الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مصيبة الدين ( الضلال بعد الهدى )


عناصر المادة
الأسباب الذاتية الداخلية للضلال بعد الهداية
أهمية خلع جميع ملابس الجاهلية
عدم التوازن في الحياة
الوقوف في مواقف صعبة لا يستطيع تحملها
اتهام النفس بالنفاق
الأسباب الخارجية للضلال بعد الهداية
سوء التربية
عدم ملء وقت المستقيم بالطاعات والأعمال الشرعية
عدم تفقد الإخوة في الله لأخيهم المستقيم
عدم التدرج في الالتزام وأخذ الدين دفعة واحدة
حرص بعض الدعاة على استقامة المدعو في الظاهر وإهمال أعمال القلوب
الهجر الخاطئ
المعاملة السيئة التي يلقاها ضعيف الإيمان من الوسط الذي يعيش فيه
كثرة المنحرفين عن طريق الهداية
أنواع الضلال بعد الهدى
وسائل الوقاية من الضلال بعد الهدى

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فهذا هو الجزء الثاني من الكلام على قضية التراجع عن التمسك بشرع الله، والنكوص عن طريق الله، وترك الاستقامة التي يكون عليها بعض المسلمين أحياناً ثم يتركونها.

وقد كان الدرس الماضي بعنوان: "لا ترتدوا على أدباركم"، وهذا الجزء الثاني من الكلام بعنوان: "مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى"، لماذا يحدث؟ تكملة الأسباب، وكيف يحدث؟ وما هو العلاج؟

الأسباب الذاتية الداخلية للضلال بعد الهداية

00:01:16

وقد سبق أن تكلمنا -أيها الإخوة- على بعض الأسباب الذاتية أو الشخصية التي تحمل بعض الناس، أو تسبب ترك بعض الناس لطريق الاستقامة.

أهمية خلع جميع ملابس الجاهلية

00:01:34

ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً: مسألة أهمية أن يخلع الإنسان على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية، أن يخلع الإنسان المسلم وهو يدخل طريق الاستقامة على عتبة هذا الطريق جميع ملابس الجاهلية، وأن يتخلص من كل ما علق به في ذلك المجتمع الآسن الذي كان يعيش فيه.

وهاهنا أمثلة واقعية وردت في بعض الأسئلة نؤكد بها هذه النقطة التي كثيراً ما أودت بتمسك بعض المستقيمين إلى الهاوية، وأسوقها إليكم مختصرة قريباً مما وردت:

يقول: أنا شاب قد التزمت مع رفقة صالحة ولله الحمد والمنَّة، ولكنني ألتزم معهم في فترة الدراسة فقط، ولكن في فترة العطلة أذهب من المنطقة التي أنا موجود فيها إلى منطقة أخرى، حيث أقع في قراءة القصص الغرامية والكتب الجنسية، وذلك لأنني شاب قد حببت لي القراءة، فأنا أقرأ جميع ما يقع تحت يدي صالحاً كان أو سيئاً، وعندما أعود إلى أصحابي الصالحين أحس بأنني قد أخطأت وأذنبت ولا بد لي من توبة، ولكنني لا أستشعر الندم في قلبي فماذا أفعل؟

إذاً، هذا شخص الآن هو يستقيم فترة معينة من السنة، ثم في نهاية السنة في العطلة الصيفية يترك الاستقامة، ويقبل على أشياء من المنكرات مثل قراءة القصص المحرمة.

وشخص آخر يقول: أنا شاب لم أستطع الامتناع عن مشاهدة المسلسلات اليومية مع أني شاب مستقيم ولا أزكي نفسي، ولكني لا أجد أن هناك تحريماً لهذه المسلسلات؛ لأنهم لا يمثلون عراة، يعني السبب الذي من أجله يبيح لنفسه أن يشاهد هذه المسلسلات: أن الممثلين الذين في المسلسلات لا يمثلون عراة، فانظر -سبحان الله- إلى هذه الشبهة، يعني كشف المرأة وجهها ورأسها وشعرها وذراعيها ويديها، كل هذا ليس بعورة، واختلاط الرجال بالنساء، وهذه الأشياء السيئة الموجودة في كثير من المسلسلات ليست حراماً.

ويقول آخر: أنا شاب صالح إن شاء الله -تعالى- وفي الطريق المستقيم، أذهب مع أصحابي الطيبين إلى الفوائد، وغيرها من الأشياء الهادفة، ولكن في حارتنا شباب غير صالحين لهم بعض المعاصي الظاهرة مع أنهم يصلون ولهم أخلاق، أذهب معهم إلى الملعب للكرة وأذهب إلى مجالسهم مجاملة لهم، انصحوني.

فإذاً، هذا رجل ما زال على علاقة بأصحابه الأول، ويزاول معهم اللعب ويحضر مجالسهم، والمجالس هذه -طبعاً- فيها أشياء كثيرة لا ترضي الله، لماذا يحضر المجالس؟ مجاملة لهم.

ويقول آخر: أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري، أدرس في المرحلة الجامعية، أصرف أغلب وقتي في الدعوة إلى الله وأهتم بإخواني، وأحاول تقوية إيمانهم، وأنسى نفسي، حتى أصبحت ضعيفاً في دراستي، وفي قراءتي وفي إيماني، ماذا أعمل؟ أنا في حيرة من أمري، وأفكر دائماً في ترك زملائي الطيبين وعدم الاهتمام بهم، أرشدوني.

عدم التوازن في الحياة

00:05:45

هذه المشكلة -طبعاً- سببها: عدم التوازن، إن لنفسك عليك حقاً، ولإخوانك عليك حقاً، فهذا الشخص لم يستطع أن يوازن بين حق نفسه وحق إخوانه، فهو يصرف كل وقته إليهم، ولا يجد وقتاً أن يقرأ القرآن مثلاً لنفسه أو يذكر الله لنفسه، أو يعمل الطاعات الفردية لنفسه، أو يذاكر، ولذلك هو مقصر في الدراسة، فلما وجد نفسه على شفا هلكة ومستواه الدراسي قد تردى وجد بأن الحل أن يترك الناس الطيبين؛ لأنه لا بد أن يعدل من وضعه الدراسي.

السبب إذاً عدم الموازنة.

وهذا آخر يقول: أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري وحدث أني تعرفت على فتاة بواسطة الهاتف، وقد قويت علاقتي بها، وأنا معها منذ سنتين، وليس بيننا شيء إلا الذي يكون بين الأصدقاء عادة من حديث، -سبحان الله- يعني عادي بينه وبين الأصدقاء، خلاص اتخذ صديقة امرأة أجنبية، كما أنني أقوم على تلبية حاجاتها ومساعدتها في الدراسة وغيرها، يشرح الكلمات الصعبة، ويحل لها المسائل، وأنا لا أدري ما حكم عملي هذا؟ وإني أرغب وهي أن ننهي هذه العلاقة؛ لأننا نحس في صدورنا أنها غير صحيحة، مع العلم أن علاقتنا سامية للغاية.

المفروض أن هذا الإحساس من زمان يحدث أنه لا بد أن تنهى هذه العلاقة، -سبحان الله العظيم- رجل أجنبي يتكلم مع امرأة أجنبية في الهاتف ماذا نتوقع؟ وماذا ننتظر؟ ولمدة سنتين، كأنه يكلم أخته وهي تكلم أخاها، هذه الأشياء العجيبة التي تقع اليوم في واقع بعض الناس تنبئ عن سطحية في فهم معنى الاستقامة، وأنه يعني لا بأس من إقامة العلاقات مع النساء الأجنبيات بالهاتف، والشيطان يضحك ويلبس، ويقول له: العلاقة سامية وأنت تساعد، وهذه أخوة في الله، -سبحان الله العظيم- انظر إلى الشيطان كيف يستغل المداخل؟ وكيف يلعب في عقول الكثيرين حتى يوقعهم؟ ولا نستغرب إذا حدث في بعض الأشياء أن تنتهي المسألة بالعلاقة أو بالملاقاة، وما يحدث بعدها من سبل الشيطان.

نسأل الله السلامة.

وهذا آخر يقول: إنه يحب إحدى محارمه حتى يخاف أنه يقع فيها بالزنا فما هي النصيحة؟

-طبعاً- هذا أيضاً من ضعف الإيمان، ولذلك -يا جماعة- كثيراً ما نقول: لو كانت هذه البنت أو هذه المرأة إحدى محارمك وتحس بالفتنة من جلوسك معها فلا تجلس معها، ولا يجوز لك أن تخلو بها؛ لأن بعض الناس قد يحدث معهم مثل هذا الانتكاس الفطري؛ لأنه الآن فطرة الواحد مستحيل أن يميل إلى أخته أو بنت أخيه مثلاً؛ لأنهم من أب واحد، من أم واحدة أشقاء، لكن عندما يصل الانتكاس الفطري إلى هذه الدرجة فيجب عليه أن يعاملها كأنها شبه امرأة أجنبية عنه، لئلا يقع في ورطة.

وهذا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا شاب بدأت طريق الالتزام بقوة والحمد لله، ولكن لا زالت عندي بقايا من الماضي، وهي خصلة الكذب، رغم معرفتي الكبيرة بأحاديث هذا الموضوع، فما هو الحل؟

إذاً، ما زالت المشكلة بقاء آثار من الماضي.

وهذا آخر يقول: الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله.

