الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب71-70.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تذكير بما سبق في الخطبة الماضية
فقد تكلمنا أيها الإخوة في الخطبة الماضية عن ذكر الله ، وعن فضل هذا الذكر، وأهمية مواطأة القلب واللسان في الإتيان بالأذكار، وعن شيء من فوائد الذكر، وإيجابياته على قلب الإنسان المؤمن، وعن فائدة ذكر الله ، وتحدثنا كذلك أنه حياة للقلب، وأنه يذكر بعظمة الله تعالى، وذكرنا بعض الأذكار المأثورة، وشرحنا معناها، كالتهليل، والتسبيح، وهو تنزيه الله تعالى، والتحميد، وأنه يحمد على ما له من الصفات العظيمة الجليلة، وكذلك التكبير، وهو تعظيم لله تعالى، وكذلك الاسترجاع، وهو قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والتسمية: بسم الله، والبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن بعض المواضع التي تقال فيها هذه الأذكار، وعن الباقيات الصالحات، وعن التحميد، وشيء من فضله، وكذلك فإن من الأذكار الشرعية قول: ما شاء الله، وخصوصاً إذا رأى الإنسان من نفسه ما يعجبه، أو من ماله، كما أرشد الرجل الصالح صاحبه إلى ذلك، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ سورة الكهف39. أي هذه الجنة هي ما شاء الله، وأن الأمر ما شاء الله، وأنه إذا شاء أبقاه، وإذا شاء أخذه، ومن الأذكار كذلك التلبية، وهي قول: "لبيك اللهم لبيك" من أذكار الحج والعمرة، ومعناها أقيم على إجابتك يا رب إقامة بعد إقامة، وآتيك إجابة بعد إجابة، آتيك مجيباً ما أمرتني.
وكذلك الحسبنة، وهي قول: "حسبي الله ونعم الوكيل" ومعناها: الاكتفاء بالله وعونه، عن دفاع الغير وعون الغير، وخصوصاً عند وقوع الخوف، أو المصيبة، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌسورة آل عمران173-174. كفاهم الله شر عدوهم؛ بحسن توكلهم على ربهم وقولهم: حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُسورة آل عمران173 الله يكفينا، والله يحمينا، والله يحوطنا ويحفظنا، وهناك أذكار تكون مقيدة بأسباب، أو أوقات جاءت بها الشريعة، وأما أفضل الأذكار، فلا شك أنه القرآن الكريم؛ لأنه مشتمل على جميع الذكر من التهليل، والتحميد، والتسبيح، والتمجيد، ويشتمل على الخوف، والرجاء، والدعاء، والسؤال، والأمر بالتفكر، وهو قبل ذلك كلام الله فلا يدانيه شيء، والقرآن أفضل من سائر الذكر؛ لأنه يتعين في الصلاة، ولا يقربه جنب، ولا يمسه إلا طاهر، بخلاف الذكر، والدعاء.
أفضل الذكر بعد القرآن الكريم
أما ما بعد القرآن، فإن أفضل الأذكار بعده، الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هي التي قال فيها النبي ﷺ: لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس[رواه مسلم 2695]. وقال النبي ﷺ: أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهي من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر[رواه أحمد19711]. وقال: أحب الكلام إلى الله تعالى أربع[رواه مسلم 2137]. وقال: أفضل الكلام: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر[رواه أحمد 15977]. وأخبر أنها تساقط ذنوب العبد كما تتساقط ورق الشجر، وقال في الحديث الصحيح: تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها[رواه أحمد 12125]. ومر النبي ﷺبرجل يغرس غرساً في أرض له، فقال: ألا أدلك على غراس هو خير من هذا تقول: سبحان الله و الحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة منها شجرة في الجنة[رواه ابن ماجة بمعناه 3807].
