السبت 22 جمادى الأولى 1446 هـ :: 23 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

14- الأربعون في عظمة رب العالمين - تتمة شرح الحديث 28 وشرح الحديث 30،29


عناصر المادة
تتمة شرح الحديث الثامن والعشرين
المقصود بقوله: ((خمس))
مفاتح الغيب الخمس التي استأثر الله بها
المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعلم أحد ما يكون في غد))
قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام))
قوله: ((وما تغيض الأرحام وما تزداد))
قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا))
قوله عليه الصلاة والسلام: ((وما تدري نفس بأي أرض تموت))
قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما يدري أحد متى يجي المطر))
قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله))
نص الحديث التاسع والعشرين
شرح الحديث التاسع والعشرين
نص الحديث الثلاثين
شرح الحديث الثلاثين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

تتمة شرح الحديث الثامن والعشرين

00:00:18

فقد تقدم معنا في هذه السلسلة: الأربعون في عظمة رب العالمين، تقدم الحديث: الثامن والعشرون، وهو حديث النبي ﷺ: مفتاح الغيب خمس لا يعلمه إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر  [رواه البخاري: 1039].

وفي رواية: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله [رواه البخاري: 4697].

وفي رواية: مفاتح الغيب خمس  ثم قرأ:  إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  [لقمان: 34] [رواه البخاري: 4697].

ذكرنا أن هذا الحديث اشتمل على أصل عظيم من أصول الإيمان، وثوابت العقيدة، وهو: أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وعلم الغيب قد استأثر الله به، وبيده -سبحانه- خزائنه، لا يملكها إلا هو، ولا يطلع على ما يشاء منها إلا من يشاء من خلقه.

ويجب على كل مسلم أن يؤمن بهذا الأصل، ويوقن به، فمن اعتقد أو ادعى أن أحدًا غير الله يعلم الغيب فقد كفر وكذب، وضل ضلالاً مبينًا.

وقول النبي ﷺ: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله  مفاتح الغيب، أي خزائنه؛ جمع مفتح وهو الآلة، أو المفتاح الذي يفتح به، وهو كل ما يحل مغلقًا كالقفل على البيت، والمقصود الخزانة المقفلة.

والمفاتيح جمع مفاتح، فشبه الأمور المغيبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يدخر في المخازن والخزائن المستوثق عليها بالأقفال، بحيث لا يعلم ما فيها إلا الذي بيده مفاتحها، فلا يعلم الغيب إلا من بيده مفاتح أقفاله، وهو الله [تفسير الطبري، والواحدي، والقرطبي، وفتح الباري، وإرشاد الساري، والتحرير والتنوير].

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في وجه كون هذه الخمس مفاتح سميت مفاتح: "لأن كل واحد منها فاتحة لشيء بعده، فالساعة مفتاح الحياة الآخرة، ونزول الغيث مفتاح حياة الأرض بالنبات، وما في الأرحام مفتاح الوجود في الحياة، وعمل الغد مفتاح عمل المستقبل، وعلم مكان الموت مفتاح الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، فلهذا صارت هذه الخمس مفاتح". [شرح الواسطية].

والغيب: كل ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى علمه؛ كالملائكة والجن ومواقيت الأشياء المستقبلية ونحو ذلك.

والمعنى أن الله عنده علم الغيب، وبيده وحده خزائنه، والطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، ولا يطلع عليها إلا من شاء، يطلع على ما يشاء منها من شاء؛ لأنها كلها لا يطلع عليها إلا الله.

والغيب نوعان: واقع، ومستقبل.

فالغيب الواقع نسبي يكون لشخص معلومًا، ولآخر مجهولاً، ولذلك قد نعلم نحن هنا في هذا المسجد أشياء لا يعلمها ناس في العالم، هذا طبيعي، لكن ممكن بوسائل الاتصالات مثلا النقل المباشر تُعلم لأناس بعيدين.

وغيب المستقبل هذا لا يكون معلومًا لأحد إلا الله  وحده، ومن ادّعى علمه فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ﷺ.

فإذن، عندنا غيب ماض، وغيب حاضر، وغيب مستقبل.

الغيب الماضي في أشياء لا يعلمها إلا الله: مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَ  [هود: 49]،  ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ  [آل عمران: 44].