وبعد:

فإني شاب تبت إلى الله، ولكن أصبحت أمامي مشكلة وهي فتنة النظر، أرجو أن تعلمني الدواء الشافي لهذا المرض؟

هذه طائفة من الأمثلة -أيها الإخوة- ذكرنا في المرة الماضية هذه الأشياء التي تبقى هذه، المشكلة أن هذه الرواسب التي تبقى في نفس هذا الشخص المستقيم الذي فتح عينيه على النور، وسلك الطريق، وأصبح له زملاء طيبين، هذه الرواسب هي التي تثور في المستقبل، تبقى مثل:

أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام

يعني الواحد أحياناً يرى الظاهر طيباً، لكن تحت الظاهر هناك أشياء تتفشى وأشياء تنتشر، وأشياء تقوى؛ لأنها لم تجتث من الأصل، هذه مشكلة الكثيرين، مشكلة خطيرة فعلاً أن الداء لم يجتث من الأصل، لم تعالج المشاكل كلها، لم يتخلص الشخص من آثار الماضي، فهو الآن يبدأ الحياة الجديدة ولا زالت معه الآثار السلبية السابقة، فلا تلبث بعد فترة من الزمن مع نوع من الفتور، ومع نوع من الانشغالات الدنيوية، ومع نوع من البرود الإيماني ونقص الإيمان تظهر هذه الأشياء ظهوراً قوياً مثل البركان، فيتفجر ويكون بداية السقوط وينتهي الشخص.

فإذاً -أيها الإخوة- التفتيش عن هذه الأمور، التفتيش عن سلبيات الماضي، اجتثاث المنكرات الباقية من جذورها، أن لا يبقى في حياتك الجديدة أي أثر للماضي وأي داء من الماضي، هذه مسألة مهمة جداً، ينبغي أن تقف على العتبة وتتخلص وتطرح جميع الأشياء الماضية.

الوقوف في مواقف صعبة لا يستطيع تحملها

00:11:53

وكذلك من أسباب النكوص والتردي -أيها الإخوة-: الوقوف في مواقف صعبة لا يستطيع الإنسان أن يتحملها، وأعني بهذا حديث رسول الله ﷺ الصحيح الذي يقول فيه: لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه  قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق  [رواه الترمذي: 2254، وابن ماجه: 4016، وأحمد: 23444، وهو في السلسلة الصحيحة: 613].

فأحياناً الواحد يتخذ شكلاً من أشكال التصادم أو المواجهة أو المجابهة أو الدخول في معمعة لم يعمل لها حساباً ولم يستعد لها ولم يتهيأ بحماس أجوف مجرد عن الإيمان القوي، فلا يلبث أن لا يتحمل جو الفتنة التي دخل فيها، ثم بعد ذلك ينهار لأنه لم يستطع المقاومة.

وبعض الشباب وبعض المستقيمين عندهم هذه النفسية، نفسية الدخول في أجواء الفتنة، هو يريد أن يلقى العدو، هذه الفرق يقول الرسول ﷺ: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلو الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا   [رواه الطبراني في الكبير: 48، والدارمي: 2484].

بعض الناس يتعمد أن يلاقي العدو، يتعمد أن يلاقي العدو فيعرض نفسه لأجواء من البلاء لا يطيقها، ثم بعد ذلك ينهار.

وهذه تجارب كثيرة حدثت في تاريخ الدعوات تبين هذا الأمر الذي كشفه الرسول ﷺ.

اتهام النفس بالنفاق

00:13:53

ومن الأسباب الذاتية الداخلية للانهيار والانتكاس والانحراف: ما يعبر عنه هذا السائل، فيقول: هناك معصية أنا واقع فيها شغلت قلبي وتفكيري حتى شعرت بأني منافق، وهممت بترك الصالحين بسببها، ألا وهي تأخير صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أعاذكم الله، وقد حاولت أن أجاهد نفسي إلا أن النوم أثقل، والنفس أضعف، بماذا تنصحني؟

ويقول آخر: أحمد الله الذي هداني للصراط المستقيم، ولكن يحدث أن تحصل مني بعض المعاصي وأتضايق من نفسي وأتهم نفسي بأني منافق وإلا لما عملت هذه المعاصي، وبعد حين أرجع إلى الله -سبحانه- وأستغفره ولكن يحصل ذلك مني من فترة إلى أخرى، ماذا أفعل؟

يقول الآخر: إنني شاب هداني الله بعد ما كنت ضالاً وبدأت أعمل الصالحات، ولكني أحياناً أفعل بعض المعاصي والتي تكون في غياب عن أعين الناس، وحينما أذهب إلى الصلاة وأكون في الصف الأول أو أعمل عملاً صالحاً أمام الناس تحدثني نفسي بأني منافق.

يقول الآخر: أنا شاب مسلم دخلت مع زملاء مستقيمين قبل ثلاث سنوات، ولكن حدث لي بعض المشكلات جعلتني أنسى الله وأفعل المعاصي بدون إحساس، على حد تعبيره، وأفكر أن أترك الشباب الطيبين؛ لأن حياتي أصبحت حياة لا يعيش بها شاب مسلم، دلني على طريق النجاة؟

فماذا نلاحظ من مجموع هذه الأسئلة -أيها الإخوة-؟

الذي نلاحظه قضية اتهام النفس بالنفاق، واتهام النفس بالنفاق أحياناً يكون له أسباب حقيقية، وأحياناً يكون له أسباب وهمية، فمثلاً أحياناً فعلاً الشخص يقبل على الله يسلك طريق الاستقامة يصاحب الناس الطيبين، وبعد فترة يحصل عنده ضعف إيماني فيقع في معصية من المعاصي، أو يتكرر منه الوقوع في هذه المعصية وهو لا يزال مع إخوانه الطيبين لا يزال يطلب العلم الشرعي لا يزال يمارس الدعوة إلى الله لا يزال يمارس الواجبات الشرعية، ولكن هذا الوقوع في المعاصي جعله يعيش في جو من التناقض، كيف يكون مع هؤلاء طيباً فإذا خلا بنفسه أصبح إنساناً يقع في المعاصي؟ كيف يمارس هنا الدعوة إلى الله ويطلب العلم ثم في بيته يقع منه شيء من المنكرات؟

فإذاً، يقول لنفسه: أنا عندي ازدواج في الإيمان بين الإيمان والنفاق، أنا بين الإيمان والمعصية، الطاعة والمعصية، إذاً أنا منافق أنا أظهر شيئاً وأبطن شيئاً آخر، إذاً أنا لا أستحق أن أكون في هذا الوسط الطيب، إذاً، أنا لا بد أن أظهر على حقيقتي، هذه الوساوس، الشيطان هكذا يفعل، لا بد أن أظهر على حقيقتي، إذاً، لا بد أن أكشف أمري للناس، إن هؤلاء الأطهار لا يصلح أن يكون بينهم واحد ملوث من أمثالي، إذاً لا بد أن أفارقهم، إنني سبب نكبة وسبب فشل بينهم، إنني عنصر لا بد أن أبتر، وهكذا..، فتكون النهاية أيش؟

ترك الحياة الطيبة والاستقامة.

هو يظن أنه يقصد خيراً، وأنه يريد أن يظهر على الحقيقة وأنه لا ينافق، هو هكذا يظن، لكن النهاية ما هي؟ من الذي كسب؟ الذي كسب هو الشيطان؛ لأن الأمور قد تردت، أنت صحيح أنك تعمل المعاصي وأنت ما زلت في الجو الطيب، لكن هذا الجو الطيب -يا أخي- يساعدك على البقاء إلى مستوى معين وعدم التردي، إذا كان الجو الطيب لا يحملك على ترك المعاصي فهو يحملك على البقاء في مستوى معين من الطاعات.

إذاً، هذا الجو الطيب له فائدة، إذاً من الخسارة الكبرى أن تترك هذا الجو الطيب، ولا تدع الشيطان يلعب عليك، ويوسوس لك حتى تترك طريق الاستقامة.

وهذه مشكلة اتهام النفس بالنفاق مشكلة كبيرة، مع العلم بأن هؤلاء الناس الذين يفكرون، لا يفرق بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي، هناك أشياء من النفاق العملي كبعض المعاصي: إذا وعد أخلف، إذا اؤتمن خان، إذا حدث كذب، إذا عاهد غدر، إذا خاصم فجر، لكن هذا النفاق العملي لا يعني أنك منافق يعني مثل عبد الله بن أبي ومثل غيره من المنافقين، وأنك يجب أن تتميز عن الصف المسلم، الفرق كبير.

فإذاً، لا بد من أن يعالج الشخص نفسه من هذه الوساوس.

الأسباب الخارجية للضلال بعد الهداية

00:18:58

الآن ننتقل -أيها الإخوة- إلى طائفة من الأسباب الخارجية عن هذا الشخص الذي يترك طريق الاستقامة، طائفة من الأسباب الخارجية تكون سبباً للنكوص والارتداد على الأعقاب.

وعندما نسرد هذه الأسباب ينبغي أن تضعوا نصب أعينكم أننا لا نقدم هذه الأسباب عندما نعرض هذه الأسباب، فإننا لا نقدمها كعذر لهذا الشخص المنتكس أو الناكص على عقبيه أو الشخص المتردي أو المتراجع، أو التارك للصراط المستقيم.

هذه ليست أعذاراً أبداً له تعذره فيما فعل، لكن نحن الآن نبين الأسباب سواء كان محقاً أو غير محق.

-طبعاً- هو ليس محق؛ لأنه ليس هناك شيء يحمل الإنسان على ترك الاستقامة مهما كان الأمر مهما كان، كل هذه أسباب يعني من الشيطان ليوقع الذين آمنوا في حباله، فيتركوا طريق الله .

سوء التربية

00:20:04

أحياناً يكون من الأسباب: سوء التربية.