وقال ﷺ في الحديث الصحيح الآخر: خذوا جنتكم قالوا: يا رسول الله، أمن عدو قد حضر؟ قال: لا، ولكن جنتكم من النار قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مجنبات ومعقبات، وهن الباقيات الصالحات. رواه النسائي رحمه الله تعالى [رواه النسائي 10617]. فهي تحمي العبد يوم القيامة، تأتي كالكتائب الحارسة من الأمام، والخلف، واليمين، والشمال، وقال النبي ﷺ: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. رواه الترمذي وهو حديث حسن.[رواه الترمذي 3462]. وقال بعض العلماء: أفضل هذه الكلمات الأربع على الإطلاق، هي قول: لا إله إلا الله؛ لقوله ﷺ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الحديث.[رواه مالك 498]. فهي أفضل الحسنات، ومفتاح الإسلام، وبابه الذي لا يدخل إليه إلا منه، وعموده، وهي أحد أركان الإسلام، وهي أعظم أركان الدين، قول: لا إله إلا الله، ولا شك أن الاشتغال بهذه الأذكار نعمة عظيمة لمن وفقه الله إلى ذلك.
أيهما أفضل الاشتغال بقراءة القرآن أم بالأذكار؟
فإن سأل سائل فقال: هل الاشتغال بقراءة القرآن أفضل أم الاشتغال بمثل هذه الأذكار؟
فالجواب: إن الاشتغال بقراءة القرآن هو أفضل مطلقاً، ولكن إذا جاء ذكر مأثور في وقت معين، فالاشتغال به في ذلك الوقت، وعند وقوع السبب المعين هو السنة، وهو الأفضل، ولذلك إذا سلَّم من الصلاة فإن الاشتغال بالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، أفضل من الاشتغال بقراءة القرآن، وإذا نادى المؤذن فإجابة النداء، والترديد مع المؤذن أفضل من الاشتغال بقراءة القرآن عند ذلك الحال، وكذلك أذكار النوم، والصباح، والمساء، ونحو ذلك.
إن الاشتغال بقراءة القرآن هو أفضل مطلقاً، ولكن إذا جاء ذكر مأثور في وقت معين، فالاشتغال به في ذلك الوقت، وعند وقوع السبب المعين هو السنة، وهو الأفضل، ولذلك إذا سلَّم من الصلاة فإن الاشتغال بالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، أفضل من الاشتغال بقراءة القرآن، وإذا نادى المؤذن فإجابة النداء، والترديد مع المؤذن أفضل من الاشتغال بقراءة القرآن عند ذلك الحال، وكذلك أذكار النوم، والصباح، والمساء، ونحو ذلك.
أما في الأوقات المطلقة، فإن قراءة القرآن عموماً أفضل، والإتيان بالأذكار كذلك من سنة النبي ﷺ، فإذن يتبين أن فعل مثلما يفعل النبي ﷺ في الأحوال المختلفة، هو الأفضل على الإطلاق، وكذلك فإن الاشتغال بالذكر المأثور عن النبي ﷺ، أفضل من الاشتغال بذكر يخترعه الإنسان من عند نفسه، وذلك لأن الاقتداء بالنبي ﷺ أمر مطلوب، وهو أعلم بالله، وبأسمائه، وصفاته، وهو أفصح العرب، وأعلم الناس بمواقع الكلام، وقد أوتي جوامع الكلم، وهو الناصح للأمة، فلذلك كانت المحافظة على الأذكار المأثورة، المنقولة عن النبي ﷺ، وعلى الأدعية التي دعا بها، أفضل مما اخترعه الناس، ومما يقوله الإنسان من عند نفسه، ولو كان خيراً، نعم إذا قال ذكراً صحيحاً فإنه جائز، ولكن الأفضل المحافظة على ما كان النبي ﷺ يقوله.
عدم التغيير والزيادة في ما حدده الشارع بألفاظ معينة
ولا شك أن هناك من الأذكار ما لا يمكن استبداله بغيره، كأذكار الأذان، وأذكار الصلاة، التي لا بد منها كالفاتحة، وتكبيرة الإحرام، والتشهد، فهي ألفاظ معينة من الشارع، لا يمكن استبدالها، فلا بد من الإتيان بها.
وأما غيرها من المستحبات، فإن المحافظة على الأذكار النبوية أفضل، ولكن إن قال الإنسان ذكراً من عند نفسه، فلا حرج في ذلك ما دام لا يصادم الشريعة، وكذلك الدعاء في مناسبة من المناسبات لم يرد بها نص شرعي، كالدعاء بالبركة في أوائل السنين، ونحو ذلك من الأمثلة التي ذكرها أهل العلم، على أنه لا حرج فيه عندما يقوله الإنسان، وإن لم يرد في الشريعة، ما دام لم يرد في الشرع شيء، فلا بأس من الدعاء بالبركة في مثل تلك الأحيان.