ففي أشياء حدثت في الماضي لكن غاب علمها عن الحاضرين، هذه لا يتفرد الله بعلمها؛ لأنه علمها بعض من مضى، وربما يعلم بعضها بعض من هو موجود.

الغيب الحاضر يعلمه من يعلمه، لكن قد يغيب عن ناس ويعلمه آخرون.

والغيب الحاضر يوجد أشياء فيه لا يعلمها البشر، يوجد أماكن في قيعان المحيطات ما مر علمها على أحد من البشر تحدث الآن، أشياء الآن في البحار في باطن الأرض في السماوات ما يعلمها البشر تحدث الآن

كذلك الآن في غيب بالنسبة لنا نحن البشر في غيب في عالم الملائكة، وغيب في عالم الجن لا نعلمه، الغيب المستقبلي لا يعلمه أحد إلا الله.

فإذن، حتى الغيب الماضي والغيب الحاضر البشر لم يحيطوا بعلمه، لا يحيطون بعلمه، حتى الغيب الماضي والغيب الحاضر يعني هذا دلالة العجز، لكن الغيب المستقبلي هذا لا يمكن، إلا -كما قلنا- من شيء يريده الله فيخبر به الملائكة، أو يأمر به الملائكة، فينقله بعضهم إلى بعض، فيسمعه بعض مسترقي السمع من الجن والشياطين، فيلقونه إلى الكهان في الأرض، فيخلطون مع المعلومة الواحدة الصحيحة تسعة وتسعين كذبة، لكن بعضها لا يتمكن مسترقو السمع من الاستراق، وبعضها يلتقطه، لكن يرسل الله عليه شهابًا فيحرقه قبل أن يبلغه، وبعضها يبلغ الكاهن في الأرض بواسطة هؤلاء الشياطين الذين يركب بعضهم فوق بعض، يحاولون استراق السمع.

فإذن، الغيب المستقبل، الغيب عموما لا يحيط به إلا الله، وغيب المستقبل أبلغ وأشد، ولذلك حتى كبار الدول وكبار الشركات وكبار الخبراء لو تأتي على قضية المستقبل تقول: ماذا سيحدث غدًا؟ ما يعلمون يتوقعون؟ ثم التوقع قد يصح وقد لا يصح، قد يصيب وقد يخيب.

المقصود بقوله: ((خمس))

00:09:56

قوله ﷺ في الحديث: خمس  لا يفيد حصر علم الغيب في هذه الخمس، لكن هذه أمهاتها، وذكرت لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بها، يعني لو واحد قال: مفاتح الغيب خمس، هذه هي فقط؟

نقول: لا.

في أشياء من الغيب أخرى غير الخمس، لكن هذه يتعلق بها الناس. [ابن رجب في "فتح الباري"، والعيني في "عمدة القاري"، والقسطلاني في "إرشاد الساري"].

وهذا بدليل أنه ذكر في بعض الروايات مجيء المطر ضمن الخمس، ولم يذكر فيها علم الساعة.

إذن، وعلم الساعة مؤكد أنه منها، هذا مما يدل على أن الله استأثر بالغيب دون خلقه، وأن علم الغيب لا ينحصر في هذه الخمس، وعلمه بعدد خلقه ليس فقط، قال الله -تعالى-: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ  [الأنعام: 59].

كذلك استئثاره بعلم أسمائه وصفاته، يعني في حديث: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك  ففي أسماء لله لا يعلمها إلا الله، وقد قال الله -تعالى-: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طـه: 110].

والنبي ﷺ لما يأتي يوم القيامة في الشفاعة الكبرى، المقام المحمود، ويسجد تحت العرش سجدة طويلة، فيفتح الله عليه من المحامد ما لم يعلمه أحد قط من قبل، يعني أنواع من المحامد والأذكار ما عرفها لا ملك ولا نبي، فيحمده ﷺ بها، أنواع من المحامد، حتى يقول الله:  يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع  [رواه البخاري: 3340، ومسلم: 194].

مفاتح الغيب الخمس التي استأثر الله بها

00:12:42

هذه الخمس جاء تفسيرها كما في بعض الروايات في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  [لقمان: 34].

فهذه مفاتح الغيب التي استأثر الله بها لا يعلمها أحد إلا إذا أعلمه الله بشيء منها:

أولا: علم وقت الساعة: هذا مما اختص الله به، لا يطلع على غيبه، ولم يطلع على غيبه عليه أحدًا، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب؛ كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً [الأعراف: 187]، فجأة.