سوء التربية، ما هو المقصود بقولنا: يكون السبب أحياناً سوء التربية؟

قد يطالب الجديد في عالم الاستقامة بتكاليف عالية، ونوافل شاقة منذ البداية، يعني مثلاً يطالب بقيام الليل، يطالب بصيام النوافل، يطالب بقراءة كتب ضخمة ليتناقش مع غيره فيها، فلما يطالب بهذه المستويات العالية من الأداء أو من العبادات، نفسه لا تستطيع أن تقوم بها؛ لأنه الآن قد دخل لتوه في طريق الاستقامة فهو لا يزال غضاً طرياً، لا يزال عوده لم يصلب بعد.

فإذاً، من الخطأ أن يطالب هذا الشخص من البداية بتكاليف عالية؛ لأنه إذا رأى هذا الأمر من البداية فإنه سيكون سبباً للرجوع، وسبباً لترك الطريق المستقيم، وسيقول في نفسه: هذه من البداية هكذا، أنا لا أستطيع أن أستمر بهذا المستوى، فيترك.

وقد يأخذه الحماس في البداية فيقبل على هذه الطاعات وعلى هذه العبادات وعلى هذه التكليفات، ويركب هذا المستوى العالي، هذه الموجة العالية الإيمانية، ولكن في منتصف الطريق تخف حماسته ويبرد إيمانه وهو في منتصف الطريق، فيرى نفسه أنه غير قادر، لا يستطيع المواصلة فيسقط، لا يستطيع أن يتحمل الأعباء، فيقول تبعاً لذلك: ما دام أني ما أستطيع أن أتحمل هذه التكليفات إذاً أنا لا أستطيع الاستقامة؛ لأنه عرف الاستقامة وفتح نفسه عليها أنها بهذا المستوى، إذاً ما دام أنه لا يستطيع أن يصوم دائماً الاثنين والخميس، ولا يستطيع أن يقوم كل ليلة، ولا يستطيع أن يتصدق مثلاً بجزء كذا من ماله، ولا يستطيع أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام مرة، ولا يستطيع.. ولا يستطيع..

إذاً، لا أستطيع الاستقامة فيترك الاستقامة؛ لأن تعريف الاستقامة عنده هي هذه الأشياء العالية.

فإذاً، ينبغي مراعاة هؤلاء الجدد في عالم الاستقامة، وأن لا يطالبوا مطلقاً بمثل هذه الأشياء العالية، وأن يترفق معهم ويرفق بهم، ولو أنهم تحمسوا لأدائها من أنفسهم فلا بد أن ينصحوا، ويقال له: يا أخي تمهل، لا تقسو على نفسك، لا تكلف نفسك فجأة بكل هذه الأشياء، قد لا تتحمل.

ويدخل في ذلك أيضاً المطالبة بمستويات عالية من الزهد، يعني مثلاً شخص يعيش في بيئة منعمة، أهله أهل غنى، أو فتاة تعيش في بيئة مرفهة، وعندهم خير كثير، فهو متعود وهي متعودة على مستويات عالية من الترف أو البذخ أو الصرف أو الإنفاق على النفس، فعندما يأتي هذا الشخص أقول له من البداية: يا أخي لا بد أن تتخلى عن جميع الزينة وعن جميع الملابس هذه، ولا بد أن تلبس لباساً عادياً جداً، ولا بد أن يكون الملابس فيها تواضع، وفيها رثاثة في الهيئة، والبذاذة من الإيمان و.. و.. إلى آخره، وهو الآن لتوه قد دخل في طريق الاستقامة، فعندما أطالبه بهذا المستوى العالي من الزهد، فإنه لن يتحمل، وبالتالي سينفض يديه ويترك طريق الاستقامة.

إنسان لتوه داخل كان في فواحش وكان في منكرات، من غير المناسب أن أطالبه بهذا المستوى من الزهد، لأعلمه أولاً أن الزهد هو ترك الحرام.

انتبهوا معي -أيها الإخوة-، أعلمه في البداية أن الزهد الآن المطلوب منك هو ترك الحرام، فإذا ترك الحرام واستقام على الطريق بعد ذلك يطالب بمستويات أعلى من الطاعات.

عدم ملء وقت المستقيم بالطاعات والأعمال الشرعية

00:24:40

وأحياناً يكون سبب النكوص والتراجع: عدم ملء وقت المستقيم بالطاعات والأعمال الشرعية، والمهمات المناسبة له، فيشعر أنه إنسان عنده فراغ كثير، وأنه غير منتج في المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه، فينسحب منه ويذهب إلى مقبرة الوحدة حيث تكون نهايته هناك، وتنتهشه كلاب الشهوات من كل جانب.

ما هو الخطأ الذي حصل؟

أن هذا الرجل أو هذه المرأة لم تشغل بالطاعات، لم يملأ وقتها بالطاعات، لم يملأ وقتها بأشياء نافعة، حلق ذكر، جلسات طلب علم، الذهاب في طاعة الله، الدعوة إلى الله، أشياء من بر الأرحام، صلة الرحم، الصدقات، الذهاب إلى المقابر، صلاة الجماعة في المسجد، أشياء كثيرة جداً، نشاطات إسلامية نافعة تفيد المجتمع.

فإذاً، عدم ملء واستغلال وقت الفراغ يوجد عند الشخص أوقاتاً كثيرة، لا يجد ما يشغله فيها فيشغلها في معصية الله ثم يسقط.

عدم تفقد الإخوة في الله لأخيهم المستقيم

00:25:56

ومن الأسباب الخارجية كذلك: عدم تفقد الإخوة في الله لأخيهم المستقيم هذا الذي سلك طريق الاستقامة، وعدم سؤالهم عن حاله وعدم معرفتهم بواقعه، فقد تصيبه مصائب، ويقع في مشكلات نفسية أو عائلية أو عاطفية أو مالية، فعندما يرى أنه لا أحد يسأل عنه ولا أحد يهتم به وبأموره يأتيه الشيطان فيقول له: إنه لن ينفعك إلا نفسك ومجهودك الذاتي، ولن ينفعك الآخرون بشيء، هؤلاء الذين تسميهم: إخوة في الله، لن ينفعوك بشيء، انظر إنهم لا يسألون عنك ولا عن أحوالك، لو أنهم كانوا حريصين عليك لتفقدوك، لم يزرك أحد، ولا واحد عندما مرضت في المرة الفلانية والمرة الفلانية، وعندما وقعت في مأزق لم يهب أحد لنجدتك، ولم يمد أحد يد العون لك، إنهم يستخفون بك ولا يكترثون، دعك منهم ومن طريقهم، فيترك الاستقامة.

وهذه النفسية موجودة عند الكثيرين، وقد تكون موجودة عند النساء؛ لأن المرأة حساسة بشكل أكبر من الرجل، وعاطفية بشكل أكبر، فإذا لم تجد أحداً من أخواتها في الله يسأل عنها، ويتحسس واقعها، فإنها لا تلبث أن تترك ذلك المجتمع الطيب، وتقول: إنهن لا خير فيهن لم يسألن عني.

-طبعاً- هذا ليس عذر، نفترض أن هذا الشيء حصل وهذا الشيء خطأ، لا بد أن يسأل المسلمون عن إخوانهم المسلمين، وأن يتفقد المسلمون أحوال إخوانهم المسلمين، لكن لو حصل لك -يا أخي- هذا الموقف، لو أن إخوانك من حولك تشاغلوا عنك أو غفلوا عنك وعن مشكلاتك.

وغالباً أن بعض الناس لا يصرحون بمشكلاتهم، ولا يقول: ساعدوني، وينتظر من الآخرين أن يكتشفوا ذلك بأنفسهم، عند ذلك يقول: إذاً لماذا أبقى مع هؤلاء الناس؟

كونهم لم يسألوا عنك هذا لا يبرر لك عند الله ترك طريق الاستقامة، يعني عندما يسألك الله يوم القيامة: لماذا تركت الاستقامة؟ وتركت التمسك بالدين؟

لن يكون جواباً: والله إن باقي إخواني لم يسألوا عني، هذا ليس بجواب، وليس بعذر مقبول.

عدم التدرج في الالتزام وأخذ الدين دفعة واحدة

00:28:37

وأحياناً يكون من الأسباب: إرادة بعض الدعاة ممن بدأ الاستقامة أن يلتزم دفعة واحدة، يشترط الآن أن هذا الشخص لابد أنه بين يوم وليلة يتغير، ويصبح شخصاً مستقيماً، وقد يحصل هذا فعلاً ويستقيم ذلك الشخص من أول يوم أو من أول أسبوع، ولكنه لا يلبث أن ينتكس مرة واحدة كما بدأ مرة واحدة، لماذا؟

لأن نفوس الناس ليست مهيأة إلى الانتقال بسرعة، بل إنه في هذا المجتمع الذي تكثر فيه مجتمعات المسلمين اليوم تكثر فيها المعاصي، ومن الصعب على الشخص أنه يترك فجأة وينتقل مباشرة بين يوم وليلة، فعندما يطالب بهذا العمل ترك المنكرات فجأة والاستقامة فجأة، فإنه قد يسقط فجأة كما بدأ فجأة.

وقد يستدل البعض على عدم خطأ هذا الأمر بأن هناك أناس قد استقاموا فجأة وأكملوا الاستقامة، فنقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح، والناس مراتب والناس طاقات والناس همم، صحيح أن فلان فجأة استقام وأكمل إلى آخر عمره، لكن لا يعني أن هذا العمل الذي فعله يستطيع الآخرون كلهم أن يفعلوه.

