواه أبو داود: 2694، والنسائي: 3688، وأحمد: 6729، وقال محققو المسند: "حسن"].
فإذن، هذه ثلاثة من أسوأ الأخلاق: البخل والجبن والكذب، وهي موجودة ومنتشرة ومتفشية.
وكذلك فإن مما يبلغ بالسوء غايته أن يكون الإنسان يحمل شعار التدين، ويكون في حال من التمسك الظاهري ببعض السنن تحدث منه أو تبدر منه هذه الأخلاق التي تدل الناس على شيء من الازدواجية التي يعاني منها هذا الشخص، أو مظهر من مظاهر النفاق، ولا شك، قضية الكلام الفاحش أيضًا هو من سوء الخلق واللعن، ولعن من لا يستحق اللعن، وهذه قضية منتشرة، والغيبة والنميمة التي صارت فاكهة المجالس، وكثير من الذين يعظون في الغيبة يقعون فيها، كثير من الذين يعظون في قضية الغيبة هم من الواقعين في الغيبة، والسلف -رحمهم الله- كانوا يحاسبون أنفسهم على الكلمات، الكلمات التي تكون تبدو عادية لبعض الناس تكون عندهم ذات شأن، عن مالك بن ضيغم قال: جاء رباح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا: إنه نائم، فقال: أنوم هذه الساعة؟ أهذا وقت نوم؟ ثم ولى منصرفًا، فأتبعناه رسولًا يذهب وراءه فقلنا: قل له: ألا نوقظه لك؟ فأبطأ علينا الرسول، ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جدًا، فقال: هو أشغل من أن يفهم عني شيئًا، أدركته يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: أقلت : أنوم هذه الساعة؟ أفكان هذا عليك ينام الرجل متى شاء وقلت: هذا وقت نوم؟ وما يدريك أن هذا ليس بوقت نوم؟ ثم قال مخاطبًا نفسه: تسألين عما لا يعنيك وتتكلمين بما لا يعنيك، هذا على كلام يبدو عادياً جدًا عند بعضنا، عندنا يبدو عادياً جدًا، ومع ذلك كانوا يحاسبون أنفسهم على هذه الأشياء.
معاتبة النفس على التقصير في صلة الرحم
مما نعاتب به أنفسنا: تقصيرنا في صلة الرحم، زيارة الأقرباء، بر الوالدين على رأس صلة الرحم، بل هو أهم شيء في صلة الرحم بر الوالدين، ومع ذلك قصرنا فيه كثيرًا، فالذي يكون والداه معه في البيت فهو في شيء من سوء الخلق وعصيانهما، وعدم تلبية رغباتهما، وعدم الإحسان إليهما، وكلمة أف هذه عادية، مع أن الله نهى عن الأذى بالكلام والفعل فقال: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ نهى عن الأذى بالكلام: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ، ونهى عن الأذى بالفعل: وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ، وأمر بضد ذلك: وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء: 23] بدل "أف"، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] بدل {ولا تنهرهما} فاكتمل للأبوين الفعل الطيب والكلام الطيب، والنهي عن الفعل السيئ، والكلام السيئ كما أمر الله.
والذي يكون معه والداه في البيت يفعل أشياء مشينة في هذا، وربما حرك نفض يديه في وجههما، نفض اليدين في الوجه، هذا يعتبر من أنواع العقوق.
ولو كان الوالدان في بلد آخر لكان السؤال قليلًا والتفقد نادرًا والوصل بهدية أو مال أو شيء أيضًا أمر قليل، وربما قال: أنا أولى ونفسي أولى، ونحو ذلك، وصار يجادل أباه على مال أو بيت ونحوه، ويفاوضه كأنه إنسان غريب أجنبي، عن ابن عون قال: دخل رجل على محمد بن سيرين عند أمه فقال: ما شأن محمد يشتكي شيئًا؟ فقالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه مثل المريض.
وعن ابن عون: أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها، هي نادته فهو رد نعم ونحوها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين، كيف يعلو صوته على صوتها؟
وكان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب فيفلقه، فإذا كان الشتاء جاء بالكانون قالت أمه: فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذلك القصب المفلق وقودًا لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك، فيه خادم لو أراد يأتي بخادم، لكنه يمارسه بنفسه، قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.
وكان واحد من كبار العلماء في المجلس تقول له أمه: يا فلان وهو في المجلس وعنده طلبة العلم، وعنده ناس يكتبون الحديث، قم فألق الشعير للدجاج، فيترك الحلقة ويقوم يلقي الشعير للدجاج، ولا يقول: سكتوها، ومن هذه؟ أو يتبرأ منها، ولست أنا المقصود، وربما تتحدث عن الجيران حتى لا يتفشل أمام الناس، كما ربما يظن بعض السامعين، مع ذلك كان يترك الحلقة ويقوم ويلقي الشعير للدجاج.
