الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الابتلاء والتمكين لابد للأول للوصول إلى الثاني، لابد من الابتلاء للوصول إلى التمكين، بلوته وابتليته امتحنته واختبرته، وشرعًا: ما يصيب الإنسان من أذى في ماله أو نفسه أو عرضه في هذه الحياة التي يعيشها.
الابتلاء المظهر العملي لعلاقة العبودية بين الله تعالى والعبد، هذه الحياة التي نعيشها هي الزمن المقرر لهذا الابتلاء، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا [الأنفال: 17]، فالبلاء الحسن هو النعمة بالظفر والغنيمة، وليس من الابتلاء الذي هو الامتحان بالمكروه، فإذن، أبلاه أنعم عليه، ابتلاه قد يكون بالخير وقد يكون بالشر وغالبًا ما يكون بالمكاره.
الابتلاء سنّة كونية: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214] ، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 1 - 3].
أحوال الناس مع الابتلاء
الناس إذا أُرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم آمنا، وإما أن لا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه، فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير إلى الألم الدائم، هذه سورة العنكبوت تسمى سورة الابتلاء والامتحان، كما قال ابن القيم في شفاء العليل: "من تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمتها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان، ووسطه صبر وتوكل، وآخره هداية ونصر والله والمستعان"، لأن الله تعالى ذكر حال من دخل في الإيمان على ضعف وقلة صبر وعدم ثبات، وأنه إذا أوذي في الله كما جرت به السنة من ابتلاء الله تعالى لأوليائه بتسليط أعدائه عليهم وأنواع المكاره لم يصبر وجزع؛ لأنه لم يوطّن نفسه على الصبر، وهذا يدل على عدم بصيرته، وأن الإيمان لم يدخل قلبه ولا ذاق حلاوته، ولذلك يسوّي بين عذاب الله على الإيمان بالله ورسوله، وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت: 10]، ثم ذكر نصرة المؤمنين وأنه يكون معهم، ثم ذكر ابتلاء نوح بقومه، وابتلاء إبراهيم بقومه وما ردوا عليه، وابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به، وابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به، ثم ذكر ما ابتلى به عادًا وثمود وقارون وفرعون وهامان وجنودهم، من الإيمان بموسى أرسله ابتلاء لهم؛ لينظر هل يؤمنوا به أم لا؟ وربك أعلم بهم، ثم ذكر ابتلاء رسوله ﷺ بأنواع من الكفار والمشركين وأهل الكتاب، ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة، فيعبدوه فيها، ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض، إذن، الابتلاء الاختبار والامتحان، الابتلاء سنّة الله، الابتلاء ذكره في القرآن، الابتلاء لابد منه للمؤمن، سورة الابتلاء والامتحان سورة العنكبوت، قد ذكر فيها في فاتحتها ووسطها وخاتمتها ما يدل على ذلك، فأولها ابتلاء وامتحان، ووسطها صبر وتوكل، وفي الآخر هداية ونصر.
الابتلاء سنة كونية
الابتلاء سنة كونية، المؤمن لابد أن يتعرض للابتلاء، لكن هل يتمناه؟ هل يدعو الله أن ينزل به؟ كلا، بل إنه يسأل ربه العافية؛ لأنه قد لا يطيقه إذا نزل وقد لا يحسن التصرف إذا حل به، قال رسول الله ﷺ: لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه ، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرّض من البلاء لما لا يطيق حديث صحيح. [رواه الترمذي: 2254، وصححه الألباني في صحصح وضعيف سنن الترمذي: 2254]، وقال ﷺ : لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا متفق عليه. [رواه البخاري: 3024، ومسلم: 1741]، ولفظ أحمد: لا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون ما يكون في ذلك [رواه أحمد: 9196، وقال محققه الأرنؤوط: حديث صحيح بطريقيه وشواهده]، لا تدرون ما يؤول إليه الأمر، هل تثبتون أم تفرون، بل إن قول الإنسان متى يأتي العدو؟ نحن نريد المناجزة، ليتهم يأتون الآن، إن فيها صورة إعجاب واتكال ووثوق بالقوة وقلة اهتمام بالعدو، ولذلك قال: لا تتمنوا لقاء العدو، لكن إذا فرضت علينا المعركة، وإذا كان لابد منها، إما جهاد طلب؛ لأنهم وقفوا في طريق الدين، وإما جهاد دفع؛ لأنهم هجموا علينا، فماذا نفعل إذا صار الجهاد؟ إذا صار وقام قائم المعركة لابد من الثبات وليس لنا اختيار آخر.
ومن عدم تعريض النفس للابتلاء: عدم تعجُّل المواجهة وعدم رفع السلاح عندما لا تكون الأمور في مصلحة أهل الإسلام أن يرفعوا سلاحًا، ولذلك مكث الصحابة في مكة ثلاث عشرة سنة لا يرفعون سلاحًا، ولا يقاتلون عدوًا، وإنما يصبرون، لقد فوجئت قريش بنوعية عجيبة من العرب الذين يؤذَون ويضطَهدون ويُشتمون ويُسبون ويُعذّبون ولا يرفعون السلاح، يضبطون أنفسهم ضبطًا عجيبًا؛ لأنهم كانوا يعلمون أنهم إذا رفعوا السلاح ستُستأصل الدعوة ويقضى عليها، لقد كانوا قلة قليلة بمكة مستضعفين.
إن هذا الاستضعاف لا يعني أن لا يكون هناك جهر بالحق ولا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بل يكون هناك صدع وتكون هناك جرأة، لكن بدون رفع السلاح، ألم يأتك جهر ابن مسعود بالقرآن عندما جهر به أمام الكفار، فضربوه وأثروا في وجهه، ألم يأتك خبر أبي ذر في البخاري لما قام بين أظهرهم وقال: "يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، "فقاموا فضُربتُ لأموت" [صحيح البخاري: 4/184]، أي أوشكت على الموت، ضربوه حتى صار كالتمثال الأحمر من كثرة الدماء التي خرجت من جراحاته نتيجة الضرب.
الأنبياء أشد الناس بلاء
يبتلى الناس لكن من الذي يبتلى أكثر؟ قال ﷺ جوابًا على سؤال: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة [رواه الترمذي: 2398، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 2398]. لقد ابتلي أنبياء الله ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون، هكذا فعل بنو إسرائيل بهم، آذوهم بالأقوال، أقوام الأنبياء قالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود: 54]، موسى اشتكى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف: 5]، وهكذا ابتلي نبينا ﷺ بالمشركين وبأهل الكتاب وبالمنافقين حتى قالوا: أُذُنٌ ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61]، يسمع أي شيء بدون تمحيص، وإبراهيم الخليل قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم، وهناك ابتلاء ابتلى الله به إبراهيم بأوامر ونواه، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: 124]، كلفه بتكاليف فقام بها، ومن ذلك أنه ابتلاه بذبح ولده، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102]، ابتُلي إبراهيم بزوجته سارة وهاجر، سارة لما دخل بها أرض الجبّار، علم الجبّار بجمالها فأخذها، وقام إبراهيم يصلي لنجاة زوجته، حتى أنقذها الله من الجبار، وأما هاجر فإنه لما خرجت بإسماعيل الولد الذي جاء على الكبر، أُمر إبراهيم بترك هاجر وإسماعيل في أرض قفرٍ ليس بها زرع ولا أنيس يتركها ويمضي وصبر، الطريق طريق تعب فيه آدم وصابر عليه نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42]، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ، الطريق لابد فيه من ابتلاء، قال ورقة بن نوفل ليعلم النبي ﷺ من أول الأمر: "يا ليتني فيها جذعًا قويًا، "ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجيّ هم؟ ، قال: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا"، [رواه البخاري: 3، ومسلم: 160]. لابد، أنت تظن أنك إذا واجهتَ الناس وقاومتَ شهواتهم وأهواءهم وصرت ضد الاتجاه الذي يسير فيه المجتمع في الانهيار أنك ستسلم، أنت تظن إذا نهيت عن المنكر أنك ستسلم، أنت تظن أنك إذا قمت بواجب النصيحة والدعوة أنك ستسلم، أنت تظن أن الأعداء الذين يشتدون علينا اليوم ويريدون تجفيف المنابع وتغيير الأمور، وأنهم يريدون أن يكون الدين ليس لله، أن مقاومة هؤلاء سهلة ؟ كلا لابد من الابتلاء، النبي ﷺ حوصر ومن معه من المؤمنين في شعب أبي طالب ثلاث سنين، أكلوا الجلود، ووضعوا كما تضع الشاة، أرأيت البعر الذي تضعه الشاة كيف يكون قليلًا صغيرًا؛ لأنه لا يكاد يوجد طعام في بطون الصحابة، ولذلك كان الواحد منهم إذا خرج إلى الخلاء يضع كما تضع الشاة من القلة، ولا يصل إليهم شيء من الأكل إلا سرًا، لقد أُخفتُ في الله وما يخاف أحد [رواه الترمذي: 2472، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 116]. ولم يكد يوجد للنبي ﷺ ولبلال شيء يسد الرمق إلا شيء يواريه إبط بلال، الصحابي يذهب ليبول، وفي الخوف والحصار، فيرتد البول من شيء صلب فإذا هو جلد بعير، قطعة من جلد بعير ليأخذها فيغسلها فيقتات عليها، هذا كل ما وجده، لماذا يبتلي الله أولياءه؟ سؤال: لماذا يكتب الشدائد على أنبيائه؟ لماذا؟
أولًا: لينالوا كرامته، فترتفع درجاتهم عنده.
