الحمد الله، والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومرحباً بالمشايخ، والدعاة، والعاملين، والإخوة في الله، وأقول: سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته، وسعدتُ بلقائكم في هذه الليلة، وأنتم ضيوفنا في هذه المنطقة، نسأل الله أن يجعلنا من القائمين بحقوق ضيوفهم.
والموضوع الذي نتحدث عنه: "تحقيق الجودة في الأعمال التطوعية".
الإتقان دليل على وحدانية الله -تبارك وتعالى
والله أحسن كل شيء خلْقه، فجوّده، وأتقنه، وحسّنه، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة النمل:88].
والمتأمل في الكتاب، والسنة، يجد أن لفظة: "الجودة" التي يستعملونها مستعملة بكلمة: "الإتقان"، بل هي أدلّ على المقصود من كلمة: الجودة "الإتقان".
وقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [سورة النمل:88]، في هيئته، وفي زمانه، وفي مكانه، وفي وظيفته، وفي شكله، وخلقته، أتقن السموات مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [سورة الملك:3].
وهو قد أتقن مجريات الأحداث، فكلها بقدر، كما قال سبحانه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [سورة القمر:49].
وجعل للكون نواميس لا يخرج عنها، وأحسن الخلق، وأمر عباده بالإحسان: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:195].
وكان نبينا ﷺ يتقن العمل، ويأمر بالإتقان، إن الله كتب الإحسان على كل شيء[1].
يعني: أوجبه في كل شيء، "على" بمعنى: في.
وقال السندي على النسائي: "المراد بالإيجاب: الندب المؤكد".
الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه كما في جامع العلوم والحكم[2].
معاني الإحسان عند أهل العلم
جاءت كلمة الإحسان أيضاً عند العلماء بمعنى: الإحكام، والإكمال.
قال وهيب: "لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه، وتحسينه" حلية الأولياء.
عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: "شهدتُ مع أبي جنازة شهدها رسول الله ﷺ، وأنا غلام أعقل، وأفهم، فانتُهي بالجنازة إلى القبر، ولم يمكن لها، قال فجعل رسول الله ﷺ يقول: سووا لحد هذا حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم فقال: أما إن هذا لا ينفع الميت، ولا يضره، ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن[3].
وفي لفظ: ولكن: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه[4].
هذا يشمل كما قال العلماء: أعمال الدنيا، وأعمال الآخرة.
فإذن، الإتقان، الإحسان، الجودة، وإحسان التخطيط، وإحسان التنفيذ، وإحسان التقدير، هذا يشمل كل ما تقدم.
النصوص الشرعية الدالة على الإتقان
إذا نظرنا إلى النصوص التي ورد فيها هذا في الشريعة: من توضأ فأحسن الوضوء[5].
من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله[6].
إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه[7].
الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة[8].
إذن: لفظة المهارة أيضاً من الألفاظ الشرعية المستعملة في هذا الموضوع، وفي هذا المعنى، جاءت الشريعة بتضمين الصُّناع، ومن تطبب ولم يُعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن[9].
هذا الحديث عند بعض أصحاب السنن، وهو حديث حسن.
قال ابن قدامة: "ولا ضمان على حجّام، ولا ختّان، ولا متطبب، إذا عُرف منهم حذق الصّنعة"[10].
إذن: أيضاً الحِذق من الكلمات المستعملة في هذا الموضوع.
قال ابن قدامة: "إذا عُرف منهم حذق الصنعة، ولم تجن أيديهم"[11]، يعني: لم يتعدوا، وبهذا ندرك أن تحقيق الجودة ليس مما سبق إليه علم الإدارة الحديث.
أو يقولون: إن مفهوم إدارة الجودة الشاملة يعتبر من المفاهيم الإدارية الحديثة
المعنى بحد ذاته موجود عندنا في الكتاب، وفي السنة، وفي أقوال العلماء كما هو واضح.
الإتقان عند المسلم ينبع من داخل نفسه، ليس لأجل مصالح دنيوية، وفقدان الإتقان سبب في التخلف، والفوضى، والتسيب، ونرى الآن في المجتمعات الإسلامية كثير من الإهمال، والغش، والخديعة، والذي يجول في أنحاء العالم الإسلامي يخرج بنتيجة، التخلف، هذا فعلاً تخلي عن المعنى الشرعي، المعنى الذي وردت به الشريعة في هذا الموضوع، سواء كان إتقان، إحسان، جودة، مهارة، حِذق في أمور الدين، أو في أمور الدنيا، هذا سبب تخلفنا، النقص في هذا الموضوع، والإتقان سبب للتفوق.
فتعلم العلم الذي تختاره | لتجيده فالسبق للمتفرّد |
وإذا أردت كرامة من مهنة | أتقن فإن أتقنتها تتسوّد |
أولاً: إتقان ذي القرنين في بناء السَّد
الله قصَّ علينا في كتابه قصص في موضوع الإتقان، فمثلاً : أخبرنا بخبر ذي القرنين، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [سورة الكهف:93].
هذا ذو القرنين -رحمه الله- مدرسة في الشخص الذي يؤتيه الله إمكانات فلا يتوقف، ويعمل بلا كلل، ولا ملل، يبلغ مشارق الأرض، ومغاربها، وهو مستمر، يعني: جهاداً، ودعوة، وإصلاحاً في الأرض، وتحسيناً لأوضاع الخلق؛ لأنه لما جاء إلى هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً شكوا إليه يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ [سورة الكهف:94]، طلبوا منه، وعرضوا عليه جُعلاً فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا يكفينا الشر، فتواضع، واستغنى بفضل الله عن أُجرتهم، وتطوع بالعمل، الأعمال التطوعية، مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [سورة الكهف:95].
وبدأت عملية ضخمة كبيرة في نقل أمة جاهلة إلى أمة صانعة، أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، والعملية، حتى قال العلماء: أعطاه من الأسباب ما فقِه به لسان القوم، هذا يجوب الأرض، فجاء على قوم ليس بالضرورة أن يعرف لسانهم أصلاً، لكن مكّنه الله من ذلك، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بالأيدي، والرجال، كما قال العلماء[12].
