الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
تعقيب على الحديث الثامن
فقد مضى معنا في الدرس السابق: حديث أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه [رواه مسلم: 179].
الكلمة في اللغة والشرع
وبالمناسبة قول الراوي: "قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات" هذا فيه إشارة إلى معنى الكلمة في الاصطلاح.
الكلمة في الاصطلاح: الجملة التامة، الكلمة في اللغة تختلف، الكلمة في اللغة القول المنفرد، فمثلا: قام محمد عند النحاة كلمتان، لكن لما يقول الراوي: "قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات" فإن الكلمة في الشرع هي الجملة الكاملة، وكذلك في لغة العرب أصلا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الكلمة في لغتهم: -يعني لغة العرب- هي الجملة التامة، الجملة الاسمية أو الفعلية؛ كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم [رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694].وكذلك قال ﷺ:
إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل | ........................ |
[رواه البخاري: 6147، ومسلم: 2256].
وقال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ثم قال: وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله [رواه البخاري: 6478].
وقال لأم المؤمنين: لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته [رواه مسلم: 79] فقال: "أربع كلمات" مع أن كل كلمة جملة كاملة مفيدة، سبحان الله عدد خلقه هذه سماها كلمة، "قلت بعدك أربع كلمات"، قال شيخ الإسلام: ومنه قوله تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5]، وقد تكون هذه الكلمة مثلا: أن عيسى ولد الله، عيسى ابن الله مثلا.
وكذلك قوله سبحانه: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح: 26] ما هي كلمة التقوى؟
لا إله إلا الله.
إذن، لا إله إلا الله، هذه عدها كلمة مع أنها جملة كاملة.
وقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ [آل عمران: 64]، وهذه الكلمة: أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ واعتبرها كلمة.
وقوله عن وصية إبراهيم لأولاده في كلمة التوحيد: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 28] لعلهم يرجعون إلى الحق، لعلهم يرجعون لو صار عندهم انحراف.
وقول النبي ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله [رواه البخاري: 123، ومسلم: 1904]، ونظائر هذا كثيرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ الكلمة إلا والمراد به الجملة التامة، فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف، يظنون هو لغة العرب"، هذا كلام شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى".
وطبعا ذكر ابن القيم -رحمه الله- في "إعلام الموقعين" قال: "وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص".
على أية حال: هذا معنى الكلمة في النص الشرعي، الكلمة الجملة التامة المفيدة.
والنبي ﷺ أوتي جوامع الكلم فيجمع أصول العلم، وأصول التوحيد، ومشاهد الربوبية؛ في جمل قصيرة تامة كاملة.
استدراك وتلخيص للحديث التاسع
الحديث الثاني الذي مر معنا في الدرس الماضي أيضا هو الحديث الطويل الجليل، أعظم حديث لأهل الشام، رواته كما عرفنا دمشقيون، هذا الحديث حديث من هو صحابيه؟ أبو ذر الغفاري طيب من يرويه عن أبي ذر؟
أبو إدريس الخولاني -رحمه الله-، وكان إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
الحديث قدسي فيما يرويه النبي ﷺ عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الحديث..
وعرفنا: أن الظلم نوعان بالنسبة للشخص:
ظلم العبد لنفسه، وظلم العبد لغيره.
وعرفنا أن الله حرم الظلم على نفسه فلا يظلم.
سؤال الله الهداية والمغفرة
وعرفنا أن في الحديث سؤال الله لأمرين متعلقين بالدنيا، وأمرين متعلقين بالدين أو بالآخرة، ما هي الأربعة؟
طلب الهداية، وطلب المغفرة، هذان أمران دينين.
والدنيويان: طعام وكساء استكسوني استطعموني ، وله روايات أخرى فيها: طلب مزيد من الأشياء، لكن هذه الرواية فيها طلب أمرين دينيين: الهداية والمغفرة، وأمرين دنيويين: استطعموني واستكسوني ، وفيها أن الهداية لا تطلب إلا من الله، وأن الله إذا هدى أحدا فلا يضل.
وقد عرفنا: ماذا يسأل المصلي ربه: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة: 6]، ويكرر ذلك، ولو أن الله هداه فتكون: اهدني، ثبتني على الهداية، وأسألك المزيد منها.
