وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
وبعد:
مقدمة
ففي هذه الليلة وهي أول ليالي العشر من هذا الشهر الكريم، والذي أخبر النبي ﷺ أن فيه تواطأت رؤى الصحابة على أن ليلة القدر في ليالي العشر: أرى رؤياكم قد تواطأت على هذه العشر[1] ففيها ليلة القدر كما أخبر ﷺ.
وبهذه المناسبة نريد أن نتحدث قليلاً -أيها الإخوة- عن موضوع الرؤى والأحلام، وماذا جاء في الشريعة بشأن هذا الموضوع.
تعريف الرؤى والأحلام
الرؤيا هي ما يراه الإنسان في منامه حسناً.
والحلم ما يتحلم به وما يراه في المنام.
فالرؤى والأحلام من المترادفات.
وعرف ابن القيم -رحمه الله- الرؤى بأنها: أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره ويعبر منه إلى شبهه.
والفرق بين الرؤيا والحلم: أن النبي ﷺ قد قال: الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان[2]، فالرؤيا التي تضاف إلى الله تعالى لا يقال لها: حلم، والتي تضاف إلى الشيطان لا يقال لها: رؤيا، وهذا فرق عظيم دل عليه كلام الشارع، من أن هذه من الله، وهذه من الشيطان.
منزلة الرؤى في الإسلام
أما أهمية الرؤى ومنزلتها في الإسلام، فإنها قد كانت للأنبياء معها مواقف، ومن ذلك موقف الخليل إبراهيم لما عزم على ذبح ابنه من أجل رؤيا رآها: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:102- 105].
وكذلك الرؤيا شغلت جزءاً كبيراً من قصة يوسف وما فيها من رؤيا الملك، وكيف عبرها يوسف ، وكذلك رؤيا صاحبي السجن.
وفي سورة الأنفال كانت رؤيا النبي ﷺ في غزوة بدر، حينما رأى الكافرين قلة ليشجع الله المؤمنين على قتالهم.
وفي سورة الفتح كذلك نجد رؤياه ﷺ في دخوله مكة مع أصحابه معتمرين، وتتحقق تلك الرؤيا في عام الفتح: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [الفتح:27].
وقد امتن الله تعالى على نبيه يوسف بأنه يعلمه تأويل الرؤى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:6].
وقد قال النبي ﷺ مبيناً رؤيا مهمة، كانت من دلائل النبوة، وهي قوله ﷺ في الحديث: إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته يعني: مضطجع وملقى على الأرض في طينته، قبل أن ينفخ فيه الروح، والنبي ﷺ مكتوب عند الله أنه خاتم النبيين، وسأخبركم عن ذلك دعوة أبي إبراهيم: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ [البقرة:129]، وبعث الله نبيه ﷺ دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين ترين[3] ترى مناماً على أن ما في بطنها له شأن، وإن أم رسول الله ﷺ رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام.
وقد جاء عن النبي ﷺ أن الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة[4].
فالرؤيا إذاً لها قدر عظيم، وفيها من المنافع ما الله به عليم.
وإذا تأملنا في غزوة بدر كم حصل لرؤيا النبي ﷺ من المنافع، وكم اندفع من المضار!
ورؤيا يوسف وما حصل بها من الخيرات الكثيرة، ورفعه الله تعالى درجات.
ورؤيا عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في الأذان والإقامة[5]، ترتب على هذه الرؤى مشروعية الأذان والإقامة، لما وافق الوحي على ذلك وأقره، وصار ذلك سبباً لشرع هذه الشعيرة العظيمة.
ونحن في العشر الأواخر تواطأت رؤى الصحابة على أن ليلة القدر في أحد ليالي هذه العشر.
فمرائي الأنبياء والصالحين فيها منافع مهمة، وثمرات طيبة، قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وعلم تأويل الرؤيا من علوم الأنبياء وأهل الإيمان، وحسبك بما أخبر الله من ذلك عن يوسف وما جاء في الآثار الصحاح فيها عن النبي ﷺ وأجمع أئمة الهدى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين أهل السنة والجماعة على الإيمان بها، وعلى أنها حكمة بالغة، ونعمة يمن الله بها على من يشاء، وهي المبشرات الباقية بعد النبي ﷺ"[6].
تخبط الناس في تأويل الرؤى والأحلام
أيها الإخوة: إن كثيراً من الناس في عصرنا تخبطوا في مسألة الرؤى والأحلام، فاقتنى بعضهم قواميس وكتباً يقولون أنها تفسر الرؤى والأحلام، وأن من رأى ماءً معناها كذا، ومن رأى حية معناها كذا، ونحو ذلك من الأشياء.
ولنعلم بأن قضايا الرؤى ليس لها قانون، وليس لها شيء يضبطها، وإنما يكون معناه بالنسبة لشخص يراه معناه يختلف عن معناه بالنسبة لشخص آخر قد يرى الشيء نفسه، وقد حصل على عهد ابن سيرين -رحمه الله- وهو من مشاهير من كان يفسر الأحلام في هذه الأمة، أنه أتاه رجلان كل واحد منها يذكر أنه رأى في المنام: أنه يؤذن، فقال للأول: أنت تحج، وقال للآخر: أنت تسرق فتقطع يدك، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: رأيت على الأول علامات الصلاح فتأولت قول الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] فهذا يحج، ورأيت على الثاني علامات الخبث والفجور، فأولت قوله تعالى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70] مع أن الرؤيا نفسها هنا وهنا، لكن هذا قال: أنت تحج، وقال للآخر: أنت تسرق فتقطع يدك.