بدأ المشروع العملاق بعد ما أشعرهم بأهميته، وأنهم ليسوا هملاً، ولا يكادون يفقهون قولاً، لكن يستطيعون في الحقيقة أن يعملوا شيئاً، استنهض الهمم للعمل، أَعِينُونِي بِقُوَّةٍ [سورة الكهف:95].
عندكم إمكانية أن تفعلوا، حفزّهم، وكسر حاجز الخوف، ووضع الخطة، وبما أنهم قد طلبوا سدّاً، فالهدف هذا سيتحقق إن شاء الله، لكن صحح الوجهة بدلاً من أن يكون مجرد جدار، جعله ردماً بين جبلين، يعني: جبلاً ثالثاً يغلق الجبلين آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [سورة الكهف:96].
قطع الحديد، وهذه المنافخ، حتى إذا ساوى بين الصدفين، والجبلين، والسّد بينهما، ووضع هذه القطع بعضها على بعض من الأساس حتى حاذى بها رؤوس الجبلين طولاً، وعرضاً، كما قال المفسرون.
أمر بالمنافخ، وإيقاد النيران، وقال: انفخوا، والإيقاد العظيم، وهذه المنافخ بالحرارة تذيب النحاس، فلما ذاب النحاس أراد أن يلصقه بين زبر الحديد، فقال: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرً [سورة الكهف:96]، نحاساً مذاباً، فأفرغه عليه، فاستحكم استحكاماً هائلاً[13].
وقال بعض علماء المعادن: إن الحديد الملبس من نحاس، أو النحاس الملبس من حديد من أقوى السبائك، آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرً [سورة الكهف:96]، انتهت العملية بطريقة علمية مع تحديد خطوات العمل، مراحل العمل، بيان الخطة، أنتم قادرون على تحقيقها، وضع الخطة، قسم الخطة، وما أعطاهم كل شيء من أول، نموذج، خذ، اعمل، وإنما بدأ خطوة خطوة مع قوم لا يكادون يفقهون قولاً، تحتاج القضية إلى خطوة خطوة.
ليست المسألة الآن أن تسطو على موظف متميز في مؤسسة أخرى، بل الإنجاز أن تهيئ من الموظفين الذين عندك شخصيات، لقد كانت النتيجة واضحة فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97].
فلا قدروا على الصعود عليه لارتفاعه، ولا تسلقه، ولا على نقبه لإحكامه، وقوته، فهو متقن محكم.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وأما السَّد فقد بناه ذو القرنين من الحديد، والنحاس، وساوى به الجبال الصُّم الشامخات الطوال، فلا يُعرف على وجه الأرض بناءٌ أجلّ منه، ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم"[14].
ولا يستبعد أن يكون أحسن مبنى حتى الآن في العالم، يعني أنفع بناء هذا البناء، ربما تقول: السد العالي، والسد الواطي، لكن أنفع شيء؛ لأن هؤلاء إذا خرجوا فيما بعد سيهلكون البشرية كلها، سيفنون من شاء الله إلا من يبقى من عيسى وأصحابه، فإذن، أنفع شيء كان بناء سد يمنع هؤلاء من الخروج.
إذن، أولاً: تهيئة النفوس إعلامها بالإجراءات.
ثانياً: التخطيط، وعرفنا المراحل التي مرت بها هذه القضية، ومن تأمل سيخرج بفوائد كثيرة من قصة ذي القرنين.
ثانياً: إتقان يوسف خطته الاقتصادية
وإذا انتقلنا إلى الكيفية التي واجه بها يوسف الأزمة الاقتصادية في ذلك الزمن، فإننا سنرى عجباً، فعرفنا في قوله تعالى: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [سورة يوسف:47 - 49].
إدارة الأزمات، والتعامل مع الكوارث، هذه مجاعة، قحط، تهيئة النفوس.
أولاً: إعلامها بالإجراءات الوقائية، التخطيط المبكر.
ثانياً: لمواجهة الأزمة، مضاعفة الإنتاج استثماراً لموارد الرخاء، تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا.
ثالثاً: استثمار سنوات الرخاء.
رابعاً: التخزين الجيد للمدخرات، فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِه.
وهذا من أصول الاقتصاد، وحفظ المال، التخزين الجيد.
خامساً: ترشيد إنفاق الموارد في الرخاء استعداداً للشدة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ.
سادسا: تدبير النفقات في الأيام الشداد ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ.
تقسيط الأشياء على كل نصيب، كل سنة لها نصيبها، سبعة إعادة استثمار المدخرات إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ليكون الباقي بذراً للعام الخصب الذي سيغاث فيه الناس، وفيه يعصرون.
ثالثاً: إتقان داود صناعة الدروع
من النماذج في الإتقان في كتاب الله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ [سورة الأنبياء:80].
داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [سورة الأنبياء:80].
قال البغوي: " اللبوس المقصود بها هنا: "الدروع"؛ لأنها تلبس"[15].
قال قتادة: "أول من صنع الدروع، وسردها، وحلقها داود، وكانت من قبل صفائح، والدرع يجمع الخفّة، والحصانة، لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ يعني: من حرب عدوكم، وتمنع وتحرز وقع السلاح فيكم"[16].
ألان الله له الحديد؛ ليعمل الدروع السابغة، وعلّمه الصنعة، وأن يقدّر في السرد، وهذا إتقان؛ حلقات يدخل بعضها في بعض كما قال السعدي أرشده الله لإتقان الصنعة أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ كوامل واسعات طوال تستر جسد المقاتل كله، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ[17].
انظر الإتقان هنا، قدّر في السرد، قدّر المسامير في حلقة الدرع، لا تجعل المسامير دقاقاً فتفلت، ولا غلاظاً فتكسر الحلق، المعنى: اجعله على القصد، وقدر الحاجة.
قال مجاهد: "لا تُدِق المسمار فيقلق في الحلقة"[18].
إذا صار صغيراً يتحرك في الحلقة، ولا غلاظاً فتكسر الحلقة، وهذا إتقان واضح جداً.