لو قال واحد طيب: وإذا كان اهتدينا ما فائدة نسأل: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ؟ طيب وإذا اهتدينا؟
نقول:
أولا: لا تأمن على نفسك ولا تغتر، وبعض من اهتدى ضل.
ثانيا: نريد المزيد من الهداية.
ثالثا: نريد الثبات عليها.
فالهداية طلب الهداية أن الله يهديك.
ثم لاحظ أن الشيء الذي يهتدى إليه ليس أمرا واحدا، يعني اهدنا إلى طريق الحق في الدين، يعني اجعلنا موحدين، لا تجعلنا مشركين، اجعلنا من الذين يعرفونك، ولا تجعلنا من الملاحدة، اجعلنا من أهل الإسلام، اجعلنا من أهل السنة، لا تجعلنا من أهل البدعة، هذه هداية اجعلنا من أهل الطاعة لا تجعلنا من أهل المعصية، ممكن واحد يكون موحدا، لكنه عاص، صاحب كبائر، يريد الهداية أيضًا، ففي هداية تتعلق بأمور التوحيد، وفي هداية تتعلق بأمور الأحكام الشرعية، يعني الآن في ناس ما اهتدوا إلى الحق في مسائل تتعلق بالفقه الحلال والحرام، فيظنه مباحا وهو محرم، ويظنه واجبا وهو مستحبا، أو العكس، مثلا، اهدنا لأعمال القلوب الآن خلاص نحن الآن كملنا النصاب في الرجاء والخوف والمحبة والإخلاص والحياء والصدق والتوكل كلها كملناها خلاص ما نحتاج إلى المزيد من الهداية فيها؟ في الأخلاق في الآداب في الفقه والحلال والحرام.
إذن، الهداية أبواب فلما نقول: اهدنا، هداية بعد هداية، وزدنا هداية، وزدنا علما وتوفيقا، وهدى.
طيب كل أحد مضطر إلى هداية ربه في جميع أحواله، وقلنا مثلا من الهداية: الهداية للأخلاق اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت كما جاء في [رواية مسلم: 771].
والنبي ﷺ علم أصحابه الدعاء بأربع تجمع خيري الدنيا والآخرة، فقال للصحابي علمه قل: اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى [رواه مسلم: 2721] الغنى: الاستغناء عن الخلق، ما هو يعني لازم الواحد يصير من أصحاب الملايين، الغني من استغنى عن غيره، خلاص لو عنده كفاف، المهم عنده ما يكفيه ما يضطر يمد يده لأحد، عنده ما يكفيه هذا اسمه غني، من استغنى عن غيره، والغنى الحقيقي غنى القلب، ممن الواحد يكون عنده ملايين الملايين هلوع وطماع، ويبحث عن مزيد ويلهث وراء الدنيا، ولا كأنه عنده شيء، الغنى هذا الغنى غنى القلب أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى [رواه مسلم: 2721].
فإذن، الهدى هذا فيه صلاح القلب، والعفاف فيه التعفف عن الحرام، واستعفاف عن سؤال الناس، وتتم كذلك بهذه الأشياء القناعة بما أتاه الله.
سؤال الله الطعام والكساء
ثم الحديث فيه: يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته بأنواع الرزق المختلفة، فاستطعموني اطلبوا الرزق مني، لا يستنكف حي، ولا ذو كثرة أن يستطعمني، فلو قال واحد: هل هذا الحديث يشمل الأغنياء الذي عندهم أكوام الأطعمة مكدسة في مخازنهم وثلاجاتهم ومستودعاتهم ومطابخهم مكدسة؟ هل يشملهم حديث فاستطعموني ؟
نعم، اطلبوا الرزق مني، ممكن في ليلة تخسر كل شيء، ممكن يحترق كل شيء، ينهب كل شيء في ليلة، في ناس كذا أمسوا أغنياء أصبحوا فقراء، في الواقع الذي نعيش فيه، في الشام في العراق في اليمن، في ناس كذا فجأة بين يوم وليلة.
إذن، استطعموني، وفي ناس عندهم أطعمة ولا يستطيعون أن يأكلوها، عنده علة في صحته تمنع الأكل، فاستطعموني أطعمكم لاحظ بلاغة العملية فقط، ما هو بتوفير الأكل، بس حتى أن يطعم هذا الأكل.