فإذاً -أيها الإخوة- ليس هناك قانون يضبط الرؤى، وليس هناك شيء موحد لجميع الرؤى، وليس كل من رأى في المنام نهراً أو بحراً، معناه أنه شيء معين، وليس كل من رأى في المنام أنه يقلع ضرساً، أنه سيفقد واحداً من أولاده، هكذا قانون مطرد وقاعدة في كل من يرى هذا الشيء؟ كلا، المسألة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله يلقي في قلوب الذين يعلمون التفسير تفسير هذه الرؤيا، إلهام من الله ، ما تستطيع أن تقول: إن لها قاعدة.
وقد نسبت كتب كثيرة لأناس من أهل العلم على أنهم ألفوها في هذا، منه الكتاب المنسوب إلى ابن سيرين، ولعل الغالب على الظن أنه مما جمع من بعده، وليس مما كتبه هو.
وكذلك لا يمكن الاعتماد على معاجم تفاسير الأحلام التي ظهرت، بحيث أنه تكون قاعدة مطردة.
المقصود بقوله: الرؤيا جزء من النبوة
بالنسبة لكون الرؤيا جزء من النبوة، ما معناه؟
أولاً: الأحاديث الواردة فيه إذا ألقينا عليها نظرة نجد تفاوتاً في الأرقام، فمثلاً: بعض الروايات فيها: الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة[7]، وفي رواية أخرى: الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة[8]، الأول في الصحيح، والثاني أيضاً رواه مسلم، والثالث: رؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءاً من النبوة كذلك في مسلم[9].
فابن حجر -رحمه الله- لما علق على هذه الروايات قال: إنها تصل إلى خمسة عشر لفظاً، وأنها تتفاوت، من ست وعشرين إلى سبعين، وأشهر الروايات: ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فما معنى هذا الاختلاف؟ وما مدلوله؟
لعل من أمثل ما ذكر في الجمع بين هذه الروايات: أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الرائين، فبعض الناس أحوالهم صادقة جداً، رؤاهم صادقة جداً فتكون رؤياهم جزء من ست وأربعين، بعض الناس في الصدق أقل وفي التقوى والإيمان أقل، فتكون رؤياه جزء من سبعين.
ولكن ما المقصود: أن الرؤيا جزء من النبوة؟
النبوة فيها أشياء كثيرة، فيها تشريع وفيها أحكام، وفيها إخبار عما سبق وعما سيأتي من الغيب، فيها أشياء كثيرة نذر وبشارات، النبوة تحتمل معجزات النبوة، جزء من النبوة إخبار بالغيب، الرؤيا الصالحة ممكن تدل على شيء يحدث في المستقبل، سواء كان بشارة أو نذارة، سواء كان شيئاً حسناً أو شيئاً من الشر سيقع، فيمهد للمؤمن نفسياً بهذه الرؤيا لكي يستعد لمواجهة الحدث الذي سيكون.
فإذاً، الرؤيا ممكن أن يكون فيها إخبار عن شيء سيحدث في المستقبل.
وبما أن النبوة جزء منها إخبار بالغيب هنا تلتقي الرؤيا مع النبوة في هذه الجزئية، فهي جزء من النبوة.
وكذلك فإن النبي ﷺ لما أخبر أنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات، فالنبوة فيها مبشرات، فيها بشائر المستقبل، مثل بشائر بنصر الإسلام مثلاً، النبي ﷺ أخبر أنه قد أعطي كنزين: الأبيض والأحمر[10]، وأنه الفضة والذهب، وأنها كنوز كسرى وقيصر.
فأيضاً الرؤى ممكن يكون فيها بشائر مبشرات، كما أن في النبوة مبشرات كذلك الرؤى فيها مبشرات، فالنبي ﷺ صح عنه أنه قال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات[11] والبشر الذي يظهر على الإنسان من طلاقة الوجه وفرحه، ونحو ذلك.
قال ﷺ: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا نبوة بعدي، فشق ذلك على الناس، فقال: لكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة[12].
وفي رواية لأحمد: لا يبقى بعدي من النبوة شيء إلا المبشرات، قالوا: يا رسول الله ما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له[13].
قال ﷺ في قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، قالوا: الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له[14].
ففي هذه الأحاديث بشارة من الصادق المصدوق ﷺ للمؤمنين ببقاء ما يتحفهم وما يؤنسهم من أجزاء النبوة مما فيه البشارة للرائي أو المرئي له، وقد جاءت أحاديث كثيرة في هذا الشأن.
فإذاً، هذه بشائر من الله ، ومن لطائف ما روي في هذا: أن الإمام الشافعي -رحمه الله- رأى وهو بمصر أن الإمام أحمد -رحمه الله- سيبتلى فكتب له بذلك، ليستعد للمحنة، وهكذا حدث فعلاً، وامتحن الإمام أحمد -رحمه الله-.
فإذاً، ممكن يرى الإنسان لنفسه أو يرى له شيء يقع له في المستقبل ويكون من شخص صالح، رؤيا صالحة، فهذا إما يفرحه أو يجعله يستعد لحدث في المستقبل.