معاتبة النفس على الصدود والشحناء والبغضاء
من قضايا الأخلاق أيضًا والبر والصلة: معاملاتنا مع إخواننا، ما يوجد من الصدود والنفرة والشحناء والبغضاء والقطيعة والهجران والمعاملة السيئة والألفاظ الخشنة والتعامل الخشن مع إخواننا.
ولا شك أن هذا مناف للبر، وهو من الأشياء التي نعاني منها كثيرًا، كل واحد يعاني من الثاني، وكل واحد يشتكي من الآخر، والعيب مشترك، الخلل فينا جميعًا، وليس أحد مبرأ إلا من أبعده الله -عز وجل- عن هذه الأخلاق، حتى قضية الإنفاق على الإخوان من الأشياء التي صارت عزيزة، والواحد صار يؤثر نفسه على إخوانه بدلًا من أن يؤثر إخوانه على نفسه؛ كما قال الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].
وابن المبارك -رحمه الله- كان يأخذ الاشتراكات من أصحابه عند السفر، ثم يذهب ينفق عليهم طيلة الطريق، وإذا ورد البلد يشتري لهم هدايا لأولادهم مما يشتهون ويتمنون، ويقول: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم يا فلان ويا فلان ويشتري الهدايا، فيرجعون إلى أهليهم ثم يعيد إليهم النفقات والاشتراكات ويكون المال الذي صرفه عليهم في الرحلة كله من ماله، وهداياهم من كيسه، وهدايا أولادهم من كيسه.
وكان ابن عمر يخدم أصحابه، وكان يرحل رواحل أصحابه، البعير إذا صار وقت المسير يحتاج إلى تجهيز، فكان يفعل ذلك، وكان يفعل ذلك لخدمه أيضًا.
وكان بعض السلف يواسي أخاه في الحفاء لما تنقطع شسع نعله، يحمل هو نعليه أيضًا ويمشي حافيًا فيقول له صاحبه: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال: أواسيك في الحفاء، مادام أنت انقطع نعليك تمشي حافياً وأنا بنعلين، لا، ما تريد أن تأخذ نعلي، أمشي معك في الحفاء، فكان حسن التعامل موجود وقائم.
معاتبة النفس على سوء الظن
من الأشياء التي نعاني فيها في علاقتنا الأخوية: سوء الظن، وإذا واحد رأى من أخيه تصرفاً حمله على أسوأ المحامل، وأول ما يتبادر إلى الذهن الاحتمال السيئ، وليس الاحتمال الحسن، ولا نطبق القاعدة السلفية التي يقولها أبو قلابة: إذا بلغك عن أخيك شيئًا تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه، إذا ما وجدت عذراً، وكثيرًا ما تكون هذه الصدامات بين الإخوان وبين الشباب من الأشياء التي تفرقهم، والأشياء التي تزرع الشحناء والبغضاء في نفوسهم بسبب أن الواحد ما يعذر الآخر ويتصيد أخطاءه، ويقول الواحدة بواحدة ويعامل بالمثل، مع أنه ربما الآخر ما قصد الشر، لكن هذا يحملها على أنه قصد الشر ثم يعامله بالمثل، ويقول له: هذه جزاء سيئة بمثلها، من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه قل صديقه، من الذي لا يوجد فيه عيب، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه، فهذه من الآفات أن بعضنا يعاتب أخاه على كل شيء، أي تصرف خاطئ ما يمشي، ولا يمرر له أي تصرف، لا بد أن يوقفه عند كل واحدة، أنت فعلت لي كذا وأنت آذيتني بكذا، وضايقتني بكذا ونحو ذلك من الأشياء، نتصيد ونجمع الأخطاء ثم تعتمل في نفوسنا فتتحول إلى شحناء وبغضاء، وإذا صار الانفجار يكون دفعة واحدة، ونسرد الأشياء سردًا، ولا عندنا صدر متسع لكي نتحمل أخطاء إخواننا علينا، وحتى الاختلاف في الرأي، كم يتسع الصدر منا للخلاف مع إخواننا، الخلاف في الرأي ليس الخلاف المذموم الذي يسبب كونك على سنة وهو على بدعة أو أنت على علم وهو على جهل، لا، الخلاف في الرأي، قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة، وإن لم نتفق في مسألة فقهية وكان حكمنا فيها واحدًا، ألا نستطيع أن نكون إخوانًا ونتحمل خلافاتنا التي هي مما يسوغ الاختلاف فيه، ما يمكن أن يكون الناس على قلب رجل واحد في جميع الآراء.