إتقان سليمان بناء القصر
ابنه سليمان كان يأمر بالأوامر، والويل للذي لا ينفذ بدقة، ومن الأشياء المدهشة التي صنعها، واستعملها في الدعوة ذلك القصر الزجاجي، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، هذا القصر المشيد فلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [سورة النمل:44]، قوارير، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وذلك أن سليمان أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير"، يعني: من زجاج، وأجرى تحته الماء، فالذي لا يعرف أمره يحسبه أنه ماء، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبين الماء"[19].
هل رأيتم قصر زجاج في العالم كله زجاج؟ ربما، لكن لا أظنه مثل إتقان سليمان النبي الذي يأمر الجن، وكان ذلك سبباً في استسلام المرأة، استسلام كامل لأصحاب المنجزات الضخمة الذين هم فوقها، وفوق قومها في القدرة، والدقة، والخبرة، والإنجاز، فظهر العقل.
الكفار أحياناً يحتاجون إلى إبهار، والإبهار سبب الاستسلام في النهاية، فلما وصلت وشاهدت ما شاهدت، علمت أن هذا أمر نبي، وتابت، ورجعت عن كفرها، وكان المجلس المرتفع المتسع من زجاج تجري المياه من تحته، أراد أن يريها من سلطانه ما يبهرها لتستلم.
نماذج من إتقان نبينا ﷺ
أولاً: بناء المسجد
نبينا ﷺ كما تقدم معنا من الشواهد، أمر بالإتقان في الأعمال، وفي العبادات.
على مستوى الإنجازات مثلاً في بناء المسجد؛ عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: "جئت إلى النبي ﷺ، وأصحابه يبنون المسجد، فكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة.
يقول طلق: فخلط بها الطين فكأنه أعجبه أخذي المسحاة، وعملي، هو أصلاً القضية طين، وماء، لكن النِّسب الخلط، فقال ﷺ: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين[20].
قال ابن حجر: قال طلق بن علي: "بنيتُ المسجد مع رسول الله ﷺ فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسّاً، وأشدكم له سبكاً.
هذا إتقان، هذا إحسان، هذه مهارة، هذه جودة، جودة في التنفيذ، فإنه أحسنكم له مساً، وأشدكم له سبكاً رواه أحمد، وفي لفظ له: "فأخذتُ المسحاة فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين.
وفي رواية ابن حبان: "يا رسول الله، أأنقل كما ينقلون، أشتغل بالحمل، تحميل المواد، قال: لا، يوضع كل واحد في مكانه المناسب، ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به[21].
ثانياً: حفر الخندق
حفر الخندق هو نموذج لعمل بالإتقان الممكن مع الزمن المحدود بالحقيقة، فشكّل دفاعاً قوياً محكماً؛ لأن المدينة كانت محاطة من المشرق، والمغرب بالحرتين، ومن الجنوب بالبنيان، والحرار، والبساتين، والمنقذ الوحيد لأي جيش غازٍ هو الجهة الشمالية، حفر الخندق من الشمال من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية، من الطرف إلى الطرف، ووزع الحفر بين المجاهدين، والناس، فأعطى كل عشرة أربعين ذراعاً يحفرونها، أتموا الحفر في مدة وجيزة.
ذكر الأستاذ محمد أحمد باشميل في كتابه: "غزوة الأحزاب" أن طول الخندق يقدر بـ: خمسة ألاف ذراع، وعمقه يقدر بما لا يقل عن سبعة أذرع، وعرضه لا يقل عن تسعة، وهذا يمنع الاجتياز في الغالب.
تربية الصحابة على الإتقان
على المستوى الفردي ربى النبي ﷺ الإتقان في نفوس أصحابه، وكانت الطاقات تُكتشف منذ سن مبكرة، عندما يكون اكتشاف الموهوبين على الغرب.
نحن كان عندنا اكتشاف الموهوبين من زمان؛ لأن زيد بن ثابت جيء به النبي ﷺ لما لاحظوا عليه أن عنده مهارة، أن عنده سرعة في الحفظ، وسرعة في التعلُّم، هذا يحتاج أن يوصل إلى القائد الأعلى، هذا عنصر موهوب، يريد له عناية على المستوى العالي، فماذا وجّه النبي ﷺ؟
لأن القيادة العليا تعرف ما هي الاحتياجات أكثر من الآخرين، وربما يكون هناك احتياجات دقيقة، وحساسة.
فالنبي ﷺ قال: يا زيد، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن اليهود على كتابي لا في قراءته، ولا في كتابته، وأخاف إن أمرتُ يهودياً أن يكتب مني كتاب اليهود أن يزيد، وينقص، وإن جاء كتاب من اليهود، ويقرأ علي يزيد وينقص، قال زيد: "فتعلمتُ كتابهم ما مرّت بي خمسة عشر ليلة حتى حذقته"[22]، مرة أخرى كلمة: "حذقته" من الكلمات المرادفة لموضوع الإتقان، والجودة، والإحسان.
يعني: عرفته، وأتقنته، وعلمته كما قال الشرّاح، قال: "فكنتُ أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كُتب إليه".
عند الترمذي، وأبي داود، "تعلّمه في خمسة عشر يوماً"[23].
قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وتعلم الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية، والرومية، والقبطية من خُدام رسول الله ﷺ"[24].
إذن، عندك المستشار، اللغات، والكاتب، والمسئول عن التعامل مع الخطابات، والرسائل التي تأتي بها الأقوام المختلفة، عندك شخص مؤهل جيد اكتشفت موهبته منذ سن مبكرة.
لما جيء به جيء به في مقتبل عمره، والتعلم واضح جداً، يعني: مهارة في التعلم؛ خمسة عشر يوماً لغة يهود، وثمانية عشر يوماً لغة فارس، واللغات الأخرى حبشية، ورمية، وقبطية من خدام رسول الله ﷺ.
القضية كبيرة، كيف استطاع النبي ﷺ أصلاً أن يكتب لأهل الأرض؛ لأنه يوجد عنده من الطاقات، والشخصيات التي تقوم بالمطلوب.
إتقان الصحابة جمع القرآن الكريم ومراحل ذلك
كان الإتقان واضحاً في عمل الصحابة، لو أخذنا مثلاً: جمع القرآن.