وينبغي أن نحافظ على ألفاظ الشارع ما أمكن ذلك، وذلك أن النبي ﷺ لما علم صحابياً ذكراً من الأذكار، فأعاده عليه، فاستبدل كلمة بكلمة، فإن النبيﷺ علمه أن يحافظ على الكلمة التي علمه إياها.
ولا بأس بأن يزيد الإنسان في بعض المواضع، كما يزيد على القنوت بدعاء من عنده، ولكنه لا يواظب عليه، وإنما يغير، وتبقى المحافظة على ما ورد في الشرع، والتغيير لا يواظب عليه، وكذلك فإن الإنسان المسلم ينبغي له ما أمكن أن يحافظ على الأذكار الشرعية، وإن زاد شيئاً فليفصله عما نقل عن النبي ﷺ، فإن النبي ﷺ لبى بتلبية معينة، ولم ينكر على الناس أن يزيدوا على التلبية بزيادات من عندهم، كما كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يفعل، ولكن المحافظة على التلبية النبوية أفضل، فإن أضاف إليها لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل، فلا بأس بذلك؛ لفعل الصحابي له، ولكن إن جاء بشيء من عنده صحيح، فإنه لا يخلطه بالتلبية النبوية، وليجعل التلبية النبوية هي الأساس، وأما زيادة أشياء عما قيده الشارع بألفاظ معينة، ولم يفتح فيه المجال، فإنه لا يجوز، ولذلك لما عطس رجل إلى جنب ابن عمر فقال: "الحمد لله والسلام على رسول الله" قال ابن عمر: "وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله ﷺ" فالشارع قد حدد ذكراً معيناً في العطاس، والرد ينبغي الإتيان به، وعدم الزيادة عليه، ولذلك فإن المسلم يتقيد دائماً، ويقتدي بالنبي ﷺ، وينبغي أن يسعى إلى ذلك بكل ما أوتي من الحفظ، والتكرار المؤدي إليه؛ ليحصل على الأجر العظيم.
بعض الأذكار المبتدعة من بعض الفرق الضالة
وأما ذكر الله تعالى بالاسم المفرد كأن يقول كما يقول بعض الناس: الله، الله، الله، الله، ونحو ذلك، فإنه بدعة، قبيحة، منكرة؛ لأنه ليس بكلام تام، فلو قلت: يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، ثم لم تكمل كلامك بشيء، لم تقل: يا الله اغفر لي، يا الله ارحمني، ونحو ذلك لكان هذا النداء عبثاً، وكان كلاماً ناقصاً؛ إذ ليس فيه شيء مما يطلب، وأي فائدة في ذلك، وأقبح منه ما يقوله بعض الصوفية في أذكارهم، هو، هو، هو، ونحو ذلك؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا هو، فيأخذون هذا الضمير ويفردونه بالذكر، فهذا من بدعهم، وهل كان النبي ﷺ يفعل ذلك؟ وما فائدة الإتيان بالضمير لوحده؟ وإذا كان الإتيان بلفظ الجلالة لوحده غير مشروع، فما بالك بالضمير، ولو أنك ناديت إنساناً فقلت: يا أحمد، يا أحمد، يا أحمد، يا أحمد، يا أحمد، يا أحمد، ثم لم تطلب منه شيئاً، لعد ذلك عبثاً، وإزعاجاً.
ولذلك ليس في شيء من السنة هذا الذكر المفرد، أو أن يقول: الله، الله، الله، أو الله، ونحو ذلك فإنه بدعة منكرة، ينبغي تجنبها، والإنكار على من يفعل ذلك.
وصايا وآداب قبل الذكر والدعاء
وينبغي على ذاكر الله ، أن يطلب منه العون على الذكر، وأن يدعو بذلك؛ لحديث معاذ أن النبي ﷺقال: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك[ رواه أبو داود 1522]. فعلمه أن يطلب من الله العون على ذكره، ومن أعانه الله على ذكره، يسر له هذا، وجعله ميسوراً، وجعل لسانه مشتغلاً به، وأمده بأسباب العون.