حرص بعض الدعاة على استقامة المدعو في الظاهر وإهمال أعمال القلوب

00:30:10

ومن الأخطاء أيضاً التي تحصل وتسبب الانهيار أو التراجع: أن يظن بعض الدعاة إلى الله أن المهم هو إيصال الشخص رجلاً كان أو امرأة إلى مرحلة الاستقامة الظاهرة، يعني أن يستقيم بشكله، يعني مثلاً المهم أن هذا الرجل يعفي لحيته ويقصر ثوبه، أو هذه المرأة تلتزم بالحجاب الكامل، هذا هو المهم، فإذا وصل هذا الرجل أو هذه المرأة إلى هذه المرحلة انتهى المقصود، وحصل المأمول، وتحقق الهدف.

هذا خطأ.

وكون هذا الشخص أو هذه المرأة تترك بعد أن وصلت أو وصل إلى هذا الالتزام الظاهري غير صحيح؛ لأن هناك أموراً تربوية كثيرة لا بد من تحصيلها ولا بد من تحقيقها وتوفيرها حتى يستقيم الشخص فعلاً، وإلا فإن الأشياء الظاهرة ليست هي كل شيء، كما أنه من غير الأشياء الظاهرة فإن هذا لا يعتبر كمالاً مطلقاً.

فإذاً، الترك الذي يحصل لمن استقام ظاهرياً؛ يترك لأنه انتهى المقصود من الأمر ومن الدعوة إلى الله خطأ كبير.

فالفرد إن يترك يضع في عصرنا ترك الشباب أساس كل الداء
إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء
لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء

الهجر الخاطئ

00:31:44

ومن الأسباب كذلك: الهجر الذي في غير موضعه، أحياناً يحدث هجر لإنسان، من الناس له علة معينة في نفسيته قد يكون له فيها يد، وقد يكون لا يد له في إصلاحها، فيترك هذا الشخص ويهجر لهذه العلة أو السلبية التي في نفسه، أو يخاف ويخشى على الآخرين منه فيترك ويهجر فتسوء أحواله أكثر، وينتقل من الإيمان إلى المعصية، وينقلب حرباً على الدعوة إلى الله، ناقماً في نفسه على هؤلاء الذين هجروه وتركوه، وقد يدفعه الشيطان إلى سلوك سبيل الانتقام.

ومن الأسباب كذلك التي تنبني على أخطاء أساسية في التصورات التي تسبب الانهيار والانتكاس والتراجع: أن يرى هذا الشخص واقعاً خاطئاً لمن اتخذه قدوة له.

إنسان التزم بشرع الله، استقام على طريقة الله، ورأى واحداً من الناس جعله قدوة، قال: هذا هو أحسن واحد وهذا الذي أقتدي به، وأتعلم منه، وأتشبه به.

هذا القدوة في يوم من الأيام فعل خطأ أو وقع في منكر أو معصية من المعاصي، أو أخطأ في التعامل معه مثلاً فماذا يحدث؟ يتزلزل كيان ذلك المسكين؛ لأنه لا يفرق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، فيحمل هذا هذا، فيقول: هذه هي الاستقامة التي أريد أن أصل إليها، هذه النهاية، لا بد من رفض ذلك كله جملة وتفصيلاً.

من أين أوتي هذا الرجل؟

أوتي من سوء تصوره.

يتصور أن هذا القدوة أو هذا الشخص أو هذا الشيخ أو هذا المطوع أو هذا الإمام أنه هو الإسلام، فإذا رأى عليه ثغرة أو رأى عليه سلبية من السلبيات، أو أنه وقع في منكر، هو بشر قد يخطئ، معنى ذلك هذا هو الإسلام، الإسلام في نظره هو هذا الشخص، فإذا انهار هذا الشخص انهار الإسلام، الاستقامة في نظره يمثلها هذا الرجل، فإذا انهار هذا الرجل انهارت الاستقامة.

فلا بد أصلاً أن يتربى الناس على التفريق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، لا بد أن يربى الناس على التفريق بين طريق الاستقامة وبين باقي المستقيمين، هؤلاء المستقيمين رجالاً نساءً قد يخطؤون قد يقعون في أخطاء.

إذاً، هم بالنسبة لي آخذ منهم الحق فقط، وإذا وقعوا في أخطاء أنا ما علي منهم، أنا ما زلت ممسكاً بالطريق أسير عليه.

المعاملة السيئة التي يلقاها ضعيف الإيمان من الوسط الذي يعيش فيه

00:34:45

ومن الأسباب الخارجية: المعاملة السيئة التي يلقاها ضعيف الإيمان ممن حوله من الوسط الذي يعيش فيه، فيقول: هذه معاملة! هذه أخلاق! هذا أسلوب! أنا أخاطب به!

فإذاً، ليس هذا هو الطريق الصحيح.

إذاً، هذا هو طريق الاستقامة الذي ألاقي فيه هذه المعاملة.

إذاً، لا بد أن أتركه لأني لم أرتح فيه.

هؤلاء الأشخاص الذين لقيت منهم سوء المعاملة ليسوا هم الصراط المستقيم، وليسوا هم سبيل المؤمنين، هؤلاء ناس يسلكون سبيل المؤمنين، لكن ليس هم الطريق نفسه، فتركك للجميع خطأ ظاهر، وسوء في التصور.

ليت هؤلاء الذين تركوا الاستقامة بهذا السبب وبهذا المنطلق ليتهم يفهمون أن الإسلام لا يتحمل أخطاء المسلمين، وليس مسؤولاً عنها، وليتهم يفهمون أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق.

إذاً، نعود فنكرر، ونقول: إن التربية لا بد أن تكون من البداية على اتباع الحق وليس على اتباع الرجال، اتباع الطريق المستقيم، سلوك الطريق المستقيم وليس تقليد الآخرين إذا أخطأوا، قال: هذا هو الإسلام! وهذا هو الدين! وهذه الاستقامة! ما فيهم خير!

كثرة المنحرفين عن طريق الهداية

00:36:13

ومن الأسباب كذلك: كثرة رؤية هذا الضعيف للناكصين وانسحابهم من طريق الاستقامة الواحد تلو الآخر، فيشجعه ذلك على أن ينسحب هو أيضاً إن كان في نفسه قابلية لذلك، والطيور على أشكالها تقع، وقد يريد هو أن يتخلص، هو يريد أن يترك هذا الطريق، لكن لا يريد أن يتركه لوحده، لا يريد أن يترك طريق الاستقامة، هو يريد ينتظر من يشجعه، فإذا بدأ هذا تفلت واحد آخر اثنين ثلاثة تشجع، يحصل هناك تشجع نفسي على الانسحاب، فيقلد الآخرين، فهو أيضاً ينسحب من طريق الاستقامة.

فهذا الرجل الذي الآن حصل في هذه المشكلة ووقع ويريد الآن أن يترك طريق الاستقامة، وأن يعود إلى الضلال بعد الهدى الذي كان عليه، دعونا الآن نأخذ جولة في أعماق هذا الشخص المتزلزل ما هو وضعه؟ ما هي حالته؟ ما هي أحاسيسه؟ بماذا يفكر الآن؟ وبماذا يشعر؟

إنه الآن يفكر في التبريرات والأعذار التي يقدمها لترك طريق الاستقامة، ماذا يقول لإخوانه من حوله؟ بماذا يبرر لهم؟

فبعض هؤلاء يبدأ بافتعال المشاكل وإثارة أجواء من عدم الارتياح مع الآخرين في النقاش وفي غيره، يظهر على سلوكه وعلى نقاشه أنه غير مرتاح، وأنه يتأفف، وأنه يتضجر، وأنه لا يعجبه شيء، وأن أسلوبهم غريب، ويشتكي وتتعالى أصواته، ويكون دائماً هو الطرف المشاغب، وهو الذي يثير المشاكل في الأصل؛ لأنه يريد أن يتوصل من خلال إثارة المشاكل وافتعال هذه الأشياء إلى إيجاد المخرج الذي يخرج منه.

وقد يصل به الأمر إلى الكذب والادعاء واتهام الأبرياء ليجد لنفسه المخرج المزعوم.

والبداية في العادة لمثل هؤلاء: الاعتذار عن المشاركة في أعمال الخير، فيتخلف عن حلق الذكر، وعن الاجتماعات الطيبة، والمناسبات الإسلامية، مبرراً ذلك بأشياء، يقول: أنا مشغول مع أهلي! إن والدي يحتاج إلي! أنا عندي مسئوليات أسرية! وأنا عندي أعمال تجارية! وأنا عندي! وأنا عندي انشغالات! تبريرات لترك الأشياء الطيبة، وإذا كان الشاب يظهر تركه للتمسك بالدين أحياناً بأن يقصقص لحيته أو يحلقها مثلاً، أو يسبل ثوبه، فإن الفتاة تظهر ذلك عادة بالتخفف من حجابها أو تخفيفه أو إظهار زينتها أو شيء من عورتها التي أمرها الله بسترها، هذه البداية.

-طبعاً- البداية أصلاً في القلب حاصلة، البداية الأصل موجودة في القلب؛ لأن القرار قد اتخذ بأن يتراجع الشخص عن هذه الأحكام الشرعية وعن هذا الطريق المستقيم، لكن متى يظهر؟ وكيف يظهر؟

يظهر غالباً على الشكل الخارجي، فيبدأ كما ذكرت لكم بأن يخفف من مظهره الإسلامي فيطول ثوبه تدريجياً، وتقصر لحيته تدريجياً، والمرأة تبدأ تخفف من حجابها، فالآن هو يخف حتى يصبح شفافاً حتى يزول، كان المكياج من أول لا يظهر الآن بدأ يظهر، الكعب العالي جداً يلبس، أشياء في الزينة ظاهرة، حاجات معينة تبدو في الظاهر تدريجية.