معاتبة النفس على تضييع الأوقات
ثم من الأشياء التي نعاتب أنفسنا فيها جدًا: قضية تضييع الأوقات.
تضييع الأوقات هذا صار شعارًا عند كثير من الناس يضيعون الأوقات في التوافه، مع أن الوقت هو مخلوق لكي نملأه بالطاعات، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62]، فالله جعل الوقت، جعل الليل والنهار لكي نملأه بالطاعات، خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورًا، الليل وراء النهار والنهار، وراء الليل، يختلفان لكي نعمرهما بالطاعات، فماذا فعلنا في ذلك؟
قال الحسن: "أدركت أقوامًا، كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه، كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه، كان هذا سيماهم رحمهم الله تعالى، يستغلون الأوقات بالعبادات أولًا، وبطلب العلم، يقول الرقام : سألت عبد الرحمن بن أبي حاتم عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه، سأله عن سبب ذلك فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه، يستغل كل وقت وكل دقيقة يقرأ على أبيه ويستفيد منه ومن علمه، والآن تضيع الأوقات لا طلب علم ولا غيره، ويصبح الجهل هو المتفشي، شباب كانوا في سفر فحضرت صلاة المغرب، الجمع بين المغرب مع العشاء فاختلفوا هل تقصر صلاة المغرب أو لا؟ ثم استقر الرأي على أن تقصر وصلوا المغرب ركعتين، كيف يكون هذا؟ هذه من أبسط الأشياء، يعني قصروا المغرب وصلوا ركعتين، وهناك جماعة في مسجد نزل المطر صلوا ركعتين في البلد، جمعوا وقصروا، الجمع والقصر في السفر، جمعوا وقصروا في المطر في البلد، وآخرون تأخر الخطيب، صلوا ظهراً أربع ركعات مباشرة، واحد يمسك مصحف يخرج على المنبر يقرأ آيات، يقول الشهادتين ويصلي على النبي ﷺ ويقرأ آيات ويدعو، ما أحد يحسن أن يفعل هذا، ما أشد جهل الناس وما أجبنهم في الحق، ولكن إذا صارت الدنيا قام كل واحد ينافح عن ماله وعن نفسه، فتضييع الأوقات بالأشياء التافهة، حفظ القصائد والأشعار ليست من الملح، لو كانت من الملح كان بعض المحدثين يختم حلقته بملحة وطرفة، لكن هذه صارت كل الدرس، كل الحلقة، كل المجالس طرف ونكت وفوازير وصوت صفير البلبل، وهذا شغلهم في حفظ الأشياء، وليس أنهم يحفظون، ليتهم يحفظون قصائد من متون في طلب في العلم أو في الحديث أو في الفقه ونحو ذلك، صارت الأوقات تضيع بالخلطة وكثرة النوم والسهر على غير منفعة وكثرة الكلام، وهكذا..، وتضيع أيضًا بطلب الدنيا، هذا معجب بالكفار، وهذا يجي قبل الدوام ويطلع بعد الدوام بساعات ويفخر بأنه نشيط في العمل، ونحو ذلك، تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ، إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب، لا نقل: تأخر عن الدوام، واطلع قبل الدوام، لا، اجعل راتبك حلالًا، لكن أن تكون عبدًا للدنيا تخرج من الصباح فلا ترجع إلا في الليل وأعمال إضافية وبعدها أعمال إضافية، ما هذا؟
وكذلك هذه الزيارات الفارغة التي ليس فيها ذكر لله -تعالى-، مجالس ما فيها لا صلاة على النبي ﷺ ولا حتى كفارة المجلس، تضيع الأوقات بمرور هذا على هذا وهذا على هذا وجلوس هذا عند هذا، والإسراف بالمال في الاهتمام بالمظهر وإنفاق الأموال فيه.
معاتبة النفس على البخل والشح
ونجد عندنا كذلك مقابل الإسراف البخل بالصدقة لو دعا داعي الصدقة تصدقنا بريالات، لكن لو دخل الواحد فينا مطعم أنفق العشرات، لا يحاسب نفسه عند الإنفاق في سوق ونحوه على ما ينفقه من المبالغ، لكن إذا جات الصدقة وأخرج من جيبه بالغلط عشرين أرجع واحدة ووضع واحدة.