يقول النبي ﷺ: أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً[15]، وهذا يدل على أن هناك علاقة بين صحة الرؤيا وبين صدق الشخص الذي يراها، فقال ﷺ: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا، أصدقهم حديثاً[16].
والرؤيا ثلاثة: فرؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل... والقيد في المنام ثبات في الدين إذا رأى نفسه مقيد في المنام، فهذه علامة على ثباته في الدين والغل أكرهه[17] جمع اليدين إلى العنق بالأغلال يكره رؤيته ﷺ.
ولذلك لا يوثق إلا برؤيا الرجل الذي عرف صدقه، أما من عرف كذبه لا يمكن الوثوق برؤياه إطلاقاً، وقد يدعي أنه رأى رؤيا وهو كذاب، وقد يكون رأى أشياء لكن من فساده ومعاصيه أظلم قلبه، فكان ما يراه بقلبه في المنام لا قيمة له، ولذلك لا يمكن الاعتماد عليه.
فالحديث: أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً[18] فيه إشارة إلى أن طهارة الباطن من أسباب نقاء الرؤيا ووضوحها ومجيئها كفلق الصبح، مجيئها صادقة، تقع كما رآها عياناً، يراها في الواقع مطابقة تماماً، كلما كان أصدق في الحديث كانت رؤياه أصدق في الحدوث والبيان والوضوح والوقوع أيضاً.
وقد يندر في المنام أن يرى إنسان كافر أو كذاب رؤية صحيحة، لكن ممكن يقع على ندرته، مثلما رأى فرعون الكافر رؤيا صحيحة، لكن الحقيقة أن الله ما أراه له كرامة له، هذا ملك مصر، وإنما أراها له لأجل يوسف، لكي يخرج يوسف من السجن، ويبحث الملك عن تعبيرها، ولا يرى أحداً يعبر، ولا ينبري لذلك إلا يوسف فيكون سبب الإفراج عنه، وأن يتبوأ المنزلة العالية ويكون على خزائن الأرض.
فيندر أن يكون من الفاسد أو الكذاب أو الكافر رؤية صحيحة.
وأما معنى قوله ﷺ: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب[19] فما معنى اقتراب الزمان؟
بعض العلماء فسره بتقارب الليل والنهار، يعني اعتدال الزمنين، وهذا يكون في وقت الربيع، وأن عند ذلك تكون الرؤى أصدق، لكن الراجح -والله أعلم- ليس هذا، وإنما المراد باقتراب الزمان قرب قيام الساعة، انتهاء مدة الدنيا، كلما اقتربنا من نهاية الدنيا وقيام الساعة، تكون رؤى المؤمنين لا تكاد تكذب، كأنه لما صار الكذب في آخر الزمان متفش، والكفر متفش، والظلم متفش، والجهل متفش، عوض الله المؤمنين في آخر الزمان بأمور من المبشرات والمثبتات، وهي الرؤى التي يرونها صادقة وصحيحة وتقع كما رأوها، فهذا تعويض للمؤمنين.
والوعيد قد جاء لمن يكذب في المنام، الذي يقول: رأيت كذا، وهو لم ير.
بعض الناس يكذبون في المنام، بعضهم يكذب لأغراض دنيوية، ربما يأتي ويقول: رأيت كذا كذا كذا، لكي تعطيه شيئاً، أو يتقرب منك، ونحو ذلك، وهذا حرام لا يجوز.
لو قال بعض الناس: نستخدمه في الدعوة إلى الله، أو لكي نقنع شخصاً عاصياً، نحذره، فنخترع له رؤيا نقول: رأيناك مقيداً، ورأيناك في قبر، ورأيناك في سواد، ورأيناك تضرب، ورأينا حولك ثعباناً، ورأينا فيك، فنقول: لا يجوز، الغاية لا تبرر الوسيلة، لا بد تكون الغاية شرعية والوسيلة شرعية، نريد أن ندعو إلى الله لا بد أن تكون الوسائل شرعية، أما نكذب في المنام لكي نهدي الناس، فهذا أسلوب خاطئ، ولا يمكن القبول به، والحديث يقول: من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل والحديث رواه البخاري[20].
من أفرى الفرى أن يري عينيه ما لم تر[21]، ادعاء وكذب.
وما معنى: يعقد بين شعيرتين، يعني: يفتل إحداهما بالأخرى، وهذا حيث أنه محال فالتكليف فيه نوع من التعذيب، مثل المصورين يكلفون يوم القيامة أن ينفخوا الروح في كل صورة صوروها، جاء واحد عمل تمثالاً من ذوات الأرواح، صور صورة من ذوات الأرواح.
-طبعاً- ليست للضرورة ولا للحاجة، صور هكذا للزينة ولكسب المال ذوات الأرواح، يوم القيامة ما هو عذابه؟ يكلف أن ينفخ فيها الروح، يقال: أحيوا ما خلقتم كما جاء في الحديث الصحيح[22].
كيف يحيي ما خلق، والروح لا يملكها إلا الله ، وهي من شأنه ؟ فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم فيكلفون بالمحال، وكذلك هنا.
ولعل هناك ارتباط بين هذا وهذا، فالرؤيا خلق من الله، وهي صورة معنوية، والمصور يصور صوراً حسية، وهذا الذي يتكلف رؤيا ما رآها.
إذاً، يختلق صورة معنوية لم تقع.
فإذاً، فيه مناسبة بين تعذيب المصور وتعذيب الكذاب في المنام، فيه تشابه لهذه المناسبة، كلاهما يعذب بالتكليف بالمحال، هذا يقال له: أحيوا ما خلقتم، وهذا يقال له: اعقد بين شعيرتين وهيهات الإنسان يعقد بين شعيرتين.
وربما تجر الرؤيا الكاذبة على الإنسان مصيبة لم تكن في الحسبان بسبب كذبه في المنام، فقد جاء أن رجلاً قص على ابن سيرين -رحمه الله- بها قال: رأيت كأن بيدي قدحاً من زجاج فيه ماء، فانكسر القدح وبقي الماء، فقال: اتق الله فإنك لم تر شيئاً، يعني أنه اكتشف كذبه، فقال: سبحان الله كيف تكذبني؟ هذا كلامي، قال ابن سيرين: فمن كذب فما علي، ستلد امرأتك وتموت ويبقى ولدها، فلما خرج الرجل، قال: والله ما رأيت شيئاً، اعترف، فما لبث أن ولد له وماتت امرأته.
فينبغي على المؤمن أن يحذر أشد الحذر في مسألة الكذب في المنام، وكذلك الكذب في التأويل؛ لأن بعض الناس يؤولون الرؤى بغير علم، وهذا حرام، وتأويل الرؤى بغير علم مثل الفتوى بغير علم، يأتي بعض الناس يفسر بالظن يقول: لعل.. ولعل.. إما أن يعلم بما يلقيه الله في نفسه مما عنده من علم في تأويل الرؤى وإلا لا يتكلم إطلاقاً، ويقول: الله أعلم.
أنواع الرؤى
أما أنواع الرؤى -فإنه قد مر معنا أنها- ثلاثة: بشرى من الله، ويحدث الإنسان بها نفسه، وتحزين من الشيطان، هذه الثلاثة قال النبي ﷺ عنها: إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته، فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة[23].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ" وذكر حديث أبي هريرة "وقيل: إن هذا من كلام ابن سيرين، لكن تقسيم الرؤيا إلى نوعين: نوع من الله، ونوع من الشيطان، صحيح عن النبي ﷺ بلا ريب"[24].
فيمكن أن نقول إن الرؤى نوعان أساسيان: من الله وهي الرؤيا الصالحة، وهي البشرى وجزء من النبوة، كثيرة للأنبياء والصالحين، قليلة فيمن سواهم.
ثانياً: الأضغاث، ويدخل تحت الأضغاث أنواع كثيرة منها: أهاويل وتلاعب الشيطان ليحزن بها ابن آدم، مثل الحديث الذي جاء: أن رجلاً قال للنبي ﷺ: "رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأن عنقي ضربت، وسقط رأسي، فاتبعته فأخذته فأعدته، فقال رسول الله ﷺ: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدثن به الناس[25].
رأيت رأسي قطع وتدحرج ولحقته وأعدته مكانه، هذا من الشيطان لا يحدث به إطلاقاً، هذا من الشيطان، الشيطان يتلاعب بابن آدم في المنام، فيريه مثل هذه الأشياء.
كذلك -طبعاً- من رؤى الضلال المبين أن يرى الإنسان مثلاً صورة يقول يرى الله أو النبي ﷺ أو الملائكة، أو كذا يقول له: افعل حراماً، الشيطان يصوره له يقول على أنه الله، أو أنه النبي، أو أنه الملك يقول له: افعل الشيء المحرم، فهذا أيضاً من تلاعب الشيطان؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، فهذا من الشيطان.
كذلك لو أن مثلاً الشيطان أرى إنساناً النبي ﷺ في المنام مثلاً قال إنه قال: هذا النبي ﷺ، هذا هو أسود اللون، أو قصير أو سمين، أو أعرج أو فيه عاهة، أو أعور، ونحو ذلك، هذا ليس هو النبي ﷺ، هذا من تلاعب الشيطان بابن آدم في المنام.
النوع الثالث: نوع لا بشارة ولا أضغاث، ليس من الشيطان، إنما هو شيء كان الإنسان مهموماً به في حياته، واحد مثلاً رأى طالباً يذاكر في الامتحان ويقلب الأوراق ويذاكر ويذاكر، ويتخيل الاختبار وماذا سيأتي وما الأسئلة، ونحو ذلك فينام، فيرى نفسه في قاعة الاختبار في المنام وتوزع الأوراق، وأنه يحل، وأنه سلم الورقة، وأنه.. وأنه..، شيء كان مهموماً به في يومه فرآه في ليلته، أي شيء، معاملة واحد يتابع فيها، فيرى في المنام المعاملة، ونحو ذلك.
فإذاً: هذا النوع لا تقول أنه: رؤيا من الله بشارة، ولا تقول: أنه من الشيطان تلاعب، بل هو همٌ، كان الإنسان مهموماً به في نهاره، فانطبع في شعوره، فرآه في ليله في المنام.
أقسام الناس بالنسبة للرؤيا
أما أقسام الناس بالنسبة للرؤيا، فإن الناس فيها أقسام:
فأما الأول فهم: الأنبياء، ورؤياهم كلها صدق ووحي معروفة، نوع من أنواع الوحي رؤيا الأنبياء.
الصالحون الغالب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، يعني الرؤى نوعان: نوع لا يحتاج إلى تعبير، يرى أنه سيحدث في اليوم الفلاني كذا كذا مثلاً، فيقع فعلاً كما رأى مباشرة، ونوع يحتاج إلى تفسير، فيه غموض يحتاج إلى تفسير، فهذا النوع الذي قد يقع لأناس من الصالحين، وأما من عداهم فتقع لهم أشياء قد تكون صادقة وقد تكون غير صادقة، ولكن الفسقة يغلب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق، وأما الكفار فيندر جداً أن يقع منام صادق بالنسبة لهم.
هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟
مسألة مهمة: هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟
إن غلاة الصوفية -يا أيها الإخوة- كما تقدم في الدرس الماضي، جعلوا من مصادر التلقي: المنامات.
قلنا: أهل السنة والجماعة مصادر التلقي عندهم: الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس، قياس المسائل على المسائل، المسائل غير المذكور حكمها في الكتاب والسنة تقاس على المسائل المذكورة حكمها في الكتاب والسنة.
الصوفية عندهم -كما ذكرنا-: الكشف، يقولون: انكشفت لنا الأستار، ورأى القطب الولي الأعظم رأى اللوح المحفوظ، ورأى ما مكتوب فيه.
الذوق، الوجد، المنامات، رأى الخضر، ذهب طلع المقبور فحدثه بأشياء، ويعتبرونه تشريعاً، ويقول: أنا أخذت الورد الفلاني والصلاة النارية على فلان الفلاني، خرج من قبره وحدثني به، هذا مصدر عندهم للتشريع والتلقي، وتنبنى عليه أحكام، وفيها فضائل، المسألة فيها فضائل.
بالنسبة لأهل السنة، ليست هذه القضايا مطلقاً عندهم مصادر التلقي، والمنامات والرؤى على فضلها لا تؤخذ منها أحكاما شرعية إطلاقاً، ولا يمكن أن يقول عالم من علماء أهل السنة: إن الشيء الفلاني حرام، والدليل: رؤيا رأيتها كذا كذا كذا، أو يقول: الشيء الفلاني مباح، والدليل: رؤيا رأيتها كذا كذا، هذا ليس في دين الإسلام.
فإذاً، غير رؤى الأنبياء لا يمكن يؤخذ منها أحكام، رؤى الأنبياء حق ووحي يؤخذ منها أحكام، أما رؤى الناس بشارات، نذر، إخبار عن أشياء تقع في المستقبل، هكذا، وليست مجالاً ولا مأخذاً للأحكام.
فقد يقول قائل: أليس الأذان شرع بالمنام؟ وأليس عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب رأيا الأذان؟
فنقول: نعم، لكن متى صار الأذان من الدين لما رآه عبد الله بن زيد ورآه عمر وإلا لما أقره النبي ﷺ؟
لما أقره ﷺ، ولذلك ما كانت رؤيا عبد الله بن زيد بمفردها تشريعاً، وإنما بإقرار النبي ﷺ على ذلك.
وحتى لا يقطع بها في مسائل كمثل رؤية الهلال، قال النووي -رحمه الله-: لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان، ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي ﷺ في المنام، فقال له: الليلة أول رمضان، يعني ليست ليلة ثلاثين شعبان، هذه أول رمضان، لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره.
فإذاً، المنامات لا يؤخذ منها أحكام الشرعية.
وسائل الرؤيا الصادقة
لكن هناك آداب تتعلق بالمنام، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق" واحد، "وأكل الحلال" اثنان، "والمحافظة على الأوامر والنواهي" ثلاثة، "ولينم على طهارة كاملة" أربعة، "مستقبل القبلة" خمسة، "ويذكر الله حتى تغلبه عيناه" ستة، "فإن رؤياه لا تكذب البتة".
"ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق وأكل الحلال، والمحافظة على الأمر والنهي، ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه، فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة.
وأصدق الرؤيا: رؤيا الأسحار، فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين، وعكسه رؤيا العتمة"الذي هي وقت العشاء "عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية"[26].
فكون الرؤيا تصدق بالأسحار هذا الغالب.
آداب الرؤيا الصالحة والمكروهة
ما هي آداب الرؤيا الصالحة؟ لو أن إنساناً رأى رؤيا يحبها، رأى رؤيا فيها بشارة، ماذا يفعل؟
قال ﷺ: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره[27]، وقال ﷺ: فإن رأى رؤيا حسنة، فليبشر ولا يخبر إلا من يحب[28].
فإذاً، الآداب المتعلقة بالرؤيا الصالحة في السنة عدة:
أولا: أن يحمد الله تعالى.
ثانيا: أن يسأله تحقيقها.
ثالثا: يحدث بها من يحب.
رابعا: أنه لا يخبر حاسداً ولا يخبر جاهلاً.
وأما الرؤيا المكروهة، فإنه أخبر في السنة أنه إذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثا، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره[29].
وفي رواية: فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه[30].
وفي رواية: فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس[31].
فإذاً، الرؤيا السيئة، الرؤيا المكربة، الرؤيا المفزعة، هذه الرؤيا إذا الإنسان قام منها ماذا يفعل؟
أولاً: يستعيذ بالله من شرها.
ثانياً: يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
ثالثاً: يتفل عن يساره ثلاثاً طرداً للشيطان وتحقيراً له، والتفل عن الشمال ثلاثاً، وجهة الشمال معروفة في الشريعة للأشياء المستقذرة، والشيطان ممكن أنه يكون أنه يكبت من جراء هذا البصق، وهذا التفل الذي يكون عن الشمال ثلاث مرات، ويحقر ويخنس.
رابعاً: ألا يذكرها لأحد، حتى لا يتعجل أحد بتعبيرها بأشياء مكروهة، فيتضرر الرائي.
خامساً: أن يصلي عندما يستيقظ من نومه، والصلاة مطردة للشيطان.
سادساً: يتحول عن جنبه الذي كان عليه.
لماذا يتحول عن جنبه الذي كان عليه؟
تفاؤلاً بتغير الحال، إذا كان نائم على اليمين ينام على ظهره.
فهذه بالنسبة لمسألة الرؤى السيئة.
وإذا انفجع من الرؤيا، قام في النوم مفزوعاً قال: أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، كان ذلك حسناً: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97، 98].
أقسام الرؤى من حيث تعبيرها
أما تأويل الرؤى وتعبيرها، معنى تعبير الرؤى: الإخبار بما تؤول إليه الرؤيا.
ما هو تفسير الرؤيا؟ ما معناها؟
كما عبر يوسف: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ [يوسف:41].
قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ [يوسف:36] الأولى شبه مباشرة، تعبيرها شبه مباشر: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ [يوسف:41]، ويموت ويقتل وتأكل الطير من رأسه، تأتي وتقف عليه وهو مصلوب تأكل من رأسه وتنقر في رأسه، هذا تأويلها.
الرؤى إذاً قسمان:
قسم جلي، كمن رأى في المنام أنه يعطى تمراً فقام في النهار فأعطي تمراً، رأى في المنام أن فلاناً سيموت، قام فعلاً وأخبر، أو أن فلاناً مات، أو بعد مدة حصل ما رآه منها.
وقسم مرموز له، بعيد المرام لا يعبره إلا حاذق؛ لأن فيه ضرب مثل، فهذا لا يقص إلا على معبر.
صفات المعبر للرؤيا
المعبر له صفات: منها أن يكون عالماً، ذكياً، تقياً، نقياً من الفواحش، يعرف حديث النبي ﷺ، ولغة العرب، فهذا الذي تقص عليه الرؤى لتعبيرها وتفسيرها.
وقد سئل الإمام مالك -رحمه الله-: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ قال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يلعب بالنبوة.
ورؤيا المسلم، لما قال النبي ﷺ: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها[32].
فإذا كان يستطيع أن يفسرها فسرها، وإذا لم يكن يستطيع أن يفسرها فإنه يقصها على من يعرف التفسير، ممن تقدمت صفته.
والسؤال عنها لا بأس، النبي ﷺ كان إذا صلى الصبح أقبل على أصحابه، ويقول: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟[33] من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له، كان يقول لأصحابه هذا الكلام بعد الفجر يقول خاصة؛ لأن الرائي يكون صافي الذهن، والعابر يكون حاضر الذهن.
ورؤى الأسحار -كما تقدم- أنها من أصدق الرؤى، ولذلك النبي ﷺ كان يسألهم بعد صلاة الفجر: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ ثم يفسرها ﷺ.
ومرة ما قص عليه أحد شيء، فهو أخبر عن رؤيا رآها، وأخبر عما حصل فيها.
تقص الرؤيا على محب، وعلى ذي علم، كما جاء في الحديث، ما تقص على حاسد، ولذلك يعقوب كان حكيماً لما قال ليوسف: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ [يوسف:5]؛ لأن إخوتك حسدة، حسدوك على النعمة التي أعطاك الله إياها، لا تقصصها على حاسد: فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا [يوسف:5].
هل ممكن الإنسان إذا أخبر جاهلاً برؤيا، فالجاهل عبرها أنها تقع فعلاً على هذا النحو الذي عبرت به؟
ممكن، وقد جاء حديث عن النبي ﷺ تكلم العلماء في صحته، بعضهم صححه وبعضهم لم يصححه: أنه ﷺ قال: إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً[34].
الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت[35].
وقد يقال: الآن ممكن واحد يقص الرؤيا على كذا شخص، كل واحد يفسرها له تفسير مختلف، فعلى أي تفسير تقع؟
فقال بعضهم: تقع على أول معبر، إن الرؤيا تقع لأول عابر.
واشترط بعضهم: أن تكون أول عابر يصيب وجه التعبير الصحيح، وإذا كان أول عابر ما أصاب وجه التعبير الصحيح، قال كلاماً من عنده خلط، ظن وجهل، ما أصاب، فأول واحد يصيب بعده، يقع تعبير الرؤيا بناءً على كلامه.
فإذاً، على أول معبر يعبرها بشكل صحيح.
فإذاً، الرؤيا ما تقص على أي أحد، تقص على ناصح وواد، يَكن لك وداً، وليس بحاسد، ولا جاهل، وإنما صاحب علم.
هذه الصفات التي جاءت بالنسبة لمن تقص عليه الرؤيا.
طبعاً؛ رؤيا النبي ﷺ في المنام -تقدم الكلام فيها وشرحها-، وأن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
رؤية النبي ﷺ في المنام
وإذا رأيته ﷺ، ورأيت شعره الأسود، إذا وجد شيباً فهو بسيط في مفارق الرأس والعنفقة ﷺ عشرون شعرة بيضاء.
ولحيته تملأ ما بين منكبيه.
وجهه أبيض مشرب بالحمرة.
عيناه واسعتان، شديدتا السواد في شدة البياض.
رموشه قد طالت وانثنت.
وأنه ﷺ عريض ما بين المنكبين.
وأنه عظيم المشاش، مفاصل الأصابع.
وأنه ﷺ كذلك شعره يصل إلى أذنه، أو يصل إلى أحياناً يضرب بجمته، وأحياناً يكون له ضفائر، كل هذا ورد في صفة شعره ﷺ.
إلى آخر ما ورد في صفاته.
إذا رأيته على صفاته التي وردت في كتب السيرة، فهو حق ﷺ، الشيطان لا يمكن أن يتمثل به.
فرؤيته قد تكون بشارة، تثبيت لصاحب المنام مثلاً يثبته الله بأن يريه نبيه ﷺ، يقول له كلمات فيها تثبيت، قد يراه من غير ما يقول له ولا كلمة.
وأما بعض الناس إذا رأوه على صفة مغايرة فليس هو النبي ﷺ قطعاً.
وقد يقول: رأيت نوراً، ما رأيت وجهاً ولا رأيت شكلاً، فنقول: ما نستطيع أن نقطع أنه هو ﷺ، رأيت نوراً، فلا نستطيع أن نقطع أنه هو ﷺ.
ابن سيرين قال له رجل: إني رأيت النبي ﷺ، قال: صف لي الذي رأيته؟ فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال له: لم تره.
ومرة واحد رأى ووصف لابن عباس ما رأى: قال: لم تعدل، لو رأيته هذا هو الذي وصفته، لو رأيته في الحقيقة ما استطعت أن تصفه بأكثر وأوضح من هذا.
والرجل -طبعاً- ما كان رأى النبي ﷺ، يعني من التابعين.
بعض رؤى النبي ﷺ
النبي ﷺ رأى رؤى قصها على أصحابه، رأى أنه على حوض يسقي الناس، وأتى أبو بكر فأخذ الدلو ليريح النبي ﷺ، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى عمر بن الخطاب فأخذ منه، فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر[36] فسروه على أن الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب تكون شاملة وكبيرة.
-طبعاً- عهد الصديق سنتان وأشهر، وانشغل بقتال المرتدين، وأرسى دعائم الإسلام، وما كان عمر يستطيع أن يفتح لولا أن أبا بكر قد مهد الأمر بوضع القواعد والأسس، وأن الإسلام قد استتب في الجزيرة بمحاربة المرتدين، خلافة عمر استمرت فوق عشر سنوات، ولذلك فتح الله الأمصار في عهده.
والنبي ﷺ رأى أن عمر بن الخطاب عليه قميصاً يجتره أوله الدين[37]، يعني أن دين عمر كامل وسابغ.
النبي ﷺ رأى أنه يشرب لبناً وأنه خرج من أظفاره الري، وأنه أعطى الفضل لعمر، وأول اللبن هنا بالعلم[38].
النبي ﷺ رأى قصراً وامرأة تتوضأ لجانب القصر، فقال: لمن القصر؟ قال: لعمر، فذكرت غيرتك فوليت مدبراً، فبكى عمر -رضي الله تعالى عنه-[39].
النبي ﷺ رأى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل، ذهب وهله إلى أن اليمامة أو هجر، فإذا المدينة هي يثرب.
رأى في الرؤيا أنه انهز سيفه، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب بالمؤمنين يوم أحد من مصيبة، ثم هزه مرة أخرى فإذا هو راجع كما كان، فأوله ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين.
رأى في المنام بقراً تذبح، وكان تأويلها النفر من المؤمنين السبعين الذين أصيبوا في أحد وقتلوا[40].
ورأى النبي ﷺ أناساً من أمته، غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر كالملوك على الأسرة، فأخبر أصحابه بذلك،استيقظ يضحك، فسألت أم حرام بنت ملحان أن يجعلها الله منهم، فدعا لها، فهكذا حصل، وركبت البحر زمن معاوية وغزت، وخرجت من الساحل وركبت الدابة فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر[41] فهلكت وذهبت شهيدة إلى الله .
وكذلك رأى النبي ﷺ ذات ليلة أنه في دار عقبة بن رافع، وأنه أتي برطب من رطب ابن طاب، فأولها الرفعة لنا في الدين، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب[42].
وكذلك رأى النبي ﷺ زوجته عائشة يحملها الملك جبريل في سرقة من حرير، ويقول: هذه امرأتك، فاكشف عنها، فإذا هي أنت" هذا كلام قبل أن يتزوج عائشة بمدة، وهو يقول: إن يك هذا من عند الله يمضه[43]، وفعلاً هذا ما حصل تزوج النبي ﷺ عائشة.
النبي ﷺ رأى في المنام امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت الجحفة، فأولها أن وباء المدينة خرج من المدينة ونقل إلى الجحفة، وهذا الحديث في البخاري[44].
الصحابة رأوا رؤى، منها ما تقدم أن رجالاً من أصحاب النبي ﷺ أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله ﷺ: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر[45].
ورؤيا الأذان كذلك من رؤى الصحابة -رضوان الله تعالى عنهم، وغير هذا من الرؤى التي رآها الأنبياء والصالحون من بعدهم.
مسائل متفرقة في الرؤى
وربما تكون أحياناً الرؤيا تذكر الإنسان بشيء، كأن يكون مجتهداً يفكر في أمر من الأمور، كمن عرض عليه قضية مثلاً صلاة الجنازة على شخص مشكوك فيه، ما يدري هل هو يعني يشتبه فيه هل هو مسلم وإلا كافر؟ فماذا يدعو؟ وماذا يقول في صلاة الجنازة؟
فقيل: إن أحد أهل العلم شيخ الإسلام -رحمه الله- قد رأى عرضت المسألة له ونام، فرأى في الرؤيا الشرط يا أحمد، الشرط يا أحمد، ففهم من ذلك أنه يعني يشرط في الدعاء: اللهم إن كان صاحب هذه الجنازة مؤمناً فاغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وهكذا، فيقول الشرط، إن كان صاحب هذه الجنازة مؤمناً فيدعو له بالمغفرة والرحمة، إذا اشتبه في كونه مؤمناً أو كافراً أو ما يدرى عن حاله.
وكذلك ممكن تكون رؤيا تدل شخص على شيء مفقود، كما حصل للشيخ صالح بن عثمان القاضي -رحمه الله- وكان قد وضع عنده صك أرض لبعض من جاء يعني يستفتيه فيه، في صك عقار في مسألة عقار، فالشيخ -رحمه الله- قال: انظر فيها وضعها في مكان وتوفي، فجاء أصحاب الصك يريدونه ما عثر عليه الورثة، وصارت المسألة في حرج يعني على أولئك وعلى هؤلاء، فرأى ولد القاضي في المنام، رأى أن الشيخ يقول له: انظرها في المكان كذا من الدرجة، فوقها في مكان وضعتها فيه، فقام من النوم، فعلاً ذهب وجدها في نفس المكان الذي قيل له في المنام أن أباه قد وضعها فيه، وجاء وأعطاها لأصحابها وقال: إنه رحمه الله دلني على المكان في المنام.
وقد تقع عجائب من هذا القبيل، وهذا لا حرج في ثبوته وتصديقه، وممكن يكون حقاً.
وأخبار الرؤى كثيرة جداً، وتكفي القواعد التي تقدم ذكرها.
ونسأل الله أن يقر أعيننا بدينه، ونصرة دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجعلنا من أهل الصلاح والتقوى، والمتمسكين بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا من أهل الصدق.
وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- ^ رواه مسلم: (1165).
- ^ رواه البخاري: (6984).
- ^ رواه الإمام أحمد: (17150)، وهو حديث حسن، وقال الهيثمي: "وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد وهو ثقة"، وقال محققو المسند: "حديث صحيح لغيره".
- ^ رواه البخاري: (6983).
- ^ رواه أبو داود: (499)، وابن ماجه: (706)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (512).
- ^ التمهيد: (24/ 49).
- ^ رواه البخاري: (6983).
- ^ رواه مسلم: (2265).
- ^ رواه مسلم: (2263).
- ^ رواه مسلم: (2889).
- ^ رواه البخاري: (6990).
- ^ رواه الترمذي: (2272)، وهو حديث حسن.
- ^ رواه الإمام أحمد: (24977)، ورجاله رجال الصحيح، وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن".
- ^ رواه ابن ماجه: (3898)، وأحمد: (22687)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
- ^ رواه أبو داود: (5019)، والترمذي: (2270)، وابن ماجه: (3917)، وأحمد: (10590).
- ^ رواه الترمذي: (2270)، وابن ماجه: (3917)، وأحمد: (7642)، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- ^ رواه مسلم: (2263).
- ^ رواه أبو داود: (5019)، والترمذي: (2270)، وابن ماجه: (3917)، وأحمد: (10590)، وقال الألباني: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين" كما في السلسلة الصحيحة: (3014).
- ^ رواه مسلم: (2263).
- ^ رواه البخاري: (7042).
- ^ رواه البخاري: (7043).
- ^ رواه البخاري: (2107).
- ^ رواه ابن ماجه: (3907)، وقال الألباني : "وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات" كما في السلسلة الصحيحة: (1870).
- ^ مجموع الفتاوى: (17/ 522).
- ^ رواه ابن ماجه: (3912)، وأحمد: (14383)، وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد قوي على شرط مسلم".
- ^ مدارج السالكين: (1/ 76).
- ^ رواه البخاري: (6985).
- ^ رواه مسلم: (2261).
- ^ رواه البخاري: (7044).
- ^ رواه مسلم: (2262).
- ^ رواه مسلم: (2263).
- ^ رواه البخاري: (6985).
- ^ رواه مسلم: (2275).
- ^ رواه الحاكم في المستدرك: (8177)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك: (8177)، والألباني في السلسة الصحيحة: (120).
- ^ رواه أبو داود: (5020)، وابن ماجه: (3914)، وأحمد: (16182)، وقال محققو المسند: "حديث حسن لغيره".
- ^ رواه البخاري: (3633)، ومسلم: (2393).
- ^ رواه البخاري: (7009).
- ^ رواه مسلم: (2391).
- ^ رواه البخاري: (5227).
- ^ رواه مسلم: (2272).
- ^ رواه البخاري: (2799)، ومسلم: (1912)، بمعناه.
- ^ رواه مسلم: (2270).
- ^ رواه البخاري: (3895)، ومسلم: (2438).
- ^ رواه البخاري: (7039).
- ^ رواه البخاري: (2015)، ومسلم: (1165).