ثانيًا: ليتأسّى بهم من بعدهم.
ثالثًا: ليستوجب الكفار الذين عذّبوهم وآذوهم النار، ويدخلون جهنم عن استحقاق يوم القيامة.
وإذا تأملتَ حكمته - سبحانه - فيما ابتلى به عباده وصفوته فإنه ابتلاهم لكي يوصلهم إلى الجنة على جسر من الابتلاء والامتحان، لا يوصل إلى الجنة إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، الدليل: حُفّت الجنة بالمكاره [رواه مسلم: 2822]. لكن هذه المكاره، الابتلاء، الشدائد، هذه ظاهرها شدة لكن باطنها رحمة، ظاهرها محنة لكن باطنها نعمة، ظاهرها عذاب لكن باطنها منحة من رب العالمين.
تأمل حال أبينا آدم كيف آل أمره من محنته إلى الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية.
نوح أوذي وكذب واستهزئ به وسخروا منه، أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14]. يكافح ويجاهد، رأى أجيالاً تنبت على الكفر، ثم جاءه نصر الله، أبونا الثالث إبراهيم أبو الأنبياء إبراهيم بعد أبينا الأول وأبينا الثاني، بعد آدم ونوح أبو الأنبياء إبراهيم وإمام الحنفاء وعمود العالم وخليل الله، كيف آل به الأمر إلى أن بذل نفسه لله ونصر دنيه، عاداه أقرب الناس إليه وهدده بالرجم وطرده، آذاه قومه رموه في النار، ابتلي بالنمرود وبالجبار، أُخرج من بلده خرج من العراق، كان في العراق خرج إلى الشام، وأمر بذبح ولده وترك زوجته وفلذة كبده، ثم آل أمره إلى الرفعة في الدنيا والآخرة، وهذا الكليم موسى هرب من بلده طريدًا إلى مدين جائعًا مجهودًا ثم بُعث، فآذاه فرعون وقومه وحصل ما حصل، ولما أهلك الله فرعون يأتي بنو إسرائيل هؤلاء ليؤذوا موسى بعبادة العجل، عصوا نبيهم، اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا [المائدة: 24]، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55]، فيك عيب في خلقتك، حتى في مكان العورة، آذوا موسى، وهذا المسيح الذي صبر على أذى بني إسرائيل، حتى وصل بهم الأمر إلى التآمر على قتله فرفعه الله إليه، وأما نبينا ﷺ الذي أوذي من أول أمره وقالوا بألسنتهم: يا ساحر، يا كذاب، يا مجنون بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون: 25]، كذّبوه، ضربوه، خنقوه، أُخرج من بلده، قاتلوه وحاصروه وجرحوه وفي الحفرة أوقعوه، وكانت النهاية بالسُّم قتلوه، ما هي فائدة الابتلاء؟ وما أثره في صقل الشخصيات؟ الابتلاء له أثر على الشخصيات، لابد من دراسة هذه الآثار على الشخصية المؤمنة لنعلم فائدة هذا الابتلاء، نحن لا نسأل الله أن يبتلينا، ولا نسأله أن يوقع بنا الشدائد، نسأل الله العافية، لكن إذا نزلت لها فوائد، إذا نزلت الشدائد فلها في طياتها خير:
أولًا: تحقيق العبودية لرب العالمين، وهذا هو الأساس، أنت عبد لله، الله يفعل بك ما يشاء، يبتليك الله بالخير، وبالشر يبلوك، يفعل بك كيف يشاء، وأنت عليك الاستجابة لأمره، تصبر، تتقي، تظهر عبودية النفس لله في الابتلاء، أشياء أثناء الابتلاء، وأشياء نتائج بعد الابتلاء.
ثانيًا: مغفرة الذنوب والخطايا، ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة رواه الترمذي وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 2399، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5815].
ثالثًا: التدريب على رفض المغريات، أثر الابتلاءات في نفس في الشخصيات في صقلها أنها تدرّب النفوس على رفض المغريات، خذ مثالًا: كعب بن مالك لما قوطع وأمر النبي ﷺ المسلمين بعدم الكلام معه واشتد الأمر، عشرات الليالي تمر لا أحد يكلّمه، حتى ابن عمه من أقرب الناس إليه لا سلام ولا كلام، تأتي رسالة من ملك غسّان، من ملك إلى واحد جندي في المسلمين، "الحق بنا نواسك، لم يجعلك الله بأرض هوان ولا مضيعة" الحق بنا نواسك، مغريات هل استجاب للمغريات؟ هذا ابتلاء، الآن كعب مبتلى بمقاطعة المسلمين له، وتأتي رسالة من ملك غسان، لكن هذا الابتلاء كان له أثر في صقل شخصيته وتربيتها على رفض المغريات، "فتيممتُ بها التنور فسجرتها وأحرقتها"[رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769].
رابعًا: الابتلاء يكشف الادعاءات الباطلة، بعض الأشخاص فيه كذب ونفاق، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة: 49]، يزعم هذا المنافق أنه لا يريد الذهاب إلى بلاد الروم للجهاد؛ لأنه يخشى على نفسه من جمال نساء الروم، فتنة نساء بني الأصفر، كشف الدعاوى الباطلة، وهكذا نزل القرآن بفضحه.
خامسًا: الابتلاء إعداد للمؤمنين للتمكين في الأرض، الشخصيات التي تستحق النصر والتمكين لابد أن تُبتلى، سُئل الشافعي: أيهما أفضل أيمكّن أو يُبتلى؟
قال: "لا يمكّن حتى يبتلى"، سئل الشافعي: هل الأفضل أن الواحد يعيش منصورًا ممكنًا في الأرض أم يعيش مبتلى مستضعف؟ قال: "لا يمكّن حتى يُبتلى"، هذا طريق هذا.
وقيل للشافعي في رواية عنه: أيهما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين؟
فقال: "التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر وإذا صبر مُكّن"
[إحياء علوم الدين: 1/26]. هذه سنة الله، هذه سنة الله، التمكين بعد الابتلاء.
سادسًا: إن هذه النفوس التي تبتلى فيها معاصي، ارتكبت سيئات فيكفّر الله سيئاتها، إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، يبتليه بالمكاره.
سابعًا: الابتلاء فرصة للتفكير في العيوب، عيوب النفس، عيوب الإنسان التي انطوت عليها نفسه، أخطاء المرحلة الماضية ماذا فعل؟ لماذا حصل الابتلاء؟ هل بشيء من عمل يده؟ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ما هو؟ لماذا نزلت بنا العقوبة؟ ما هو الفرق بين الابتلاء والعقوبة؟ قد يبتلى الله بعض عباده لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم كما يفعل بالأنبياء والرسل، وتارة يفعل ذلك – سبحانه - بأهل المعاصي؛ بسبب المعاصي والذنوب، فتكون العقوبة معجّلة، كما قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30].
ثامنًا: الابتلاء تربية على التوكل وتحقيق ذلك في النفس، كيف صُقلت شخصيات الصحابة بالابتلاء في غزوة أُحد؟ ولما قيل لهم بعد كل القتل والجراحات بعد الهزيمة وبعد ما حصل من المصيبة، جاء خبر: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ، ما انتهى أنهم يعدون العُدّة للغزو والرجوع عليكم، لقد قالت قريش: لماذا ما استأصلناهم؟ لابد أن نكمل الطريق إلى المدينة، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173]، الكفار، إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، إن الناس الكفار قد جمعوا لكم واخشوهم، ماذا حصل؟ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]، حسبنا الله ونعم الوكيل.