ومن مظاهر بداية التفلت كذلك: كثرة الانقطاع عن صلاة الفجر، وعدم الحرص على أداء الجماعة في المسجد، وهؤلاء الأشخاص في العادة يحاولون أن يبرروا أفعالهم، كيف يبررونها؟

عن علم أو عن جهل، تبدأ التبريرات والأعذار تنطلق من هذه النفس الأمارة بالسوء، فمثلاً يقول: إن العلماء قد اختلفوا في هذا، وهناك آراء أخرى، وهناك من يجيز أن هذا الأمر، وهذا قال بعض العلماء أنه مكروه، وهذا ليس محرم قطعياً، تبدأ الأعذار الآن تظهر لك، أين كان الكلام هذا من أول؟ الآن بدأت الأعذار تظهر، وبدأ التأليف على العلماء، وأن بعضهم يقول، وأنه قرأ في كذا، واحد ينام عن الصلاة يقول: يا أخي في حديث من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، فأنا لا بأس إني أنام عن الصلوات، كيف أنت تجبرني على هذا؟

انظر كيف يستخدمون الأحاديث على حسب الهوى، وعلى حسب ما تطلبه النفس الأمارة بالسوء.

ومن الناس من يجيد التخطيط لترك الوسط الطيب الذي يعيش فيه، ويتسلسل في الانحراف تدريجياً، ويظهر هذا بأن يتحاشى رؤية إخوانه الطيبين المستقيمين، ويتهرب منهم بشتى الوسائل، فهو يتجنب أن يرد على الهاتف إذا شعر بأن الذي يتصل به أحد إخوانه الطيبين، أو يغلقه ولا يرد، ولا ينبس ببنت شفة إذا عرف من المتكلم، وإذا طرق طارق بابه يقول لأهله: قولوا له: غير موجود، أو هو نائم، أو مشغول.

هذا التهرب في كثير من الأحيان يكون عن تحرج، يعني كيف يقابل إخوانه هؤلاء السابقين بهذه النفسية المتغيرة، وبهذا الوضع المتغير، وبهذا الظاهر المختلف عن ظاهر الاستقامة.

وهذا التحرج هو الذي يدفعه في الغالب إلى التحاشي وعدم مقابلة إخوانه المسلمين.

هذا الوضع في الحقيقة مع سوئه إلا أنه أهون من غيره، فبعض الناس يتحاشون أن يرى أي أثر يربطه بواقعه السابق عن إيش؟ عن عداوة وبغض وكراهية لأصحابه وإخوانه السابقين لشخصياتهم، ولما يحملونه من دين وخلق ومبادئ ومثل إسلامية.

ولو أنه رضي أن يجلس مع أحد أصحابه الطيبين القدامى فإنه يتحاشى أن يفتح معهم أو يتحدث معهم في أي موضوع يتعلق بمناقشة حالته السيئة، وبتردي وضعه، ويقطع الطريق على من يريد ذلك، إما بإنهاء المحادثة، أو تغيير الموضوع، أو الانصراف، هذه أشياء قد تقع الآن عملياً.

وبالإضافة إلى الانقطاع عن لقيا إخوانه الطيبين والانقطاع عن الالتزام في شخصه ومظهره، فإنه يبدأ كذلك في ترك أمور أخرى من الدين، فقد يبيع كتب العلم التي كان يمتلكها.

-سبحان الله العظيم- يا جماعة الواحد لا بد أن يخشى على نفسه؛ لأن هذه أشياء قد تقع ويرى بعينه في الواقع هذا، يبدأ ماذا يفعل؟ يكون عنده كتب قد اشتراها واقتناها ليتفقه في الدين ويتعلم، بيع، أو يقول مثلاً: أضعها في المسجد حتى يستفيد المسلمون منها، وهو الذي كان جديراً وحرياً به أنه هو الذي يقرأ فيها ويستفيد منها،  أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16].

هؤلاء الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد تصدر عن هذا الرجل، الآن هذا كله وصف نفسية هذا الشخص وحالته، وكيف الآن يتردى من مستوى إلى آخر.

وقد يكون من تصرفاته العجيبة أن ييئس أصحابه الطيبين من عودته إلى طريق الاستقامة، كأن يدخن أمامهم عمداً، أو يتصل بواحد منهم فيقول: حاول أن تنسى رقم هاتف منزلي، وقد تتطور الأمور أكثر، فيجد رفقة سيئة، يلتحق بمعسكر أهل الكفر والفسوق والعصيان، بالإضافة إلى أنهم يسعون أصلاً لضمه إليهم عداءً لله ولرسوله ولدينه ولعباده الصالحين.

وقديماً -أيها الإخوة- لما قاطع الرسول ﷺ والصحابة كعب بن مالك؛ لأنه تخلف عن الجهاد هو اثنين وآخرين من الصحابة، قوطعوا بسبب أيش؟ تخلفوا عن الجهاد علاجاً لهم، علاج نبوي حكيم، كانت مقاطعة نافعة، قد تكون المقاطعة أحياناً سلبية وذات أضرار، فلما انعزل ذلك الشخص عن المجتمع المسلم ما الذي حصل؟

-سبحان الله- إنك لتعجب وأنت تقرأ رواية كعب بن مالك كيف وصل الخبر إلى ملك أنباط فأرسل رسولاً إلى المدينة يقول لكعب: إنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بأرض هوان، فالحق بنا نواسك، يعني أنت الآن تستغرب الآن هم قوطعوا كم يوم؟ خمسين، جاءت الرسالة من ملك أنباط إلى كعب بن مالك يقول: سمعنا أنه تغير وضعك وأن أصحابك قد جفوك، تعال عندنا نحن نكرمك، فانظر إلى مدى حرص أهل الجاهلية على التقاط هؤلاء الناس، وعلى استغلال وتحين الفرص، وكان من أول الرسالة تأخذ وقتاً، انظر إلى الاستغلال، -طبعاً- هذا يتم عن طريق أهل النفاق، يصل الخبر بسرعة، وتأتي الرسالة بسرعة، يقول كعب بن مالك: وإذا بسائل من أنباط يسأل يقول: أين كعب بن مالك؟ فدلوني عليه، فأخذ الرسالة قرأها فلما قرأ الرسالة -طبعاً- الشخص الذي تربى على الأصول الإسلامية الصحيحة يرفض هذه المهاترات، ويرفض هذه المساومات الخسيسة، ولذلك قال كعب رضي الله عنه: وهذا أيضاً من البلاء، فرميتها في التنور فسجرتها.

انظر إلى الناس الذين عندهم بصيرة، قال: وهذا أيضاً من البلاء، هذا أيضاً من البلاء الامتحان الذي يمتحنني الله به، الشيطان يريد أن يرجعني إلى أهل الكفر، أخذ الرسالة وألقاها في الفرن فاحترقت.

وبعض هؤلاء المتساقطين يسقط بهدوء دون أن يثير وراءه غباراً فيتوارى وينزوي في عالم النسيان، وينتهي أمره.

أما بعضهم فإذا أعمى الله قلبه فإنه يسقط وقد أصبح حرباً على الإسلام وأهله، وعلى دين الله، غاية همه الآن أن ينتقم وأن يفرق صف المسلمين، وأن يشكك كل من يريد الاستقامة، ويأخذ على نفسه العهد بهذا.

إن من أعمى العمى: الضلال بعد الهدى.

أنواع الضلال بعد الهدى

00:48:48

وهؤلاء -أيها الإخوة- الذين يتخلفون والذين يتركون طريق الاستقامة أحوالهم أحوال وأنواع، فمنهم من يعود فعلاً إلى ما كان عليه، وربما أكثر مما كان عليه؛ لأن التوبة تدفعه إلى مزيد من الأعمال الصالحة.

ومنهم من يعود ثم يرجع ثم يعود ويرجع، وهكذا..

ومنهم من يتمنى العودة ولكنه لا يعود، ومنهم من يذهب بغير عودة، وهذا شخص يقول في إحدى أسئلته: لي زميل كان مستقيماً ثم رجع إلى فسقه، فنصحته فيستجيب ولكنه يعود مرة أخرى وينكص ويتردى، ثم ينصحه مرة أخرى فيعود ولكنه لا يلبث أن يتردى، فهناك بعض الناس عندهم قضية يرجع إذا ذكر، وبعد ذلك ينسى مرة أخرى، ثم يعود ثم ينسى، وهكذا..

وهذا آخر يقول: شاب في الخامسة عشرة من عمره يسير مع إخوة له صالحين، لكنه بين حين وآخر تأتيه هفوات حتى أنه يتغير تغيراً مشيناً في مظهره وفي كلامه، ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، هذا أحد الأسئلة التي جاءت مرة في مناسبة من المناسبات يقول: ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، ومن ثم يعود لأفعاله القبيحة ويتصرف تصرفات كأنه ليس شاباً مستقيماً على الإطلاق.

فإذاً، هذه المرحلة التي تكون في سن الشباب المبكر، يقع منهم هذا التذبذب كثيراً، وترى أنه يعود وينتكس ويستقيم ويتنكس ويستقيم وينتكس، وهكذا..، حتى يكبر ويكون عنده نوع من النضج فيستقر على حالٍ معينة، قد يستقر على الاستقامة وقد يستقر على الانتكاس.

وهذا آخر يقول: كنت شاباً ضائعاً وكتب الله لي الهداية على يد أحد الإخوان، وبعد مضي فترة من الزمن إذا بهذا الذي كانت هدايتي على يده قد انحرف، وكان السبب هو أنه قد ارتكب خطأً عظيماً، ولقد حاولت معه كثيراً ولكن دون جدوى، مع العلم أن أخي هذا حافظ لمعظم القرآن، وكان يعلم منه الصدق والإخلاص في دعوته، أرجو النصيحة.

وهذا آخر يقول: أحد أصحابي كان يوماً من الأيام ينصحني بترك المنكرات وعدم إسبال الثوب وغيره حيث إنه كان مستقيماً في ذلك الوقت، وقد تراجع وهو الآن يدخن، ويعزف العود، ويغني ويمثل بلحيته، وأود أن أنبهه ليعود إلى الحق، يعني ماذا يفعل؟

واحد يقول: هداني الله على يد شخص ثم أن هذا الشخص سافر إلى الخارج ورجع وهو متغير بالكلية، وتارك للصلاة.

انظروا إلى الانتقال من داعية إلى الله إلى كافر تارك للصلاة مرتد عن دين الله.

ولذلك -يا جماعة- هذه قضية القلب قضية خطيرة، والله مقلب القلوب، أنت ما تدري الآن وقد ذكرنا لكم قصة ذلك الرجل الذي وصل إلى مستوى كبير من العلم، ولكن أضله الله على علمه، فإذاً هذا شيء يدفع الإنسان فعلاً أن يفتش نفسه، وأن يتحسس، وأن يحاول أن يتخلص من جميع هذه الشرور والآفات التي قد تأتي في نفسه، ولذلك كان من الدعاء المأثور: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور هذا الدعاء ما معنى: الحور بعد الكور؟ يعني: إني أعوذ بك من النقصان بعد الكمال، أعوذ بك من النقصان بعد التمام والكمال، الحور بعد الكور، وهذا يحدث كثيراً.

وسائل الوقاية من الضلال بعد الهدى

00:52:58

والآن نبدأ بذكر طائفة من العلاجات التي قد ينفع الله بها إذا ما تنبه إليها:

أولاً: -أيها الإخوة- عند الأطباء قاعدة تقول: "الوقاية خير من العلاج"، وهذه القاعدة قاعدة إسلامية قاعدة إسلامية.

ما هي الوقاية؟

الوقاية هي سلوك سبيل التربية الإسلامية القوية الصحيحة.

أي واحد لا يتربى على منهج الله تربية صحيحة فإنه معرض بنسبة كبيرة إلى الانهيار؛ لأن نفسه لم تأسس على تقوى من الله ورضوان، بل إنها مؤسسة على شفا جرفٍ هار قد ينهار به في نار جهنم في أي لحظة.

ولذلك -أيها الإخوة- لا بد من تربية إيمانية تهتم بالقلب تهتم بأعمال القلب، تهتم بارتقاء القلب إلى مستويات إيمانية عالية عن طريق العبادة، ذكر الله ، الإقبال عليه بالتوبة والإنابة والاستغفار، الخوف من الله، محبة الله، رجاء الله -عز وجل-، وغيرها من الأشياء.

ولا بد من التربية أن تكون علمية قائمة على منهاجٍ صحيح من الأدلة من الكتاب والسنة، قائمة على أساسات: الكتاب والسنة، غير قائمة على التقليد، وقد ذكرنا لكم قبل قليل حالات من الانتكاسات التي كان سببها تقليد الرجال.

ولا بد أن تكون هذه التربية فيها وعي، يستطيع فيها المسلم أن يعرف الشر وأهل الشر، ومصدر الشرور حتى يتحاشاها وحتى يتجنبها، لا أن تدخل عليه من تحت ثيابه وهو لا يحس، لا يدري؛ لأنه مغلق العينين فاقد الوعي، ولا بد أن تكون هذه التربية متأنية متسلسلة ترتقي بالمسلم إلى كماله تدريجياً.

وكثيرون من هؤلاء المتراجعين لا تظهر عليهم الأعراض الظاهرة للانتكاس والنكوص والتراجع من البداية؛ لأن البداية الحقيقية كانت في القلب، إنك عندما ترى شخصاً قد تغير شكله وسمته الإسلامي إلى سمت غير إسلامي، لا تظن أن التغير حدث الآن، أي حدث لما رأيت الظاهر تغير، لا، إنه حدث قبل فترة، إن نفسه كانت تراوده، إن هذا القرار قد جاء بناء على مقدمات حصلت في نفسه، وتغيرات حصلت في قلبه.

فإذاً، لا بد أن ينتبه المسلمون لإخوانهم، لا بد من الرصد والتحليل للتصرفات وطريقة الكلام، وخفايا الإشارات والعبارات، فإن الفتنة تكون في البداية بذور، وبعد ذلك تنمو وتظهر على سطح الأرض.

النبتة -أيها الإخوة- في بدايتها لا تكون ظاهرة على سطح الأرض، تكون بذرة تحت، فإذا رويت بذرة الفتنة بماء الشيطان وسبل الشيطان، ووضع لها هذا السماد الشيطاني، فإنها لا تلبث أن تظهر على سطح الأرض، وأن تشق طريقها إلى الخارج، فأنت ترى شجرة الفتنة قد ظهرت على سطح الأرض الآن، لكن الحقيقة أن الأمر من السابق يحدث، وأن المسألة لها وقت، ولها زمن حدثت فيه، ليست وليدة لحظتها وساعتها، وإنما هي نتيجة تفاعلات نفسية، النفس الأمارة بالسوء من السابق.

فإذاً، من واجب الإنسان المسلم الداعية إلى الله أن يتحسس هذه الأشياء في نفوس إخوانه والناس من حوله قبل أن تحدث وتظهر وتطفح على السطح، لا بد أن يغوص هو إلى الأسفل ليرى ماذا يحدث هناك، لا بد أن ينقب هو عن الجذور ليرى ماذا يتم هناك، كيف تعالج المشكلة أساساً قبل أن تكبر وأن تستفحل.

ولا بد من قلع بذور الفتنة، وإلا فإن هذه الشجرة تنمو في أصل الجحيم ويخرج طلعها كأنه رءوس الشياطين.

والملاحظ هنا أن بعض الناس إذا طرأ عليه نوع من التغير في سمته الإسلامي فإن بعضاً ممن حوله يلتمسون له أعذاراً شتى بناء على حسن الظن، وأنه ربما.. وربما كذا .. وربما.. لا تقلق يا أخي يمكن هذا الشخص فعلاً مشغول، يمكن فعلاً عنده كذا.

الظن الطيب شيء طيب، لكن عندما تكون هناك دلائل قوية فإن إغماض العينين عن المشكلة هو في الحقيقة غفلة عظيمة، وهو في الحقيقة استهتار بما يحدث، والمؤمن موصوف في القرآن والسنة بأنه إنسان ذو بصيرة، ما هو معقول الآن هذا الشخص يحدث فيه تغيرات شتى، وواحدة تلو أخرى، وأنت تقعد تقول: لعله كذا ولعله كذا، وحتى في النهاية يسقط سقوطاً ذريعاً وتندم على جميع هذه الأشياء التي....

بعض الناس لا يريدون أن يحسوا بالواقع السيئ، ويعز عليه أن فلاناً من إخوانه يحدث له أشياء، فيبدأ يعتذر له بأعذار ولا يعالجه ولا ينتبه إليه، ثم تكون النهاية، فحسن الظن هو إلى درجة معينة، لكن بعد ذلك لا بد أن تكون المواجهة وتكون الصراحة، وتكون الجدية في العلاج، واستدراك ما فات، فليس كل تأخر عن صلاة الفجر سببه غلبة النوم الذي لا ذنب للشخص فيه، أليس كل واحد يتأخر كم مرة عن صلاة الفجر؟ قلت: والله يمكن نومه ثقيل مسكين معذور، قد يكون هذه بداية النهاية.

وليس كل تخلف عن حلق الذكر والعلم سببه انشغال الشخص بوالديه أو بطاعات أخرى.

وليس كل إسبال في الثوب أو طول فيه سببه عدم انتباه الشخص إلى تفصيل الخياط أو أن الثياب الأخرى كلها متسخة.

ولنعلم -يا إخواني- أن علاج هذه المواقف هو في غاية الصعوبة والحساسية، وأنه شديد، لماذا؟

لأنه -كما ذكرنا لكم-: من أعمى العمى: الضلال بعد الهدى، يعني فيه فرق بين شخص عرف الحق وتركه وشخص لم يعرف الحق أصلاً، أيهما أسهل؟

الذي لا يعرف الحق أصلاً هو في الغالب أسهل؛ فإنه إذا عرض عليه وأقنع بطريقة صحيحة فإنه يتقبل، لكن واحد عرف الحق وعرف الأدلة وعرف الأشياء، ثم استقام بها عليها فترة من الزمن وتذوق حلاوة الإيمان فترة من حياته، هذا الرجل إذا تراجع كيف السبيل إلى إرجاعه؟ ماذا تقول له؟

هذه المشكلة الآن، الآن لو أنك شفت لك واحداً عاصياً وواحداً ضالاً ما عرف الحق ولا أحد ذكره من أول، وأنت قلت له: -يا أخي- اتق الله يعني عذاب النار، والجنة كذا وأنت إذا استقمت لك من النعيم كذا وكذا، وإذا فجرت واستمريت على العصيان ينتظرك من العذاب كذا، وعذاب القبر، وذكرته بعظمة الله، فإن الرجل ممكن يتفاعل معك، وممكن يتغير، وممكن يترك المنكر.

لكن واحد يعرف هذه الأمور كلها ومرت عليه كلها، بل إنه ربما هو كان يمارسها في الدعوة إلى الله في يوم من الأيام، ماذا تقول له الآن؟ يعني أنت تقول: كذا، يقول: أنا عارف، وقد يضحك بك ويستهزئ بك وأنت تكلمه، لأنه يعلم هذه الأشياء، وهذه المصيبة، هذه الخطورة، ولذلك بعض الناس يستكثرون من حجج الله عليهم، وبعد ذلك ما يمكن، ماذا تقول له؟ تذكره بأيش؟ بالنار هو عارف تفاصيل عذاب جهنم، يمكن يعرف أكثر منك، تذكره بعذاب القبر؟ هو يعرف تفاصيل عذاب القبر، حرام، عظمة الله عارف أشياء يعرفها سابقاً، ماذا تقول له الآن؟

إنه يعرف كل شيء، ويفهم كل شيء، وربما كان يجيد الكلام في الماضي في المواضيع التي أنت تكلمه الآن فيها أكثر منك، فهنا يقع في نفس الشخص المخلص حيرة شديدة، كيف يبدأ؟ وماذا يقول؟ ومن أين تكون نقطة الإصلاح؟

قد يكون من الخير -أيها الإخوة- أن يركز مع هذا الرجل على جوانب التذكير بالله، وأعمال القلوب، ومحبة الله، وخوف الله، لأنه لن يرده شيء مثلما ترده هذه الأمور، يعني بيان الأحكام ما فيها رجاء كبير أنها ترده، هو عارف أدلة الأحكام أكثر منك، لكن ما هو الشيء الذي يمكن أن يؤثر في الناس؟

لا تزال الأشياء الترقيقية والأشياء التذكيرية والأشياء التي فهيا ربط بالله يمكن أن تكون لا تزال هي الطريق، مع أنه قد يكون يعلمها، لكن التذكير: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ  [الذاريات: 55].

التذكير هو بداية العلاج، تذكير الشخص، يعني هذا رجل في حالته من الممكن أن نشبهه أحياناً بحالة الشخص الذي قد وقع في غيبوبة في حادث أغمي عليه، وهو الآن راقد في السرير على السرير في المستشفى، وأهله من حوله وهم يحاولون أن يعيدوه إلى وعيه، فأمه تصرخ وتقول: يا فلان! فلان أنا أمك! أنا فلانة تذكرني! أبوه يقول له: يا فلان يا ولدي أنا فلان تذكرني؟ إخوانه يقولون له: نحن فلان وفلان وفلان إخوانك ألا تذكرنا؟! ما تذكر خالك فلاناً وعمك فلاناً، بيتنا في المكان الفلاني، أصدقاؤك فلان وفلان في المدرسة، هذا يحدث الآن في مثل حوادث السيارات والا غيرها، يقع الشخص في غيبوبة ويبدأ يفتح عينيه تدريجياً، أحياناً يغلقها ويعود للغيبوبة، ثم يفتحها تدريجياً ويعود لغيبوبة، ماذا يفعل من حوله؟

إنهم يحاولون أن يذكروه بالأشياء القريبة منه بأقرب الأشياء إليه، حتى يحاول أن يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً، ولذلك يقول الأطباء مثلاً لمن حوله من أقربائه: داوموا على تذكيره داوموا على تنبيهه، داوموا على أن تصل الأصوات إلى أذنيه، ربما أنه يرجع إلى وعيه، يتذكر شيئاً فشيئاً.

هذا الشخص ممكن نقول أنه في مثل هذه الحالة، فإنك تهزه وتنبهه على الأشياء التي في الماضي.

هذه قضية مهمة: تذكير الشخص بأموره التي كانت في الماضي، ما تذكر كذا؟ ما تذكر كذا؟ كيف كنت تمارس كذا؟ تلك الأيام، تلك المجالس، ما حصل في المجلس الفلاني كذا من ذكر الله؟ ما حصل في المجلس الفلاني كذا من الفوائد؟ وتحاول بشتى الأشياء أن يستيقظ هذا الرجل من الغيبوبة، التي هي فعلاً غيبوبة، غيبوبة المعاصي، وغيبوبة الفسق تحتاج إلى واحد ينفض ويهز هزاً شديداً.

ومن العلاجات المهمة: أن يقوم عدد محدود من أصدقائه السابقين ممن كان يرتاح إليهم كثيراً يقومون بالتودد إليه، ليس بالتردد عليه فقط، بل بالتودد إليه وزيارته ومساعدته، وأن يكون كلامهم بعين الشفقة والعطف؛ لأنه فعلاً مسكين يحتاج إلى المساعدة ويمر بظرف سيئ، وقد تكون البداية الناجحة أن يستخرج واحد من هؤلاء الأسباب التي دعت هذا الشخص لأن يتغير، فإن كانت الأسباب شبهة أو شبهات فتزال بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإن كانت شهوة من الشهوات فينصح ويوجه بما هو مناسب ويفصل معه عن موضوع التوبة، وآداب التوبة، وسعة رحمة الله ومغفرة الله لعله يرجع؛ لأن غالب الناس إما أنه ينكص على عقبيه بسبب شبهة أو بسبب شهوة، شبهة أو شهوة.

فلا بد أولاً إذاً من تكملة العلاج، استخراج السبب، ليش صار كذا؟ وكثير من هؤلاء لا تدري ماذا تتكلم عنه أنت؟ لأنك لا تعرف لماذا حدث لهم هذا الشيء؟ ما هي الحادثة؟ ما هي المشكلة؟ ما هو الأساس؟ أساس البلاء من أين؟ لا بد من استخراج أساس البلاء.

وقد يكون في بعض الأحيان تدخل شخص بعيد نسبياً عن هذا الرجل لكن له مكانة في قلبه ذو فائدة إيجابية، خصوصاً إذا صار هذا المسكين إلى حال لا يطيق فيها رؤية أحد من المقربين إليه في السابق، فقد يشكو إلى البعيد أو يبث إلى البعيد أموراً لقيها من زملائه لا يستطيع أن يشكيها إليهم؛ لأنه يعتبر أو يعتقد أن السبب هم، فلو جاءه شخص آخر ينصحه أو يفتش في قلبه فقد يبوح له بسبب المشكلة التي لا يستطيع هو أن يقولها لهؤلاء الناس المقربين منه.

وإذا كان هذا الشخص يرفض المقابلة وجهاً لوجه نهائياً، ويرفض أن يكلمه أحد، فربما يكون من المناسب، كتابة الرسائل المؤثرة المشحونة بالتذكير بالله، وبإخوته في الله من الأشياء التي قد تعيد إليه وعيه وصوابه. ويستحسن أن تكون مثل هذه الأمور مواضيع مسجلة أو مكتوبة سبق لهذا الشخص أن تأثر بها، فعن طريق هذه الأشياء التي تذكره وتربطه بالماضي، وتصل الخيط مرة أخرى، تصل ما انقطع، ربما تكون هي بداية الرجوع.

ومن الأخطاء العظيمة في علاج هذا الأمر: مجابهة الشخص على أنه كافر أو مرتد، لا يسلم عليه، ولا ينظر إليه، وتجب مقاطعته وعدم زيارته، وأن لا يدعى إلى أية مناسبة، وأن لا تجاب دعوته، هذه من الأخطاء العظيمة؛ لأن الآن هذا الشخص مسكين، كما يقول أحد السلف: أخي المذنب أحوج إلي من أخي المطيع، ذاك محتاج إلي فعلاً، يحتاج أن أمد إليه يد العون، ولذلك فإننا ننبه إخواننا في الله إلى خطورة الاستقبال السيء الذي قد يستقبل به هذا الشخص إذا تغير، فأنت إذا تغير عليك لا تتغير عليه؛ لأن تغيرك عليه قد يقطع الخيط الأخير الذي قد يكون أملاً في رجوعه.

وهناك حديث لطيف وجميل جداً، واحد من الأعراب جاء وسأل الرسول ﷺ أن يعطيه عطايا والرسول ﷺ أعطاه شيئاً، فقال له: أحسنت إليك؟  الرسول ﷺ يسأل الأعرابي، قال الأعرابي: "لا أحسنت ولا أجملت"، فالصحابة هموا به ليفتكوا به، واحد يقول للرسول ﷺ هذا الكلام؟ فقال الرسول ﷺ: ((دعوه)) فدخل إلى بيته عليه السلام فأخرج أشياء عطايا أخرى وأعطاها للرجل، أكثر له في العطاء، قال: ثم سأله مرة أخرى: أحسنت إليك؟  قال: نعم جزاك الله من خير ومن أهل ومن عشيرة" الآن يعني هؤلاء الأعراب هذه أخلاقهم، فقال الرسول ﷺ للأعرابي:أنت قلت ما قلت بالأمس وسمعك أصحابي، الرسول ﷺ طلب من الأعرابي قال: لو أنك غداً قلت لهم هذا الكلام الذي قلته لي الآن: جزاك الله من خير ومن أهل ومن عشيرة أمام الناس الذين قلت لهم بالعكس. هذا -طبعاً- علاج حكيم من الرسولﷺ لنفوس أصحابه حتى يشفي صدورهم من حال أخيهم المخطئ، هذا من الجفاة أن يشفي صدروهم من حاله، حتى لا يبقى في نفسهم شيء عليه، ففي اليوم التالي جاء الأعرابي وقال الرسول ﷺ للرجل سأله كيف الآن؟ فقال الرجل: جزاك الله من خير ومن أهل ومن عشيرة، أنت أعطيتني وأكرمتني، فالصحابة سروا بهذا الكلام، فقال ﷺ:  مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه أنت الآن اربط بين الموضوع الذي نتكلم فيه وهذا المثل النبوي، نتكلم الآن في موضوع شخص شرد عن الحق، كيف يرجع؟ كيف يعاد؟ يقول : مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها فلم يزيدوها إلا نفوراً، يعني هي شردت وهو يجري ورائها جري، فلم يزيدوها إلا نفوراً، هي تركض وهم يجرون ورائها وهي تعدو تزداد في العدو، وهذا نفس القضية، فناداهم صاحبها فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، بحيث أنها تراه، فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار؛ لأنه سب الرسول ﷺ [البزار: 8799].