ولما سأل النبي ﷺ جبريل -عليهما السلام- قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل [رواه البخاري: 50، ومسلم: 9 و 10] هذا أعظم رسول ملكي جبريل ، وهذا أعظم رسول بشري محمد ﷺ، ويقول: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل  من باب أولى أن غيرهما لا يعلم.

ثانيا: إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله: فلا يعلم وقت إنزاله من السماء إلا الله، في أي مكان يكون، ومتى ينزل، وكم القدر والكمية، إلخ..، لكن إذا أمر الملائكة الموكلين بذلك علموه، أنزلوا كذا في مكان كذا، وقت كذا، بمقدار، ينزل بمقدار، فالملائكة تنفذ، فلما يأمر تعلم، قبل ما تعلم.

ثالثا: ولا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله سواه، لا يعلمه إلا هو، قبل أن يأمر ملك الأرحام بتخليقه، وكتابته، ما يعلمه أحد، لكن إذا أمر الملك علمه الملك، والملك يسأل ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فيؤمر بكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد.

رابعا: لا تدري نفس ماذا تكسب غدًا، يعني في دنياها وأخراها.

خامسا: وما تدري نفس بأي أرض تموت في بلدها أو في بلد آخر، في مسقط رأسه أو بعيدًا عنه، في بر في بحر في جو، قد يموت في الجو، لا علم لأحد بذلك إلا الله.

المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعلم أحد ما يكون في غد))

00:16:26

وقوله ﷺ:  لا يعلم أحد ما يكون في غد  يعني من خير أو شر، من حرب أو سلم، زلزال، بركان، لا يعلم ما ينطوي عليه الغد من خير أو شر إلا الله.

ويدخل في هذا علم وقت الساعة، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها- أم المؤمنين: "من زعم أن محمدًا ﷺ يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية"، والله يقول:  قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ  [النمل: 65] [رواه مسلم: 177].

ولما دخل النبي ﷺ على الربيع بنت معوذ -رضي الله عنها- غداة بُني عليها، وكان عندها جويريات يضربن بالدف، بنات صغيرات يضربن بالدف بمناسبة الزفاف، وكن يندبن من قُتل من آبائهن يوم بدر، فقالت جارية يعني فتاة صغيرة منهن:

وفينا نبي يعلم ما في غد.

فقال النبي ﷺ:  لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين  [رواه البخاري: 4001] قولي الكلام الأول، هذه العبارة، هذه الجملة، لا.

فمنعها النبي ﷺ من القول الباطل؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وما رضي النبي ﷺ أن تقول جارية في نشيدها:

وفينا نبي يعلم ما في غد

لأنه لا يعلم الغيب إلا الله. [مرقاة المفاتيح].

قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام))

00:18:35

وقوله ﷺ:  ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ، وفي رواية: ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله  هذا كما قال تعالى: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8- 9] فقد أحاط الله بكل شيء علمًا، ومن ذلك إحاطته بما تحمله الحوامل من البشر من الإنس، من الجن، من الحيوان؛ كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان: 34]، فيعلم ما حملت من ذكر أو أنثى، تام أو ناقص، حسن أو قبيح، أبيض أو أسود، أحمر أو أصفر، سعيد شقي، طويل قصير، كيف رزقه، كيف عمله؟ واحد أو توأم، أو أكثر، قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ  [النجم: 32].

وجاء في الحديث الصحيح:  وكل الله بالرحم ملكا، فيقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أي رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه  [رواه البخاري: 318، ومسلم: 2646].

كم جنين تحمل به الإناث في العالم يوميًّا؟ لحظيا هذه اللحظة كم واحدة حملت في بطنها جنينا من إنسان أو حيوان؟

سبحان الله، كل هذا الملك يعني يستخبر ويسأل ربه، وربه يخبره، ويأمره، هذا من العظمة الإلهية: أن الله يعلم المستقبل، ويتفرد بعلمه، ويعلم ما يكون، ويأمر الملائكة وبالكتابة، وكم جنين من البشر؟ كم جنين من الحيوان في لحظة؟ في هذه اللحظة كم؟ واللحظة التي بعدها؟ واللحظة التي بعدها؟

شيء مهول، هذا لو فكر هؤلاء يعني -سبحان الله- لو فكر أعداء الله ومن يعصونه، لو بس فكروا يعني هذه العظمة، هذا سعة العلم، هذه القدرة الإلهية العظيمة، يعني هذا شيء مذهل.