إذن الابتلاء يحقق في النفس قضية التوكل على الله، يرسخها في النفس، يزيد درجتها.
تاسعًا: الابتلاء يخرج العُجْب من النفوس ويجعل النفوس قريبة من الله، وهكذا يكون النفس فيها تيه كبر، فيها خيلاء عجب غرور غفلة، فيبتلي الله هذه النفس لينفي ما فيها ويخرج ما فيها من العجب والخيلاء والغرور، "فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله - سبحانه - إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته وقربه"، التوقيع: ابن القيم [زاد المعاد: 4/179]. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة: 25]، اغتروا بالكثرة، في بعض الطرق في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حُنين: لن نُغلب اليوم من قلة، فشقّ ذلك على النبي ﷺ فكانت الهزيمة، قال ابن القيم: "واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولًا مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعُددهم وقوة شوكتهم؛ ليضع رؤوسًا رُفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخل رسوله ﷺ واضعًا رأسه منحنيًا على فرسه" [زاد المعاد: 3/477] هذه النفوس تحتاج إلى علاج، ولذلك جاء هذا الابتلاء.
عاشرًا: من فوائد الابتلاء إظهار حقائق الناس ومعادنهم، الناس أجناس؛ فيهم القوي، فيهم الضعيف، فيهم شخصيات ممتازة، وفيهم شخصيات ذليلة سيئة، الابتلاء يظهر الحقائق، يظهر المعادن، هناك أناس لا يعرف فضلهم إلا في المحنة، وناس لا يعرف سوؤهم إلا في المحنة، فتأتي المحنة لتبين حال هؤلاء وحال هؤلاء، ابتلاء، الصديق كيف سمي الصديق؟ وبأي شيء استحق هذا اللقب؟ كيف ظهر شرف الصديق؟ في أول الأمر لما صارت في مكة قضية الإسراء والمعراج جاءت قريش إلى أبي بكر يقولون: انظر ماذا يقول صاحبك؟ تصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة؟ قال: نعم إني أصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء، فسمي الصديق بهذا لأجل هذا السبب، بم استحق الصديق هذا الاسم؟ استحق اللقب بموقف؛ لأنه قال: عُرج به إلى السماء وذهب للشام ورجع في ليلة أصدّقه، ولماذا لا أصدّقه؟ كيف ظهرت شخصية أبي بكر الصديق، ميزة الفضائل، ما في نفسه من الإيمان واليقين، كيف ظهر للناس؟ ظهر بمواقف بابتلاءات؛ لما مات النبي ﷺ كان الابتلاء شديدًا وقام المنافقون وتكلم العرب وتزلزلوا وارتد من ارتد، أصلًا الناس شكوا أن النبي ﷺمات وبعضهم نفوا ذلك، وعمر قال: إنه ذهب كما ذهب عيسى إلى ربه، قام أبو بكر ما كان موجوداً وقت الموت، جاء من مزرعته من بعيد، قال" اجلس يا عمر، فأبى، فقام أبو بكر يتكلم، فاضطر عمر للسكوت، قال أبو بكر: "أما بعد" موقف، المدينة متزلزلة الآن، الناس يكادون يكذِّبون بأنه ﷺ مات، حتى قام الصديق واحد، وهو واحد، قال: "من كان منكم يعبد محمدًا ﷺ فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، ثم قرأ قول الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144]، قال الراوي: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها" [رواه البخاري: 4454].
كيف ظهرت فضائل الصحابة؟ ما ظهرت في المحن والابتلاءات، كيف ظهر ثباتهم وشجاعتهم وتضحيتهم؟ استخرج الله ما في نفوسهم من العطاء والبذل والتضحية، كيف استخرجت هذه؟ كيف ظهرت للعيان؟ كيف نُقلت في الكتب؟ كيف أخبر بها الناس جيلًا بعد جيل؟ أليس في المحنة؟ أليس في غزوة أُحد لما جُرح ﷺ وكُسرت رباعيته ورموه بالحجارة وسقط في الحفرة، احتضنه طلحة بن عبيد الله؟ قتل مصعب بن عمير بين يديه باللواء، نشبت حلقتا المغفر في وجهه انتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه، امتصّ مالك بن سنان الدم من وجنته، وهكذا ترّس أبو دجانه عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك، قُتِل عشرة من الصحابة واحد وراء واحد بين يديه، حتى جوّف عليه طلحة، وضُرب طلحة على أصابعه شُلّت يده ،كانت يد طلحة شلاء، قطعت الأصابع، ثبت أنس بن النضر على المنهج، ثمانون ضربة في جسده ما بين طعنة ورمية وضربة حتى صار أشلاء، هذه الصفات، هذه التضحيات، هذه الأنواع من البذل ما ظهرت إلا بالابتلاء، الناس في حال الرخاء ما تعرف الصادق من الكاذب، ما تعرف هذا كم يبذل وهذا كم يضحي، ترى أمامك ناساً، وشباباً ملتزمين، ولحى، وأشخاص عليهم سيما الصلاح، لكن متى يبرهن هؤلاء على ما في نفوسهم؟ في الرخاء كلام كثير وخطب وكتب، سنبذل ونضحي ونعمل، متى يظهر هذا؟ متى يظهر صدق هذا؟ متى يبلو الله أخبارهم؟ بالمحن بالابتلاءات، وهكذا تأتي الابتلاءات لتظهر ما في الشخصيات.
الحادي عشر من فوائد الابتلاء وأثره في صقل الشخصيات ومؤداه ونتيجته: إعداد الرجال.
لقد اختار الله لنبيه ﷺ أنواعًا من الشدائد منذ صغره ﷺ عركته الشدائد يتيمًا، مات أبوه، ثم ماتت أمه، نشأ يتيمًا لترق نفسه، نشأ فقيرًا ليرحم المساكين، ابتلاه الله بعد ذلك بذهاب العضُد والسند والنصير والمعين والمدافع، وماتت خديجة، ومات أبو طالب عمه؛ ليكمل اعتماده على الله، الشدائد فيها إعداد للرجال، فيها تثبيت لصفات في النفوس، وهكذا كان ﷺ معدًا منذ صغره، منذ نشأته في اليتم والفقر، ومنذ ابتلائه في أول من مراحل الدعوة المبكرة بفقد ناس من أعز الناس؛ إعداد للمرحلة المقبلة، زرع صفات في النفوس، هناك صفات ما تزرع في النفس إلا بالابتلاءات، وسيأتي معنا أمثلة.
الثاني عشر: التمييز بين الصادق والكاذب، بين الذين يناصرون الدعوة حقيقة ويتخلون عنها في وقت الشدّة، هناك أناس يقولون: نحن مع الدعوة، نحن جند الدعوة، يقولون للدعاة: نحن معكم فإذا جاء الجد
جزى الله الشدائد كل خير | وإن كانت تغصصني بريقي |
وما شكري لها إلا لأني | عرفتُ بها عدوي من صديقي |
إذن، هذه الابتلاءات تكشف حقائق المواقف، هل هؤلاء فعلًا جنود للدين، أم يتولون من مواقع القتال والمواجهة، يفرون على أعقابهم أم يثبتون؟
الثالث عشر: هذه الابتلاءات تؤدي للتضرع، والتضرع هذا يمكن ما يحصل بدون ابتلاء.
الواحد متى يدعو دعوة المضطر؟ وأنت في حال الرخاء تستطيع أن تدعو دعوة المضطر؟ تكون نفسيتك نفسية مضطر؟ يكون لجوؤك قوياً جدًا إلى الله في الرخاء؟ كلا، في حال الشدة، في الابتلاء، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62]، في الابتلاء فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام: 43].
لما أدخل بعض السلف السجن شرع في الصيام فسئل عن ذلك قال" إن الله يقول: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام: 43]، ومن التضرُّع أن نحدث لله العبادة كما أحدث لنا هذا السجن، فلابد إذن هذه الشدائد تدفع للتضرع، تصبح النفس مضطرة إلى الله، فقيرة إلى الله، محتاجة إلى الله، متوكلة على الله، وهذا لا يكون إلا في ساعات الشدة.
الرابع عشر: التمييز بين درجات الناس: جهنم دركات والجنة درجات، الجنة درجات يتفاضل فيها الناس بحسب الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة والثبات والبذل والتضحية والعمل للإسلام، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]، لما قال في الحديث السابق: أشدُّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يُبتلى الرجل على قدر دينه [رواه أحمد: 1555 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 992]. معناها أن الابتلاء هذا يتفاوت، تتفاوت درجته ويتنوع ويتوزع بحسب إيمان الناس، فيُزاد للشخص في البلاء إذا كان في دينه صلابة أكثر، وبالتالي يرتفع عند الله أكثر، فهذه الابتلاءات تفاوت درجات الناس تبين، الآن الامتحان الذي يعملونه للطلاب في المدارس، أليس يبين الأول والثاني والثالث والرابع والعاشر والأخير على الفصل، الابتلاء كذلك يبين درجات هؤلاء.
يكشف للنفس حقيقة الدنيا
الخامس عشر: الابتلاء يكشف للنفس حقيقة الدنيا وأنها متاع الغرور، وأن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، يبين نكد الدنيا وهمّ الدنيا وغمّ الدنيا ونصَب الدنيا وتعب الدنيا، يبين لك الحقيقة حقيقة هذه الدنيا، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]، في مشقة، ابتسامتها تزول، ووصلها ينقطع، ونعمتها تزول، وهكذا، بينما هي ضاحكة إذا بها عابسة، بينما هي مقْبلة إذ هي مدْبرة، واحد غني في الليل، في الصباح فقير، سبحان الله، تكشف لك حقيقة الدنيا، وهذه القضية مهمة جدًا؛ خصوصًا عندما يُبتلى الإنسان، قد يُبتلى بنفسه، وقد يُبتلى في ولده، وقد يُبتلى في ماله، مثلًا الآن هذه قضية شركات الأموال التي دخل فيها ناس ودخلوا بأعداد، ودخلوا حتى لا يكاد يوجد حي إلا وفيه مصاب في ماله، هذه المصائب شدائد ابتلاءات، هذا ابتلاء، الابتلاء قد يكون في المال، قد يكون بتسلُّط الأعداء وحرب المسلمين والفتك بهم، ويكون في أموال، ويكون في أولاد، ويكون في زوجات، ويكون في النفس، أمراض، تسمع عن السرطانات وتسمع عن هذه الأمراض الفتاكة، ما الذي يظهر لك إذا استعرضت أحوال الناس؟ مثلًا هذه المصيبة المالية مثلًا ما هي انعكاساتها على الناس الذين ضاعت لهم أموال، أو فقدوا أموالهم، وخسروا أموالهم، أو جزءاً من أموالهم، أو انحبست أموالهم ولا يدرون هل ترجع إليهم أو لا ترجع إليهم؟ الآن هذه القضية ما هي أثارها على الناس؟ أثارها متفاوتة؛ هناك ناس أصيبوا بجلطات وماتوا، وهناك ناس أصيبوا بشلل، ما قضت عليه تمامًا، قضت على بعض حواسّه، هناك ناس أصيبوا بذهول وشبه هلوسة، بعد المصيبة جلس في مجلس يقول: أين أبو بكر؟ قالوا: لا يوجد أحد، أبو بكر هذا أنت، سأذهب المسجد، والناس بعد العشاء، ما في مسجد، لكن هلوس، هناك ناس أصيبوا ذهبت عقولهم، هناك ناس خر مغشيًا عليه، وهناك ناس انهار يبكي، هناك ناس ما عاد يطيق يرى أحداً أبدًا، ابن نهاه أبوه أن يشترك فيها، فجمع أموالاً من أخواته وأمه، وعصى أباه وشارك بنصف مليون، ثم لما صارت المشكلة اضطر أن يكاشف أباه، يريد أن يتحين من أبيه فرصة ليكاشفه فيها، يكون الأب في حال هدوء وسرور نفس، كلما جاء وجد أباه مغمومًا، في النهاية اضطر أن قال: الصراحة أنا وضعت خمسمائة ألف، قال: يا فلان أنا وضعت مليوناً، من الناس من طلّق زوجته، قالت: لا تضع المال، لا تضع المال، وضع المال، كل المدخرات، ثم حصلت القضية، قالت: ما قلت لك: لا تضع المال، قال" أنت تتشمتين، أنت طالق، ذهبت المرأة لأهلها، أفاق الرجل، وجد الزوجة ذهبت، والمال ذهب، أصيب بجلطة، هناك ناس صبروا قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، الأشياء تعوّض، والمال قد يرد، وقد يرد بعضه، وقد يتاجر فيكسب، وقد يرزقه الله من هبة ومن جهة أخرى، لكن هناك ناس ما ثبتوا؛ لأن المال في نفوسهم، الدنيا حس ثقيل قوي، ولذلك ما تحمل الصدمة، ومصائب يمكن أن تتوالى تباعًا، نحن الآن نرى رأس جبل الجليد ولم نر البقية، لكن الإنسان إذا عرف حقيقة الدنيا وأنها زائلة، ممكن الواحد يخسر مائة مليون في يوم، في ليلة، إذن، ما هذه الدنيا التي يمكن أن يخسر الإنسان فيها ماله فجأة، باع البيت واستثمر، وما أخبر زوجته أنه باع البيت ليستثمر ثمن البيت، ثم حصلت الكارثة، يرى الآن بيته الذي بناه وتعب عليه من عرق جبينه، صار ملكًا لغيره، وهو مستأجر، مهموم بتحصيل أُجرة السنة القادمة، فيصبح العبد المفترض أن يكون الأثر أن هذه الدنيا زائلة، وهذه الدنيا التي يزول فيها ملك الإنسان في ليلة، هذه ليست هي دار المقر، وليست هي المقام، وليست هي حسنت مستقرًا، كلا، إن هناك دار أخرى ليس فيها هذه المفاجآت السيئة، ولا هذه الخسائر، ولا هذه المصائب، وهكذا إذا مات له عزيز ابن أب صديق، يقول: ما هذه الدنيا التي يفاجئ الإنسان فيها في لحظة أنه أعز واحد عنده، مات أحب الناس إليه مات، هذه إذن كلها،
وما المال والأهلون إلا ودائع | ولابد يومًا أن تُردّ الودائع |
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة | فكيف آسى على شيء إذا ذهب |
هكذا يصبح شعور الإنسان المؤمن في الابتلاء، الابتلاء يربي فيه الزهد في الدنيا.
تذكر نعمة الله وفضله
السادس عشر: أن الابتلاء يحدث في النفس مفعولًا عجيبًا في تذكر فضل الله ونعمته عليك؛ لأن النعمة قد لا يشعر بها الشخص إلا إذا سُلِبت منه، قد يمتع بها سنين ثم تؤخذ، ما عرف قدرها حق المعرفة، ولا قدرها، ولا شكر النعمة كما ينبغي مثلًا، ما كان يعرف نعمة التنفس إلا لما أصيب بالربو وصارت تأتيه النوبات الشديدة، الحياة إذا استمرت هانئة يصاب البشر بالغرور، فمن المصلحة لهم أن الله يبتليهم حتى لا يطغوا، ويتذكر المنعم، ويرى الصحيح نعمة الصحة إذاً في وجه المريض، ويرى الغني نعمة الغنى في مأساة الفقير، وهكذا، كيف يعرف الإنسان نعمة الولد؟ إذا رأى العقيم، وهكذا يكون سلْب النعمة والابتلاء بفقدها سببًا في الإحساس بما كان عليه وهو فيها، فيشكر ربه على ما مضى ويحمده على ما حصل من الفقد، ويسأل الله أن يُخلف عليه.
السابع عشر: أن تتشوق النفس إلى الجنة؛ لأنها إذا ذاقت مرارة الدنيا فإنها لابد أن تشتاق إلى دار لا مرارة فيها، وقد تقدم ذكر هذا ضمنًا، والشاهد أن الابتلاء يشوق الإنسان إلى جنة دار ما فيها مصائب.
والثامن عشر من فوائد الابتلاء: أنه مقدمة للنصر، وأن الله جرت عادته في المؤمنين أن يبتليهم قبل أن يمكّنهم، وأنهم يعيشون أيامًا وشهوراً وسنيناً من المصاعب والمتاعب والإيذاء والاضطهاد وتسلّط الأعداء والاستضعاف، ما هو شعور الصحابة في مكة وهم يرون الواحد منهم يجوّع ويُضرب حتى لا يستطيع أن يقعد من الضر الذي نزل به؟ خبّاب يُكوى في ظهره علاج الحرق الذي كانت تكويه مولاته، تطرحه على أسياخ الحديد وهو عاري الظهر، الابتلاء عندما يسمع الواحد من الصحابة سب النبي ﷺ كيف يكون شعوره؟ لكن هو يعرف أن الصبر مقدمة النصر، هو تربى على أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وقد يقول قائل: يا أخ فيه ناس ماتوا وما رأوا النصر، بل يوجد أمم ماتوا كلهم، أصحاب الأخدود كلهم ذهبوا، فأين النصر في هذه القضية؟ أين النصر هنا؟ الجواب في قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51]، بالنظر إلى ما حصل لزكريا ويحيى عند قتلهما، وإبراهيم الذي أُخرج من بلده، لم ينتصر على قومه في العراق، ذهب إلى الشام ومات في الشام، ربما يقول الإنسان: أين النصر لإبراهيم؟ أين النصر ليحيى وزكريا؟ أين النصر للأنبياء الذين قتلهم بنو إسرائيل؟ أين النصر لأصحاب الأخدود؟ الجواب: أن الله تعالى قد ينصر وكثيرًا ما ينصر أنبياءه أولياءه في الدنيا على أعدائهم كما نصر موسى وداود وسليمان ومحمد ﷺ، وكما نصر المسلمين في بلاد كثيرة.
ثانيًا: أن النصر قد يكون بإعلاء الحجج والبراهين، وأن ينتصر المسلم بالحجّة، فلا يستطيع الكافر أن يهزمه في نقاش ولا مناظرة، ويكون الأعلى بعقيدته ودينه، والكافر وإن كان أقوى دنيويًا فهو مهزوم في قضية الحجّة والمنهج، والمسلم منتصر عال عليه، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: 139]، هذه في غزوة أُحد، مع أنه ما حصل فيها انتصار عسكري للمسلمين، ومع ذلك قال: أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، كيف هم الأعلون؟ أنتم الأعلون دينًا، أنتم الأعلون منهجًا، أنتم الأعلون مذهبًا، أنتم الأعلون بعقيدتكم، فإن النصر قد يكون نصر الحجّة، موت أصحاب الأخدود على الحق وثباتهم عليه هو نصر بحد ذاته، تخليد ذكرهم في القرآن نصرٌ بحد ذاته، كونهم عبرة ومثال لمن بعدهم نصر بحد ذاته، ثم قد يكون النصر بالانتقام من عدوهم بعدهم، يعني لو ماتوا فالله يهلك عدوهم ولو بعد حين، وبذلك يكون النصر وإن لم يروه وإن لم يعيشوه، ولذلك قال السُّدي: "ما قتل قوم قط نبيًا أو قومًا من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قُتلوا" [تفسير القرطبي: 15/322]. فلنأخذ أمثلة على هذا الانتقام أن الله ينتقم من عدو المسلم، وذروة الانتقام عندما يرى المؤمنون الكفار يكبكبون في النار، إذا كُبكب العدو في النار واطّلع الأبرار على عذاب الفجّار وقال الكفار: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فيقول المؤمنون: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف: 50]، هذه قمة النصر، هذه نشوة النصر العليا عندما يرى المؤمنون يوم القيامة كيف يخزي الله الكافرين، وكيف يجعلهم في جهنم مقهورين مدحورين أذلاء صاغرين، أبو إبراهيم آزر يمسخ ضبعًا، يُمسخ حيوانًا قذرًا منتنًا جيف يلقى عند رجلي إبراهيم هذا هو، أليس هذا انتقامًا، أليس هذا ذلًا ما بعده ذل، لكن ممكن يكون فيه انتقام في الدنيا، لنأخذ مثلًا الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -، الإمام أحمد - رحمه الله - ابتُلي، الإمام أحمد - رحمه الله - حصل له أنواع من التعذيب وحصل أيضًا أن هؤلاء الذين عذبوه انتقم الله منهم، وكان الإمام أحمد يجلد في المجلس فيقول السلطان للجلاد -وضع صف جلادين-: تقدم يتقدم يضربه سوطين أقوى ما عنده، يقول: شد يدك قطع الله يدك، يتنحى، يأتي الذي بعده يضرب الإمام أحمد سوطين بأقوى ما عنده حتى لا يتعب الجلاد، ويصبح الضرب أشد ما يمكن، ويسقط أحمد صريعًا ويُداس، ويضعوا عليه حصيرة، ويدوسوه ويُغمى عليه، ولا يشعر، ويخرج من جراحه الدم، ويصلي بجراحه، كما صلى عمر بجراحه، والإمام أحمد كادت نفسه تذهب في هذا التعذيب، كان من الناس الذين عذّبوا الإمام أحمد رجلان؛ أحدهما يكنّى بأبي ذر والآخر بأبي العروق، قال الراوي: "أما أبو ذر فأهلكه الله بشر ميتة، وأصيب بالبرص فتقطع ببرصه، وأما أبو العروق، فقال عمران بن موسى: دخلت على أبي العروق الجلاد الذي ضرب الإمام أحمد لأنظر إليه، فمكث خمسة وأربعين يومًا ينبح كما ينبح الكلب، ابتلاه الله بمرض صار ينبح كما ينبح الكلب، والناس يسمعونه وينظرون إليه، الإمام أحمد لما مات صلّى عليه مليون شخص في بغداد، صُلّي عليه حتى في مراكب نهر دجلة في السفن صلوا عليه، ابن أبي دؤاد الذي كان سبب اضطهاد الإمام أحمد من الذي شيعه إلى قبره؟ نفر معدودين جدًا منبوذًا طريدًا انتقم الله منه، وهكذا يكون أحيانًا إيذاء من الله لمن وقع في هذا الإمام كما قال أحدهم: تناولت مرة الإمام أحمد، يعني بسوء بلساني، تكلمت فوجدت في لساني ألماً، فلم أجد القرار حتى نمت ليلة فأتاني آت فقال: هذا بتناولك الرجل الصالح، هذا الألم الذي في لسانك؛ لأنك تكلمت في الإمام أحمد بسوء، فانتبهت فلم أزل أتوب إلى الله حتى سكت، هذا حمزة البسيوني الذي كان يعذب المسلمين وإذا استغاثوا بالله قال: أين إلهكم الذي تستغيثون به لأضعه معكم في الحديد، وهؤلاء بعضهم مات وبعضهم أصيب بعاهات مستديمة، وبعضهم جلس في السجن بضعة سنين وأكثر من بضع سنين، وهذا الرجل عاش فترة من الزمن في رتبته العسكرية وفي هيلمانه وفي غروره وتجبّره، لكن هذا الرجل لما مات قدّر الله أن تصطدم سيارته بشاحنة تحمل أعواد الحديد ودخل جسده في الحديد وصار مغروسًا فيه ينزف والحديد مغروس في جسده حتى مات، ما أنقذه أحد بقي هكذا على قارعة الطريق مرميًا أدركوه حتى جاءوه وجدوه في هذا الموت الشنيع، الله يمهل ولا يهمل.
وكذلك ما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي - رحمه الله تعالى -؛ أحمد بن نصر الخزاعي - رحمه الله - لما ابتُلي في قضية خلق القرآن وثبت وبالأخير أُلقي عليه القبض وجيء به إلى الخليفة وسبّه وشتمه وناقشه وأصر على الحق الذي هو عليه، أحمد بن نصر الخزاعي - رحمه الله - لما ابتُلي بسبب أحمد بن أبي دؤاد وغيره أيضًا، هذا الرجل لما مات الناظر إليه يظنه أنه قد انهزم، أنه أخذ وعُذّب وقُتل رحمه الله، لكن الله أجرى كرامات لأحمد بن نصر الخزاعي، فلذلك لما قطع رأسه وأمر السلطان أن ينصب رأسه في جهة من جهات بغداد لكي ينظر الناس إليه يكون له فيها عبرة بزعمه، وكان أحمد لما جيء به قد استقتل وباع نفسه وتحنط على أساس أنه سيقتل وشد على عورته ما يسترها حتى إذا ضرب ضربًا شديدًا لا تنكشف العورة، لما قُطع رأسه قال جعفر بن محمد الصائغ :بصرت عيني وإلا فُقئتا وسمعت أُذناي وإلا فصمّتا، أحمد بن نصر الخزاعي حين ضُربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله وسمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقول: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 1، 2]، قال: فاقشعر جلدي" [البداية والنهاية: 10/306]. وهذه من كرامات أولياء الله.
وهؤلاء الذين عذّبوا أحمد بن نصر الخزاعي هؤلاء الذين كانوا سببًا في هذا الابتلاء الذي وقع له، ماذا حصل لهم أيضًا؟ قد حصلت لهم أشياء، واحد منهم قال للخليفة: اقتله حبسني الله في البلاء إذا كان قتله غير صحيح، فالله - سبحانه وتعالى - ابتلاه ببلية في جسده، هذا الرجل ظل محبوسًا في جلده حتى مات، يعني الابتلاء في داخله، يمر عليه الرجل الصالح يقول له: زادك الله مرضًا، ويزداد مرضًا على مرض حتى يموت، صار سجنه سجن متنقل، يعني هو مسجون في جلده، وهكذا انتقم الله من الآخر أن المتوكل لما تولى مقاليد الأمور أخذه وضربه وسجنه وجعله في حفرة، هذا الذي كان سبباً في قتل أحمد بن نصر الخزاعي الثاني، ووضع على خشبة عليها مسامير حتى مات، ومات ابنه قبله بعدما أخذت أموال ابنه، ألف ألف أخذت، ورأى قتل ابنه قبل أن يموت هو في حياته ليزداد عذابًا، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا، إذن، من الانتصار أن الله ينتقم ممن كان سببًا في نزول الابتلاء على أوليائه، فهذا من أنواع النصر أيضًا.
وكذلك فإن من الأشياء التي تترتب على الابتلاء، وتتربى عليها النفوس في الابتلاء تنوُّع الابتلاء في الخير والشر، يعني أن الإنسان قد يُبتلى بشدائد، قد يُبتلى بالغنى، قد يُبتلى بالفقر، قد يُبتلى بالصحة، كما يبتلى بالمرض، وكذلك قد يبتلى بالعقم كما يبتلى بالولد.
وكذلك فإن الله يبتلي المسلمين بالنصر كما ابتلاهم بهزيمة يحصل هذا، ولذلك قال عبد الرحمن بن عوف: "ابتُلينا مع رسول الله ﷺ بالضراء فصبرنا ثم ابتُلينا بالسراء بعده فلم نصبر"
[رواه الترمذي: 2464، والبغوي في شرح السنة: 14/ 263، وحسن إسناده الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 2464].
لماذا كان النبي ﷺ يقول: أعوذ بك من فتنة الفقر وشر فتنة الغنى [رواه البخاري: 6368، ومسلم: 589]. الصحابة لما ابتلوا ما تغيروا، لما تولوا مناصب وصاروا أمراء وصاروا أغنياء نفوسهم هي ذاتها، عبد الرحمن بن عوف لما يؤتى بطعام وهو صائم يتذكر والطعام أمامه أخاه مصعب بن عمير الذي مات من قبل، يقول: وهو خير مني كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، قتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، أبو هريرة هو أبو هريرة الذي كان يسقط مغشيًا عليه من الجوع، في الشدة مبتلى، لكن لأجل حفظ العلم لا يذهب ينشغل بالصفق في الأسواق، لما صار بعد موت النبي ﷺ أميرًا على مصر من الأمصار وعنده مال، ماذا كان يفعل؟ أليس كان يحمل حزمة الحطب على ظهره ويقول: طرّقوا للأمير طرّقوا للأمير؟ خذوا طريقًا للأمير، هكذا يتواضع هو يتواضع للناس، يحمل حطبه بنفسه، ما تغيروا، ما تغيروا، فالنفوس الله ممكن يبتلي، أن تكون طالباً بمئات الريالات التي تراها تنفذ معك أو يكون راتبك قليلًا وأولادك كثر والمصاريف كثيرة ابتلاء، ثم قد يوسع الله عليك بوظيفة كبيرة مثلًا ومال وفير، فهل تتغير؟ هل تتكبر؟ أصحابك الأولين الصالحين تتركهم، تتنقل إلى علية القوم، وإلى الناس الأغنياء، وأهل الملأ، وفيهم ما فيهم من المصائب، وتستبدل هؤلاء بهؤلاء، أو ماذا تفعل؟ الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل لما أعطي واحد إبل وواحد واد من غنم وواحد واد من بقر، وعوفوا جميعًا من البلاء الذي كان بهم، الله أراد أن يبتليهم فأرسل ملكًا إلى الأبرص في صورته وهيئته قال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك [رواه البخاري: 3464]، ثم هذه من التوحيد "ثم"، ((أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا من الإبل الكثيرة هذه أتبلغ عليه في سفري، قال: إن الحقوق كثيرة، قال له :كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، قال: إن كنتَ كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع وردّ عليه نفس الشيء وأتى الأعمى يقول: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى، اعترف، أبوء لك بنعمتك، فرد الله علي بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم هذا الشاهد ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك [رواه البخاري: 3464، ومسلم: 2964].
ما هو تأثير الابتلاء في نفس الأعمى؟ صقل الشخصية الذي حصل هنا أن الرجل واحد في السراء وفي الضراء هو يعترف لله بالنعمة مثل ما صبر على المصيبة، يشكر الآن على النعمة في الضراء والسراء في الشدة والرخاء، المؤمن دائمًا في خير، أما الناس الذين يتغيرون إذا تغيرت الوظيفة والراتب وتغيرت المكانة الاجتماعية، وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس: 12].
الابتلاء يربي النفس على الصبر
إن الابتلاء يربي النفس على الصبر، يصقلها لكي تكون نفسًا صابرة، وهذا من أهم الأخلاق التي ترزق بها النفس عند الابتلاء، إن الله جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وجندًا لا يهزم، وحصنًا حصينًا لا يهدم ولا يثلم، فهو والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال، محله من الظفر كمحل الرأس من الجسد، كيف نتعلم الصبر بدون ابتلاء؟ يعني أنت ستصبر وتشعر بمرارة الصبر إذا لم يكن هناك ابتلاء، كيف يكون هذا؟ ولذلك فإن الابتلاء مطية لتعلم الصبر، وأن تكون شخصياتنا متخلقة بهذا الخلق صابرة، حتى تتحمل ما يأتي مما هو أعظم، أنت لا تدري ماذا سيكون في المستقبل، ربما تأتيك أشياء أعظم وأعظم.
ومن فوائد الابتلاء وما يحدثه في النفس تنمية اللجوء إلى الله وحده والافتقار إليه، إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86]، يتعلم الواحد لا يلجأ إلا إلى الله، يترك الناس، الشكوى إلى الناس ماذا ستنفع؟ إذا شكوت إلى ابن آدم فكأنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، شخصياتنا تُربّى على الإيمان بالقضاء والقدر، وعقيدة القضاء والقدر عندما نُبتلى، تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإذا أُصبت بشيء تعزّي نفسك بمصيبة عظيمة جدًا وهي موت النبي ﷺ، إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب ، ثم إن هذه الابتلاءات تحدث في النفس اللجوء إلى الله بالدعاء، شخصية تلجأ إلى الله بالدعاء، هذا الدعاء في الرخاء؛ لكي تستفيد منه في الشدة، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة [رواه أحمد: 2803، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2961]. من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء، يونس لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة: يا رب هذا صوت معروف من بلاد غريبة، ما الذي شفع ليونس؟ قال الله: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، عنده سجِل أبيض ناصح في العبادات، فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144] ،
وهناك صبر فردي، وفيه صبر جماعي، ونحن مطالبون أن نصبر جماعيًا كما أننا مطالبون أن نصبر فرديًا، وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127]، واصبروا، كلكم الآن جماعة أنتم معرضون للاضطهاد، أمة كاملة تتعرض للاضطهاد، يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، يسومهم سوء العذاب، يشغلهم في الأشغال الشاقة، وهكذا يذلهم، الصبر جماعي، الصبر هذا يحتاج إلى عبادة، وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس: 87]، ما يمكن الآن الذهاب للمساجد في ظل اضطهاد فرعون في مرحلة الاستضعاف، فالحل هو العبادة في المنازل، وماذا تفعل؟
إن بعض النفوس، وهذه من الفوائد التي يمكن أن تصقل بها الشخصيات تهتز عند الابتلاء، لكن تتماسك بعد ذلك، قد تزل قليلًا ثم تثبت بعد ذلك، ممكن يحدث للمؤمن اهتزاز ثم يستدرك ما فات ويراجع نفسه، وأحيانًا يكون الفرق بسيطاً لكن عند الله يؤثر، النبيﷺ قال بعدما قتل عبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة: لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة أزورارًا عن سريري صاحبه فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد، ثم مضى [السيرة النبوية لابن كثير: 3/463]. يعني: ثبت وكمل وقاتل، وهو الذي قال: أقسمت يا نفس لتنزلن، لتنزلنّ أو لتكرهنّ، وهكذا مضى إلى الله شهيدًا،
يا نفس إلا تُقتلي تموتي | هذا حمام الموت قد صليتِ |
وما تمنيتِ فقد أعطيت | إن تفعلي فعلهما هديتِ |
وتقدم ونزل، أتاه ابن عم له بعرق من لحم قال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه، وقاتل حتى قُتل، وقد يظهر أحيانًا أن فلانًا تردد عند الابتلاء لكن في الحقيقة ليس كذلك، فمن القصص قصة عبد الله بن حذافة لما أسروه، قال ملك الروم: تنصّر وأشركك في ملكي، أبى فصلب وأمر بأن يرمى بالسهام فلم يجزع فأنزل، أمر بقدر فصب فيها الماء وأغلي عليه وأمر بإلقاء أسير فيها فإذا عظام الأسير تلوح من شدة الغليان، عظام الأسير صارت بيضاء تلوح على سطح الماء الذي يغلي في القدر، فماذا حصل؟ بكى عبد الله بن حذافة، قال الملك: ردوه، فاستبشر الملك قال: لم بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس تلقى هكذا في الله، فعجب فقال: قبّل رأسي وأنا أخلي عنك، قال: "وعن جميع أسارى المسلمين"، قال: نعم، فقبّل رأسه فقال عمر بعدما قدِم عبد الله بالأسرى: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله وبدأ وقبل رأسه.