فأنتم الآن -أيها الإخوة- انظروا معي في هذا العلاج الرفيق، وكيف يعاد الشارد، لا يعاد الشارد بالعدو وراءه والجري وراءه والإصرار، والرجل لا يريد، وإنما تكون القضية برفق وبهدوء، وبتقديم الأشياء الجذابة التي تعيده، وإذا عاد لا يلقى عليه فجأة هذا الرحل، وإنما يعاد يبرك يستريح ويعاد إليه الرحل ويشد عليه، ثم يركبه صاحبه صاحب الناقة يركبها عند ذلك.

إذاً، المسألة خطوات والمسألة حكمة ورفق وعلم، لأن الرجل قال: فإني أرفق بها منكم وأعلم.

ومن الإشكالات التي تحدث في هذا الأمر: طول المدة، فإن هذا الرجل الذي رجع أو الذي سقط وهوى في الرذيلة إذا طال عليه الأمد وهو في مرحلة الانتكاس فإنه يستمرئ المعصية ويعتاد جو الفتنة، ويذهب شيئاً فشيئاً تأنيب ضميره له، وكلما استمر الوقت أكثر كلما قلت فرصة الرجوع أكثر.

فإذاً، لا بد أن يكون العلاج من البداية، وألا يأتي العلاج متأخر جداً وقد انتهت القضية وصار الرجل في نقطة اللا عودة.

ومن الأمور المعينة على العلاج التي ينبغي أن يتنبه لها: أن كثيراً من هؤلاء المنتكسين في كثير من الأحيان يكون له نوع حنين إلى الماضي.

هذا الرجل مهما كان مهما صار مهما تغير مهما ساءت أحواله فإنه في الغالب يكون له نوع حنين إلى الماضي وإلى رفقته الطيبة السابقة، وقد يحدث نفسه بالرجوع ولكن قد يسوف، يعني يقول: طيب بعدين! أنا والله ناوي أرجع! أنا نويت أرجع! أنا سوف أعود! أنا سوف أغير مرة أخرى!

وقد تمنعه اعتبارات شخصية من ذلك، نضرب مثالاً حدث، هذه الرواية الله أعلم بصحتها ولها أسانيد فيها الواقدي، والواقدي متروك عند علماء الحديث، لكن لها أكثر من طريق الله أعلم بصحتها مشهورة في كتب التاريخ، وساقها ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" بعدة طرق، هذه قصة جبلة بن الأيهم.

جبلة بن الأيهم كان من ملوك النصارى في جزيرة العرب، وجاء وأسلم ويقال: أنه كان يطوف بالكعبة على عهد عمر بن الخطاب، فجاء رجل من فقراء المسلمين فوطئ على إزار جبلة بن الأيهم، فجبلة ملك، هو يرى نفسه ملكا من الملوك، كيف هذا الفقير الصعلوك يطأ على إزاري؟ فلطمه لطمة ذهبت بعينه أو ذهبت بأنفه، فرفع الأمر إلى عمر، فقال عمر: لا بد من القصاص، قال: كيف أنا يقتص مني لهذا الصعلوك؟ فعمر قال: هذه شريعة الله، فقال جبلة: آتيك في الصباح، فيقال: أنه في الليل جمع أصحابه؛ لأنه كان أتى في جمع في بعث في حاشية، وسرى بهم في الليل وهرب، وارتد عن دينه وذهب إلى ملك الروم فاستقر عنده، وأكرمه ملك الروم، وأغدق عليه، وأعطاه أشياء كثيرة، هذا الرجل قيل عنه أبيات، وردت عنه أبيات، والقصة طويلة: أن رجلاً حاول أن يذكره بموقف حسان بن ثابت من الرجل.

المهم الآن دعونا نتأمل هذه الأبيات التي تبين لنا نفسية مثل هذا الشخص؛ لأن تحليل النفسيات وفهمها في مثل الحالة هذه مهم جداً، يعترف كثيراً لغيره بخطئه وندمه، يعبر عن حالته بهذه الأبيات:

تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوة وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة وقد يصبر العود الكبير على الدبر

[البداية والنهاية: 8/71].

هو الآن الرجل هذا يتحسر ويتندم، ويقول: يا ليتني كنت راعي غنم! يا ليتني كنت خادماً! يا ليتني كنت ذاهب السمع والبصر! لكن أعيش في ديار المسلمين وأدين بما دانوا به من الشريعة.

وقد يصبر العود الكبير على الدبر!

الدبر هذا مرض يصيب الحيوانات في ظهرها.

والحيوان الكبير -طبعاً- ليس له إلا الصبر على هذا المرض الذي إذا جاء في ظهره، يقول: يا ليتني ما فعلت الذي فعلت، وأخذت قول عمر، يا ليتني رجعت إلى الحق.

كثير من الناس الذين يتراجعون وينكصون نفسياتهم شبيهة جداً بنفسية جبلة بن الأيهم، ولكن يمنعهم من العود اعتبارات شخصية لا بد من مراعاتها وإزالتها.

ولو قدر الله أن هذا الشخص عاد مرة أخرى واستجاب للعلاج فإن من الأمور المهمة في بداية عودته أشياء مهمة جداً: إظهار الفرح باستقباله وعودته، وعودة العلاقات الطبيعية معه إلى الوضع الطبيعي جداً، وعدم إظهار أي نوع من التغيرات، أو إعادة البحث فيما مضى من صفحته السوداء، وذلك كي ينسى تلك الفترة، وتطوى طياً بالكامل.

ولكن لو قدر الله أن الرجل يستمر في انتكاسته وفي ضلاله، ويستمر على الباطل الذي هو عليه ويتردى، فلو قضى الله عليه بذلك لا يمكن، لو حاول جنود الأرض والسموات أن يعيدوه إلى ما كان عليه لا يمكن، الله يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23]، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ  [الجاثية: 23].

وإذاً، الله قسم الخلق إلى أشقياء وسعداء، وكتب الكتاب، وقدرت الأقدار، وانتهى الأمر، قد لا يعود رغم جميع الجهود التي تبذل، قد لا يعود الرجل ويبقى، وهنا يكون وضعه درساً وآية من آيات الله يخوف الله بها عباده المؤمنين على أنفسهم أن ينكصوا وأن يتراجعوا ويسقطوا.

وأخيراً: قد يسبب هذا الوضع حالة من حالات الخوف والذعر بين إخوانه أكثر مما ينبغي، قد يسبب زهد من حول هذا الشخص في إخوانه في الله، وفي نظرتهم إلى ذلك الوسط الذي يعيشون فيه.

وقد يستدل البعض بانحراف ذلك الشخص على سوء الوسط الذي يعيشون فيه، ولكن ينبغي أن نعلم أن الله قد كتب على أناس الضلال، ماذا نفعل لهم؟ كتب عليهم الشقاوة، ماذا نملك لهم؟

وبعض الناس يخافون يخاف على نفسه، قد يحدث له من شدة الخوف نفس الشيء، واحد قد يرى هذا فيتملكه الخوف الشديد والذعر ويحس أنه سيسقط، وفعلاً يسقط، ولذلك لا بد أن نتأمل في هذه الآية:  وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ  [التوبة: 115].

قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- في التفسير: "يعني أن الله -تعالى- إذا منَّ على قوم بالهداية، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين، جاهلين بأمور دينهم.

ويحتمل أن المراد بذلك وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ  فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى [تيسير الكريم الرحمن، ص: 353].

وختاماً: فهذه كلمات من كلام ابن القيم -رحمه الله- أسوقها في ختام هذا الموضوع إلى ذلك الشخص الذي كان مستقيماً فانحرف وتلوث بالمعاصي، فرجع إلى نفسه رجعة تذكر فيها حلاوة الماضي وطعم الإيمان الذي فقده، فتشوقت نفسه للرجوع.

هذا الكلام -أيها الإخوة- في غاية الجودة في التعبير عن المقصود، يقول ابن القيم عن الرجل الذي كان ويريد العودة، يعني الآن انتكس ويريد العودة: "وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه، يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجة له، فخرج عليه في طريقه عدو" على الولد، "فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان يعامله به أبوه" يعني في الماضي، "فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف؛ إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه" الآن هذه مرحلة تذكر الشخص المنتكس الماضي ويريد الرجوع، "فرأى أباه منه قريباً فسعى إليه وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه، انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تسيل على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه" الولد الآن عند أبيه والعدو يسعى يطالب به حتى وقف على رأسه، "وهو ملتزم لوالده ممسك به فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ومن الوالد بولده، إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه، وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب ارحم؟" [إعلام الموقعين: 1/428].

وصلى الله على محمد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  • عبدالرحمن

    هذا الموضوع جدا مهم لمن بدا في الاستقامه لان الشيطان عالم وهو من اول ماخلق ادم وطرد من رحمه الله وشوف كم من امم وقت بالضلال بسببه فنصيحتي ان كل من التزم يسمع هذا والله اعلم