فنحن عندنا ربما يكون شيء من البخل والشح ينبغي أن نحاسب أنفسنا عليه، عندنا توسع في الترفيه في استخدام الأشياء المباحة يصل إلى استخدام الأشياء المحرمة، عندنا مجاراة للأهل والأولاد إذا طلبوا منا أشياء محرمة كأنواع من الأفلام أو الألعاب المحرمة، إذا اشتهى شيئًا أعطيناه إياه، وجلبناه له، عندنا محبة للراحة والدعة والكسل، وانقلبت نقاشاتنا من أشياء مفيدة في طلب العلم إلى أشياء فيها أنواع من المماراة والمجادلة، ما في نقاشات علمية مفيدة، ما في قراءة، ما في شيء مبني على قراءة وكلام علماء، وإنما قضية ظنون وآراء شخصية.
معاتبة النفس على إنفاق الأموال في غير طاعة الله
وكذلك فإننا نعاني من إنفاق الأموال في غير طاعة الله، والسفر إلى بلاد الكفار في السياحة، صار هذا ديدن كثيرين، حتى من المنسوبين إلى الخير، يسافر في السياحة، يقول : سياحة، ويسافر إلى بلاد الكفار، لا ضرورة شرعية ولا حاجة شرعية، لو أنه يقيم فيها للضرورة هاربًا مثلًا أو يقيم فيها مؤقتًا للحاجة كعلاج ونحوه لقلنا ذلك متوجه، لكن يذهب للسياحة وإنفاق أموال وهو لا يعطي في سبيل الله إلا النزر اليسير، فهل يكون هذا شأن المسلم الجاد؟ وكذلك فإننا نحتاج إلى كثير من سؤال أنفسنا عن هذه الأموال التي ننفقها من أين اكتسبناها؟ وفيما أنفقناها؟
الخاتمة
ونحن من خلال عرض هذه الأشياء لا نريد القول بأننا بأنه ليس في أحد خير، كلا والله، بل إن هناك كثير من الناس واقعهم طيب، وكثير من مجالس فيها خير كثير، وفيها ذكر وفيها علم.
وهناك كثير من الناس يبذلون في سبيل الله ويعطون وينفقون.
وآخرون من المسلمين حريصون على طلب العلم ويجتهدون فيه ويحفظون القرآن ويحفظون من السنة ويحفظون من متون العلماء أشياء لا بأس بها.
وهناك كثيرون عندهم سخاء، وعندهم حسن خلق، وعندهم تعاهد لأولادهم.
وبعضهم أنجز إنجازات كبيرة جدًا في بيوتهم من إخلائها من المنكرات، أو من جمع الأهل على طاعة الله، ونجح بعض الدعاة إلى الله في تغيير بيوت وليس بيتًا واحدًا، وأثروا في جيرانهم وأهل حيهم وجماعة مسجدهم، بل وصل الأمر بتعدي النفع إلى البعيدين، من مراسلة هؤلاء الناس الذين يرسلون برسائل التافهة إلى ركن المعرفة أو التعارف في المجلات فأرسلوا لهم الكتب النافعة والأشرطة الطيبة، وصار ذلك من أسباب هداية خلق ممن كانوا بعيدين عن شرع الله.
أقول: إن هناك خير ولا شك في ذلك ولا يمكن أبدًا أن يكون الكلام السابق معناه الخروج بنظرة سوداوية عن الواقع ،كلا والله، بل المقصود أن نعاتب أنفسنا، والإنسان إذا عاتب نفسه يذكر معايبه، ما يذكر الحسنات يذكر المعايب، ليست القضية الآن تقويماً للواقع، ليس الكلام والموضوع تقويماً للواقع، كان الكلام هو بعنوان: تعالوا نعاتب أنفسنا، تعالوا نعاتب أنفسنا عن أشياء من التقصيرات الموجودة عندنا.
إذن، نحن نركز على السلبيات والمعايب وننظر إليها لنصلح من شأننا، والمقصود بالكلام نحن، ليس الكلام لغيرنا أو لأناس من غير الموجودين، إن المؤمن كما قال النبيﷺ إذا ذُكِّرَ ذكَرَ في الحديث الصحيح.
ونحن إذا ذكرنا أنفسنا يجب أن نتذكر كلنا بلا استثناء، وأنا أولكم، ينبغي أن نحمل أنفسنا على الحق، وأن ننظر إلى العيوب التي عندنا فنشتغل بتصحيحها وإلى الخلل فنشتغل بتسديده، ولا يصلح أبدًا أن يبقى الإنسان المسلم على معصية، أو يبقى على علم، مع أنه قد نبه إليه وعرف به وهو مصر على إبقائه على ما هو عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون.