الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله القويم.
أيها الإخوة أحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا مجلسًا خيرًا، وأن يجعل ما يقال فيه من مرضاته ، والموضوع الذي سنتحدث عنه إن شاء الله في هذا الليلة، بعنوان: "الحق أحقُّ أن يتبع"، وهذا الموضوع متشعّب وله أطراف كثيرة؛ فمنها ما هو الحق؟ ما هي علاماته؟ لماذا يمتنع الناس عن قبوله وهو حق؟ لماذا لا يعترفون به أحيانًا؟ والله أخبرنا أنه خلق السموات والأرض بالحق، وأنه أنزل القرآن بالحق: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَل [الإسراء: 105].
تقليد القدماء من الآباء والأجداد
سنركز في كلامنا هذا إن شاء الله بالدرجة الأساسية على موضوع الأسباب المانعة من قبول الحق، وندخل في الموضوع مباشرة فنقول: إن من أسباب رفض الحق التي تحمل الشخص أحيانًا على رفض حق، قضية التقليد، تقليد القدماء، تقليد الآباء والأجداد، فيقول الله : وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، يعني: على طريقة{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون [الزخرف: 23].
هذا التصميم على تقليد الأسلاف، تقليد القدماء، تقليد الآباء قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 24]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170]، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170].
إذن، بعض الناس لا يقدِّرون، ولا يميزون، ولا يمحصون، مجرد أن الآباء فعلوا هذا فهم يفعلون مثلهم، وقد يكون الآباء فطرهم منتكسة، قد يكونون على ضلالة، قد يكونون مشركين، قد يكونون لم يستخدموا عقولهم في الوصول إلى الحق، لم يتفكروا، لكن الأمور عند هؤلاء غير مهمة، المهم هو اتباع الآباء.
وعدم الاهتمام بصفات المتبوع من البلايا التي ابتُلي بها الكثيرون في هذه الأيام، المهم هو الشخص، وليس المهم صفات الشخص، هذه من الآفات العظيمة، ما هو رد قوم إبراهيم على نبيهم؟ بماذا ردوا عليه لما جادلهم ؟ ، ما هي الحجة التي أبدوها؟ بماذا أجابوه؟ كان الجواب فقط عندما ناقشهم لماذا تعملون هذا الأمر؟ لماذا تعبدون غير الله؟ لماذا تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني؟ كان جوابهم: وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] ، هذا هو الدليل، هذا هو المستند والمتكأ الذي يتكئون عليه، قالوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِين [الأنبياء: 53]، فمجرد أنهم وجدوا الآباء يعبدون، هذا كافٍ، وهذا مستند في قضية رفض ما أتى به إبراهيم، والإصرار على ما هم عليه من الباطل، وقد يرفض بعضهم الحق؛ لأنه لم يسمع به في الأولين؛ ولأنه قد فوجئ به الآن هو جديد عليه: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص: 36]، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا كيف أنت أتيت بشيء جديد؟ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ، ومن هذا القبيل ما يفعله اليوم بعض كبار السن، إذا رأوا رجلًا حديث السن مثلًا يعمل أمرًا من الأمور، ماذا يقولون له؟ يقولون: أنت أتيت بدين جديد، نحن عشنا سنوات طويلة، ورأينا آباءنا وأجدادنا، ما كانوا يعملون هذا العمل، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، أنت الآن أول مرة نسمعه منك، أنت مخطئ، أنت وأنت، وهكذا يسفهون رأيه، وقد يكون هو عين الصواب، وهو الواضح بالأدلة، ولكن مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 24] ، هذه هي الحجة.
الغلو بالرجال ورفعهم فوق منزلتهم
من أسباب رفض الحق الغلو بالرجال، وعدم إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، أو رفعهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، وقضية الغلو بالرجال من الأمور المنتشرة كثيرًا في هذا العصر حتى بين المستقيمين، وبين كثير من الدعاة إلى الله، وطالب الحق لا يهوله اسم معظم كائنًا من كان، وليس لهول الرجل يتبع ما يقول، لا، هذا هو المفروض أن يكون، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، فالحق هو الذي يبين ويقوم، وليس الناس، الرجال هم الذين يقومون الحق، الحق أصلًا موجود، ولكن الحق دليل على صحة هؤلاء أو خطأ هؤلاء، فهو المعيار، هو الميزان الذي توزن به الأمور، وقد يزداد الأمر سوءًا حتى يصل إلى درجة ما أخبر به الرسول ﷺ في حديث الصحيحين عن حذيفة مرفوعًا: حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان [رواه مسلم: 143] يوصف بهذه الأوصاف، يصل الأمر بالغلو إلى درجة أن يقال عن الرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فانظر إلى الموازين عندما تتهدم وتقع ماذا يقول الناس عن الرجال؟ وهذا المدح الذي يقوله الكثيرون إنما هو من الغلو، ولذلك نهى الرسول ﷺ عن مدح الرجل في وجهه حتى لا يغتر، [رواه البخاري: 2663، ومسلم: 3001، بلفظ: "أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل"] ومع ذلك فإن ديدن الكثيرين هو إطلاق ألقاب المدح جزافًا على شخصيات ليس في قلبها من الإيمان حبة خردل، إطلاق الأوصاف هكذا، التعظيم حتى لو كان للصالحين، وتعظيم الصالحين من الآفات الكبيرة، واكتشاف الأمر أصعب لأن عندهم أشياء قد يخدع بها الكثيرون، صلاة، عبادة، زهد، تقوى ظاهرة، فإذن، هذا الأمر يوصل إلى التعظيم وادعاء العصمة لهم، ورفعهم فوق مستوى البشرية، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31]، ولذلك يصل الأمر ببعض الغلاة من أصحاب الطرق أنه يسجد لشيخه، وربما يحلق رأسه للشيخ، تقربًا للشيخ، تعظيمًا للشيخ، الحجاج يحلقون رءوسهم تعظيمًا لله، ويزيلون هذا الشعر بالموسى تعظيمًا لله، هؤلاء يعظمون المشايخ مشايخ الطرق بأن يحلقوا رءوسهم من أجلهم، فتقول لهذا الرجل: إن الحديث الذي تقوله ضعيف، يقول: لقد رواه الشيخ، تقول له: إن هذا الرأي الذي تقول به مخالف للدليل خطأ، يقول: إن الشيخ قد قال به، فإذن، هذا التعظيم الموجود للشخصيات سبب كبير من أسباب الانحراف.
منهج السلف في مدح وذم الرجال
السلف - رحمهم الله - خطوا لنا منهجًا في هذا الأمر، وابن عباس لما أخبر عن مسألة، فقال: قال رسول الله ﷺ، فقالوا: له إن أبا بكر يقول كذا، وعمر يقول كذا، قال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وكثير من المعظّمين اليوم والمتبّعين، بل كلهم لا يمكن أن يقارَنوا بأبي بكر وعمر، ومع ذلك يحتج بأقوالهم على الدليل، وتقدم أقوالهم على الحق من القرآن والسنة، لا أقصد تقديم الفهم؛ فهم فلان على فهم فلان آخر للدليل، هذه قضية فقهية، قضية تتعلق بالفقه، لكن رجل ليس مستند كلامه إلى أي دليل، يُقدّم رأيه على الدليل الموجود الصحيح الصريح، هذا ضلال عظيم أن يصل الأمر إلى هذا المستوى، ولذلك سُئل الإمام أحمد مرة، هذا مثال لا أعنيه لذاته لما يتضمنه، لا، وإنما أعنيه لما فيه من الدرس العام الذي يؤخذ منه، سئل الإمام أحمد عن كتابة الرأي، قال: لا أراه، لم ير ذلك، فقيل له: إن ابن المبارك قد كتبه، فقال الإمام أحمد: "ابن المبارك لم ينزل من السماء"، وابن المبارك هو من هو في جلالة قدره، وعلو كعبه في العلم، وزهده وعبادته وتقواه لله - عز وجل -، ومع ذلك الإمام أحمد يقول: "ابن المبارك لم ينزل من السماء"، وقال المروذي للإمام أحمد - رحمه الله -: ما تقول في النكاح؟ فقال: "سنة النبي ﷺ" فقال له المروذي: فقد قال إبراهيم كذا كذا، قال: فصاح بي، وقال: "جئتنا ببُنيات الطريق" [صيد الخاطر ص 42]. ولذلك لما استقر عند السلف هذا الأمر، ما هالهم عظمة فلان، وعبادة فلان، وزهد فلان، وورع فلان، إذا كان الذي أتى به فلان هذا مخالف للحق، انتهت العملية، زهده لنفسه وورعه لنفسه وتقواه لنفسه، لكن نحن عندما نتبع، نتبع بالدليل بالبينة، ولذلك قيل للإمام أحمد: إن سريًا السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقفت الألف وسجدت الباء، وقفت الألف وسجدت الباء، فقال: "نفّروا الناس عنه" [صيد الخاطر ص 42]، لا يهمه سري السقطي من هو، ما هي العبادة الزهد الورع، ما هو مقيم عليه، له شأنه الخاص به، نحن لنا علمه ماذا يقول، نزنه بالحق بالميزان، قامت الألف وسجدت الباء كلام يعقل، نفروا الناس عنه، ما هاله أمر الرجل، لكن الكلام الذي قاله الإمام أحمد صحيح وهذا هراء، صحيح جاء من ناقد بصير هذا هراء، ليس بأن يأتي أي واحد يقول: نفّروا الناس عن فلان، لا، لابد أن يأتي بالبينة والدليل، لماذا ننفر الناس عن فلان؟ أما نفّروا الناس عن فلان لهوى، لخلاف شخصي، لأطماع معينة، نفّروا الناس عن فلان، هذه قضية خطيرة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مجاوزة للحد من أحد الجانبين، والحق دائمًا وسط بين طرفين، وطريق بين باطلين في كثير من الأمور، وقد وقر في نفوس كثير من الناس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه الجاهل بالشرع قبله، لماذا؟ لتعظيم القائل في نفسه، يقول أحد أهل العلم: واسمع مني بلا محاباة، لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال فلان وقال فلان، فإن من احتج بالرسول ﷺ وأصحابه - رضوان الله عليهم - أقوى حُجّة، على أن لأفعال أولئك وجوهًا نحملها عليها بحسن الظن، لكن لا يعني أن هؤلاء المخطئين على جلالة قدرهم لا يعني أننا نكرههم وننبذهم ونشتمهم ونسبهم؛ لأنهم قالوا خلاف الحق، لا، نلتمس لهم حسن الظن نقول: لعل الشيخ الفلاني أو الإمام الفلاني ما اطلع على الدليل، لعله لم يطلع على وجه تضعيف الحديث، لعله توهم بطريقة الاستدلال أمرًا معينًا، وهذه أشياء يبينها أهل العلم، ما هو يجي واحد جاهل يقول: والله لعل الإمام أحمد ما عرف، لعل أبا حنيفة ما فهم، لا، هذا الكلام يتبين بمناقشة أهل العلم لبعضهم، يتبين في بيانات بعضهم، والله أخذ عليهم العهد: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] المشكلة كانت في عهد العلماء السالفين من الأمة كانت في اتباع وتعظيم أناس من المذاهب الضالة؛ سواء كانوا جهمية أو معتزلة أو مرجئة أو طرقية صوفية من أصحاب الوحدة أو الحلول والاتحاد، وحدة الوجود واتحاد الخالق والمخلوق، كانت المشكلة عندهم في زعماء الضلال، الآن تغيرت كثير من الأسماء، وصارت المشكلة في شخصيات جديدة نشأت في هذا العصر وأصبحت أصنامًا تعبد وتقدس من دون الله، الفكرة نفسها موجودة في السابق، لكن الآن الشخصيات تغيرت، بعض المذاهب نشأت حديثًا، أشياء هدامة برزت إلى الوجود، برزت على السطح، شوهدت في الساحة، أصبح لها دعاة وأناس يتبنونها وينشرونها ويسهرون ليلًا ونهارًا لإذكاء نار فتنتها، فيجب إذن على أهل الوعي من المسلمين الوقوف أمام هؤلاء والبيان للناس، ما هو الميزان؟ كيف نقوم الأشخاص؟ ومن المؤسف أن تجد أقوامًا يسخرون من جمود قوم نوح وهم عاكفون على أقوال كبرائهم وفتاوي عظمائهم، لا يرون جواز الخروج عنها، يقول أخرج عن رأي فلان، من أنا؟ ومن فلان؟ فلان له كذا وكذا من المآثر، أنا أفهم أكثر منه، لو أتيته بالدليل وبكلام أهل العلم الآخرين، لا، ما يمكن يغير، ومن البلاء أن يؤتي الله الإنسان سمعًا وبصرًا وفؤادًا، ثم يفكر بعقل غيره ولا يبصر إلا ما رآه غيره ولا يسمع إلا ما قاله غيره، ولا يؤمن إلا بما تكلم به غيره، إذن، ما فائدة السمع والبصر والفؤاد؟
الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل
ومن الأشياء التي تصد عن الحق الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34]، فمنهم إذن عالم فاسق فاجر أو عابد جاهل يتبعهم بعض أفراد الأمة فيضلون، ويهدم الدين زلة العالم فيتابع عليها.
الإلف والعادة التي نشأ عليها الشخص
ومن الأمور التي تصد عن الحق وتمنع الأخذ به الإلف والعادة التي نشأ عليها الشخص وتربى، كيف يغير الإنسان رأيه وقد سار عليه فترة طويلة؟ كيف يغير قناعته وقد تكونت لديه عبر سنوات مديدة؟ كيف يخالف الشيء الذي تعود عليه وألفه وأحبه واستمرأه، كيف يخالف الآن؟ المخالفة صعبة؛ لأن فيها تغيير للمألوف، والنفس تحب الشيء المألوف الذي اعتادته، ولذلك تغييره صعب، هذه نقطة أهل الحق يعانون منها، وأهل الباطل يعانون منها في بعض المجتمعات، أهل الباطل يريدون تغيير العادات عادات الناس الطيبة وقيمهم الحميدة التي يقرها الشرع، يريدون تغيير العملية والثورة على الواقع، نسأل الله أن يُفشل مخططاتهم، أما أهل الحق يعانون من هذه النقطة إذا كان الذي عليه الناس ومتمسكون به وقد ألفوه واعتادوه مخالفًا للحق، لكن شتان بين معاناة هؤلاء ومعاناة أولئك، بعض الناس تناقشهم في أمر من الأمور، تناقشهم في أمر من الأمور فيصر على ما هو عليه تبين له بالأدلة ويصر على ما هو عليه؛ لأنه شيء قد ألِفه، وأحيانًا يكون شيء مخالف للعقل السليم، ومع أن هذا الرجل يحمل شهادات عليا ولكنه غير مستعد لأن يخالف، بل إنه يبحث عن وسائل واهية جدًا في الإقناع والرد، أذكر أن واحدًا من هؤلاء كان يتكلم عن طرق الذكر الجماعي، الطرق البدعية في الذكر، فكان يقول: يا أخي انظر ما أعظم هذه الرياضة الروحية العظيمة، الله أكبر، سبحان الله، الله حي، تطلع وتنزل، يقول: بدل أن تذهب تلعب كورة وتضيع وقتك في اللعب، هذا شيء يقوي البدن، يقوي العضلات، يقوي الأعصاب وفيه ذكر، انظر إلى عظمة الدين.
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تن تنا تن تنا
قاله ابن القيم - رحمه الله - في معرض الرد على أولئك الناس المبتدعة في أذكارهم وطرقهم.
الكبر
أحيانًا يرفض الحق للكبر، يكون عند الإنسان كبر فيرفض الحق، وينحرف عن الحق، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146]، ولذلك مهما ناقشته في الأمور، ومهما جادلته، ومهما بينت له بالحسنى الحق بالأدلة لا يمكن أن يقتنع، بعض الناس تستغرب منهم يقول: يا أخي انظر إليه إنه مثل الشمس في رابعة النهار، كيف يا أخي ما تقبل هذا الكلام، لا يمكن أن أقبل به، لماذا؟ بعض الناس عندهم كبر، متكبرون، والكبر آفة عظيمة، ولذلك صاحبه محروم من دخول الجنة لما يورثه الكبر في نفسه من الابتعاد عن الحق الذي يدخل صاحبه الجنة، وحفل التاريخ بأمثلة من كبار أوقعهم الكبر في مهاوٍ ليست سهلة، مع أن الواحد أحيانًا والله العظيم يستغرب كيف وقع هؤلاء، أنت إذا تأملت الآن مؤلّف كتاب: "الصراع بين الإسلام والوثنية" تجد فيه من نصرة العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة أشياء مذهلة، وقد تجد فيه وجوهًا للرد مثل كلامه في آية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء: 64]، الذي استدل بها بعض المبتدعة على إتيان الرسول ﷺ في قبره بعد موته وطلب الاستغفار منه، تجد وجوهًا في الرد ممتازة ومحكمة، ربما لا تجدها لمن هو أكبر منه وأعلى باعًا، ألهمه الله إياها فكتبها، دافع دفاعًا، ودافع عن أئمة الدعوة، والبروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية، وغيرها من الكتب الجيدة، تستغرب فعلًا كيف هذا الرجل ينحرف ويصبح ملحداً ويؤلف محاكمة الكون لله والكتب التي فيها الانحراف؟ والرجل ينحرف تمامًا عن الحق، كيف ينزل الواحد من هذه المرتبة؛ مرتبة العلم القوي الصحيح؟ ليس صاحب بدعة نقول: والله بدعته انحرفت به، ولا هو صاحب شبهة نقول شبهته، كل شيء واضح عنده، يدافع عن الحق يفري فريًا، لكن النهاية غريبة، ما هو السبب؟ كل الأمور متوفرة لديه، الأدلة والبراهين واضحة، طريقة الرجل مستقيمة، وعقيدته صحيحة، منهجه طيب، لكن المسألة: الكبر الذي في نفسه.
ولو أن ما عندي من العلم والفضل | يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل |
الرجل وصلت به المسألة إلى هذه الدرجة، قال: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزّع على الناس كان لا داعي لإرسال الرسل، يكفي، ويقول: حُقّ لي أن أتكبر لما عندي من الإمكانيات وعندي من الطاقات، وشيء يبرر للتكبر، ولذلك وقع سقط سقوطًا مريعًا، والحمد لله، قيّض الله من يرد عليه مثل الشيخ عبد الله بن يابس - رحمه الله- في "الرد القويم" والشيخ ابن سعدي ومحمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ صالح السويح، وغيرهم من أهل العلم، بينوا عوار الرجل، كشفوا أباطيله، لكن تأمل درساً في عدم الاغترار، ودرساً في أن الكبر قضية تحطم الواحد تحطيمًا شاملًا، ونسأل الله الثبات، الواحد ما يدري، الواحد يجد نفسه صاحب العقيدة السليمة، وصاحب سنة، ويتبع الدليل، وكل شيء، وفجأة يقع؛ لمثل هذه الأسباب الكبر.
العصبية للباطل
أحيانًا يرفض الحق للعصبية ، يوضح هذا الرواية الآتية: عن المسور بن مخرمة وهو ابن أخت أبي جهل أنه قال لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يا ابن أختي والله لقد كان محمد ﷺ فينا وهو شاب يُدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبًا قط، قال: يا خالي فما لكم لا تتبعونه ما دام أنه يقول الحق، وما جربتم عليه كذبًا، فلماذا لا تتبعونه؟ قال: يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي، فمتى ندرك هذه؟ ما نقدر نجيب مثلهم، كيف بنو هاشم يتفوقوا علينا؟ لا يمكن فنبذوا.
الخوف على الجاه وخشية الملأ على نفوذهم
من أسباب النبذ في أسباب أخرى الخوف على الجاه وخشية الملأ على نفوذهم وتقليص امتيازاتهم، لكن هذا من الأسباب، وهذا الحديث ثبت مثله عن المغيرة بن شعبة، من الأشياء التي تفرق أو التي تمنع تصد عن الحق الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقًا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ﷺ، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به" [مدارج السالكين: 3/186].
ومن صفات هؤلاء الغرباء: ترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وأكثر الناس لائم لهم فعلًا أنت الآن لو قلت للناس: أنا لا أنتسب إلى أحد غير الله ورسوله، أنا أسير على طريقة السلف، وأنا من أهل السنة والجماعة، أعتقد اعتقادهم وأسير على طريقهم في جميع الأبواب؛ في العقيدة، في السلوك، في الأخلاق، في السنة، في الاستدلال، وجه الاستدلال، طريقة الاستدلال، أنا على أبواب أهل السنة والجماعة، هذه طريقتي، لا أنتسب لأحد، كل المنتسبين يلومونك أنت مع أنهم متفرقون في انتساباتهم، كلهم يلومونك، يجتمعون عليك أنت ويعتبرونك عدوًا لدودًا لهم، ثم لو أن إنسانًا سأل قال: ما علاقة هذه المسألة بالصد عن الحق؟ كيف أن الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله يصدُّ عن الحق؟ فأقول لك: يا أخي القضية واضحة، فإن من انتسب إلى طائفة من الطوائف أو حزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات، فإنه يوالي لها ويعادي عليها، يعادي من أجلها ويوالي من أجلها، ويحيطها بهالة من التقديس، - انتبه معي - ويحيطها بهالة من التقديس تمنعه من تقبُّل الحق لو كان مخالفًا لما عليه هذه الطائفة، بل إنه يدافع عنها بالحق وبالباطل؛ لأن قلبه قد أُشرب في حبها، ولذلك هو غير مستعد أن تنتقد طائفته، وهذا يؤدي إلى العصبية، ويؤدي إلى تفرق المسلمين، لو الآن المسلمون كلهم مشوا على طريقة أهل السنة والجماعة، على طريقة السلف، على طريقة الرسولﷺ، الأشياء التي فيها الاختلافات واردة، يعذر بعضهم بعضًا فيها، أما الأشياء التي في الأصول والأشياء التي لا يمكن الاختلاف عليها، مسألتها منتهية لاجتمعوا كلهم، ولا نعني بهذا الكلام نسف مسألة التعاون على البر والتقوى، ونسف قضية التعاون على الدعوة إلى الله، ونسف قضية روح الجماعية في الدين، لا، هذه موجودة، ولابد من وجودها وإيجادها، ولكن التفرقات والتعصبات للانتسابات هي التي تهلك.
حصر الحق في طائفة معينة
ومن الأسباب التي تصد عن الحق كذلك: حصر الحق في طائفة معينة، يعتقد أن ما هي عليه حق وما عليه غيرها فهو باطل، هذا نتيجة الشيء الذي قبله، وتدّعي كل فرقة أنها هي الناجية وأنها هي الطائفة المنصورة وأنها هي الطائفة الصحيحة والمنهج الصحيح وما سواها باطل، سواها قد يكون من المسلمين، ليس مهمًا، قد يكون منهجهم صحيح ليس مهمًا، وهذه الادعاءات كثير منها كاذب، كل يدعي وصلًا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك، وحتى أن من الأشياء الطريفة أن إحدى فرق القاديانية سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، وهذه المسألة قديمة؛ ادعاء الحق لهذه الطائفة، والناس الآخرون على باطل، كلهم مسلمون يهود نصارى، كلهم على باطل، قديمة جدًا وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ النصارى على الباطل وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة: 113] وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ مجرد أماني قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111].
التشكيك في المنهج الحق
أحيانًا يقول الذي يرفض الحق: لو كان هذا حقًا لكنت أنا أو طائفتي أولى به من غيرنا، يقول: لو أنه حق لكانت طائفتي أولى به من غيرها، وأنها ما دامت ليست عليه فإن معناه أنه ليس بحق، ما داموا ليسوا عليه، معنى ذلك أنه ليس بحق وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] انظر الآن الحجة وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لو أن الذي أنتم تدعون إليه خيرًا ما سبقتمونا إليه لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] لو كان هذا قرآناً صحيحاً كان نزل على واحد يستحق، فلان الفلاني، وهذا المنطق مشهور ومنتشر متشعّب في نفوس الكثيرين، فمتعصبة المذاهب مثلًا يقولون - انظر أثر المسألة هذه في رد الحق - متعصبة المذاهب يقولون: لو كان حقًا لقال به إمامي، وأنتم تعرفون طائفة من الأقوال في المتعصبين أشياء عجيبة، ومتعصبة بعض الطوائف يقولون: لو كان حقًا لرآه قائدي أو قدوتي، ما دام أنه ما رآه فإذن هو ليس بحق؛ لأنه لو كان حقًا لكان هو أولى به، لكانت طائفتي أولى به وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11]
الحسد
أحيانًا من أسباب رفض الحق الحسد، يرى أنك على حق فيحسدك، ولا يعمل بما أنت عليه، ولا بما أنت مقيم عليه، فيرفض حسدًا، القضية قديمة، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109].
فإذن، يريد اليهود والنصارى أن يصدونا عما نحن عليه من الحق وهم يعلمون أنه حق: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ .
وهناك حادثة وقعت رواها ابن إسحاق مع ما فيها من جهالة عين أحد الرواة، لكن هي تصور واقع فقط، ما فيها أحكام، ونحن نسوقها للفائدة، قال ابن إسحاق: "وحدّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حُيي بن أخطب أنها قالت،- صفية بنت حيي المرأة اليهودية التي أسلمت وتزوجها الرسول ﷺ وهي أمنا، أسلمت صارت أم المؤمنين، الإسلام يجب ما قبله، ولا اعتبار لأي انتسابات أخرى انتهت القضية، هي أمنا نعترف بهذا ونقر به ونحبها ونوقّرها توقير آل بيت الرسول ﷺ من أزواج الرسول ﷺ صفية بنت حُيي تقول: "كنت أحبَّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه"، تقول صفية وهي صغيرة: كان أبي وعمي يحباني حبًا جمًا، لو جاء أي ولد واحد فيهم، ترك الولد وجاء وأخذني، قالت: "فلما قدم النبي ﷺ المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حًيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلّسين - يعني من أول النهار حتى يعلما علم هذا الرجل - اليهود عندهم هيمنة في المدينة، أي واحد جديد قادم يريدون أن يعرفوا ماذا يريد، هل يريد أن يسحب البساط من تحت أرجلهم ويسلبهم هذا الشيء الذي حظوا به وعملوا له ويخططون له؟ يريدون أن يعرفوا من هو هذا القادم؟ فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، قالت: فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، قالت فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، والله ما التفت إلي واحد منهما" مع الحب الشديد ما واحد منهم التفت في غاية التعب والإنهاك والفتور الجسدي، قالت" "وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب يقول له: أهو هو؟ يقصد الرسول ﷺ، يقول: أهو هو؟ يعني الذي نعلمه نحن في التوراة مكتوب أنه سيرسل، قال: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت، انظر الآن هو يعترف تمامًا أن هذا هو الرسول ﷺ الذي صفته مكتوبة في التوراة، أهو هو؟ قال: نعم، لكن النتيجة: عداوته والله ما بقيت"، [سيرة ابن اسحاق] حسدًا، كانوا يتوقعون أن يظهر النبي منهم فإذا هو من أناس آخرين حسدًا.
العداوة الشخصية
بعض الناس يرفضون الحق؛ لأنه أتى من فلان الفلاني الذي بينهم وبينه عداوة شخصية، فلأن بينه وبينهم عداوة شخصية فهم لا يقبلون منه ما يقول حتى لو كان حقًا، لو واحد آخر قال به قبلوه، أنت خذ الشخص، دع الفكرة كما هي، خذ الشخص وهات شخصًا آخر يقبلونه مباشرة، رفضوه لأنه من فلان الفلاني، وفلان الفلاني بيننا وبينه مشاكل واختلافات شخصية وصراعات فلا نقبل ما يقول، وهذه بلية كبيرة، معناها صارت القضية الآن ليست اتباع الحق، صارت القضية من الذي يقول به، لو قال به فلان الذي نرتاح إليه ونحبه أخذنا بكلامه، لو قال به فلان الذي نخالفه ونكرهه ما نأخذ منه، يا أخي الرسول ﷺ قبل الحق من الشيطان، لما جاء الحق من الشيطان أقره ولا نفاه؟ ما هو الدليل؟ الحديث الذي في الصحيحين، عن أبي هريرة في الشيطان الذي كان بصورة آدمي يأتي ويسرق من الحب المجمّع وأبو هريرة حارس، فأبو هريرة أمسك الرجل في اليوم الأول والثاني والثالث وهو يعتذر إليه باعتذارات، ثم في الرواية يقول: "فقلت: يا رسول الله زعم أنه يعلّمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح، فقال النبي ﷺ: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث ليال؟
قلت: لا، قال: ذاك شيطان [رواه البخاري: 2311]. هل لأنه شيطان قال الرسول ﷺ لا ما هو صحيح آية الكرسي ما تنفع قبل النوم الشيطان الذي قالها الشيطان؟ ما قال هذا، ما دام أنه حق "صدقك" الذي قاله: صحيح نعم صحيح "وهو كذوب" وهو شيطان، لكن الذي قاله صحيح، فأقرّه مع أنه أتى من الشيطان، الآن أشياء كثيرة من الحق تأتي من أناس ليسوا شياطين ولكنه يُرفض لعداوة شخصية، اختلافات شخصية، أشياء في الرأي، يُرفض الكلام؛ لأنه أتى من فلان.
اعتناق الرافضين للحق أفكارًا ضد الحق
ومن أسباب رفض الحق اعتناق الرافضين له أفكارًا ضد الحق مثل الأفكار الإلحادية، العقلانية، الوجودية، العلمانية، اعتناق هذه الأفكار بطبيعة الحال أنه يصد عن الحق، والمعتنقون لهذه الأفكار يرفضون الحق، في جاهلية الأمس كان الولاء للآباء والأجداد، في جاهلية اليوم صار الولاء لأصحاب المذاهب الفكرية الملاحدة والشخصيات المسلطة عليها الأضواء ذات الأفكار المنحرفة، صار الولاء لهم، وعامة مثقفي المسلمين ممن درسوا في بلاد الكفار، كثير منهم تبنوا أفكارًا ضد الحق، فرجعوا إلى بلادهم سمًا زعافًا يحاربون الله ورسوله.
وبعض المواقف أنت تستغرب كيف يقف هؤلاء الناس هذا الموقف؟ وكيف يعارضون الحق بجلاء ووضوح؟ اذكر مرة مثالاً: استُغلت مناسبة من المناسبات في موعظة للنساء من وراء حجاب، قبل الوليمة؛ وليمة أو مناسبة حصلت الموعظة، بعد الطعام قمت لأغسل يدي فأخبرني واحد من الجالسين، لما قمت قال: واحد من الحاضرين لشخص من الأشخاص قال له: الحق فالشيخ سيكلّم النساء عن الحجاب، قال لي: فقام ذلك الشخص مفزوعًا يجري وراءك، فلما رآك في المغاسل تغسل ارتاح ورجع إلى مكانه، ولكن المحذور وقع؛ لأن المسألة كانت متأخرة، ما أُخبر إلا بعد، - انظر يا جماعة - فالواحد يستغرب جدًا من أجل الحجاب يقوم يركض لئلا تسمع زوجته عن الحجاب ويجري فزعًا قبل ما أتكلم عن الحجاب قبل أن تخبر تسمع المرأة الكلام في الحجاب، انظر إلى العداء الذي تولده تلك الأفكار المغروسة في كثير من هؤلاء المثقفين.
أن يعتقد الشخص أن الحق يحول بينه وبين جاهه وعزه
ومن الأشياء التي تصد عن الحق أن يعتقد الشخص أن الحق يحول بينه وبين جاهه وعزه فيرفض الحق لأجل هذا، ومثل فقدان المنصب أو فقدان الرئاسة كما وقع في حديث البخاري في كتاب بدء الوحي في حديث طويل منه نقتطف هذا المقطع: "فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة"، وصل خطاب الرسول ﷺ وتباحث مع صاحب له يوازيه في العلم حتى تأكد أن هذا هو الرسول ﷺ، هرقل ملك الروم اقتنع أن هذا هو الرسول ﷺ، الآن يحاول إقناع قومه، المسألة أثرت في نفسه، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة القصر الذي حوله، بيوت في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ "فحاصوا حيصة حمر الوحش لشدة نفرتهم إلى الأبواب فوجدوها قد غُلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان - سواء إيمانه هو أو إيمانهم هم – قال: ردوهم علي، هو الآن حاول فيهم، لما رأى أنهم قد نفروا وأنهم سينقلبون عليه الآن، وينتهي الملك ببساطة وقد يقتلوه، قال: ردوهم علي، وقال لهم الأسلوب الخبيث، "إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت" يعني: ثباتكم على دينكم فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل، الحديث في البخاري.
فانظر هذا الرجل، اقتنع وأخذ الحق، حاول أن يقنع به الناس، لما انقلبوا عليه خشي على ملكه، قال: لا، أنا كنت أريد أن اختبر شدتكم، يقول الحمد لله أني رأيت ما يسرني، وسجدوا له.
من الأمثلة كذلك في فقد الملك لما يحدث فيسبب لصاحبه الذي فقده عداوة للحق ما بقي من حياته: في صحيح مسلم في حديث عبد الله بن أبي قال أُبي لرسول الله ﷺ لما جاء يدعوه قال: لا تغبروا علينا، ثم قال: إن كان ما تقول حقًا فلا تؤذنا في مجالسنا وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، ثم قال لسعد بن عبادة: أي سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله، واصفح فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة - يعني المدينة - أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، يجعلوه ملكًا عليهم، فلما ردّ الله ذلك بالحق المبين الذي أعطاكه شرق بذلك، غصّ هذا الرجل، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي ﷺ" [رواه البخاري: 6254 ، ومسلم: 1798].
الذي حمل عبد الله بن أبي على كل المواقف التي تعرفونها من الدعوة والعداوة؛ لأنه كان سيصبح ملكاً، فجاء الرسول ﷺ، انتزعت منه القضية، فانقلب منافقاً رأسًا للنفاق، وكذلك بعض الناس يرفضون الحق؛ لأنه يجردهم من مزايا مادية أو من أموال لهم، بعض التجار أموالهم أموال ربا، يرفض الحق في المسألة هذه، لأنه سيرى بأن أمواله ستذهب، وأن كثيرًا من امتيازاته المادية ستذهب؛ لأنها حرام في حرام، فلذلك هو يرفض الحق.
بعض الناس يقبلون الحق إذا كان في مصلحتهم، إذا كان في غير مصلحتهم لا يقبلونه مثل المنافقين، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور: 49]، إذا ما كان لهم الحق رفضوه.
الجهل بالحق
من أسباب رفض الحق الجهل به، ومن جهل شيئًا عاداه وعادى أهله، والناس أعداء ما جهلوا، وهذا يبين مسئولية الدعاة إلى الله في التبيين للناس، إذا كان جهل الناس بالحق سببًا لعداء الحق، نحن الدعاة إلى الله علينا مسئولية التبيين، حتى إذا عرف الناس الحق ما يعادوه، أو على الأقل هذا السبب الذي يجلب العداوة يزول، كثير من الناس كانوا يجهلون الاستقامة والتديُّن وهذه الأشياء وينكرون على أولادهم في بيوتهم، لما تبينت لهم الأمور، تبين لهم الحق، وتبين لهم الحياة الإسلامية الصحيحة كيف ينبغي أن تكون، توقفت العداوة، بل يقول بعض الآباء لأبنائهم: والله يا ولدي أنا استحي منك الآن إني عاديتك في البداية، وأنا الآن أتعلم منك؛ لأنه عرف الآن ما هو الصحيح، قد يرد الحق لكونه غريبًا فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود: 116]، كانوا غرباء، الآن بعض الناس تناقشه في مسألة يقول كلامًا غريبًا، أول مرة أسمعه، يرفضه؛ لأنه أول مرة تسمعه فإذن هو خطأ؛ لأنك أول مرة تسمعه، ليس صحيحًا، أنت أحطت بالعلم فالآن أول مرة تسمعه فلذلك أنت ترفض.
الحق ثقيل وله تبعات ويخالف هوى النفس