قوله: ((وما تغيض الأرحام وما تزداد))

00:22:16

قوله: وما تغيض الأرحام  أي تنقص مما فيها إما أن يهلك الحمل، أو يسقط إجهاض، أو يتضاءل، أو يضمحل، أو يكون ناقصًا، أو يقولون: الرأس ما فيه دماغ.

 وما تزداد  أي الأرحام، وتكبر الأجنة التي فيها أو يتم خلقها.

وقيل: الغيض ما تغيض الأرحام  ما ينقص حملها عن تسعة أشهر، ممكن يولد قبل التسعة بيوم يومين، أسبوع عشرة أيام، يمكن سبعة أشهر، وقد يكون لستة نادرًا.

والزيادة زيادتها عليه، كما يقولون مثلا الآن البنت أول ما تحمل المرأة في أول حملها أول ولد لها يكون يتعدى التسعة غالبًا، يعني يزيد عن تسعة أشهر بضعة أيام.

سبحان الله.

وقيل: النقصان، السقط، والزيادة تمام الخلق.

 وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] فلا يتقدم عليه ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص. [تفسير البغوي، وابن كثير، والشوكاني في "فتح القدير"، والسعدي في تفسيره].

فإن قال قائل: فما بال الكشف عن الأجنة الآن بحسب العلم الحديث بالسونار؟ هذه والأشعة المقطعية وغيرها والموجات الصوتية ألا يعلمون ما فيها؟ ألا يعلمون أذكر أم أنثى؟ ألا يعلمون في جنين أو لا؟ ألا يعلمون هل في نقص أم لا؟ فهل يتعارض هذا مع الآية والحديث؟

الجواب: لا تعارض البتة، فإن الله قال: وَيَعْلَمُ ‌مَا ‌فِي ‌الْأَرْحَامِ  [لقمان: 34]، "ما" عامة تشمل كل شيء.

فنقول: أيها الطب الحديث هل تعلم ما في الرحم قبل أن يخلق أم بعده؟

الله يعلمه قبل، هل علمت مثل الله؟

لا، إذا علمت هل تعلم قطعيًّا أو يوجد نسبة خطأ؟

سبحان الله، يعني عدة قصص، قالوا لها: بنت، راحت أعدت ملابس زهرية اللون، طلع صبي.

قالوا: ذكر، أعدت ملابس زرقاء، طلعت أنثى.

قالوا: واحد، طلع اثنين، كان في أول واحد متخبي وراء الثاني، والأشعة ما شافته.

طيب الله ما عنده نسبة خطأ ولا خطأ.

ثم هل أنتم تعلمون أنه سيحدث إجهاض أو سينزل سليمًا؟

ما تعلمون، هل تحصل لكم مفاجآت؟ نعم.

هل تحصل عندكم أخطاء في تعيين وقت الولادة؟ نعم.

ولو علمتم كل هذا هل تعلمون أنه شقي أو سعيد؟ لا.

هل تعلمون ما هو عمله بعد أن يولد ويكبر؟ لا.

هل تعلمون كم عمره؟ لا.

هل تعلمون رزقه؟ لا.

إذن، يعني أنتم تتباهون بماذا؟

بشيء من العلم، يعني علمكم الله إياه:  عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5].

خلاص طغيتم، صار عندكم طغيانا، تظنون علمتم كل شيء؟ أين علمكم به قبل أن يوجد؟ قبل الزواج؟ تعلمون ماذا في بطن المرأة هذه؟ ماذا سيوجد ولو تزوجت؟ لا.

يقولون: لا نعلم، نحن لا يمكن أن نعرف إلا بعد مرحلة معينة، وترى عندنا نسبة خطأ، وترى ما نعرف بعدين يسلم يجهض، يتم كذا، وعندنا نسبة خطأ في تحديد الموعد، وعندنا، ولا نعرف رزقه، ولا أجله، ولا عمله، ولا شقي أو سعيد؟

إيه نقول: لما يقول الله: وَيَعْلَمُ ‌مَا ‌فِي ‌الْأَرْحَامِ ، يعني: يعلم هذا كله، لا تجي تقول: والله بس العلم الحديث عرف أنه في ذكر، هو يقول: يعلم ما في الأرحام، "ما" تشمل كل هذه المعلومات، تستطيع أن تأتون بها أيها العلم الحديث، أيها الطب الحديث؟ لا.

ثم هذا الطب الحديث -كما قلنا- لا يعلم إلا بعد مدة معينة، فلما يصبح في عالم الشهادة يصير منظورًا، يمكن رؤيته، يرونه، أما قبل لما كان في عالم الغيب ما يعرفونه ولا يرونه.

قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا))

00:28:37

وقوله ﷺ: ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا  يعني في المستقبل، فلا تدري نفس ماذا تكسب من خير أو شر، قد تموت قبل غد، أو يأتي الغد وتمنع من العمل، الإنسان لا يعلم ماذا يكسب يقينًا في غده يتوقع، لكن لا يستطيع أن يجزم، لا يعلم جزمًا وقطعًا إلا الله .

قوله عليه الصلاة والسلام: ((وما تدري نفس بأي أرض تموت))

00:29:09

وقوله ﷺ:  وما تدري نفس بأي أرض تموت  كما لا تدري في أي وقت تموت، لا تدري في أي مكان تموت، هل يموت في مسقط رأسه وإلا بعيد عن ذلك، أو في مكان بعيد عن ذلك أو قريب من ذلك، أو يموت في البر أو البحر، أو الجو، لا يعلم ذلك إلا الله.

و إذا أراد الله أن يقبض عبدا بأرض جعل له إليه حاجة  كما جاء في الحديث، فيذهب لحاجته ولا يدري أنه سيموت.

والحيوان كالبعير ينشأ في جهة من جهات الأرض ثم يكبر ثم يستعمل للركوب وغيره ثم يذبح في بلاد بعيدة، وقد تشحن الخراف من أستراليا لتذبح في هذه البلاد، فتخلق في مكان، وتذبح في مكان.

وإذا كان الإنسان عمومًا لا يدري مكان الموت، والنفوس كلها لا تدري في أي مكان تموت، ولا بأي أرض تموت، فإنها لا تدري كذلك، لا من جهة الزمان، ولا من جهة المكان، وجهالة الزمان أشد من جهالة المكان.

المكان قد تنتقل أنت من أرض إلى أرض، الزمن يمضي رغمًا عنك، لا يعلم أحد متى يموت، ولا بأي أرض يموت، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "حدثني أحد إخواني الثقات أنهم كانوا في سفر الحج على الإبل، وكان معهم رجل من القصيم معه أمه يمرضها، فتأخر عن القوم في آخر الليل؛ فارتحل الناس ومشوا وبقي مع أمه يُمرضها، ولما أصبح وسار خلف القوم لم يُدركهم، ولم يدر إلى أين اتجهوا لأنهم في مكة.

يقول: فسلك طريقًا بين هذه الجبال، فإذا هو واقف على بيت من الشَّعْر فيه عدد من الناس قليلين، فسألهم أين طريق نجد؟ قالوا: أنت بعيد عن الطريق، لكن نوِّخ البعير واجلس استرح ثم نحن نُوصِّلك، يقول: فنزل نوَّخ البعير وأنزل أمه، يقول: فما هي إلا أن اضطجعَت على هذه الأرض فقبَض الله روحها، كيف جاءت من القصيم إلى مكة مع الحجاج، وأراد الله أن يَتيه هذا الرجل حتى ينزل بهذا المكان، لا يعلم هذا إلا الله .

قيل: إن الخليفة المنصور اهتم بمعرفة مدة عمره، فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر، وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى المعبرين فمنهم من تأول له بخمس سنين، ومنهم من تأول له بخمسة أشهر، وبغير ذلك، كل واحد يقول له: هذه معناها كذا، معناها أنك تعيش خمسة أشهر، تعيش خمس سنين، تعيش كذا، حتى قال أبو حنيفة -رحمه الله- لما سأله تأويلها: أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، خلاص أنزل يدك لا سبيل لك إلى ذلك.

وصح عن خيثمة بن عبد الرحمن وهو من ثقات التابعين لكن الرواية هذه ليس لها حكم الرفع؛ لأنه ليس صحابيًا، وأجدر به أن تكون من الإسرائيليات، وحدثوا عن بني إسرائيل ما لم يكن منكر أو باطل، قال: روي أن ملك الموت دخل إلى سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه؛ يديم النّظر إليه، فلمّا خرج قال الرّجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليّ كأنّه يريدني! قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني الرّيح، فتلقيني بالهند! قال: فدعا بالرّيح، فحمله عليها، فألقته بالهند. ثمّ أتى ملك الموت سليمان  فقال: إنّك كنت تديم النّظر إلى رجل من جلسائي؟ قال: كنت أعجب منه؛ إنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك" هذا في ["مصنف ابن أبي شيبة" و"حلية الأولياء: 4/ 118].

قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما يدري أحد متى يجي المطر))

00:34:45

وقوله ﷺ: وما يدري أحد متى يجيء المطر  [رواه البخاري: 1039].

وفي رواية: ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله  [رواه البخاري: 4697]، فالذي ينزل المطر الله لا يعلم متى يأتي، والكمية، والمقدار، ومكان النزول، ومتى ينزل، وكم يستمر، والغزارة، وماذا يصيب من الأرض، وإلى أين سيذهب إذا نزل، وكم الأرض ستأخذ منه، وكم يتخبر، وكم يذهب في مسايل الماء إلى البساتين، أو إلى غيرها، هذا من علم الله.

طيب ومعرفة أحوال الطقس ونزول الأمطار، وهبوب الرياح، وإلخ...، والحرارة..

نقول: هذا ليس من التنجيم، ولا ادعاء علم الغيب، وإنما هذه دراسات مبنية على أمور حسية، وتجارب ونتائج أجهزة وقياسات؛ سرعة الرياح، نوعية السحاب، ونحو ذلك.

وبالتجربة والعادة والخبرة السابقة يخبرون بأشياء، ثم قد تصيب وقد تخيب، يقولون أمطار يمكن ما ينزل شيء، يقولون: غزيرة، يمكن ما تكون غزيرة.

قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله))

00:36:08

وقوله ﷺ: ((ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)).

كثير من الناس صار الشغل الشاغل لهم نهاية العالم وقت كذا، وقت كذا، ومؤلفات ومقالات ومقاطع عربية وأجنبية ووكالات أنباء عالمية تنقل، شف مثلا في عام 2012 كان الملايين يتوقعون نهاية العالم في واحد وعشرين ديسمبر، وفي خمس دول بأمريكا الجنوبية احتفالات غير مسبوقة، ابتداء من يوم الجمعة ولمدة ثلاثة أيام ارتقابًا لنهاية العالم، وما صار شيء، وكلام كم مرة قالوا سيرتطم بالأرض جسم صلب سيقلب الأرض رأسًا على عقب، وسيكون فيها نهاية البشر، وسووا استبيانات واستفتاءات ودراسات، قالوا: عشر في المائة من سكان الولايات المتحدة يؤمنون بذلك، الله قال: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ  [الأحزاب: 63]، وقال: إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات: 44]، لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف: 187]،  لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً [الأعراف: 187]، إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34]، وقول النبي ﷺ:  ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله  فمن زعم أن الساعة تقوم يوم كذا، سنة كذا، حدد العدد، نحن نعلم أنها تقوم يوم الجمعة صباحًا، هذه أكيدة ما فيها يعني يوم الجمعة صباحًا يعني الساعة، لن تقوم يوم السبت، ولا الأحد، يوم الجمعة صباحا، لكن أي جمعة؟ من أي أسبوع؟ من أي شهر؟ من أي سنة؟ لا يعلم أحد إلا الله.

والمطلوب بدلاً من الانشغال بمحاولة تحديد وقت قيام الساعة الانشغال بالعمل لها: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا  [النازعات: 45].

ولما سأل رجل النبي ﷺ: متى الساعة؟ أجابه بسؤال قال: وما أعددت لها؟  هذا المهم  ما أعددت لها؟  [رواه البخاري: 6171، ومسلم: 2639].

بل إن النبي ﷺ قال حاثًا على العمل: إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة  النخلة الصغيرة  فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل  [رواه أحمد: 12981، والبخاري في الأدب المفرد: 479، وهو حديث صحيح].

نص الحديث التاسع والعشرين

00:39:05

قال ﷺ:  إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحُق لها أن تئط أطت من عظمة رب العالمين  أطت السماء  أطت أطيطا  وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله [رواه الترمذي: 2312، وابن ماجه: 4190، وصححه الحاكم: 3931، وحسنه الألباني].

شرح الحديث التاسع والعشرين

00:39:40

لا يعلم جنود الله إلا الله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31]، والملائكة خلق كثير، وقد قال النبي ﷺ لما عرج به إلى السماء: فرفع لي البيت المعمور فسألت جبريل  طبعًا البيت المعمور هذا في السماء مسامت للبيت الحرام في الأرض، يعني ولو وقع يقع عليه، فسألت جبريل فقال:  هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه  [رواه البخاري: 3207، ومسلم: 164] يعني ثاني يوم يدخل سبعون ألف جدد، ثالث يوم يدخل سبعون ألف جدد، كل يوم يدخل سبعون ألف ملك  كم يوم هذا مضى من الدنيا؟ كم عدد الملائكة؟

هذا خلق الله، جنود العظيم -سبحانه-.

والنبي ﷺ وحي يوحى، يرى ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع.

ومعنى قوله ﷺ: أطت السماء  يعني صاحت وصوتت من ثقل ما عليها وما فيها من الملائكة، وحقيق بها أن تفعل؛ لكثرة ما فيها من الساجدين العابدين الخاضعين لله من ملائكته، لا يفترون عن عبادته، ولا يسأمون.

السماء مسكن الملائكة، كما أن الأرض مسكن البشر، لكن أرواح البشر تعرج إلى السماء، والملائكة تنزل إلى الأرض.

الملائكة  لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] في عبادة دائمة خاشعين لله معظمين له: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون  [الأعراف: 206]، وقال: وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ  [الأنبياء: 19] يعني: لا يتعبون ولا يملون، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] لا يضعفون من الفتور، ما يفتر الملك، قال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38].

فأخبرنا ﷺ أنه ما من موضع في السماوات السبع إلا ومشغول بالملائكة، يتعبدون لربهم تعظيمًا لجلاله، وأداء لحقه، وانقيادًا لأمره، وهم في صنوف من العبادة؛ منهم من هو قائم أبدًا، ومنهم من هو راكع أبدًا، ومنهم من هو ساجد أبدًا، ومنهم في صنوف أخر لا يعلمها إلا الله، وهم دائمًا في عبادتهم وتسبيحهم وأذكارهم وأعمالهم التي أمرهم الله بها، ولهم منازل عند ربهم كما قالت الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ [الصافات: 164]، وأعلاهم مقاما جبريل  قال تعالى عنهم:  وَإِنَّا ‌لَنَحْنُ ‌الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ  [الصافات: 165- 166].

إذن، ما في ملك إلا له موضع مخصوص في السماوات، ومقامات في العبادة يقوم بها، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ  [الصافات: 165] صفوفًا في العبادة، ألا ترى أو ألا تسمع ما قال ﷺ:  ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها  قالوا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف  [رواه مسلم: 430] ما يمكن يبدؤون بصف وقبله صف ناقص، يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف.

قال تعالى عنهم مقسمًا بهم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1]. [كما في البغوي والقرطبي وابن كثير].

وقد قال ابن مسعود : "إن من السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدمه قائمًا" يعني لله، ثم قرأ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 165-166]. [تفسير الطبري وابن كثير].

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح".

إذن، هذا العظيم سبحانه وهذه ملائكته، وهذه عبادتهم يعظمونه، أفلا ينبغي علينا نحن أن نعظمه؟ وأن نعرف من عظمته ما يدفعنا إلى عبادته وخشيته؟

نص الحديث الثلاثين

00:45:41

كان النبي ﷺ يقول في ركوعه وسجوده: سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة  [رواه أبو داود: 873، والنسائي: 1132، وصححه النووي: وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار].

عن عوف بن مالك الأشجعي : قمت مع رسول الله ﷺ ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت .

شرح الحديث الثلاثين

00:47:11

إذن، هذا من أذكار الركوع في قيام الليل سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة  أربعة.

طبعا مناسبته قوله: والعظمة  هذا ذكر عظيم من الأذكار كان النبي ﷺ يكرره كثيرًا في قيام الليل في ركوعه وفي سجوده ولو قام بقدر سورة البقرة كرره بقدر سورة البقرة، مع أنه كان لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ، فكم صار طول القيام؟ فكم صار طول الركوع والسجود؟ فكم مرة ردد هذا الذكر  سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة ؟

قال ﷺ: أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن  يعني: حقيق وجدير  أن يستجاب لكم  [رواه مسلم: 479].

