الحمد لله رب العالين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا هو الدرس الأخير بمشيئة الله -تعالى- في شرح هذه الأربعون في عظمة رب العالمين.
نص الحديث الخامس والثلاثين، والسادس والثلاثين
الحديث الخامس والثلاثون: حديث الشفاعة: يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس؛ فيقول بعض الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؛ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم؛ فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة؛ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربي غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله الحديث [رواه البخاري: 3340، ومسلم: 194].
والحديث السادس والثلاثون: فيقول الله : شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار؛ فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حممًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة الحديث [رواه البخاري: 6560، ومسلم: 183، واللفظ له].
شرح الحديث الخامس والثلاثين، والسادس والثلاثين
في هذين الحديثين من عظمة رب العالمين أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الله يوم القيامة مالك يوم الدين لا يجرؤ أحد يومئذ أن يتقدم بشيء، ولا أن يتكلم بشيء إلا إذا رضي له الرحمن، وأذن له.
تعريف الشفاعة وشروطها
والشفاعة في اللغة: الوسيلة والطلب، وفي العرف: سؤال الخير للغير، والشفاعة عند الله: سؤال الله التجاوز، وحقيقتها: أن الله بلطفه وكرمه يأذن يوم القيامة لبعض الصالحين من خلقه من النبيين والملائكة والمؤمنين أن يشفعوا عنده في بعض أصحاب الذنوب من أهل التوحيد، إظهارًا لكرامة الشافعين عنده، وإظهارًا لمكانة التوحيد، ورحمة بالمشفوع له، ولا تصح الشفاعة عند الله، وربنا عظيم لا تصح الشفاعة عنده إلا بشرطين:
الأول: إذن الله -تعالى- للشافع أن يشفع، وقد دل على هذا الشرط قول الله -تعالى-في آية الكرسي: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة: 255]، وكذلك قال: وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23].
والنبي -ﷺ وهو أكرم الخلق على الله لا يشفع يوم القيامة حتى يستأذن من ربه، ويؤذن له، ويسجد تحت العرش، ويسأل ربه، ويقول له ربه: اشفع تشفع [رواه البخاري: 3340، ومسلم: 194].
ثانيا: رضي الله عن المشفوع له أن يشفع فيه.
إذن، الإذن للشافع، والرضا في المشفوع أن يُشفع فيه، وقد دل على هذا الشرط قول الله -تعالى-: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] هذا في المشفوع له لا بد أن يأذن أيضًا، وهذان الشرطان مجملان في قوله -تعالى-: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى [النجم: 26].
وقد دلت النصوص على أن الله لا يرضى أن يُشفع عنده إلا في أهل التوحيد؛ لما ثبت في الحديث: لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة زاد في رواية: فهي نائلة -إن شاء الله- من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا هذا موضع الشاهد [رواه البخاري: 6304، ومسلم: 198، 199، والزيادة لمسلم].
وقد قال تعالى في الكفار: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48].
أما شفاعة النبي ﷺ في تخفيف العذاب عن أبي طالب، فهي شفاعة خاصة به وحده؛ حتى لو قال واحد: أبو طالب من أهل النار، وليس ممن شهد بالتوحيد؟
وقد صرح الأئمة المحققون بتواتر أحاديث الشفاعة، وهي مشتهرة في كتب الصحاح والمسانيد.
وتنقسم الشفاعة من حيث القبول والرد إلى قسمين:
مردودة، وهي ما فقدت شرطًا من الشرطين السابقين، أو كليهما.
ومقبولة، وهي ما تحقق فيها شروط الشفاعة.
أنواع الشفاعة الثابتة للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم
وقد ثبت لنبينا ﷺ ثمانية أنواع من الشفاعة، وهي:
أولا: الشفاعة العظمى، أن يقضي الله في أهل الموقف، وهي المقام المحمود، وهذه الشفاعة مما اختص بها نبينا ﷺ على غيره من الرسل -عليهم صلوات الله أجمعين-، وهي التي دل عليها الحديث الأول من أحاديث المجموع الأربعين، وفيه: فأسجد تحت العرش فيقال: يا محمد ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه [رواه البخاري: 3340، ومسلم: 194].