وكذلك فإن التطهر للذكر أفضل؛ لأن النبيﷺ تيمم لرد السلام، كما جاء في حديث المهاجر بن قنفذ قال: رأيت النبي ﷺ وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى توضأ، ثم اعتذر إلي وقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو قال: على طهارة[رواه أبو داود17]. ولكن إن ذكر الإنسان الله على غير طهارة فهذا جائز؛ لحديث النبي ﷺ: أنه كان يذكر الله على كل أحيانه[رواه مسلم 373]. وخرج من الغائط فقال: غفرانك، وكان يقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني[رواه ابن ماجه 301]. ولكن إن تطهر فهو أفضل، وإن نظف فمه بالسواك فهذا أدب حسن؛ لأنه المحل الذي يكون الذكر منطلقاً منه، وكذلك فإنه لا بد للإنسان المسلم، أن يتطهر لقراءة القرآن عند جماعة من أهل العلم؛ لمسه، وأنه لا يمسه على غير طهارة، وأن يتطهر من الحدث الأكبر لقراءته من الجنابة - لقراءة القرآن - على ما ذكره جمهور أهل العلم.
وأما إن قال شيئاً من القرآن لا ينوي به التلاوة، كالبسملة، والحمدلة، والتهليل، وسبحان الذي سخر لنا هذا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فإن قصد الذكر، ولم يقصد القرآن، جاز أن يقولها ولو كان جنباً.
وكذلك يكره لمن كان في الخلاء أن يذكر الله تعالى، وأن النبي ﷺ لم يرد السلام على من سلم عليه، وهو في الخلاء حتى خرج، ولأجل أن هذا المكان مكان قاذورات، ونجاسات، لا يناسبه أن يجهر الإنسان فيه بذكر الله ، وإنما يذكر الله في نفسه إذا احتاج، كما إذا أراد أن يسم الله عند وضوئه داخل الخلاء - في مكان قضاء الحاجة - أو سمع المؤذن وهو في الخلاء فإنه يقوله في نفسه، ولا يردده بلسانه.
وأما ذكر الله في الطرقات، فهو أمر مشروع، ولا بأس به، وكان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه، وذكر الله في الأسواق، وفي أماكن الغفلة أمر مشروع أيضاً، وقد قال الله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة الجمعة10. وتحري الذكر في الأماكن الفاضلة، كالمساجد أمر طيب، فإن النبي ﷺ قال: إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن[رواه مسلم 285].
وكذلك ذكر الله عند المشاعر المعظمة، كقوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِسورة البقرة198. وتحري الأذكار في الأزمنة الفاضلة، كالغدو، والآصال، وأطراف الليل، والنهار، ورد الأمر به وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِسورة غافر55. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىسورة طه130.
والبكرة والعشي مما يكثر فيه إنشغال الناس، فشرع فيه ذكر الله تعالى، حتى لا يكون المسلم في غفلة، وحضور مجالس الذكر، والحرص عليها من شعارات الإنسان المسلم، ومن دلائل إيمانه، فإن النبي ﷺ قال: من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة[رواه الترمذي 586]. وهذا الذكر يكون للفرد المسلم لوحده بعد الصلاة، بعد صلاة الفجر، يذكر الله تعالى إلى طلوع الشمس، ولذلك كان الذكر في هذا المكان، والزمان، عند بعض أهل العلم، أفضل من الذكر في غيره طيلة اليوم.
والإكثار من ذكر الله تعالى في مواسم الذكر، كعشر ذي الحجة، أمر لا ينبغي إن ينسى، وكذلك أيها المسلمون: ذكر الله بعد الأعمال الصالحة، إذا قضيت الصلاة، وإذا قضيتم مناسككم، قد جاءت به الآيات واردة في الحث عليه، والندب إليه.
وينبغي أن يجتنب من الأماكن، والمناسبات - يجتنب فيها الذكر - إذا نهي عنه كحال خطبة الجمعة لمن يسمع الخطيب؛ لأن سماع الخطبة، والإنصات إلى الخطيب، أمر واجب عند جمهور أهل العلم، وحتى لو أطرأ الخطيب ذكر النبي ﷺ، صلوا عليه في أنفسهم، ولم يجهروا بذلك، وكذلك إذا سلم شخص، أو حمد عاطس، ونحو ذلك أسر في نفسه، ولم يجهر به، كما قال الإمام مالك رحمه الله: "من عطس والإمام يخطب حمد الله سراً".
وينبغي أن يكون الذكر بخشوع، وتدبر، وتذلل؛ ليكون الأجر كاملاً، وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةًسورة الأعراف205. وينبغي أن يكون الذاكر متدبراً متعقلاً، وألا يحرص على الكثرة إذا كانت الكثرة مع جهل وفتور، وقليل من الذكر مع حضور القلب، خير من الكثير منه مع الجهل، والفتور، والغفلة، كما يفعل كثير من الناس، يعدون بالأصابع، والمسابح، لكن قلوبهم في وادٍ آخر.
أيها المسلمون: إنه ينبغي الحرص على إخفاء الذكر، وأن يكون الإنسان في حال انعزال، وانفراد عند ذكره، لقوله تعالى في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم[رواه البخاري 7405].
وهذا الذكر الخفي يكون في غير المواضع التي جاء الشرع بالجهر بها، وذلك مثلما يكون في الأذان، والإقامة، وتكبيرات الإمام، والقراءة الجهرية، ونحو ذلك، والتأمين، فالسنة الجهر به، والقنوت، والتكبير، والتسبيح، والتحميد بعد الصلوات، وتكبيرات العيد، والتلبية في الحج، فهذه أزمنة، وأمكنة ومناسبات، يشرع الجهر فيها، وأما بقيتها مما لم يرد فيه الجهر، فإن الإسرار أفضل؛ لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه[رواه البخاري 660].
لكن ليعلم أنه ينبغي للإنسان حتى لو كان لوحده، أن تتحرك شفتاه، و لسانه بالذكر حتى يكتب الأجر، وكل الأحاديث التي فيها من قال، لا يعتبر القول قولاً إلا إذا حرك اللسان، حرك لسانه، وتحركت شفتاه، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح[رواه أحمد 10593]. فلا يحصل الأجر إلا إذا قلت القول، ونطقت به، ولو أسمعت نفسك.
وينبغي يا عباد الله: أن نحرص على ذكر الله تعالى دائماً وأبداً، وأن يكون ذلك شعارنا، ودثارناً، وأن نحافظ على حلق الذكر أيضاً، التي جاءت بها الآثار في فضلها، وكذلك ينبغي أن لا ننخدع بفعل بعض الصوفية الضلال، الذين يصابون بالغشيان، والصياح، والصعق، والشطح، فكل هذه بدعة منكرة، فإن النبي ﷺ ذكر الله هو وأصحابه، فلم يصعقوا، ولم يشطحوا، ولم يسقطوا، وإذا كان بعض الذكر مرافقاً بالرقص، والدوران، والطبل، والزمر، كما يفعل ذلك بعض أهل الطرق من الصوفية، فلا شك أنها من أقبح البدع، وأنها معصية لله تعالى.
نسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً، وأن يجعلنا ممن أعانهم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكن فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأفسحوا وتوسعوا يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب الأولين والآخر ين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
توعية المسلم بالمؤامرات التي يدبرها أعداء الإسلام
عباد الله: إنه ينبغي للمسلم أن يكون واعياً بالمؤامرات التي تحاك للإسلام وأهله، وأن يكون على ذكر ومعرفة بما يخطط له أعداء الإسلام، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَسورة الأنعام55. ولا شك أنما يدبرونه، ويخططونه، هو مكر الليل والنهار، كما أخبر الله تعالى.
ومن مؤامراتهم السعي لتحطيم صرح المرأة المسلمة، والأسرة المسلمة، والقضاء على الفضيلة، والشرف، والطهر، والعفاف، الذي نادت به هذه الشريعة.
ولا شك أن المسلمين أمة عظيمة من أهل الأرض تعداداً، وسكاناً، ولذلك حرصوا على إشراك المسلمين، والسعي لبث دعاياتهم فيما بينهم، وما مؤتمر المرأة - وما أدراك ما مؤتمر المرأة - ببعيد، وقد كثر الحديث فيه وعنه، وإذا قال قائل:ما هذه الضجة؟ وما حقيقة الأمر؟ فاعلموا أن كثيراً من الناس لا يعلمون على وجه الحقيقة إلى أي شيء ينادون، وربما يكون هناك عند البعض معلومات عامة، ولكن الأمر أيها المسلمون أدهى وأمر، وأفظع وأخطر مما يتصوره بعض الناس، ولنكتفي بذكر بعض ما ورد في توصيات، ومقررات هذا المؤتمر، حتى نعلم إلى أي مدى يريد أن يذهب أولئك الكفرة، هؤلاء الذين يحاولون فرض مصطلح بدلاً عن كلمة الجنس، الجنس الذي يفرق بين الذكر والأنثى، يريدون أن يستبدلوه بكلمة النوع، التي تدل على رفض حقيقة أن وضع الذكورة والأنوثة، هو مصير كل فرد، ورفض حقيقة أن اختلاف الذكر والأنثى من صنع الله ، وإنما الفرق بين الذكورة والأنوثة، هو اختلاف ناجم عن التنشئة الأسرية، والاجتماعية، والبيئية، وأن من حق الإنسان أن يختار تغيير جنسه، وأن من حق الإنسان الرجل، أن يذهب إلى الطبيب الجراح ويقول: أريد أن أصبح أنثى، ومن حق الأنثى، أن تذهب إلى الجراحين وتقول: أريد أن أصبح ذكراً، فهم يقولون: إن قضية الذكورة، والأنوثة، ليست أصلية في الإنسان من صنع الله، وإنما هي قضية بيئية، وأن للإنسان الحرية في التغيير، هذا مما يقولونه، ولذلك تجد بعض الأخبار المغرضة، هناك رجل تحول من رجل إلى امرأة، وامرأة تحولت إلى رجل، ونحو ذلك، نعم هناك حالات فيها يكون الشخص خنثى مشكل، يمكن أن تعالج ليكون أحد الصنفين، أو أقرب إلى أحدهما؛ ليمارس حياته بشكل فيه سلامة وسلاسة بالنسبة إليه، ولكنهم لا يتحدثون عن علاج الخنثى، وإنما يقولون: الرجل كامل الذكورة له الحق أن يتحول إلى امرأة، والمرأة لها الحق أن تتحول إلى رجل، وأن هذا مما يمكن المطالبة به، ولا حرج في ذلك، وإذا كان الشارع قد لعن الرجلة من النساء، ولعن المتشبهين من النساء بالرجال، ومن الرجال بالنساء، -لعن المتشبه- فكيف بالذي يتحول، أو يريد أن يتحول، أو يسعى إلى ذلك، وكيف بمن يعينه عليه؟
ثم إن هذه الوثائق تنادي أيضاً، بالاعتراف رسمياً بالشواذ من اللواطين، والسحاقيات، والمطالبة بإدراج حقوقهم الانحرافية ضمن حقوق الإنسان، ومنها حقهم في الزواج، وتكوين الأسر، تصور بالله عليك كيف يتزوج رجل رجلاً وينشئ أسرة؟! وتتزوج امرأة امرأة بعقد رسمي وتكون أسرة؟! فإن قلنا: من أين يأتون بالأولاد؟ قالوا: الحلول سهلة، بالتبني، أو التلقيح الصناعي، نأخذ بويضة المرأة الأولى، ونلقحها بحيوان من حيوان، ثم نزرعها في المرأة الثانية، ويكون ولداً، ويقرون بنظام تأجير البطون، الزنى المغلف، وكذلك تطالب الوثيقة، بأن من حق المرأة والفتاة التمتع بحياة جنسية آمنة، مع من تشاء، وفي أي سن تشاء، وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي، وإنما المهم أن تقدم لها النصيحة، والمشورة في هذه العلاقة، مثل عدم الإنجاب، أو ناحية الإيدز، ونحو ذلك.
ما ورد في الجزء (ج) من الفصل الرابع البند الواحد والتسعين إلى مائة وستة من هذه الوثيقة.
فإذن حرية في العلاقات، والمهم تجنب الأمراض، تجنب الحمل إذا كان الحمل يؤذيهم، وتنادي هذه الوثيقة بإسهاب في العلاقات الجنسية، ولا يقتصر الأمر على الإباحيات هذه، وإنما المناداة بأن تكون الخدمات متوفرة لجميع المراهقين، ليتمكنوا من معالجة الجانب الجنسي من حياتهم، منذ سن مبكرة، وحق المراهقات الحوامل في مواصلة التعليم، من دون إدانة لهذا الحمل السفاح. كما جاء في هذه المواد المذكورة آنفاً.
والوثيقة لا تتحدث عن الزواج كرباط شرعي، يجمع بين الرجل والمرأة في إطار الأسرة الشرعية، وإنما ترى الوثيقة، وتطالب برفع سن الزواج، وتجريم الزواج المبكر، تجريم الزواج المبكر، أي أن الزواج المبكر جريمة، فهم يقولون: ممارسة الجنس من سن الطفولة، ويخلطون الذكور بالإناث، هذا لا بأس به عندهم، أما الزواج المبكر فهذه جريمة.
وكذلك فإنهم يقولون: بأن للرجال الحق في الحصول على إجازة ولادة كالنساء؛ لأنهم يرون أن من حق الرجل أن يحمل أيضاً، وأن يأخذ إجازة حمل، وأمومة، وكذلك فإنهم لا يستخدمون عبارات الزوج والزوجة في وثائق المؤتمر، وإنما يقولون: الشريك والشريكة، أو الزميل والزميلة في العملية الجنسية.
وكذلك فإنهم لا يرون أن تكون العلاقة ثنائية، وإنما يمكن أن تكون أكثر من ثنائية.
أما المحور الخاص بالدين: فإن الوثيقة ترى تقارباً شديداً بين الدين والتطرف، وأن كل صاحب دين هو متطرف، وأن من العوائق التي تصادف المرأة، عدم مساواتها بالرجل، وينبغي أن تساوى بالرجل في جميع الأشياء، فلو قلنا نحن: دية المرأة على نصف دية الرجل، قالت الوثيقة: لا، ولو قلنا: شهادة امرأتين بشهادة الرجل، قالت الوثيقة: هذا ظلم، وهكذا، لا بد من المساواة التامة من جميع الوجوه، حتى الحمل ليست المرأة مختصة به، الرجل يمكن أن يحمل.
ثم إن في هذه الوثيقة أنهم لا بد أن يسعوا إلى تطبيق هذه المبادئ، والقرارات حتى لا يأتي العام ألفين، الألف الثانية، لا تكتمل الألف الثانية إلا وهذه المبادئ، والقرارات قد طبقت.
ويشيرون في قضية الألف الثانية، إلى هيمنة الدين النصراني على العالم، واعتقادهم بأنه في الألف الجديدة، سيخرج المسيح ليحكم الأرض بشريعتهم طبعاً، بشريعتهم سيخرج ويحكم العالم ألف سنة، ثم تقوم القيامة كما يزعمون؛ ولذلك فإن الحضور النصراني التبشيري في المؤتمر حضور مكثف،فهو تبشير مختلط بهذه الترهات، والسفاهات التي سمعتم بعضها.
وبذلك يتبين أيها الإخوة: تتبين حلقة من حلقات المكر الصليبي اليهودي بالأمة الإسلامية، التي يحرصون على أن تشارك في هذا المؤتمر، وأن تطبق قراراته على أبناء المسلمين ومجتمعاتهم.
ونحن نقول: إن بعض هذه الأفكار التي تكون شاذة، وممجوجة أول ما تسمع، تطرح الآن وإن حصل هناك استنكار لها، وبعد ذلك يقل الاستنكار، وبعد ذلك تكون أمراً عادياً في النهاية، وهكذا يسوق أي مبدأ منحرف.
فنسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، ونسأل الله أن يجعل عام ألفين عندهم عام هزيمة لهم، وعام نصرٍ للإسلام وأهله، نصراً عاماً مؤزراً في سائر الأرض، ونسأل الله تعالى أن يحفظنا، وبلادنا، ومجتمعاتنا، من كل سوء، وأن ينعم علينا بنعمة الأمن، والطمأنينة، وحكم الشريعة، إنه سميع مجيب، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.