وكذلك فيه توجيه للفقراء أن يطلبوا الطعام من الله ، فيجعل الأغنياء وغيرهم سببا، ما يعلق الفقير قلبه بغني، يعلقه بالله، فالله يسوق إليه الطعام، اللباس، المال، يسوق إليه النقد، قد يكون عن طريق غني أو غيره، قد يجي واحد يعطيه، وقد يرثه إرثا، وقد يمن الله عليه بشراكة، أو بعمل يشتغل فيه بعرق جبينه، ما فيه منة من أحد، أو يزرع زرعا.
المهم الرزق له أسباب فاستطعموني أطعمكم .
يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته الكل محتاج إلى ستر عورته والتنعم بأنواع اللباس والزينة، ثم لا ننسى لباس التقوى، وهو خير لباس: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ [الأعراف: 26].
فلما تطلب من الله الكساء استكسوني اطلب جميع أنواع الكساء.
سؤال الله المغفرة
وقوله: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم الاستغفار طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إلى ذلك؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار، لكن الله لم يؤيسنا، قال: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر: 53]، وقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران: 133]، وقال: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طـه: 82].
النبي ﷺ مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن عمل بهذا الحديث استغفروني أغفر لكم عمل به في المجلس الواحد، وقال: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة [رواه البخاري: 6307]، وفي رواية: مائة مرة قال: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة [رواه مسلم: 2702].
هذا الاستغفار، يعني طلب المغفرة نوع عظيم من التعبد لدرجة أن العباد لو استغنوا عن الله يستغني عنهم، ويأتي بغيرهم فيستغفرون، يعني الله يحب هذا، يحب من العباد أن يطلبوا منه المغفرة، ويحب العبد يقول: اغفر لي، اغفر لي، اغفر لي، قد علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قال في الحديث: والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطؤوا لو كنتم نوعا لا يخطئ لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم حتى يجري ويمضي اسمه الغفار، وإلا لو ما كان يغفر لأحد فكيف يعمل اسمه في الواقع، الغفار كيف ينطبق؟ كيف ينطبق اسم الغفار؟ ولذلك قال: لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم إلى هذه الدرجة، يعني محبة الله للاستغفار إلى هذه الدرجة أنه لو العباد هؤلاء ما يخطئون لخلق الله قوما خصيصا لكي يخطئوا ويستغفروا ليغفر لهم، الله يحب أن العباد يستغفروه، وهو يحب أن يغفر -سبحانه-، يحب أن يتجاوز ويمحو الذنب ويستر -سبحانه-، لو بلغت ذنوبك عنان السماء يا ابن آدم عنان السماء، والعنان هو: السحاب، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم أنك لو أتيتني بقراب إنك لو أتيتني بقراب الأرض، قراب يعني ما يقارب الأرض مثل الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها، بملئها، بمثلها مغفرة [رواه الترمذي: 3540، وهو حديث حسن].
فالله غفور رحيم وكريم.
افتقار العباد إلى الله
وقوله تعالى: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني فيه بيان غنى الله عن خلقه، وأنهم لن يضروه شيئا، وأنه غني حميد، وأن بيده مقاليد الأمور، وأنه يسير الأقدار كيف يشاء، ويخلق ذلك، ثم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا فالله لا يزيد ما عنده بطاعة خلقه له، ولو كان كلهم بررة أتقياء، على أتقى قلب رجل واحد منهم، كما لا ينقص من ملكه معصية العاصين، ولو كانوا كلهم فجرة على أفجر قلب واحد منهم، فهو الغني بذاته، وله الكمال المطلق، ملكه كامل لا نقص فيه، لا يضر أحد، ولا أحد يزيد الله شيئا، ولا أحد ينقص مما عند الله شيء، هذه المعاني في العظمة الإلهية ينبغي أن تستقر في نفوسنا، بل من أسباب لجوء المخلوق إلى الخالق، ومن أسباب توجه المخلوق إلى الخالق، ومن أسباب عكوفه على ربه هذه المعاني، فهو يرى عظمة الله يعني يشعر بذلك، ويؤمن بذلك فيتجه إليه يعلم أنه يغفر يطعم يكسو؛ فيستغفر يسأل يدعو، ولما العبد يعلم أن الله مستغني عن عبادة العباد، فيعرف أن العبادة التي يعبدها لمصلحته هو، لا لشيء ينتفع به ربه: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا [الحـج: 37] ليستفيد العبد، الله ما هو مستفيد من طاعتنا أبدا، وإنما نعبد لمصلحتنا نحن، ولذلك ما في معنى المنة، يعني أني أنا أمن عليك بعبادتك، فهو يقول أنا مستغن عنك، وعن عبادتك، تمن على الله بماذا؟ فتذهب قضية المنة هذه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17] هذا في سلوك بعض البشر، بعض البشر عندهم هذا المعنى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات: 17]، وكذلك تصبح العبادة يعني فيها معنى الافتقار، يعني أنا أعبد مفتقر، أنا بحاجة إليه، أنا أعبده لحاجتي، أنا محتاج إلى هذه العبادة، وليس هو محتاج إلي، أنا ما أعبد عبادة المستغني؛ لأن بعض الناس يعبد كذا كأنه يعني يؤدي خدمة، تخدم من؟ الله مستغني عنك وعن خدمتك، فيصحح العبادة، ويصحح سلوك الإنسان في العبادة، إذا استقامت في نفسه هذه المعاني.
وأيضًا لما الواحد يستشعر عظمة الله يقبل على الله بالسؤال؛ لأنه يعني هو الآن أمام العظيم لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر .
فالواحد لما يستقر عنده هذا المعنى ما يستكثر على الله شيء في الدعاء، لما يستقر عنده هذا المعنى ما يقول لا يمكن يعطيني هذه، وما يعطيني هذه، يعني أسأله عشرة أشياء كثير، يمكن ما يعطيني كلها، هو يقول لك: لو اجتمع العباد كلهم في ساحة واحدة وسألوا الله، وأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص الإبرة إذا دخلت البحر وطلعت، ماذا نقصت من البحر؟ وهذا مثال للتقريب وإلا ما ينقص إذا كانت ابتلت قليلا جدا جدا، يعني نقص البحر قليل جدا جدا، الله ما ينقص من عنده شيء أبدا إطلاقا؛ لأن المثل للتقريب فقط، ما هو مطابقة.
وجاء في الحديث: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ماذا يعني لا يغيضها : لا ينقصها، يعني مهما أعطى يعني أعطى هذا مزارع، وأعطى هذا العبيد والإماء، وأعطى هذا زوجات وأولادا، وأعطى هذا قصورا، وأعطى هذا مراكب، وأعطى هذا ذهبا وفضة، ودنانير ودراهم، وأعطى هذا غنما وبقرا وإبلا، وأعطى.. وأعطى كل البشر، ما ينقص شيء، أنت لما تروح واحد من أهل الدنيا تسأله تقول: ليس معقولا يعني يا أخي، ولذلك يجيك واحد يقول: يا ابن الحلال خل طلبك منطقيا، خل طلبك واقعيا، خليك عمليا، لا تقل: أعطني كل هذه، خلاص بس الثلاثة الأولى، هذه ماذا تبغى تأخذ فلوسه وتنبهه ما يعطيك شيء، الله ما في، اطلب كل شيء، رح اطلب ماذا تريد، بيتا ولدا زوجة، وظيفة، ثروة، مركبا أثاث، ملابس، اطلب كل شيء، وما في حد، يعني ما في سقف للمطالب، مفاوضات الدنيا، في الدنيا تحط سقف المطالب، لما تقدم وظيفة لشركة أطمح أن يكون راتبي، ما راح تحط لهم ثلاثمائة ألف، أنت تبغى عشرة، عشرين، خمسة عشر، حط خمسة عشر، ينزل لعشرة، يعني في سقف مطالب، في سؤال الله ما في سقف مطالب، ما دام السؤال صحيحا، ما دام أنت لا تعتدي في الدعاء، لا تقول: اللهم اجعلني نبيا! خلاص انقطعت النبوة، وانتهينا، محمد ﷺ، هو خاتم الأنبياء، لكن تسأل الله مزرعة وقصرا وزوجات وأولادا ولباسا وأطعمة وصحة وعافية ومراكب ووظيفة، اسأل، أنت خسران ماذا؟ ولا يهولنك شيء، لا يهولنك شيء، هو هذه أثر دراسة هذه الأحاديث، أحاديث العظمة الإلهية، إذا درست بشكل صحيح يتغير سلوكنا وعبادتنا ومطالبنا، وكلامتنا، كل شيء يتغير، خلاص تبعا لذلك يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار يعني دائمة العطاء، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ يعني سواء أعطى ذا القرنين وإلا فرعون وقارون، يعني سواء أعطى المسلم والكافر، هو أعطاهم كلهم: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [الزخرف: 51]، وذو القرنين: وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف: 84] فسواء المسلم والكافر، يقول: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده [رواه البخاري: 7411، ومسلم: 993]، ولذلك قال ﷺ: إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت يعني بعض الناس يسأل على استحياء يقول يمكن ما يعطيني، يمكن نصف، يمكن ربع، اللي يعطيني يعني يسأل وهو يعني غير واثق إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة -كما في الحديث- فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه [رواه مسلم: 2679] لو رحت إلى عظماء الدنيا تقول مثلا: أعطيني ترليون؟ يقول: ماذا؟ يمكن يغص فيها بالكلمة، يعني تتعاظمهم المطالب، لو تقول: أعطني وأعطني أعطني بيتا وسيارة ومليون، يعني يقول: خلك منطقيا، خلك واقعيا، ماذا تبغى حدد مطالبك؟ انزل؟ نزل شوي؟ نعطيك ثنتين والثلاثة؟ لا، والله لا يتعاظمه شيء، لو فرض أنه شرب عصفور من البحر، يعني ماذا ينقص من البحر، الله ما ينقص مما عنده شيء ألبتة أبدا: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ [النحل: 96].
قال ﷺ: يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة [رواه البخاري: 7411] يعني لا ينقصها نفقة، النقص يدخل على المحدود الفاني، لكن الباقي الغني ما يدخل عليه نقص، ما يدخل عليه نقص.
شف لاحظ المثل لما ضرب بالبحر المخيط إذا أدخل البحر، البحر بحر، يعني مقصود طبعا ضرب المثل للتقريب للأفهام؛ لأن البحر من أعظم المرئيات في الدنيا، لو تجي لواحد تقول له: هات شيئا دنيويا عظيما، يعني في الدنيا، هات في الأرض أكبر حاجة تعرفها في الأرض ما هي؟ البحر، المحيطات، هذه ثلاثة أرباع العالم البحار، ثم في شيء يعني طبعا الإبرة لماذا اختيرت الإبرة في ضرب المثل؟ لأنها صقيلة، ما يعلق فيها، لا يكاد يعلق فيها شيء، لماذا اختار المخيط؟ يعني لماذا اختار البحر واختار المخيط؟
لأن البحر يمكن أكبر شيء في الأرض، يعني نعرفه أكبر مخلوق موجود في الأرض البحر، والمخيط صقيل جدا، إذا غمسته في البحر وطلعته ماذا راح ينقصه، فهذا مقصود، يعني مقصود البحر والمخيط مقصودة لضرب المثل، حتى الواحد تصل الفكرة بجلاء ووضوح ما ينقص ما عند الله شيء، ثم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، يعني ماذا سينقص إذا كان أمره يخلق ما يشاء بالكلمة: كن، فماذا راح ينقص سيزيد، فإذا كان هذا عطاؤه وملكه، فلما تسأل الفقير العاجز؟ اسأل الغني الكريم، هذا درس آخر يعني من الدروس كلها أن لا يتعاظمك شيء عند سؤال ربك.
ثانيا: أنك تتوجه بالسؤال له لا إلى الفقير المخلوق مثلك.
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها أحصيها الله، يعني أسماء لله بمعنى الإحصاء: المحيط، الحفيظ، الحسيب، الرقيب الشهيد: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 94].
إحصاء الله لأعمال العباد
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله ؛ لأن الخير منه، ما العلاقة بين من وجد خيرا فليحمد الله؟ لأن الخير منه سبحانه، الشر سببه ابن آدم، كله من الله، لكن الشر مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] ، هو كله من عند الله، لكن الشر الإنسان له سبب في الموضوع، هو تسبب فيه من اتباعه لهواه: ما أصابك من سيئة فمن نفسك، "لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه"، في الدنيا نحن مأمورين باتباع شرعه، وإذا صار يعني شيء من السوء نلوم أنفسنا، نرجع إليها باللوم، في الآخرة من وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وما ينفع اللوم يومئذ، فهم يلومون أنفسهم، لكن لا ينفع اللوم، فكأنه يقول: إذا أردت لوما ينفع فالآن في الدنيا، النفس اللوامة هذه تلوم نفسها على الشر، فتتوب، تلوم على ما يحصل منها من السوء فتؤب، هذا اللوم الذي ينفع، أما في الآخرة خلاص فات الأوان.
نص الحديث العاشر
الحديث العاشر: قوله ﷺ: اللهم رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر [رواه مسلم: 2713].
شرح الحديث العاشر
هذا الدعاء والذكر أحد الأدعية والأذكار التي تقال عند النوم، وهو دعاء عظيم يحسن بالمسلم أن يحفظه ويحافظ عليه، وأن يقوله عندما يأوي إلى فراشه، وهو مشتمل على توسلات عظيمة إلى الله -تعالى- بربوبيته رب السماوات والأرضين السبع والعرش العظيم .
وكذلك التوسل إليه بإنزاله لكلامه، ووحيه المبين، وتوسل إليه بإحاطته بالإنسان وعنايته وحفظه له، وتوسل إليه بأسماء عظيمة له .
ومن اللطائف في ترتيب هذه التوسلات أنه ﷺ بدأ بقوله: اللهم رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم يعني خالقها، ومالكها، ومدبر أمورها، ومودعها وموجدها من العدم، وقد خص هذه الموجودات المخلوقات لعظمها، واتساعها، وكبرها، وكثرة ما فيها من الآيات الدالات البينات، والدلالات الباهرة على عظيم مبدعها، وقوة فاطرها، وقدرة خالقها .
بعدما بدأ بهذه الأشياء الكبيرة قال: ربنا ورب كل شيء ؛ الصغير، والكبير، الدقيق، والجليل، والعظيم، والحقير رب كل شيء فيكون هذا تعميم بعد تخصيص، بدأ بالمخلوقات الكبيرة ثم قال: ربنا ورب كل شيء لئلا يظن أن الربوبية خاصة بالأشياء الكبيرة كل شيء، فالسماء مخلوق عظيم، ولذلك أقسم الله به، والله يقسم بما شاء من مخلوقاته، لكن لا يقسم إلا بعظيم، فلم يقسم مثلا بالبعوضة، ولا بالعنكبوت، لكن أقسم بالسماء وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس: 5]؛ لأن فيها من بديع خلقه أشياء تحير الألباب، وفيها من حسن بنائها وكمالها وعلوها وسعتها واستدارتها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها وأفلاكها ومقاديرها وأشكالها ومشارقها ومغاربها الكواكب هذه، يعني متقنة الصنع عالية بغير عمد ترونها: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات: 28]، وجعل لها زينة الكواكب: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [الصافات: 6-7]، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16]، وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات: 47]، أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات: 27-28]، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57].
وفيها آيات لأولي الألباب، والأرض وما بين السماء والأرض من الموجودات والمخلوقات والهواء قلَّ أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكر السماء، يعني السماء مذكورة في أكثر سور القرآن إما إخبارا عن عظمها واتساعها أو إقساما بها أو دعاء للنظر فيها وفي آياتها، والاستدلال على عظم بانيها ورافعها، وحسن خلقها، وجمالها وبهائها وزينتها، وكل هذا يستدل به على الخالق -سبحانه-، يعني من أين أتى كل هذا كل هذا الخلق البديع من أين أتى؟ من أين أتى يعني ماذا يعني؟ ما في موجد يعني يا أيها الملاحدة؟ يعني اخجلوا، يعني استحوا، يعني يا أيها الملاحدة هذا من أين أتت كل هذه الأشياء؛ كواكب شمس قمر عجائب.
وكذلك الأرض مخلوق عجيب الله مهده وبسطه، ودحاها و أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات: 31]، وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ [لقمان: 10]، وأعد السكن للساكن قبل أن يخلق الساكن خلق السكن أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل: 61]، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً [طـه: 53]، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 20].