وفي رواية: فأنطلق فآت تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي، ويُلهمني من محامده، وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع [رواه البخاري: 4712، ومسلم: 194].
ثانيا: شفاعته ﷺ لقوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم أن يدخلوا الجنة.
ثالثا: شفاعته ﷺ في قوم قد استحقوا دخول النار ألا يدخلوها.
رابعا: شفاعته ﷺ في رفع درجات ناس من أهل الجنة.
خامسا: شفاعته ﷺ في قوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ولولا شفاعته لحوسبوا.
سادسا: شفاعته ﷺ في تخفيف العذاب عمن كان يستحقه، تخفيف وليس خروج، وهذه شفاعته في عمه أبي طالب.
سابعا: شفاعته ﷺ في أهل الجنة أن يؤذن لهم بدخول الجنة.
ثامنا: شفاعته ﷺ في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار أن يخرج منهم، وقد دلت النصوص الصحيحة على جميع هذه الأنواع، ومن هذه الأنواع ما هو خاص بالنبي ﷺ، ومنها ما يشترك معه فيه غيره من الأنبياء والصالحين؛ كالشفاعة في أهل الكبائر.
والشفاعة تقبل عند الله بحسب حال الشافع وحال المشفوع له، وكلما كان المؤمن أقرب إلى الله كان أجدر بقبول شفاعته.
بعض الفوائد المستفادة من الخامس والثلاثين، والسادس والثلاثين
وفي هذين الحديثين وغيرهما من أحاديث الشفاعة من الفوائد: فضل التوحيد، وأن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد، ولذلك لا بد من تحقيق التوحيد، والتوبة من الشرك، والحذر من الشرك؛ لأن الشرك مانع من الشفاعة؛ كما جاء في الحديث: فهي نائلة -إن شاء الله- من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا .
وكذلك في الحديث من عظمة رب العالمين: إثبات صفة الغضب لله، فإنه قال في الحديث: فيقول ربي غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله .
وهذا الغضب على الوجه الذي يليق بالله ليس كغضب المخلوقين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
وقد قال الله -تعالى-: وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ [آل عمران: 112].
وقال: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ [النساء: 93].
وفي الحديث أيضًا: سعة رحمة رب العالمين، وهو أرحم الراحمين، ولا يضيع من أعمال عباده شيئًا، وقد جاء في بعض الروايات: أن الله يقول للنبي ﷺ يوم القيامة: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار؛ فأنطلق فأفعل الحديث [رواه البخاري: 7510، ومسلم: 193].
كذلك فيه فضل صحبة الصالحين، وإثبات الشفاعة للمؤمنين.
وقد جاء في سياق الحديث الثاني: حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه [رواه مسلم: 183].
في ناس من أهل التوحيد دخلوا النار بكبائر وسيئات عملوها، واحترقوا قدر ما أراد الله أن يحترقوا، ثم يأذن الله للمؤمنين، فيشفعون فيهم فيخرجون؛ فهؤلاء المؤمنون الصادقون لم يتركوا إخوانهم في العذاب، بل ناشدوا ربهم أن يخرجهم.
وقوله: معنا هذا أثر الصحبة، وأن من صاحب المؤمنين وأحب المؤمنين كان مع المؤمنين، فإنه يستفيد يوم القيامة حتى لو دخل النار يستفيد ألا يزداد عذابًا لا يبقى فيها، قال النووي -رحمه الله-: وكانوا في مناشدتهم تلك أشد من مناشدة أحدنا ربه في الدنيا في استيفاء حقه أو استقصائه، وتحصيله من خصمه، والمتعدي عليه.
نص الحديث السابع والثلاثين
يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت وهذا من عظمة الله أن ميزانه الذي خلقه لو وزنت فيه السماوات السبع والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله -تعالى-: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك [رواه الحاكم: 8739، وصححه الألباني في الصحيحة: 941، وقد روي موقوفًا على سلمان ، ورجح وقفه ابن رجب -رحمه الله- في "جامع العلوم والحكم"، وفي "التخويف من النار"، وقد رواه أيضًا المروزي في "زوائد الزهد"، والآجري في "الشريعة"].
وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: "بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف" [رواه مسلم: 183].
وعند البيهقي وإسحاق بن راهوية أيضًا والطبراني آثار في الصراط، وقد جاء عن ابن مسعود عند المروزي في "تعظيم قدر الصلاة": "الصراط على جهنم مثل حد السيف" وهو صحيح عن ابن مسعود.
ولفظ الطبراني: "مثل حد السيف المرهف" [رواه الطبراني في الكبير: 8992، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3627].
وجاء عند الدارقطني في كتاب "الرؤية"، وابن منده في "الإيمان"، عن سعيد بن أبي هلال قال: "بلغني أن الجسر أدق من الشعر، وأحد من السيف" وإسناده صحيح إلى سعيد [رواه الدارقطني في الرؤية: 4، وابن الإيمان: 817].
وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" وأبو نعيم في "الحلية" عن عبيد بن عمير قال: "الصراط دحض مزلة، كحد السيف سلقًا" وهو صحيح عنه [رواه ابن أبي شيبة في المصنف: 34198].
شرح الحديث السابع والثلاثين
من عقديتنا: الإيمان بالميزان، والإيمان بالصراط، وهما دليلان على عدل الله -تعالى-؛ كما قال سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] لا يترك الله شيئًا.
وقال : وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [الأعراف: 8-9].
والميزان ميزان حقيقي محسوس، له لسان، وهي الحديدة التي تكون في وسط الميزان، وكفتان توزن فيه أعمال العباد، ويكون بعد انقضاء الحساب يوم القيامة، فإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار المقادير ليكون الجزاء بحسبها. هذا كلام القرطبي في "التذكرة" أن الميزان بعد المحاسبة.
هل الميزان التي توزن فيه الأعمال واحد أما لكل عمل ميزان؟
وقد اختلف أهل العلم: هل هو ميزان واحد توزن فيه أعمال الجميع أما لكل واحد ميزان؟
فرجح ابن كثير وابن حجر وغيرهما من أهل العلم أنه ميزان واحد، لكن جُمع في قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ [الأنبياء: 47] باعتبار تعدد الموزون فيه، الأعمال الموزونة فيه. كما "تفسير ابن كثير" و"فتح الباري".
وقال بعضهم: ميزان لكل عامل، له ميزان خاص.
على أية حال: ميزان الله، هذا الميزان العظيم الدال على عظمته -تعالى-، دقيق عادل، يزن مثقال الذرة، توزن فيه الحسنات والسيئات بكيفية لا يعلمها إلا الله، فيرجح ولو بمثقال ذرة، لو زادت الحسنات مثقال ذرة نجا صاحبها، لما جاء السائل وما وجدت الخادمة إلا حبة عنب، قالت عائشة: تصدقي بها عليه، وقالت الخادمة أو الأمة: ما تغنيه؟، فقالت عائشة: كم من مثقال ذرة فيها؟ قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة .
الشق تمرة، كم شق تمرة فيها يمكن ذرة من الذرات، هذه هي التي ترجح بميزانك، فهو ميزان دقيق حساس لا تظلم نفس شيئًا عنده: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8].
قال الناظم:
والوزن بالقسط فلا ظلم ول | يؤخذ عبد بسوى ما عملا |
فبين ناج راجح ميزانه | ومقرف أوبقه عدوانه |
[معارج القبول بشرح سلم الوصول (1/39].
مقرف: يعني مقترف، قارف الذنوب.
ولا يعلم قدر الميزان إلا الله؛ كما دل عليه الحديث: فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت لو وزن فيه السماوات والأرض، وهو مع ذلك دقيق حساس جدًا، لكنه كبير جدًا لو وزنت فيه السماوات والأرض لوسعت، قال ابن رجب -رحمه الله-: "الميزان أوسع مما بين السماء والأرض، فما يملأ الميزان فهو أكبر مما يملأ ما بين السماء والأرض، ما يملأ الميزان أكبر مما يملأ مما بين السماء والأرض". [جامع العلوم والحكم: 2/642].
أشياء توزن بالميزان
وقد دلت النصوص الشرعية على أن الذي يوزن في الميزان يوم القيامة ثلاثة أشياء؛ فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن صحائف الأعمال، وتارة يوزن العامل نفسه. [تفسير ابن كثير].
وقد يوزن كل ذلك، فيوزن العامل وعمله وصحائفه. [معارج القبول].
أما وزن العمل فيؤتى بالأعمال خيرها وشرها يوم القيامة، وتوزن في الميزان بعد أن يقلبها الله -تعالى- بقدرته أجسامًا لها ثقل. [تفسير ابن كثير].
ودل على هذا قول النبي ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده [رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694].
أما وزن الصحائف نفسها، فجاء في حديث التسعة والتسعين سجلاً، قال: ثم تخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء [رواه الترمذي: 2639، وهو حديث صحيح].
وهذا حال خاص لعبد من عباد الله، قد يكون عنده من الجهل شيء عظيم، لكن معه أصل التوحيد، ما بلغته شرائع الدين، لكن معه أصل التوحيد، فبالرغم من أن أعماله السيئة كثيرة جدًا، لكن نفعه أصل التوحيد، والذين يقولونها تختلف أحوالهم أيضًا فمنهم من يقولها خالصًا من قلبه، ومنهم من يقولها من طرف لسانه، حتى كلمة: لا إله إلا الله، يتفاوت قائلوها وما في قلوبهم، ومعلوم أن لا إله إلا الله لها شروط لتنجي، لكن الذين يكونون في فترة بين نبيين ما جاءهم من الدين إلا شيء يسير، هؤلاء لهم أحوال خاصة في الحساب، بخلاف من قامت عليه الحجة وبلغه الدين وبلغته الأحكام.
ولا يقولن قائل: لا نتعلم أحسن حتى ما تقوم علينا الحجة، نقول: وتظن أن الإصرار على الجهل وتعمد الجهل لا يعاقب عليه صاحبه، بل إن الإصرار على عدم تعلم دين الله ممكن يدل على الإعراض، وفي من أنواع الكفر كفر الإعراض -والعياذ بالله-.
أما الدليل على وزن العامل نفسه صاحب العمل يعني، فقد دل على ذلك قول النبي ﷺ: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال: اقرؤوا: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] [رواه البخاري: 4729، ومسلم: 2785].
ولما ضحكوا من ساقي ابن مسعود في دقتها، قال ﷺ: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد [رواه الإمام أحمد: 3991، وهو حديث صحيح] ساقا ابن مسعود أثقل في ميزان الله من جبل أحد.
قال ابن القيم -رحمه الله- في "النونية":
أفما تصدق أن أعمال العبا | د تحط يوم العرض في الميزان |
وكذاك تثقل تارة وتخف أخـ | ـرى ذاك في القرآن ذو تبيان |
وله لسان كفتاه تقيمه | والكفتان إليه ناظرتان |
ما ذاك أمرًا معنويًّا بل هو الـ | ـمحسوس حقًا عند ذي الإيمان |
[نونية ابن القيم، ص: 351].
هذا الحديث دال على عظمة الله، فإن الذي يقدر أن يخلق ميزانًا كهذا، ويزن فيه العباد وأعمالهم وصحائفهم، أي عظمة هذه؟
وإذا استحضر المسلم هذا فجدير أن يخشى الله، وأن يتقيه: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، ويحذر من الظلم.
صفات الصراط والمرور عليه
أما الصراط فهو دال على عظمته -تعالى-؛ لأنه خلق عجيب، فإنه جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، ولا بد لهم منه، قال -تعالى-: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا [مريم: 71].
فما هو الورود على النار؟
المرور على الصراط؛ كما فسر ذلك ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما-.
والصراط أدق من الشعر، وأحد من السيف، دحض مزلة، تزل فيه الأقدام، وفيه خطاطيف وكلاليب تأخذ ممن عليه، ممن وكلت به؛ تقذفهم في النار، وقد تخدشهم خدشًا، فيكون الناس عند المرور على الصراط ثلاثة أنواع: ناج مسلّم، ومخدوش، ومكردس في نار جهنم.
ينصب الصراط في ظلمة، والنار تحت عمقها، أبعد من سبعين خريفًا، ويعطى الناس أنوارهم على قدر إيمانهم وأعمالهم، فيمرون على الصراط بسرعات أيضًا بحسب أعمالهم، وقد قال ﷺ: يمر المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلّم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم [رواه البخاري: 7439] مكدوس: يعني يدفع ويلقى.
نسأل الله أن يثقل موازيننا، وأن يبيض وجوهنا، وأن يسلمنا عند المرور على الصراط.
نص الحديث الثامن والثلاثين
كان رسول الله ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع، قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد [رواه مسلم: 477].
شرح الحديث الثامن والثلاثين
هذا الذكر من أذكار الرفع من الركوع، وفيه ثناء على الله، وأنه يعطي ويمنع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فالخلق خلقه، والأمر أمره.
وقوله: أحق ما قال العبد يعني أن هذه العبارة لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت من أحق ما يقوله العبد في حق ربه -تعالى-.
وقوله: وكلنا لك عبد جملة اعتراضية، والتقدير: فينبغي لنا أن نقول هذا، ما دام هذا أحق ما يقول العبد، وكلنا لك عبد؛ إذن، ينبغي أن نقولها.
وفي هذا دليل ظاهر على فضيلة هذا الذكر، فقد أخبر النبي ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا أحق ما قاله العبد، فينبغي إذن على العباد أن يقولوه.
وهذا دليل ظاهر على فضيلة هذا الذكر، وأنه حري بنا ألا نهمله، وأن نحافظ عليه، وإنما كان أحق ما قاله العبد؛ لأن فيه تفويض الأمور إلى الله، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الخير والشر بيده.
وكذلك فيه حث على الزهد في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة، في أي جملة هذا الكلام؟ ولا ينفع ذا الجد منك الجد يعني لا ينفع صاحب السلطان والعظمة والمال، لا ينفع عندك ماله وعظمته وسلطانه، إنما ينفعه عمله الصالح، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا ينفعه جده وسلطانه وعظمته وماله، ما ينفعه عندك إلا عمله الصالح، قال -تعالى-: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَل [الكهف: 46] يعني ما يؤمله الإنسان، فهذا الذي ينجي عند الله.
وقيل: إن قوله أحق ما قال العبد خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الكلام أحق ما قال العبد، فيعود على قوله: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض الحديث.
والمعنى تحميدك والثناء عليك وتمجيدك هو أحق ما قال العبد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: فتبين أن حمد الله والثناء عليه أحق ما قاله العبد، وفي ضمنه توحيده له؛ إذ قال لك الحمد أي لك لا لغيرك، وقال في آخره لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت وهذا يقتضي الاعتراف بأن الله المنفرد بالإعطاء والمنع، فلا يستعان إلا به، ولا يطلب إلا منه.
هذا ذكره شيخ الإسلام في قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق.
وقوله عن التحميد في الحديث: وملء ما شئت من شيء بعد إشارة إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود، فهو أعز من أن يحسب ويعد.
وملء ما شئت من شيء بعد يعني بعد ملء السماوات والأرض، فإنه ﷺ حمد الله ملء السماوات والأرض، فحمده منتهى ما وصل إليه السابقون، ثم أحال الأمر فيه على مشيئة الله -تعالى-، وليس وراء ذلك الحمد منتهى، ولم ينته أحد من خلق الله في الحمد مبلغه ومنتهاه ﷺ، وبهذه الرتبة استحق أن يسمى: أحمد؛ لأنه كان أحمد لله من كل مخلوق آخر ﷺ. كما في "شرح أبي داود" للعيني، و"نخب الأفكار" له.
إذن، هذا الذكر مرة أخرى، متى يقال؟
إذا رفع رأسه من الركوع، حقيق أن يحفظ اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد [رواه مسلم: 471].
هذا من أذكار الرفع من الركوع، وفيه ثناء بالغ على الله وحمد عظيم لله.
وفيه دليل على عظمته -سبحانه- الذي له الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ذلك، وأنه المستحق للثناء والمجد، أهل الثناء والمجد -سبحانه-، المجيد صاحب المجد العظيم، وبيده كل شيء يعطي ويمنع هذا من عظمته.
نص الحديث التاسع والثلاثين
عن جابر قال: "لما رجعت إلى رسول اللهﷺ مهاجرة البحر، الذين هاجروا إلى الحبشة لأنهم هاجروا عبر البحر، قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم" يعني راهبة، وكان الحبشة فيها بقية دين من النصارى، وفيهم اطلاع على الكتاب على ما بقي من الإنجيل، وفي بعضهم دين قوي قالوا: "بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرجت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي" هذا الشاهد من الحديث "وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، فقال رسول الله ﷺ: صدقت، صدقت . هذا الآن موضع الإقرار النبوي، يعني لولا هذا كيف نثبت ما يكون يوم القيامة من كلامها، لكن لأن الوحي صدقها، قال: صدقت صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم [رواه ابن ماجه: 4010، وصححه ابن حبان، وحسنه البوصيري، والألباني، وذكره ابن الملقن في البدر المنير مختصرًا، وقال: هذا الحديث له طرق يحضرنا منها عشرة، ثم ساق أكثرها، وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة": وقد جمعت طرقه في "الأجوبة الدمياطية"، وقال الذهبي في "العلو: "إسناده صالح" وعلق عليه الأرناؤوط: "حديث قوي بشواهده"].
شرح الحديث التاسع والثلاثين
لما رجعت مهاجرة البحر الذين هاجروا إلى النبي ﷺ ورووا له هذه القصة، والشاهد منها: "سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين".
إذن من عظمة ربنا أنه يضع كرسيه لفصل القضاء، ويجمع الأولين والآخرين، ويأتي -سبحانه- لفصل القضاء، كما قال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [البقرة: 210] يأتي -سبحانه- إذا جاء الله انخلعت قلوب المجرمين؛ لأنه يأتي سبحانه في ظلل من الغمام والملائكة معه جنوده: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] مجيء الله يوم القيامة، إذا جاء ربنا انخلعت قلوب المجرمين والظالمين لمجيئه، وسينصب كرسيه ويفصل بين العباد، هذا شيء، هذا مشهد رهيب: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [البقرة: 210] فيأتي مع الظلل.
فإذن، هذه "في" للمصاحبة، وليست للظرفية، فإنه لا يحيط بالله شيء من المخلوقات لا الغمام ولا غيره، لكن يأتي معه الغمام والملائكة، قال -تعالى-: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ [الفرقان: 25] هذا غمام أبيض خاص، ما هو مثل سحاب الدنيا، هذا الذي نراه في الدنيا يوم القيامة تشقق السماء بالغمام، غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله -تبارك وتعالى- قال الله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] يأتي لفصل القضاء فيستشفعون بآدم إلى سيد ولد آدم، والأنبياء يتدافعون كل واحد، يقول: نفسي نفسي وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، والناس خاضعين، وقد جمع الله الجن والإنس، يتحداهم أن يفروا من أرض المحشر؛ لأن الملائكة تحاصرهم بسبعة أطواق من كل سماء، ينزل طوق من الملائكة يطوقهم: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن: 33].
ولا سلطان إلا سلطان الله، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ [الحاقة: 28-29] ما أحد يستطيع لا جن ولا إنس ولا أحد يطير ولا يخترق ولا يتعدى ولا يخرج إطلاقًا محاصرين في أرض المحشر، ويأتي الله مع ظلل الغمام والملائكة، وينصب الكرسي، ويبدأ في فصل القضاء، وقد طوى سماواته وأرضه، ونثرت الكواكب، وكورت الشمس والقمر، وأحاطت الملائكة بالخلائق، فإذا جاء الله أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر: 69- 70] ["فتوى الحموية"، "مختصر الصواعق"، "معارج القبول"، "تفسير السعدي"].
هذا جدير أيضا بالتفكر فيه.
نسأل الله أن يسلمنا في الدنيا والآخرة.
نص الحديث الأربعين
الحديث الأخير: عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراة غرلا يعني غير مختونين بُهْمًا : ما معهم شيء، إذن، حفاة، عراة، غير مختونين، بُهْمًا ما معهم شيء، قال قلنا: وما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب .
وهذا يدل على أن بعض أهل المحشر أقرب إلى الله من بعض من آخرين.
يعني ماذا يقول؟ وهذا من عظمة رب العالمين، هذا موضع الشاهد: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عراة غرلا بُهْمًا؟ فكيف سيكون القصاص؟ كيف سيكون التعويض ما معنا شيء؟ ما في دينار ولا درهم؟ قال: بالحسنات والسيئات [رواه الإمام أحمد: 16042، وذكره البخاري مختصرا معلقًا، وحسنه المنذري، وابن القيم، والعراقي، وابن حجر، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3608].
شرح الحديث الأربعين
هذا الحديث الذي رحل جابر بن عبد الله شهرًا إلى الشام، واشترى بعيرًا خاصًا لهذه السفرة ليسمع من عبد الله بن أنيس هذا الحديث، قال: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله ﷺ فاشتريت بعيرا" هذا درس من جابر لطلبة العلم، كيف تحمل المشاق لطلب العلم "فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رحلي فسرت إليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس" هذا حديث عظيم في القصاص، واقتصاص الخلائق بعضهم من بعض بالحسنات والسيئات، فلا يجاوز الجسر ظلم ظالم حتى يقتص منه: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران: 25]، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 17] حتى يقتص للبهائم والحيوانات من بعضها البعض؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء التي لا قرن لها من الشاة القرناء صاحبة القرون. [رواه مسلم: 2582].
وعن أبي ذر أن رسول الله ﷺ رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما [رواه أحمد: 21438، وهو حديث صحيح].
وقال ﷺ: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه [رواه البخاري: 2449].
وحديث: أتدرون ما المفلس؟ أما أن عنده صلاة وصيام وزكاة، ولكن يأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار [رواه مسلم: 2581].
قول: أنا الملك، أنا الديان الملك: بيده ملك السماوات والأرض، الديان: الحكم الذي يجازي ويحاسب إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وقوله: ثم يناديهم يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب هذا فعلا شيء معجز! البعيد والقريب سواء في السماع، يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، وبعض الخلق أقرب إلى الله، وهو ينادي العباد: أنا الملك، أنا الديان عظمته سبحانه العظيم.
بهذا نكون قد أتينا على شرح أربعين حديثًا في عظمة رب العالمين.
هنا تنبيهان:
تنبيه حول شرح الحديث الخامس
الأول: في الحديث الخامس: أخذ الله -تبارك وتعالى- الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني: عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر الحديث هذا روي مرفوعًا وموقوفًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه الحاكم مرفوعا، ولم يتعقبه الذهبي والألباني، لكن النسائي -رحمه الله- ضعفه مرفوعًا، فقال بعد إخراجه: "وكلثوم هذا" يعني راويه عن سعيد بن جبير بن ابن عباس "ليس بالقوي، وحديثه ليس بمحفوظ"، وممن ضعفه أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية في "جامع المسائل" وابن القيم في "أحكام أهل الذمة"، ورجح الموقوف الحافظ ابن منده في "الرد على الجهمية"، وابن كثير، وقال: "هو أكثر وأثبت" يعني الموقوف، وذكره الشيخ مقبل في كتابه: "أحاديث معلة ظاهرها الصحة".
إذن، من العلماء من أخذ بالحديث وأثبت عالم الذر ميثاق عالم الذر، ومنهم من ضعفه، فماذا يكون المعنى عندهم؟ يعني معنى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف: 172]، قالوا: هذا الفطرة، يعني فطرهم على التوحيد، تأولوه معنى فطرهم على التوحيد، وأن الإخراج هذا الإخراج يعني الإخراج المعروف، وقال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في تفسيره: "في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء: أحدهما: أنّ معنى أخذه ذريّة بني آدم من ظهورهم، هو إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين؛ كما قال تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ، وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم وهذا هو دليل الفطرة.