لما وكل زيد بتشكيل لجنة تتبعت القرآن، أجمعه من العُسُب، جريد النخل، واللخاف: الحجارة، الرقاق، وصدور الرجال مع هذه اللجنة، "إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي"[25].
هناك مواصفات للشخصيات، أنت إذا أردت إتقاناً، فلا بد أن تأتي بالشخصيات المؤهلة للعمل، شاب، عاقل، لا تُتهم، عندك خبرة، كنت تكتب الوحي في عهد الصديق، ثم في عهد عثمان.
جاءت الخطوات بغاية الدقة، تُنسخ الصحف التي جمعها زيد في عهد أبي بكر في مصاحف، الآن مجمع مصحف كامل، كانت مفرقة في هذه، وسائل الكتابة، ثم بعد ذلك نسخت مصاحف، عثمان غاية الإتقان؛ لأن هذا مصحف، الأمة ستقوم عليه، القضية ضخمة، وآثاره عبر الأجيال إلى قيام الساعة.
- لا يُكتب شيء إلا بعد التحقق من أنه قرآن.
- لا يُكتب شيء إلا بعد العلم أنه استقر في العرضة الأخيرة.
- لا يُكتب شيء إلا بعد التأكد أنه لم ينسخ لفظه.
- لا يُكتب شيء إلا بعد عرضه على جمع من الصحابة.
- إذا اختلفوا يكتب بلغة قريش.
- المحافظة على المتواتر.
- اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات يرسل بصورة واحدة.
- اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات، ويمكن رسمه في الخط محتملاً لها كلها، يكتب برسم واحد. مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6]، بدون نقط، تقرأ: تبينوا، تقرأ تثبتوا، بدون نقط، وشكّل.
- اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات، ولا يمكن رسمه في الخط محتملاً لها يكتب في نسخة برسم يوافق بعض الوجوه، وفي نسخة أخرى برسم يوافق الوجه الآخر، مثل: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة: 132]، "وأوصى" في نسخة أخرى، بهذا المنهج الدقيق كُتب المصحف العثماني في غاية الإتقان، والضبط، والتحري.
إذا جئت إلى صحيح البخاري، في غاية الإتقان، إذا كان بعض المشايخ لهم ست طبقات من الطلاب، مثل الزهري، والبخاري، يخرج عن الطبقة الأولى، وينزل إلى الثانية أحياناً للشيخ، هذا شرط عظيم، كيف تأتي بأحاديث لكل شيخ من طلابه من الطبقة الأولى، أو الثانية، في كل طبقات السند، ثم يقول: صنّف جميع كتبي ثلاث مرات يُنقح، ويُراجع "وما وضعت حديثاً إلا اغتسلت وصليت ركعتين"[26].
واختاره من ستمائة ألف حديث، وبعد أن تيقن من صحته يضعه، ما كان القضية قاصرة على الأمور الدينية، الأمور الدنيوية أيضاً، كان فيها إتقان في الأمة.
إتقان عبد الملك بن مروان لعملة الدولة الاسلامية
عبد الملك بن مروان، لما أمر بضرب الدنانير في الإسلام، كان سبب ضرب الدنانير أنه كتب في أحد الرسائل إلى ملوك الروم: قل هو الله أحد، وذكر النبي ﷺ مع التاريخ، فكتب ملك الروم رداً إنكم قد أحدثتم كذا، وكذا، فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكرنا نبيكم ما تكرهون، يعني: إذا كررتم ذلك سنصك دنانيرنا -نحن الروم- صكاً نكتب عليه إساءات لنبيكم، هذه متداولة في كل الشعوب، فيصير سب نبيكم من كل جيب، لكل يد لكل...، يصبح عملة متداولة، فكيف واجه عبد الملك ومن معه هذه القضية؟
أحضر خالد بن يزيد بن معاوية، واستشاره، فقال: "حرم دنانيرهم"، امنع التعامل بها، هذا أولاً.
واضرب للناس سكة فيها ذكر الله تعالى، فضربت الدنانير، والدراهم، هذا حين كان عملة للمسلمين، أو من أوائل عملات المسلمين، كان بعض الولاة يشدد في أمر الوزن، ودقة الوزن؛ لأنه كان هناك دراهم دنانير فيها تزوير، فيها تزييف، خفيفة، ليس فيها المقدار الكافي، لما ولِّي يوسف بن عمر في العراق امتحن يوماً العيّار، فوجد درهماً ينقص حبة، فضرب كل صانع ألف سوط، وكانوا مائة صانع.
يقول ابن الأثير في الكامل: "فضُرب في حبة مائة ألف سوط"[27].
وكانت الدراهم توزن في النهاية بحبات الشعير، وجُد ناقص حبة، فضرب كل واحد ألف سوط، قال: فضرب في حبة مائة ألف سوط.
الآن لما تنظر، هو صنع الله الذي أتقن كل شيء، الاستنباط، أو أخذ الأفكار الإتقانية من مخلوقات الله، هذه قضية من التفكر، لكن من الذي تفكّر، اليابانيون أكبر مصدر للإستيل في العالم، مع أن اليابان ليس فيها، لكنهم لما نظروا في النحلة، وجدوها تمتص وهي تطير!، تجري العمليات داخلها، يعني: المصنع شغال في الرحلة، وتذهب وتضع نحلاً عسلاً فيه شفاء للناس، فأخذوا المادة الخام من أستراليا، وبنو سفن تُصنّع أثناء الطريق، وتفرّغ في الشرق الأوسط للمستهلك مباشرة، ففكرة عمل سفن تصنع المواد الخام أثناء الإبحار في المحيطات ذات المسافات الشاسعة التي تأخذ وقتاً طويلاً هي أصلاً مأخوذة من النحلة، لكن أين الذي يأخذ من المسلمين مثل هذا؟
مقومات الإتقان
الإحسان والإتقان له عدة مقومات:
أولاً: الإخلاص لله تعالى.
ثانياً: التنظيم الدقيق، والتخطيط السليم.
ثالثاً: الاستفادة من تجارب الآخرين.
رابعاً: وضع الاحتياطات الكافية.
خامساً: التأني في العمل، ولو كان يؤدي للإقلال، الإقلال في سبيل الحصول على مستوى أعلى.
دواعي تطبيق الجودة في الأعمال الخيرية
دواعي تطبيق الجودة في الأعمال الخيرية كثيرة:
تعرض العديد من الجمعيات الخيرية للمزيد من الشفافية، والتحديات، يعني: هي الآن مضطرة لعملية الجودة، والإتقان؛ لأن تسلط المنافقين على الأعمال الإسلامية في هذا الوقت قد يكون له إيجابية في زيادة الإتقان، تعرّض الأعمال الإسلامية للنقد الخارجي، ممكن يرفع مستواه، يعني: هو شر يمكن أن يكون من ورائه خير، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة:216].
الإتقان، والجودة، ممكن يدرأ الله به شراً كثيراً عن الجمعيات الخيرية، والأعمال الإسلامية، فيبعد عنها الظنون السيئة، ويبرز العمل الإسلامي على أنه منظم، وهذا فيه دعوة؛ هو نفسه عمل دعوي، وفيه تفادي لوقوع الجمعيات، والمؤسسات الخيرية في المسائلات.
قبل قليل، في لقاء مع الوزير قبل دخول القاعة، كنا نتناقش قضية فتح المجالات، يقول: أعينونا أنتم بالانضباط.
فهذه النقطة، وهي قضية تفادي وقوع الجمعيات في المسائلات، والمؤسسات الخيرية في المسائلات.
الجودة، والإتقان، من أسبابها، تفادي، ثم عدم جودة بعض الأساليب التقليدية تؤدي إلى تزيل النظام، ونأتي بنظام آخر، وإدارة الجودة الشاملة هذا شيء جيد.
مقترحات وآليات لتحقيق الجودة في العمل الخيري
هناك مقترحات، وآليات، لتحقيق الجودة في العمل الخيري:
أولاً: إعطاء العمل الخيري أوقاتاً أصلية، وليس فضائل للأوقات، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92].
وقضية الجمع بين موظف بالمال، والموظف بأجر، وبأجرة، أجر من الله، وأجرة من البشر، هو مزيج نضطر إليه في الأعمال الدعوية، والخيرية، والمؤسسية، الأصل أنه لله، أن يكون بلا مقابل، لكن للتفرغ، والتفريغ لا بد يعني يصير فيه تفهيم للموظفين، والأفراد، أنه أنتم الآن إذا أحسنتم النية، أنتم تُعطون المال لماذا؟ لتتفرغوا للعمل، فانظروا للقضية ليس على أن المال أُجرة لكم على العمل مثل بقية الموظفين، ولكن المال يفرغكم للعمل، مثل: تفريغ الإمام، والمؤذن، والقاضي، والمفتي، والداعية، وهكذا.
ثانياً: عدم ربط الأعمال الرئيسة بأشخاص غير متفرغين، وهذا مهم في تحقيق الجودة، والانسيابية، وسرعة الإنتاج، والإنجاز، وبعد ذلك سريان خط العمل، وفي حال وجود أشخاص غير متفرغين، وتحتاج المؤسسة لوجودهم على رأس بعض الأعمال، تكون آليات النيابة مهمة، موجودة آليات النيابة.
وكذلك فإن قضية المركزية المقيتة الموجودة، لا هو موجود، ولا يريد غيره أن يشتغل، ولا يوكل غيره، وبعد ذلك كيف تريد العمل أن يمشي؟
ثالثاً: الواقعية في التعامل مع الموظفين؛ لأن بعض المؤسسات تفترض أن جميع من عندها أو تريد مميزين، والمتميز قليل أصلاً، النبي ﷺ قال: تجدون الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة[28].
وهنا تأتي قضية برامج الإعداد، والتطوير.
رابعاً: تهيئة أصحاب الوظائف لما يؤهلهم لمواقعهم التي هم فيها، ونظراً لقلة الكفاءات فلا بد من الترقية، ولا بد من الإعداد، وكذلك فإن الندرة شيء أساسي في هذا الجانب، الندرة.
الآن دائماً العنصر البشري هو الأساس، فلا بد يوجد في المؤسسات مدراء يحسنون مهارات الإدارة، والتخطيط، والمتابعة، والرقابة، بالإضافة إلى دورات يعني هذه مسألة مهمة دورات التفقيه الشرعي، بعض المؤسسات الخيرية تهتم ببرامج التطوير الإداري، جيد، ودورة الجودة الشاملة، ودورة، ودورة، ودورة...، فهل قدموا لهم يوماً دورة في الأحكام الشرعية للتبرعات للزكوات للصدقات للأشياء التي يقومون عليها، وكُثف هذا العمل؛ لأن التجاوزات ضخمة، تجي للعمل تقول يا أخي يقول طيب خذ من بند الزكاة، كيف يقول: خذ من بند الزكاة، وبعد ذلك رجع، وإذا لم يأتنا..، هناك تجاوزات أحياناً مسيئة، وهناك سعي للأخذ بفتاوى المتساهلين، وما أكثرها.
هناك من يتبرع، ويتساهل، فما تجد شيئاً الآن من الهوى إلا وتجد له فتوى يمكن أن تمشي الحال فيه، وهذه مصيبة.
أصول شرعية لبعض تطبيقات الجودة
أولاً: مواصفات الموظفين، لما قال الله إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [سورة القصص:26] هذه مواصفات.
ثانياً: الأوصاف المتعلقة بالوظيفة، وليس بالشكل العام، يعني بعض الناس يمكن في المقابلة الشخصية يرى السمت جيداً، منظره لائقاَ، أن يكون لائقاً، يعني: شخص وسيم مثلاً، هندامه جميل مثلاً، لكن القضية ليست فقط أن يكون لائقاً في المنظر، وليس من عائلة كذا؛ لأن يوسف لما قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ قال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [سورة يوسف:55]، ذكر الصفتين المهمتين في العمل، المسألة مسألة أهلية.
ما قال: أنا يوسف أنا ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم لم يذكر هذا، ولا ذكر صلاحه في نفسه، ولا قال: أنا تقي، وأنا صادق، وأنا مخلص، وأنا من سلالة الأنبياء، ولذلك أبو ذر تقي، لكن بالإدارة، والتولي ليس كذلك، لا يستطيعه لا يطيقه، قال: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم[29].
ثالثاً: وضع خطوط سير العمل، وهذه نجدها مثلاً في بعوث النبي ﷺ، وسراياه، إذا أمر أميراً على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا بسم الله هذه بداية، في سبيل الله الهدف، قاتلوا من كفر بالله اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً هذه ضوابط، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكفّ عنهم، ادعهم إلى الإسلام هذا ترتيب خطوات فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، إن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أن يكونوا كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكن لهم في الغنيمة والفيء شيء ثم إن أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم الحديث[30].
رابعاً: قضية وضوح الرؤية، والرسالة.
والنبي-عليه الصلاة والسلام- ذكّر معاذاً بأشياء أيضاً، وهو ذاهب إلى اليمن، والخطوات، تنفيذ الوصول إلى الرؤية كيف يكون، وهو شرح الطرق الموصلة إلى الرؤية.
خامساً: الفهم الصحيح لمعنى التخطيط.
وهذه فيها طرفان، ووسط، فبعضهم في الجمعيات الخيرية يرى تعارضاً بين التخطيط، والبركة، فيجعل معنى البركة التي جاءت الأدلة بمدحها شرعاً، يجعلها مقابلة للتخطيط، فيقول ماشين بالبركة، لماذا؟ ماشين بالبركة، لو ما شين بالبركة ما فعلوا هذه الفوضى، هناك فرق بين التخطيط، وماشين بالبركة من أكبر الأخطاء التي تستخدم يعني الكلمة في غير موضعها، وفي الطرف الآخر يوجد من يوغل في التخطيط فتضيع به الأوقات في دقائق الدقائق، ويغيب اعتبار أمر البركة، وأقدار الله فيها مفاجئات كثيرة، والحق وسط بين طرفين، من مخالفات في معايير الجودة الغربية؛ لأننا لاحظنا أن بعض الكتب ترجمة فقط، ولو أتيت تقول: ضوابط الجودة في المؤسسات الخيرية، تجد أنه تترجم الكتب الغربية، وتوضع كذا معها آيتين، أسلمة خفيفة، سكر خفيف، أسلمة هكذا، نص استوى، لصق معها آيتين، وحديث، صارت هذه هي الجودة الإسلامية! وهذا -مع الأسف- موجود في كثير من الكتب، الأصل في كل نظام إداري، أو ثقافي، أو إعلامي، أنه لا يمكن أن يسلم من تأثير الدين الذي يكتبه، ومعتقده.
ولذلك الكتب الغربية متأثرة بأديان الذين كتبوها، واللوائح، والنظم، تخرج لتحقيق، وتقوية ما عندهم من العقيدة.
نحن نعرف الآن أن الغرب أكثر تطوراً في الإدارة، ولكن عقيدة الكاتب مهمة جداً، ولا يسلم من تسرب الخلل من يذهب إلى الترجمة الحرفية، والسعي لتحقيق الجودة، والإتقان أمر تريده الفطر عموماً، لكن من الملاحظات أنه الجودة في نظرهم تلبية حاجات، وتوقعات العميل المعقولة، وعرّفت منظمة المواصفات العالمية الأيزو الجودة بأنها انظر التعريف، مجموعة السمات، وخصائص لمنتج، أو الخدمة التي تجعلها قادرة على تلبية احتياجات العملاء، سواء المنصوص عليها، أو الضمنية، الهدف: إرضاء العميل.
بعضهم -مثلاً- يختار الريادة والامتياز في عمل أشياء كمعنى للجودة، يعني: السبق في الاستجابة لمتطلبات العميل، والامتياز، الإتقان في العمل.
ملاحظتان على كتب الغربيين في الجودة:
فإذن، الكلام الذي في الكتب الغربية على قضية الجودة يلاحظ عليه ملاحظتان:
أولاً: أنها مقصورة على المنتج، وهي الخدمة المقدمة للعميل.
ثانياً: أن الهدف النهائي إرضاء العميل، إذا جيت تطبق القضية هذه إسلامياً ما تمشي، لأنه نحن أولاً عندنا إرضاء الله، وبعدين من هو العميل يعني زبائن المؤسسات الخيرية يعني الفقراء الذين نعطيهم الصدقات مثلاً، يعني كوننا نرضيهم هذا هو الهدف الأول، كما تعرضه الكتب الغربية أو إرضاء الله تعالى، لأنه أنت ممكن أحياناً ترضي العميل تبع المؤسسة الخيرية الذي يأخذ الصدقة، ولكن بإسخاط الله، ممكن تجي تنقل من بند لبند، وتعطيه، وتتجاوز في إعطائه، وترضيه، لكن ترضيه على حساب ماذا؟
فإذن، لا بد من إرضاء الله، والجودة مبدأ إسلامي في القرآن، والسنة، ما نحتاج أن نأخذه بحرفيته من الغرب، ولكن نأخذ منهم ما يصلح لنا.
العاملون في المؤسسات الخيرية من أحوج الناس إلى استحضار حسن النية في القضية، وإرضاء الله، والحصول على الأجر، والثواب.
ملاحظة أخرى
أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وهذه في الكتب الإدارية، والغربية كثيرة، حتى أحياناً يلمحون إلى الكذب لإرضاء العميل.
ملاحظة أخرى:
الانتماء الزائد للمؤسسة المعينة، يعني: إذا نظرت في بعض الكتب الغربية في الإدارة، عندهم التركيز على الانتماء للمنظمة، أو الشركة، كأنه يعبدها! يقول: قوقل فعلوا مطاعم للموظفين، وترفيه، وأندية، وأشياء؛ بحيث الموظف ما يريد يخرج من مكان العمل، وضعوا له بوفيهات، طعام فايف استار، وضعوا له هذه الأطعمة المتدنية السعرات الحرارية، يصير خلاص يعبد المؤسسة.