إذا ركع المصلي لله وانحنى ذليلاً لربه، ولعزة الله متواضعا متذكرًا كبريائه، فإنه يذكر في هذه الحال هذا الذكر، يقول: سبحان ربي العظيم.

نعم أنزه الله عن كل نقص وعيب لا يليق بكماله وجلاله.

أنزه الله عن الجهل والعجز والتعب والإعياء والولد والزوجة.

وفي حال ذل العبد وخضوعه وانحنائه في الركوع، وقد انخفض وطأطأ رأسه وطوى ظهره، وربه فوقه يرى خضوعه وذله ويسمع كلامه، وهو يقول هذا الذكر. [هذا بعضه من كلام ابن القيم في "شفاء العليل"].

وكان النبي ﷺ يقول في الركوع أيضًا  اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي  [رواه مسلم: 771].

لكن لا يمتنع الدعاء في الركوع بما ورد كما لا يمتنع التعظيم في السجود بما ورد، وإن كان أكثر الركوع تعظيم وأكثر السجود دعاء. كما ذكر ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" وكما في "فتح الباري".

وقد ثبت عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان النبي ﷺ يقول في ركوعه وسجوده:  سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي [رواه البخاري: 817، ومسلم: 484].

فهذا دعاء كان يدعو به النبي ﷺ في ركوعه مع التسبيح  سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي  اللهم اغفر لي دعاء، لكن هذا بالنسبة للتسبيحات أقل في الركوع، والنبي ﷺ كذلك كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوحٌ يعني مبرأ من النقائص والعيوب والشريك قدوسٌ  مبارك طاهر من كل عيب  رب الملائكة والروح [رواه مسلم: 487].

وكان ﷺ يقول في سجوده أيضًا: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجدت وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين  [رواه مسلم: 771].

وهذا تعظيم كان يقوله في سجوده؛ فالركوع هو محل التعظيم، وهو والسجود حالتا ذل وخضوع وانخفاض، ولذلك كان النبي ﷺ يقول فيهما: سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة  سبحان: تسبيح وتنزيه وتقديس، وتبرئة من النقائص، أنزه الله عن كل نقص وعيب.

 ذي الجبروت  يعني: من الجبر والقهر.

 والملكوت  مأخوذ من الملك مثل الرهبة والرهبوت، والرحمة والرحموت، وهي بمعنى واحد، فالملك والملكوت معناها واحد، والجبر والجبروت معناها واحد، لكن زيادة الواو والتاء تفيد المبالغة، ملكوت جبروت رحموت، فالمعنى صاحب الجبر والقهر العظيم، وصاحب الملك العظيم ظاهرًا وباطنًا. كما أفاد الطبري وابن أثير في "النهاية" والقرطبي وابن كثير.

فالله -تعالى- هو الجبار: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ  [الحشر: 23].

"الجبار" لها ثلاثة معان: إما تكون بمعنى الرؤوف، وإما بمعنى القهار، وإما بمعنى العلي.

أما الجبار بمعنى الرؤوف، يعني جبار القلوب المنكسرة، جابر القلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه، يجبر ضعفه وكسره ومصابه، ويجبر قلوب المحبين له، الخاضعين لعظمته بما يفيض عليهم من كراماته وبركته.

ثانيا: بمعنى القهار، الذي دان له كل شيء، وخضع له كل شيء، هذا الجبار بمعنى القهار، قال قتادة: جبر خلقه على ما يشاء من أمره.

ثالثا: الجبار، بمعنى العلي الأعلى، فهو أعلى من كل شيء.

وقد يراد به معنى رابعا وهو: المتكبر عن كل سوء ونقص وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفو أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه. كما في "شأن الدعاء" للخطابي، و"شفاء العليل"، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للسعدي.

ونختم الآن بأبيات ابن القيم -رحمه الله-، ونواصل معكم -إن شاء الله- في الدرس القادم، قال رحمه الله في "النونية":

وكذلك الجبار من أوصافه والجبر في أوصافه نوعان
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا ذا كسرة فالجبر منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمى ثالث وهو العـ ـلو فليس يدنو منه من إنسان

[الكافية الشافية، ص: 209]

وقال:

سبحان ذي الجبروت والملكوت والـ إجلال والإكرام والسبحان

 [الكافية الشافية، ص: 312].

وصلى الله على نبينا محمد