من أسباب رفض الحق أن الحق ثقيل وله تبعات ويخالف هوى النفس، والنفس تحب الدعة والكسل والراحة والتخفف من التكاليف، ولذلك بعض الناس لا يستقيمون، ويمكن يستقيم فترة ثم ينتكس، ما هو السبب؟ ما تتحمل نفسه هذه التبعات، هو يريد اللهو واللعب، عندما يحس بوطأة التكاليف يقول: أعذروني، أنا ما أستطيع أن أواصل في الطريق، ما أتحمل ما أسمع كذا، ولا أرى كذا، وفوق هذا تريدني أن أفعل كذا، وأقوم بالواجبات، يا أخي هذا شيء ثقيل عليّ، ما أستطيع، يرفض، ولكن الذي يلوح له فجر الأجر يهون عليه طول ليل الجاهلية التي إذا قام بالتكاليف شعر بوطأتها، ومن الأسباب كذلك نوع التربية التي يتلقاها الإنسان، فلو رباه أبوه على أن كل ما يسمعه من الأب فهو الحق وغيره باطل، ولو سمعه من أي إنسان ترى الولد يقول: والله هذا الكلام صحيح؛ لأن الذي قاله هو أبوه، وغيره لا؛ لأن الأب ربى ولده أن الذي يخرج من فم الأب هو الحق وغيره خطأ، لو تربى الولد في المدرسة أن كل ما يقوله المدرس هو الصواب وما سواه خطأ ينشأ على هذا ويتعصب للمدرس، لو تربى إنسان في وسط حتى لو كان ظاهره إسلاميًا، ونشأ على أن كل ما هو في هذا الوسط صحيح، وكل ما يقوله أفراد الوسط صحيح وما سواه باطل انتهينا، غرس ذلك في نفسه، فإذًا التربية المبدأ على ماذا يربى الشخص على اتباع الأشخاص أو على اتباع الحق؟ هو الذي يحدد النهاية كيف تكون؟ ويحدد مواقف الشخص هذا من الحق إذا عرض عليه كيف تكون؟
تحكيم العواطف
من الأشياء أيضًا التي تصد أن بعض الناس يحكّمون عواطفهم وليس عقولهم، أقصد بعقولهم المبنية على موازين الشرع، بعض الناس يفكرون بالعاطفة، قد يرى رجلًا يبكي وتدمع عيناه ومتأثر وهو يعرض عليه يقول له: يا أخي صدقني أقسم بالله أنه كذا، فيتأثر عاطفيًا يقول: والله ما دام أنه بكى أكيد أنه محق، يا أخي بكى، وإذا بكى؛ لأنه بكى صار الحق، وبعض الناس يبكون عن جهل، يدعو إلى باطل، إلى بدعة، ويبكي، مسكين، بعض الناس يبكون دموع التماسيح ويتظاهرون أمام العالم أن ما يدعونهم إليه حق، ويبكون ويتأثرون تأثر نفاقي حتى يتأثر الناس بهم فيتبعونهم، والذي يحكّم العواطف، ولا يحكم ميزان الشرع سينتهي؛ عندما يرى هذا التأثر وهذا ما يقوله فلان صار صحيحًا، أو مثلًا يقال: يا أخي، هذا فلان ابتُلي في الله، وعُذّب في ذات الله وكذا، فإذن، هذا صحيح كلامه؛ لأنه رجل ابتُلي في الله، ومن قال إن الابتلاء في الله والتعذيب في ذات الله هو مؤهّل لأن يقول صاحبه الحق، ليس دائمًا، لا يشترط، يمكن واحد يُعذّب في ذات الله لكن تطلع منه أخطاء، هل لأنه ابتُلي في ذات الله صار كلامه صحيحاً مائة بالمائة؟ فمثل هذه الأشياء العاطفية التي تحمل بعض الناس على الاقتناع، هي في الحقيقة ليست على أساس صحيح، بعض الناس يترك الحق أو لا يقول الحق؛ يقول: لو أني الآن بينت الحق، هو كان يقول بشيء ثم تبين له أنه خطأ وأنه حق، وكان قد علم الناس هذا الشيء ودعاهم إليه في شتى المجالس وقال به، الآن التراجع صعب جدًا؛ لأن الناس سيقولون: معناها أنك أنت جاهل سطحي، كنت عشرين سنة قاعد تعلمنا كذا ثم الآن تتراجع، ما عندك سالفة، أو إذا عرفوا أنه الحق يقولون: أو أنك طول الوقت أجل ساكت، أنت من الذين يكتمون البينات، فيجد الشخص نفسه في ضائقة، يقول: الناس يقولون عني كذا، إذن لا أتراجع، ولا أبين لهم، حتى لا أفتضح بينهم، وهذه المسألة كثير من طلبة العلم الذين ينقلون الأحكام إلى الناس، يعلمونهم، خطباء، أو أئمة مساجد، أو مدرس دين، يعلم الطلاب أشياء، لا يتراجع عنها لو تبين له الخطأ، يقول: ماذا يقول عني الطلاب؟ وإمام المسجد يقول: ماذا يقول عني المصلون؟ وهذا الخطيب يقول: ماذا يقول عني المستمعون؟ يقولون عني: إني أنا كنت جاهلاً طول الوقت اللي راح، فيصده ذلك عن تبيين الحق للناس.
من أسباب الانحراف عن الحق وأهله التأثر بكلام المغرضين من أهل التأثير، عن أهل الحق فيشوهون صورتهم وسمعتهم وطريقتهم، فالشخص الذي يسمع يتأثر في الكلام، ويصدق الكلام، ويرفض كلام أهل الحق للتأثيرات التي حصلت عليه، قد يكون معذوراً في أشياء، لكن عليه أن يتبين إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات: 6]، وقديمًا افترى فرعون على موسى وهارون، فرعون اللي على الباطل افترى وحاول أن يشوه سمعة موسى وهارون، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [يونس: 78]، إذن أنت أتيت حتى تكون لكما الكبرياء في الأرض، أنت تريد الملك، لذلك أنت الآن تعرض علينا، وتسفه آراءنا، وتدعونا إلى هذه الدعوة لتكون لكما الكبرياء في الأرض، تطلب الرياسة، وتريد أن تنتزع الملك، وفرعون يقول لقومه: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد، يقول عن موسى يقول: يا جماعة انتبهوا إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26] وهذه حملات التشويه، فالناس مساكين، كثير منهم سيتأثرون، والملأ منهم يساعدون فرعون يقولون: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 127]، لا تتركهم، لابد أن تعمل عملاً، أحيانًا من الأشياء التي تصد عن الحق أن الواحد يضع اعتبارات غير صحيحة يقيم بها الحق، عنده اعتبارات وموازين غير صحيحة، مثل أن يعتقد أن الحق هو الذي يكون مع الأكثرية، والسواد الأعظم هو الحق الذي عليه الأكثرية ويحتج بذلك والله يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه [الأنعام: 116]، ويقول : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]، ويقول الرسول ﷺ واصفًا أهل الحق: ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم [رواه أحمد: 6650، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3921].
وفي الآية في كلام داود قال: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24]، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، أو مثلًا يضع الميزان القوة والضعف فإذا رأى أهل الحق ضعفاء قال: هؤلاء أكيد ما عندهم الحق، لو كان عليهم الحق كان انتصروا ظاهريًا، وكان لهم الغلبة، وكان لهم الاستعلاء، ما دام أنهم ضعفاء، لا ما هم على الحق، هذا منطق قديم قال أقوام الأنبياء لأنبيائهم: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111]، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود: 27]. وهرقل ملك الروم عندما سأل أبا سفيان في المناقشة المشهورة قال له: وسألتك أشراف الناس يتبعه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، فإذن، ليست القضية القوة مع أهل الحق دائمًا، القوة الظاهرة والغلبة الظاهرة وإذا ما صار عندهم معناها أنهم ليسوا على الحق؟ لا، أو أن أنصار الحق ضعفاء: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52]، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53]، أو مثلًا تجعل الثروة دليلًا على الحق، الأشياء المادية التي معه هو الذي على الحق، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 34، 35]، يقول الله رادًا عليهم: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ: 37]، إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص: 76]، لكن بغى وأهلكه الله وهو كان عنده مفاتيح الخزائن، أو مثلًا أحيانًا واحد لا يبين الحق؛ لأن الذي قال الباطل بينه وبينه صداقة، يعني واحد تكلم في حكم، قال: الحكم كذا كذا، خطأ، فسئل صديق له: فلان قال: كذا، وهو يعرف أنه خطأ الكلام، لكن معزة هذا الصديق وعلاقته به تجعله يرفض أو لا يبين، يقول: كيف أخطئ صاحبي أخطئ صديقي، أخطئ أخي، ما هو معقول فلا يبين، والصحابة واقعهم غير هذا تمامًا، فمن ذلك مثلًا حديث أبي موسى ، أنه سئل عن ابنة وابنة ابن وأخت في الميراث، فقال: للبنت النصف وللأخت النصف، وأن ابن مسعود سيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، ماذا قال ابن مسعود وهو يعلم أن القسمة التي قال بها أبو موسى خطأ؟ قال: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 56]، أقضي فيها بما قضى النبي ﷺ للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي للأخت، فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: "لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم" [رواه البخاري: 6736]، ابن مسعود ما قال: هذا أبو موسى صحابي مثلي، وصديق وأخ، كيف أبين خطأه أمام الناس، وذاك يقول: وائت ابن مسعود فسيتابعني، أيضًا صار فيها دافع آخر لابن مسعود، ائت ابن مسعود فسيتابعني، قال ابن مسعود: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ كيف أقول بخلاف الحق في المسألة؟
أحيانًا يكون فيه ظرف اجتماعي يضغط على الإنسان فلا يعترف بالحق، مثلًا المرأة عندما قذف هلال بن أمية امرأته فقال النبي ﷺ: البينة أو حد في ظهرك ، فأقسم هلال أنه بريء وأن الله سينزل براءته وأنزل الله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور: 4] ونزلت آية اللعان، فانصرف النبي ﷺ فأرسل إليها فجاء هلال فشهّد، والنبي ﷺ يقول: إن الله يعلم إن أحدكما لكاذب، فهل منكما تائب؟ البينة أو حد في ظهرك ثم قامت فشهدّت، فلما كانت عند الخامسة، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا [النور: 9] ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت، ونكصت هذه المرأة حتى ظننا أنها ترجع وتعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت وأكملت الخامسة" [رواه البخاري: 4747، ومسلم: 1493]. ضغط، لا أفضح قومي سائر اليوم، ورفضت أن تعترف، ما الذي حمل أبا طالب على رفض الحق؟ الضغط الاجتماعي،
يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل | لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا |
ولقد علمت أن دين محمد | من خير أديان البرية دينًا |
أنا أعرف، لكن لولا الملامة أو حذار مسبة، يقولون: مات على غير دين الآباء والأجداد، لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا، وختامًا أيها الإخوة أقول: يجب علينا أن نتجرد، يجب علينا أن نضع الحق فوق كل اعتبار، ويجب علينا أن ننقاد إذا كنا فعلًا نريد وجه الله، ولا نحاول أن نلف وندور ونسوي المناورات في سبيل رفض الحق، كما يقع لكثير من الناس، تجده يأتي بأعذار أشياء عجيبة جدًا، في أحد المجالس كنا نتكلم عن الإسلام، واحد من العامة يقول: يا أخي أنا غير مستعد أن أمضي قدمًا في أشياء أخرى، أنا لا أتعمق في الدين، يكفي الأركان الخمسة، خلاص ما دام أني أصلي وأزكي، فقلت: يا أخي الدين ليس الأركان الخمسة فقط، قال : لا لا، الأركان الخمسةكافية جدًا، قلت له: ما رأيك أن تسكن في بيت فيه خمسة أعمدة فقط، لا فيه جدران، ولا شبابيك، ولا غرف، فقط خمسة أعمدة؟ قال: لا أسكن فيه، قلت: الرسول ﷺ يقول: بني الإسلام على خمس [رواه البخاري: 8، ومسلم: 16]. الإسلام بنُي على خمس، هذا الذي عندك؟ أين الخمس؟ وأين البناء الباقي؟ وأين الجهاد في سبيل الله؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ الدعوة إلى الله؟ طلب العلم؟ بر الوالدين؟ قال: لا لا يا أخي، التعمق في الدين ما هو زين، انظر إلى مؤلف الصراع بين الإسلام والوثنية تعمق في الدين وارتد، يجيب أي مثال، أي شيء فقط، قلت له: هذا الشيخ ابن باز والله ما ارتد، ومتعمق في الدين.
قصة أخيرة أختم بها الكلام من أنواع المداورات، رجل تارك للصلاة قلت له: يا أخي اتق الله حرام عليك، كيف أنت تارك للصلاة تارك لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟ هذا العمل الذي أنت عليه يخرج عن الملة، زوجتك حرام عليها أن تجلس معك، قال: والله أنا ودي أرجع إلى الصلاة، ودي أني أصلي، لكن الشيطان، المشكلة الآن صار الشيطان هو الشماعة، كل ما حصل شيء على الشيطان، حتى مرة واحد من سيارة المرور راح يلاحق مفحط، في الأخير مسكه، لما مسكه قال الشاب: الشيطان هو اللي، قال: كل هذه اللفة اللي سويتها وتقول لي: الشيطان، فهذا الرجل يقول: والله ودي أصلي لكن الشيطان، تعرف الشيطان ماذا يفعل في الواحد، قلت: الآن أعطني الزبدة، لماذا ما تصلي؟ لماذا تركت الصلاة وأنت تعلم هذه الأحكام؟ قال: يا أخي لأني أنا ما أصلي الظهر والعصر، فكيف أصلي المغرب والعشاء والفجر، قلت له: ولماذا ما تصلي الظهر والعصر؟ قال: لأني أنا في العمل ما أقدر أصلي الظهر والعصر، ولذلك تريدني أضحك على ربي وعلى نفسي وأصلي المغرب والعشاء والفجر، قلت: ولماذا لا تصلي الظهر والعصر في العمل، قال: لأن الحمامات إفرنجية وأنا ما أضمن تكون عليها نجاسة، كيف تريدني أتطهر في حمامات إفرنجية؟ ولذلك أنا ما أقدر أصلي الظهر والعصر، أي عذر المهم أن لا يتبع الحق.
وبعض الناس لا يتبعون لكن ألطف قليلًا، يقول: والله أنا مقصّر، والله أنا عارف أنه خطأ، والله يعيننا، وجزاك الله خيراً إنك نصحتنا، وانتهى ألف هاء، انتهى الكلام عند هذا، أحسن من ناحية الاعتراف والتطبيق مثل بعض، فعلى العموم نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا في هذه الكلمات البسيطة وأرجو من الله أن يهدينا وإياكم للحق، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الحق، اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أن تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.