فالله واحد في ملكه خالق لكل هذه الأشياء رب كل المخلوقات يا أيها الملاحدة الذين تجحدونها وتنكرونها ما فيكم عقل ما فيكم رشد ما تهتدون؟ ما تعقلون؟ لا تعلمون؟ مالكم كيف تحكمون؟
والحديث فيه ذكر العرش العظيم أنه رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض [رواه البخاري: 3191].
مر معنا وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7]، فالعرش كان على ماء قبل خلق السماوات والأرض، والكرسي موضع قدمي الرب، بالنسبة للعرش مثل حلقة ألقيت في صحراء، والسماوات السبع والأرض وما فيها بالنسبة للكرسي مثل حلقة ألقيت في صحراء، فماذا يطلعوا الخلق هؤلاء كلهم بالنسبة لله؟
ويجي واحد يقول لك يعني هو فوق، ونحن كذا، طيب الذي من هذه الجهة أصلا لما تفكر في حديث إذا تبغي في جواب على هذا الكلام يجي يقول يعني هذه الكرة الأرضية، يعني الله فوق، طيب من الجهة هذه كيف يكون، يعني لو يعقل أصلا ما يجي هذا السؤال يعني هو لأنه يروح يمثلك يقول لك طيب العرش، طيب هذه الأرض وهو هنا، طيب الناس الذي هناك كيف يصير هنا، نحن هنا وهؤلاء تحت، طيب هو فوق وتحت هؤلاء فوق، وإلا هؤلاء فوق، يا مسكين الأرض هذه بالنسبة للكواكب بالنسبة للمجموعة الشمسية كم حجمها؟ المجموعة الشمسية بالنسبة لباقي المجموعات كم حجمها؟ مجموعات كلها الشمسية بالنسبة للسماء كم حجمها؟ السماوات السبع كلها ما هو السماء السابعة الأولى السبع كلها وسكانها، والملائكة الذين فيها، والأبواب وسمكها، والمسافة من كل سماء إلى سماء، والأرض وما فيها، والسبع أرضين كلها بالنسبة للكرسي موضع الكرسي مثل حلقة في صحراء، والكرسي بالنسبة للعرش مثل حلقة في صحراء، والعرش بالنسبة لله ماذا يطلع؟ أنت تتكلم عن إي شيء؟ يعني مثل واحد أخذ هباءة كذا، وبعدين يقول لك فوقه وتحته ومن الجهة.
يا أخي: هؤلاء الخلق بالنسبة ما يطلعوا هباءة، وتجي تقول لي: من هنا يطلعوا، ومن هنا تحت، ومن فوق، مسكين هذا يعني كل المشكلة: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67]، يعني لو فكرت فعلا فساد تصورات الناس وفساد عقائدهم، يعني موفقهم من رب العالمين كل مشكلته: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حتى الذنوب والمعاصي وسع كرسيه السماوات والأرض أحاط وشمل الكرسي كيف العرش؟
وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- والكرسي موضع القدمين [رواه ابن خزيمة والحاكم وهو حديث صحيح موقوفا].
والعرش أكبر من الكرسي "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة".
وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة، بدأ النبي ﷺ: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم لعظم هذه المخلوقات، ثم قال: ربنا ورب كل شيء تعميم بعد تخصيص، لئلا يظن أن الأمر مختص بما ذكر، ثم قال: فالق الحب والنوى الحين فلق الحبة وفلق النواة، هذا مظهر من مظاهر الربوبية، مظهر من مظاهر القدرة الإلهية.
مثال على القدرة الإلهية: أنه يفلق الحبة، ويفلق النوى، يفلق الحبة، وتخرج النبتة، يفلق النواة، وتخرج الشجرة: فالق الحب والنوى أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64].
من ينبته من الذي يفلق الحبة؟ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ الله ينبته هو الذي أنبته فالق الحب والنوى من الفلق يعني: الشق؛ فيشقها سبحانه ليخرج شجرها ونبتها وثمرها فالنباتات إما أشجار أصلها النوى أو زروع أصلها الحب لما، قال: فالق الحب والنوى ؛ لأنهما نوعان: إما أشجار أصلها نواة مثل النخل والمشمش، وإما زروع أصلها حبوب: حبة شعير قمح ذرة، فتخرج منها الزروع والأشجار العظيمة.
هذه من الآيات الباهرة إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام: 95] سواء قلت نخلة وإلا سنبلة كلها هذه من النواة، وهذه من الحبة لا يعجزه شيء.
في التوسلات في هذا الحديث يعني يتوسل بأشياء دالة على عظمته ورب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، وفالق الحبة والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان هذه النعمة العظيمة، وهذه الكتب العظيمة، أعظم كتب الله هذه التوراة والإنجيل والفرقان، هذه المشتملة على هداية الناس، وسعادة الناس، والأحكام اللازمة لإصلاح حياة الناس، وجعل العدل فيها، وتمشي بالقسطاس والصراط المستقيم.
تأمل قوله: رب في الأرض والعرش والسماوات والأرض، والحب والنوى فالق ، والتوراة والإنجيل والفرقان منزل ؛ فصار عندنا: رب وفالق ومنزل بحسب الأشياء التي أضيفت إلى كل كلمة توسل إلى الله بربوبيته بالسماوات السبع، والأرضين السبع، والعرش العظيم، وبإنباته لطعام الناس والحيوان، وإنزال الكلام المبين، هذه كلها ماذا يريد من وراء حشدها في هذا الذكر؟
الاستعاذة من شر كل ذي شر الله آخذ بناصيته، وهذا في الحقيقة درس عظيم لنا في حسن الدعاء، وحسن الذكر، وحسن الاختيار للكلمات أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت آخذ بناصية الأعداء، أعداء الدين أعداؤنا، أنت آخذ بناصية السحرة والمشعوذين، أنت آخذ بناصية الحيات والعقارب، أنت آخذ بناصية كل ذي شر.
فإذن، ذكر التوسلات الخالق الفالق المنزل آخذ بناصية كل شيء، فهذه الآن كلها توكل على الله، جميع المخلوقات داخلة تحت قهره وسلطانه، أليس ربها؟ أليس ربها خالقها موجدها؟ كل شيء أنت آخذ بناصيته ماذا يعني آخذ بناصيته، الأخذ بالناصية يدل على التحكم، القهر، القدرة، كل شيء أنت آخذ بناصيته قهره -سبحانه-، يصرفه كيف يشاء، يمنعه يتركه يضعفه يقويه يقتله يميته يحييه، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، هذه العظمة، ذكر العظمة الإلهية بأوليته تعالى ما في قبله شيء، الآخر لا شيء بعده، ظاهر لا شيء فوقه، باطن لا شيء دونه -سبحانه-، وكل اسم فسره هو الحديث نفسه لو تقول ما معنى الباطن؟ نقول: الباطن معناه ليس دونه شيء، ومطلع على البواطن والدقائق والخوافي، الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية، الإحاطة الزمانية أين؟ الأول والآخر، الإحاطة المكانية، فأين؟ الظاهر والباطن، أوليته وعلوه واستواؤه كل شيء غير الله حادث، الله أول ما في شيء قبله، آخر هو الغاية، تصمد إليه المخلوقات، تحتاجه، الظاهر ما في أحد فوقه، عظيم عظمة عظمة الباطن، مطلع على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا، فهو قريب مع علوه على عرشه.
بعد كل هذه الإرادات قال: اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر يعني أعنا على قضاء حقوق العباد، أعنا على قضاء حقوق العباد، بعدما تعيننا على أداء حقوقك اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اقض عنا الدين وأغننا من الفقر أغننا من احتياج المخلوقين، أغننا من الفقر، أول شيء فقر القلب قبل فقر المال، فقر البدن، والغنى غنى النفس، الغنى غنى النفس الحقيقي، والغنى بالله، هذا الغنى الحقيقي، الغنى بالمال، المال يروح ويجي، وفي ناس هلوع حتى عنده مال الدنيا وهلوع.
فإذن، المؤدى بعد ذكر كل هذه الأشياء اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر معناها كم الدين هذا شين ثقيل مربك مؤلم، مجهد، مأساة الدين هذا شيء يثقل الكاهل، فلا تتعجب أنه حشد كل هذا ليقول: اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر ؛ لأن الفقر يحوجك ويؤلمك، أيضا تكون محتاجا بئيسا لا تجد كساء أو دارا أو مأوى أو طعاما أو شرابا لباسا زوجة، أغننا من الفقر والاحتياج للمخلوقين، اجعلنا أغنياء بك.
هذا من شرح هذا الحديث العظيم.
والحمد لله رب العالمين