أيها الإخوة إن الرجل الذي وقف أمام مسيلمة الكذاب كان يقطع قطعة قطعة وهو صابر.
وهنا يقودنا الكلام إلى قضية وهي هل الإنسان إذا وصل إلى مراحل الشدة، هذا الابتلاء، له أن يترخص؟ هل هناك رخص معينة؟ هل الشخصية المسلمة مطلوب منها أن تمضي حتى الموت أو أن هناك رخص؟
الجواب: أن هناك رخص في حال الشدة، عمار بن ياسر عذّبوه حتى قالوا ما يفكونه حتى يسب النبي ﷺ، لما رجع يشكو للنبي ﷺ قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنًا بالإيمان، قال: إن عادوا فعد"، هذا مرسل ورجاله ثقات، والمراسيل تقوّي بعضها بعض، له طرق أخرى كما قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -، لكن لو قال واحد: أيهما أفضل؟ أن الواحد يصبر حتى يموت أو ينطق بكلمة الكفر لينجو؟ قال ابن بطال - رحمه الله -: "أجمعوا على أن من أُكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة، هذا بالنسبة لقول كلمة الكفر، لو ثبت وما قال الذي يريدونه ومات أحسن، لكن لو نطق وقلبه مطمئن بالإيمان لا يضر كما في الآية، قال: "وأما غير الكفر فإن أكره على أكل الخنزير وشرب الخمر مثلًا فالفعل أولى" [فتح الباري لابن حجر: 12/ 317] يعني: إبقاء على نفسه، وأحياناً من ضمن الأشياء: استعمال المعاريض، "إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب" [رواه البيهقي في الأدب: 289، وابن أبي شيبة: 26096، وأوقفه البخاري في الأدب على عمران بن حصين: 339].
خذ مثالًا على هذا في قول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]، قال ابن مسعود صح السند إليه في القصة: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم اخترعوا كتابًا من بين أيديهم وأرجلهم، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم، وقالوا: نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب، فمن آمن به تركناه ومن كفر به قتلناه، فجعل رجل منهم من الصالحين من بني إسرائيل عرف أنه سيقتل إذا قال: أنا لا أؤمن بكتابكم هذا الذي اخترعتموه، فأخذ نسخة من كتاب الله الحقيقي، الإنجيل وجعله في قرن، ثم جعل القرن بين ثندوتيه، أخفاه، فلما قيل له: أتؤمن بهذا ؟ جاءوا وعرضوا الناس، قالوا: أنت تؤمن تنجو، أنت تكفر بكتابنا هذا تُقتل، لما جاءوه قالوا: أتؤمن بهذا؟ قال: آمنت به ويومئ إلى القرن بين ثَندوتيه، ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب، قال: فمن خير مللهم اليوم ملّة صاحب القرن، الغلام في قصة الساحر علّمه الراهب: إذا ضربك أهلك قل: حبسني الساحر، إذا ضربك الساحر قل: حبسني أهلي [رواه مسلم: 3005]. كذلك عندما عرض بعضهم على الفتنة في خلْق القرآن قالوا: تشهد أنه مخلوق؟ قال: أشهد أنه مخلوق ويقصده أصبعه، هناك بعض العلماء استعملوا الاختفاء، لما صار فيه اضطهاد وفتنة اختفوا، فمثلًا في فتنة الحجاج لما وصلت المسألة إلى القتل، توارى الحسن البصري وحتى حمّاد بن سلمة روى عن حميد قال: "قرأتُ القرآن كله على الحسن وهو متوارٍ في بيت" وتوارى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وهرب بعضهم من البلد، وتوارى إبراهيم النخعي مفتي الكوفة، وقال ابن عون: "بشّرت إبراهيم النخعي بموت الحجاج فبكى، قال: وما ظننت أحدًا يبكي من الفرح، مجاهد بن جبر اختفى، أبو عياض عمرو بن الأسود العنسي، الأعمش وسليمان بن مهران توارا، قالوا: "كنا نختبئ في الآجام" [المتوارين: 55]. وهي الأماكن التي فيها أشجار ملتفة كثيفة، سفيان الثوري اختفى، واحد منهم اختفى في حجر سفيان بن عيينة وهو في الحرم، وجعل رأسه في حضنه كالنائم وخبأ نفسه، لا يمنع أن يسلك الإنسان سبيلًا شرعيًا لكي لا يتعرض للفتنة، أو أن يعرض على الأذى، ولا يستطيع الثبات، فلو أنه توارى أصلًا، الدجال الفتنة إذا كان لا يطيق الإنسان أن يثبت أمامها يهرب منها، الناس يفرون من الدجال إلى الجبال كما أخبر النبي ﷺ، من أثر الابتلاء على الشخصيات أن الشخصية ممكن تصل لدرجة أنها تستحلي الابتلاء، أنها تراه حلوًا، قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت، ويبتلي الله بعض القوم بالنعم، ولذلك ترى وتسمع أن بعض السلف مثلًا كانوا يقولون عبارات معناها أنه يستلذ بالابتلاء، أنه من صبره تعود مرارة الصبر حتى صار حلوًا وأنساه أجر المصيبة مرارتها، أجر الصبر أنساه مرارة المصيبة، أجر الصبر أنساه مرارة المصيبة، والابتلاء قلنا إنه قد يكون بتسلُّط الأعداء، وهنا نأتي إلى قضية مهمة وهي أن المسلمين الآن يتعرضون لأنواع من الابتلاءات، وحصلت أشياء كثيرة، في الماضي وفي التتر، ولما استباحوا بغداد، ولما قتلوا مليونين من البشر، والحملات الصليبية، وماذا فعلوا ببيت المقدس، وماذا حصل في الأندلس من أنواع القتل، وفي العصر الحاضر، وفي الشيشان، وفي البوسنة، وفي كوسوفا، وإحراق المسجون بعد صب البنزين عليه، وجعله هدفًا للجنود يتمرنون عليه، وجعله في مكان لا هواء فيه ولا نور، ويجوع حتى يموت، وجعل خوذة معدنية إلى الرأس، وإمرار التيار عليها، وجعل ربط رجليه في آلة، ورأسه في آلة، كل واحدة تتحرك بحركة مخالفة للأخرى حتى يصبح معصورًا، يصب عليه زيت مغلي، يدقون المسمار مسامير الحديد فيه، يسمرون أظافره، يقلعونها، يربطونه، يتركونه مربوطًا أيامًا عديدة، يطرح عاريًا على قطعة من الثلج أيام الشتاء، ينتف شعره كله نتفًا، يمشط بأمشاط الحديد كما أخبر النبي ﷺ، صب المواد الحارقة، جعل الزجاج المطحون في الطعام، ربط الأيدي وتعليقها في السقف، ضربه بعصا فيها مسامير حادة، يجعل في برميل مغلق من الناحيتين، والبرميل هذا قد ضرب حتى يكون له نتوءات إلى الخارج، ضرب من الداخل، ضرب من خارج إلى الداخل حتى يكون فيه نتوءات، ويجعل فيه، ثم يدحرج البرميل من أعلى التل إلى أسفله، وإحداث ثقب في الجسم، تعليقه في الجدار بمسمارين، واحد في الأذن هذه، وواحد في الأذن هذه، طرق التعذيب كثيرة، ومات كثير من المسلمين، والآن يقولون: تسلط الأعداء علينا، واحتشاد الأمم، وجلب الأساطيل، وعمل كل هذه الأشياء، الآن الأمة تتعرض لابتلاء، لماذا؟ وما هي فائدة هذا؟ ما هي فائدة أن تتعرض الأمة لهذا الابتلاء؟ وقد تستعمل فيها أسلحة فتاكة وتُجرّب فيها أسلحة جديدة ويحصل فيها ذُل وقتل وتحصل آلام، وتحصل أوبئة، هذه القضية الآن لو صار أشياء من هذا القبيل سيقول السائل: هل لهذا فائدة؟ هل في أفعال الله تعالى شر محض؟ أبدًا، إن لذلك فوائد، ولابد أن يوجد له فوائد، ومهما حصل من الشدائد على الأمة لابد يكون فيها خير وفوائد، وحصلت أشياء في الماضي، عرف المسلمون أعداءهم، ومن قبل كانوا يظنون فيهم خيرًا، ظهرت حقيقة الديمقراطيات الوهمية، وكان بعض الناس يظنونها هي القدوة وقمة المجتمع المدني ويقولون: إن أردتم التقدُّم فعليكم بالغرب، فإذا بالغرب يُسفر عن وجه بشع قبيح، ثم يحصل هناك تمييز، فيميز الله المؤمن على المنافق، لما ضرب الكفار بعض بلاد المسلمين قريبًا جدًا، زوج مجرم قال لزوجته المسلمة: أصحابي غلبوا أصحابكّ، انظر كيف يفكر الرجل هذا، ويقول الكلمة الشنيعة، ويقول: اذهبوا أنتم كلكم المسلمين، ماذا عندكم؟ هؤلاء أصحاب القوة وكلمات الإعجاب والثناء في ظهور، قضية إظهار النفاق وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، هذه قضية مهمة أن يعرف الأعداء بعد ما يعرف المؤمنون الثابتون، وكذلك النفاق يسفر عن وجهه؛ لأن النفاق هذا مرض متغلغل في المجتمع، فيه ناس كثير كفار، لكن أنت ما تعلم أنهم كفار، إن بيان حال هؤلاء مكسب حتى تعرف من هم أهل الإيمان الحقيقيون، إن هناك طاقات في الأمة ما تظهر إلا عند حصول الابتلاء عليها، لما ابتُلي المسلمون في الحملات الصليبية في بلاد الشام ماذا حصل؟ كيف استيقظت الأمة؟ كيف استطاعت أن تهزم هؤلاء؟ كيف تكونت عصابات من المسلمين بسيطة قليلة العدد تغير على قوافل الصليبيين فتسلب منهم، تأخذ منهم، تقتل منهم، آذوهم حتى ما صار للصليبيين طرق إمداد آمنة، ثم بعد ذلك بدأ المسلمون تكون لهم جيوش صغيرة ويحررون فيها بعض الموانئ وبعض الشواطئ وبعض البلدان الصغيرة، حتى استطاعوا بعد ذلك أن يذهبوا لتحرير البلدان الأكبر والأكبر، وهكذا في أثناء العملية، هذه عملية التحرير كانت تظهر طاقات من المسلمين، هذه النفاطات التي كانت عبارة عن أبراج ترمي بأحجام كبيرة من الزفت المشتعل فيها فكرة رمي المقذوفات، هذه المقذوفات هي ترسم مسارًا هندسيًا يحسب بطريقة حسابية معينة في بعض شباب المسلمين، في عهد صلاح الدين وقبله حصل لهم اختراعات لهذه النفاطات المشتعلة والأبراج، ظهر من المسلمين سباحون مهرة وغطاسون استطاعوا أن يغطسوا بالرسائل من صلاح الدين، وذهب إلى أهل عكا المحاصرين من تحت سفن النصارى، ويخرج إلى ساحل عكا المحاصرة، وجد هناك من المسلمين من احتال في وضع خنزير وعلقوا الصليب في سفينة وأخذوا إمدادات، ساروا بين سفن الصليبيين وأولئك يحسبونهم منهم، حتى نفذوا إلى المحاصرين من المسلمين ومعهم إمدادات، الحرب خدعة، حصلت أشياء كثيرة، ظهرت طاقات، الطاقات هذه والاختراعات لا يمكن أن تظهر في أوقات الرخاء، هذه الاختراعات والمواهب لا تتفجر ولا تظهر إلا في أوقات المحنة والشدة، نحن المسلمين نكون في أوقات الرخاء متفرقين، ممكن بيننا عداوات وسب وشتم، وهذا ضد هذا، وهذا يكيد لهذا، لكن عند الشدة الأمة تتحد، أليس اتحاد الأمة مكسب؟ هذه قضية أخرى كذلك، عند المحن والشدائد تصبح جنسية المسلم عقيدته، الواحد لا يفكر في شرق ولا في غرب، كلنا مسلمون في الشدة، وهكذا نتحد، ويصبح الهدف الآن هو قلع هذا الاحتلال الجاثم، وإزالة هذا العدوان الغاشم، ودحر هؤلاء الذين اعتدوا على بلاد المسلمين.
إذن، فكر، المسألة الآن وجود هجمة على المسلمين، الابتلاء بهجوم على بلاد المسلمين فيه فوائد حتمًا ستحصل في الأمة، ومن تفكّر عرف ولله في خلقه شئون، والمهم أن يكون المسلم على أُهبة الاستعداد لنصر الإسلام وأن يعلم أن طريق الابتلاء هذا ماضٍ وقبلنا أمم وأشخاص قد ابتلاهم الله وعندما يتأمل المسلم ما حصل من أعداء الله لأولياء الله تهون عليه أمور كثيرة، فهذا التسلُّط لو حصل من الأعداء، وحصل ولا شك أشياء منه، فإن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى يعلم المسلم الكلام، هذا كلام لابن القيم - رحمه الله - "أن الله قد أصاب الكفار بأضعاف منه وأنه ليس خاصًا بالمسلمين"؛ لأن بعض المسلمين يقول: كل البلاء علينا، والكفار سالمين، الكفار ليسوا سالمين، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد: 31]، ولو دخلت معهم في معركة وهؤلاء إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ، لكن هناك فرق مهم جدًا أنكم وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104].
كذلك فإن أهل الإيمان إذا ابتلاهم الله بتسلُّط الكفار عليهم فإن الله يستخرج عبودية المسلمين له، ويصبح المسلمون مضطرون إلى الله، مفتقرون إليه، ما عندهم قوة تنصرهم، من يلتفت، المسلمون يمينًا وشمالًا لا يجدون إلا الله، لا يجدون إلا اللجوء إلى الله - سبحانه وتعالى -، هذه فائدة مهمة، ثم شباب المسلمين الذين قلّدوا الغرب وجروا وراء الغرب وأُعجبوا بالغرب عندما يرون الغرب الغاشم الطاغي الظالم ماذا يحدث في نفوس الشباب؟ يا أخي هؤلاء الذين قصوا شعرهم مثلهم، والذين ساروا على منوالهم، وقلدوهم، هؤلاء يشعر الواحد الآن منهم بغَيرة على الإسلام، واحتراق في نفسه، فيقول: أنا أقلد هؤلاء، وهم يقصفون المسلمين، ويضربون المسلمين، فيمكن أن يحدث هناك انتفاضة للشخصية الإسلامية، وعودة لظهورها، وانتماء للإسلام، وتحقيق الولاء للمسلمين، وترك موالاة الكفار، بل معاداة الكفار، بل كره الكفار وهذا مكسب يا جماعة، أن يكون مستقرًا في شباب المسلمين حتى التائهين منهم والبعيدين عن الالتزام بالدين أن يستقر عندهم كره الكافر؛ لأن عندنا إشكال كبير الآن في وجود شباب من المسلمين يحبون الكفار، ويوالون الكفار، ويقلدون الكفار، يتشبهون بالكفار، هؤلاء عودتهم إلى الولاء لله ورسوله وللمؤمنين والبراءة من المشركين عودة ولو تدريجية، هذا مكسب كبير جدًا، ليس في أفعال الله شر محض، نحن نستبشر بفرج الله تعالى ونرى بأنه مهما حصل من المصائب بعدها لابد أن يكون النصر للإسلام وأهله، لكن هذه الأمة لا تستحق النصر بوضعها الحالي، لابد أن يحدث لها تدرج، وأن الله ينقلها من مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة، وأنها تبتلى ثم أنها تضحي، تصبر ثم تضحي، وتبذل ثم تنتصر.
نسأل الله أن يعز دينه وأن يعلي كلمته وأن يفرج عن المسلمين ويكتب الذل والصغار على الكافرين إنه سميع مجيب أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.