نحن ليس عندنا شيء اسمه: يعبد المؤسسة، ولا عندنا قضية الانتماء الزائد المؤدي إلى تعصب مثلاً، إلى تفكيك المسلمين مثلاً، ولذلك ممكن تنشئ بعض القضايا هذه تنافساً غير محمود بين الموظفين في الجمعيات المختلفة؛ لأن كل واحد يتعصب لمؤسسته، ويتعصب لمنظمته، ويتعصب للهيئة التي ينتمي إليها، أين المفهوم العام الذي يوحد المسلمين؟ أين التكامل مثلاً؟ يعني: قضية ابتغاء الأفضل شرعاً، حتى لو جاء من هذه الجهة، أو من هذه الجهة، أين هذا؟ كل واحد يريد ينصر من عنده بأي طريق.
خامساً: التسويق لجلب المال بدون ضوابط:
انظر إلى لجان تنمية الموارد في كثير من المؤسسات عندهم يعني المهم الحصول على المال بأي طريق، ماذا يقال للناس، كيف وسيلة العرض؟ كيف سنفعل بالمال بعد أخذه؟ وقد يوجد أحياناً تدليس، وعرض المشروعات بأبهى صورها مع العلم أن هذا هو يعرف أن المؤسسة ما عندها قدرة تنتج مشروعاً بهذا الصيغة.
مثل: شخص يأتي يعرض لك مبنى مكتب معماري، أو مقاولاً، أو شركة مقاولات، وهو يعرف أن عمّاله، ومهندسيه لا يمكن يخرجون مبنى بهذه الصورة، لكن حتى يكسب تجاراً، أو رؤوس أموال تدخل في التمويل، وهذه مشكلة حقيقية موجودة، ونحن مسلمون، كيف نكذب على الخلق؟ وكيف ندلّس؟ وكيف نمشي الأمور فقط المهم الناس تتبرع لنا، وتعطينا، وكيف ندلّس على الداعم بذكر معلومات مغلوطة؟
ثم أحياناً تجد بعض المؤسسات فيها إغداق، أو إهداءات، هي إذن عند التدقيق رشوة، وربما دُفعت الرشوة لبعض الإعلاميين؛ كي ينشروا معلومات، أو تفخيمات، أو تصديرات لأخبار الجمعية الفلانية، والفلانية، لماذا؟
الدخول في عالم المنافسة في الشهرة، أو قضية الدعاية الإعلامية عبر رشاوى، وتُعطى من أموال المحسنين؟!
اتقوا الله، كيف نصل إلى هذه الدرجة من الانحراف؟
أصلاً أنشأناها، ولماذا قامت أصلاً؟ ألا تريدوا الأجر لأجل الثواب، نحن نريد نأخذ حسنات، أو نريد نأخذ سيئات، فهناك أشياء لا بد نحاسب فيها أنفسنا.
وقضية الغلو في تعظيم الجانب النظري، والشكليات التي جعلت بعض المؤسسات تنتج بروتوكولات عمل معقدة جداً، خلاص يمكن لا فقير، ولا محتاج، لا يمكن أن يطبق هذه المتطلبات، وبالتالي تعقدت الأمور فعلاً.
فما بين التعقيد، وما بين التسيب وسط عظيم.
مؤثرات سلبية على الجودة في الأعمال التطوعية
هناك مؤثرات سلبية على الجودة في الأعمال التطوعية:
غياب الإخلاص، عدم استحضار الأجر، انتظار الشكر من الناس، والثناء، النظر إلى المحتاجين نظرة احتقار، وازدراء، وهذه؛ قضية التعامل معهم بالنفسية شبه الطرد.
وليس معنى كون الشخص متطوعاً بالعمل أنه لا يلزمه الإتقان، لا أنت تحتاج ، لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، أعرض لكم في ختام الموضوع نموذجاً للأنظمة، تطبيق الجودة في بعض الأنشطة العلمية،خريطة توزيع الأعمال مثلاً في موقع للإجابة على الفتاوى لتشمل أشياء كثيرة جداً.
أقصد أنه يمكن تطبيق مقاييس الجودة في المؤسسات العلمية يعني ما هي فقط المؤسسات اللي هي المؤسسات الخيرية بمعنى المانحة أو المتبرعة، واستعمال البرامج أو استعمال الرسومات التي تشرح أسلوب سير العمل.
فعلى سبيل المثال هذه رسمه تشرح طريقة سريان أو طريقة خطوات العمل اللي هو أكثر من مائة خطوة من بداية تلقي سؤال من مستفتي إلى وضع السؤال في الموقع مروراً بالتصنيف، والفرز، والأسئلة المكررة، والأسئلة الطارئة، والأسئلة السرية، والخاصة، وكيف يعمل فلان، وترجمة الأسئلة، وبحث الإجابات، ومواصفات بحث الإجابات، خطة سير العمل مثلاً، هذه خطة سير العمل، أو تطوير العمل، من الأشياء التي لا بد تُكتب؛ لأن الآن قد يوجد موظف حافظ الطريقة، لكن حافظ الطريقة هذا راح، مات، انتقل، انشغل إلى آخره، هذا فاهم كل شيء، وهذا فاهم كل المؤسسة، هذا كل شيء هنا، هو جيد، كل شيء هنا، لكن المشكلة لو جاء شخص بعده، أو جاء أشخاص آخرين، والنظام غير مكتوب، سيكون هناك اجتهادات، واختلافات، وهذه قضية خطيرة.
مثلاً على سبيل المثال منهج الإجابة، منهج الإجابة اتباع أنظمة الجودة في منهج الإجابة على سؤال، مثلاً على سبيل المثال: توثيق أي نقل يُنقل عن العلماء القدامى، والمعاصرين، أن يُؤتى بنقل جامع، أن يُراعى في النقل عن المعاصرين عدم الإكثار إلا إذا دعت الحاجة؛ لأنه عندك الأئمة الأربعة، وابن قدامة، والنووي، هؤلاء لهم وزن معين، مراجعة العبارات السهلة في النقل؛ لأن هذا كلام عالم، وهذا كلام عالم، لكن هذا كلامه أسهل، إذا كانت النقول واضحة، ومختصرة، نُقلت بلفظها، وإذا كانت تحتاج إلى تصرّف نقلت بالمعنى، وإذا كانت تحتاج إلى شرح بين قوسين، ذكر أقوال الأئمة في المسائل الخلافية، إذا كان الخلاف قوياً؛ لأنه إذا كان مرجوح لا يحتاج تشغل الناس بالأقوال المرجوحة، ذكر أدلة القول الراجح، ومناقشة أدلة القول المرجوح في قضايا الشبهات مثلاً، الاعتماد في الترجيح على أقوال أهل العلم المعروفين بالتحقيق، مثل: النووي، وابن تيمية، وابن قدامة، وابن حجر.
وكذلك الرجوع إلى كتب الفتاوى المعاصرين، بشرط: عدم الإكثار. أيضاً لربط الناس بالعلماء القدامى، وذكر تخريج الأحاديث، ومتى يعتمد مثلاً على تحقيق فلان مثلاً قد يكون في تضعيفه أكثره مصيب، لكن في تحسينه لا، فلا بد من مراجعة كلام علماء الحديث الآخرين، تفسير ما يحتاج إلى تفسير من الألفاظ في القرآن، والحديث.
تاسعاً: الاهتمام بوعظ السائل.
عاشراً: الاهتمام بذكر الحلول العملية له.
الحادي عشر: إظهار الفرح والاستبشار بتوبة عاصي، أو إسلام كافر، أو ميل كافر نحو الإسلام بدون تكلف.
الثاني عشر: الاهتمام بذكر الأدلة العقلية، والحجج، والبراهين في الأشياء التي تأتي من الكفار.
الثالث عشر: تجنب الألفاظ التي لا ينبغي استعمالها، نحو: قلتُ، وعندي، ونحو ذلك من اعتدادات الباحثين بأنفسهم.
كذلك تجنب الألفاظ التي توهم الإحاطة، لا يوجد، لا نعلم، لم يرد.
الخامس عشر: الاهتمام ببيانات السائل مثل الجنس، والسن، والبلد، واللغة، والعمل؛ لأنها تعني شيئاً في الإجابة.
كذلك حسن الأسلوب، والبلاغة، كذلك المعايير المعتمدة في عمل الباحثين في الآيات، مثلاً : اختيار الآية، مطابقتها للموضوع، الاقتصار على محل الشاهد، نقلها مشكلة من المصحف الإلكتروني، بيان وجه الاستدلال إذا لم يكن واضحاً، مثلاً: الحديث، النقل من أي برنامج عندك عدة موسوعات إلكترونية، أي واحدة هي المعتمدة، ترقيم أي طبعات هي المعتمدة، وهكذا، وهذا كله إذا كتب كله قضية التصحيح، وتنقل التصحيح عن من ،وإذا كان الحديث في الآداب، والأخلاق، والمواعظ، مثلاً يكتفى بتحسين الشيخ فلان، إذا كان في موضوع خلاف علمي لا بد من مراجعة أقوال العلماء الآخرين، إذا لم يجد الباحث تصحيحاً، ولا تضعيفاً.
فمثلاً: يمكن أن يدرس السند نفسه مثلاً، وهكذا هذه كلها تطبيق مقاييس الجودة في المعايير العلمية مثلاً في البحوث، والإجابات إلى آخره، منهجية البحث مثلاً منهجية البحث أيضاً فيها إجراءات طويلة جداً أنا لأجل أن أختصر سأتوقف عند هذا الحد، لكن كنت أقول في آخر نقطة: إننا نحتاج في منتجات المؤسسات الخيرية سواء كانت مالية سواء كانت علمية أو سواء كانت مراكز أبحاث إلى كتابة شروط الجودة، والمواصفات، والشروط بعد جلسات العصف الذهني، والخبراء، حتى تكون الأشياء مكتوبة موجودة، وتطبق، ويتمشى بموجبها بدون تعقيد زائد.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن حسن عمله، وابتغى وجه الله، وأن يكتبنا في عباده الصالحين، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه الكريم، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفانا مؤمنين، ويلحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مضلين، واستسمحكم عذراً، وفيكم من هو أخبر مني، وأعلم بقضايا كثيرة، ولكن هذه مشاركة أسأل الله أن يغفر لي تقصيري، وزللي فيها.
وصلى الله على نبينا محمد.
- ^ رواه مسلم: (5167).
- ^ جامع العلوم والحكم: (1/ 152).
- ^ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (4932)، وحسّنه الألباني في سلسلته الصحيحة: (1113).
- ^ رواه البيهقي في الشعب: (4930)، والطبراني في الأوسط: (897)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته: (2761).
- ^ رواه مسلم: (601).
- ^ رواه أحمد: (21609) بإسناد حسن، صحيح الجامع: (11009).
- ^ رواه مسلم: (2228).
- ^ رواه مسلم: (1898).
- ^ رواه الترمذي: (4588)، والنسائي: (4830)، وابن ماجة: (3466)، وحسنه الألباني في صحيح ابم ماجة: (2791).
- ^ المغني: (6/ 133).
- ^ المغني: (6/ 133).
- ^ تفسير الطبري: (18/ 113).
- ^ تفسير الطبري: (17/ 56).
- ^ البداية والنهاية: (2/ 132).
- ^ تفسير البغوي: (5/ 335).
- ^ تفسير القرطبي: (11/ 320).
- ^ تفسير السعدي: (1/ 676).
- ^ تفسير ابن كثير: (6/ 498).
- ^ تفسير ابن كثير: (6/ 194).
- ^ رواه أحمد: (24009)، وحسّنه ابن حجر.
- ^ فتح الباري لابن حجر: (1/ 543).
- ^ رواه أحمد: (21618)، وحسنه محققو المسند.
- ^ رواه الترمذي: (2715)، وأبو داود: (3647)، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح أبي داود: (3645).
- ^ البداية والنهاية: (8/ 33).
- ^ رواه البخاري: (4986).
- ^ سير أعلام النبلاء: (12/ 402).
- ^ الكامل في التاريخ: (3/ 453).
- ^ متفق عليه رواه البخاري: (6498)، ومسلم: (6663).
- ^ رواه مسلم: (4824).
- ^ رواه مسلم: (4619).