الوجه الثاني: يقول الشنقيطي -رحمه الله-: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صور الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال" [أضواء البيان: 2/42] يعني استخرجهم استخراجًا حقيقيًّا من ظهور آبائهم ونثرهم .
وكلمه قبلا دون واسطة كما تقدم معنا في شرح الحديث فقط الإشارة هنا الذين ضعفوه من العلماء ماذا قالوا في الآية؟ ما هو عالم الذر عندهم؟
قال ابن القيم -رحمهم الله-: وقولهم: بَلَى شَهِدْنَا هو إقرارهم بأنه ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه، فإن قولهم: بَلَى شَهِدْنَا معناه أنت ربنا، وهذا إقرار منهم بربوبيته لهم، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به، وقوله: أَشْهَدَهُمْ يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات" إلى آخر كلامه -رحمه الله- في [أحكام أهل الذمة: 2/1010].
تنبيه حول الحكم على بعض الأحاديث الماضية
التنبيه الثاني: أن بعض الأحاديث التي مرت معنا فيها خلاف بين أهل العلم في صحتها، مثل حديث: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم الحديث.
وكذلك ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة .
وكذلك حديث عن النبي ﷺ في قول الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا)) إلى آخره.
وحديث: يوضع الميزان يوم القيامة وأن الحافظ ابن رجب صحح وقفه على سلمان ،وطبعا سلمان يروي أحيانًا عن أهل الكتاب.
بأية حال المقصود: الإشارة إلى وجود كلام للمحدثين في صحة بعض الأحاديث؛ لكن لم نأت بحديث مجمع على ضعفه، يعني لا بد أن يكون أحد من أهل العلم قد صححه، يعني من المعتبرين، لكن لا يعني أنه لا يوجد خلاف في صحة أي حديث.
هذه إشارة مهمة.
مضامين دورة شرح الأربعين حديثا في عظمة رب العالمين
وختامًا: فإن مضامين هذه الدورة في شرح الأربعين حديثًا فيها أن الله هو الأول قبل كل شيء، والإيمان بالقدر، وأن الله خلق هو الذي أوجدهم، وليس أنهم وجدوا من غير موجد.
والمواثيق التي أخذها الله على بني آدم ثلاثة: ميثاق الذر، وميثاق الفطرة، وميثاق الكتب والرسل، وكيفية التعامل مع سؤال الشيطان من خلق الله، وإثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات، وأنه الحي القيوم وذو الحياة الكاملة، وأنه يحكم في خلقه بميزان العدل، وأنه منع نفسه من الظلم لعباده، وأن كل الخلق مفتقرون إليه، ولذلك يسألونه الدين والدنيا، وأن جميع المخلوقات داخلة تحت قهره وسلطانه، وأنه يطوي السماوات والأرضين بيديه، وأنه إذا تكلم بالأمر خضعت الملائكة لقوله، وأن العظمة والعزة والكبرياء من صفاته، وأن الخلق خلقه والأمر أمره، وأن نعمه على عباده عظيمة يجب أن يشكروها، وأن خزائنه لا تنفد، وإثبات البعث، وتفرد الله بإعطاء النعم الظاهرة والباطنة، وحكم سب الدهر، واستحقاقه -تعالى-للعبادة، وسجود الشمس تحت عرشه، وأن عرشه أول المخلوقات، وأعظم المخلوقات، وأثقل المخلوقات، وأنه كالقبة على الخلق، وسعة رحمة الله، والتوسل إلى الله في الدعاء، وأنه يسمع ويبصر كل شيء، ولا يعلم الغيب إلا هو، وأن السماوات أطت من عبادة الملائكة له، ولا تصح الشفاعة عنده إلا بإذنه، والميزان المحسوس الذي ينصبه يوم القيامة لوزن الأعمال، والصراط الذي يمده على جهنم، ونصب الكرسي لفصل القضاء، والحساب بالحسنات والسيئات، هذا مضمون مجمل ما مر علينا من أربعين حديثًا في هذه الدورة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد