الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال المصنِّف -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله [رواه الترمذي: 331، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7363]، وهذا الحديث الصحيح قد أخرجه البخاري -رحمه الله- أيضًا. [رواه البخاري: 3445].
وقوله في الحديث: لا تطروني : الإطراء هو الإفراط في المديح والمبالغة فيه ومجاوزة الحد؛ وقيل: هو المديح بالباطل والكذب.
كما أطرت النصارى ابن مريم : لأنهم لما أفرطوا في مدحه وجاوزوا فيه الحد جعلوه إلهًا أو ولدًا لله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
ويُستفاد من نهيه ﷺ أمته عن مدحه بما هو جائز أصلاً خشية وقوع المادح فيما لا يجوز، وهذا من تواضعه ﷺ في الأصل.
وفيه: أن الإطراء والغلو يؤديان إلى العبادة، ولهذا نهى النبي ﷺ عنهما.
وقوله: إنما أنا عبد ، بعض الناس يظن أن قوله: إنما أنا عبد يعني: كأنه نزول عن المقام العالي إلى درجة أدنى، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فإن العبودية الحقة هي أعلى المنازل التي يمكن أن يصل إليها البشر، فإذا وصل الإنسان لدرجة أن يكون عبدًا لله، فهذه هي القمة، فقوله: إنما أنا عبد، فقولو: عبد الله ورسوله : فهو متصف بذلك، ولا تزيد على هذا، وهذان الوصفان: "عبد الله ورسوله" أشرف ما وصف به النبي ﷺ وأصدق ما له من الصفات.
ويؤخذ من الحديث: أن أفضل وصف رضيه النبي ﷺ لنفسه هو أن يقال له: عبد الله ورسوله، وأشرف وصف للإنسان وأشرف منزلة أن يكون عبدًا لله، ولهذا كانت العبودية هي أشرف مقام للنبي ﷺ وقد خاطبه ربه بذلك في أشرف المناسبات وأعظم المقامات، ففي مقام الإسراء قال له: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1]، وفي مقام إنزال القرآن قال عنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف: 1]، وقال أيضا: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان: 1]، وفي مقام الدعوة إلى الله، قال تعالى عنه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعاء النبي ﷺ: أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك رواه أبو داود وأحمد وهو حديث صحيح. [طريق الهجرتين وباب السعادتين: 10].
ثم قال -رحمه الله-: وعن أنس بن مالك ، أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت له: إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك رواه أبو داود أيضًا، وهو حديث صحيح. وروى مسلم نحوه. [رواه الترمذي: 332، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 285].
وقوله: "أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ": جاء في رواية مسلم أن في عقلها شيء هذه المرأة، فقالت: "إن لي إليك حاجة" يعني: هناك حاجة خاصة أريد أن أخبرك بها، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت في أي جزء من أجزاء طريق المدينة، وهذا طبعًا سيكون مكانًا مكشوفًا يراه الناس ويمرون ويجيئون ويغدون منه، وبالتالي فليس في القضية خلوة، فقال أي مكان من طريق المدينة من الطريق الواضح البين المكشوف، أي مكان أردت أقعدي قولي هذا المكان وأنا آتيك، وأسمع كلامك فيه، وأقضي الحاجة التي تريدينها.
وجاء في صحيح مسلم عن أنس في رواية قصة هذه المرأة: أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: "يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطريق"، والمقصود طبعًا بالخلوة هنا السماع، أنه وقف معها بحيث لا يسمعها أحد؛ لأن حاجتها خاصة، ولكن من جهة النظر والرؤية، فهما على مرأى الجميع، ولكن أرادت أن تخبره بشيء خاص لا يسمعه غيره، قال: "فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها".
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "أي وقف معها في طريق مسلوك وليس مقفر، ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها مما لا تريد أن يظهر" [شرح النووي على مسلم: 15/83].
وروى أحمد في المسند عن أنس بن مالك قال: "إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة، -وهي الفتاة الصغيرة أو البنت الصغيرة- لتجيء فتأخذ بيد رسول الله ﷺ فلا ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت".
ويستفاد من هذا الحديث: أن استجابة النبي ﷺ لتلك المرأة وقضاء حاجتها من تواضعه ﷺ، فبعض الناس يأنف مثلاً أن يأتي أحد مِن مَن في عقله شيء ويريد أن يكلمه، فيقول: أنا ما أكلم مجانين، وأنا ما أكلم كذا، وأنا ما أكلم كذا، أو مثلاً يريد أن يتكلم معه علية القوم.
وكذلك يستفاد من هذا: التواضع من أخلاق النبي ﷺ كما قال ابن القيم -رحمه الله- عن التواضع: "هو انكسار القلب لله، وخفض الجناح، جناح الذل والرحمة لعباده فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خُلُق إنما يعطيه الله من يحبه ويكرمه ويقربه، والتواضع يتولد من العلم بالله -سبحانه- ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها"، هذا كلامه في كتاب الروح. [الروح: 233].
ونعمة التواضع من أجل وأعظم النعم التي يمتن الله بها على عباده، ولقد كان نصيب النبي ﷺ من هذا الخلق النصيب الأوفى، فقد كان الحبيب ﷺ إمام المتواضعين، فلما أراد أن يخبر الأمة عن قدره ومكانته عند الله قال لما قال: أنا سيّد ولد آدم [رواه مسلم: 2278]، قال: ولا فخر
[رواه الترمذي: 3148، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1468]، أنا لا أقصد الفخر ولا العلو ولا البغي على عباد الله، ولا الكبر، لكن هذه الحقيقة، أنا سيد ولد آدم، لأن الله جعلني كذلك، جعلني للناس سيدًا، وقوله: ولا فخر ، من تواضعه ﷺ، حتى لا يظن أحد أن النبي ﷺ قاله تفاخرًا، "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا شافع وأول مشفع ولا فخر"؛ فالتواضع من أخلاق الأنبياء، وقد حاز منه ﷺ القِدح المعلَّى، وهو من أسباب الرفعة والعزة، وفي ترك التواضع وقوع التشاحن في الحقيقة بين الناس والبغي والإعراض والاستطالة وأخذ الحقوق وجحد الحق ورفض الحق الذي يأتي من فلان أو فلان؛ لأنه قاله فلان.
وقال ﷺ: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد حديث صحيح. [رواه مسلم: 2865]
وقد جاء في ثواب التواضع حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه [رواه مسلم: 2588]؛ وعنون عليه النووي -رحمه الله-: "استحباب العفو والتواضع".
وقوله: وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله : "فيه وجهان: أولاً: يرفعه في الدنيا، ويثبت له بتواضعه منزلة في قلوب الخلق، ويرفعه عند الناس، ويجل مكانه، الثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة، ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا، قال العلماء: وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعها في الدنيا والآخرة، والله أعلم" [شرح النووي على مسلم: 16/141].
وعن أنس بن مالك ، قال: "كان رسول الله ﷺ يعود المريض، ويشهد الجنائز، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، وعليه إكاف من ليف" [رواه ابن ماجه: 1776، والترمذي في الشمائل: 333، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل: 268]. والحديث رواه الترمذي في سننه بالإضافة إلى روايته له في الشمائل، وكذلك رواه ابن ماجه، لكن قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعف، والحديث ضعفه الألباني.
عيادته للمرضى ثابتة، وهذه تدل على التواضع؛ لأنه ﷺ ما كان يفرق في المرضى يعني يعود شريفًا وضيعًا عبدًا حرًا، يعود شيخًا كبيرًا، يعود غلامًا، يعود مسلمًا، يعود كافرًا أيضًا ﷺ عاد غلامًا يهوديًا ودعاه إلى الإسلام.
وكذلك يشهد الجنائز أي ما كان، حتى لو أن امرأة سوداء ماتت تقم المسجد سأل عنها وأراد أن يصلي على قبرها.
ويركب الحمار مع قدرته على ركوب ما هو أعلى من الحمار، ناقة، جمل، فرس، ومع ذلك تعمد أن يركب أحيانًا على الحمار لكي يتواضع لله ، يجيب دعوة العبد المملوك قرب محله أو بعد.
وروى البخاري عن أنس قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ﷺ فتنطلق به حيث شاءت، وكان يوم بني قريظة -وهؤلاء اليهود الذين نكثوا العهد وقصتهم معروفة- على حمار مخطوم ﷺ " [رواه البخاري: 6072].
ومعنى ذلك أن هذا الحمار كان له زمام، حبل من ليف يقاد به، وعليه إكاف: وهو ما يوضع على الدابة للركوب عليها ويشبه الرحل، فالإكاف للحمار مثل السرج للفرس، وهذا جملة من الأمور التي تدل على تواضعه ﷺ.
وقد أخرج الطبراني عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله ﷺ كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة -يعني يحلبها-، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير" حديث صحيح. [رواه الطبراني في الكبير: 12494، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4915].
فما كان ﷺ مثل ملوك فارس والروم في زخرفهم ومظاهرهم وأُبّهتهم وجلوسهم للأكل، وحلب الشاة يفعله آحاد الناس، ويفعله الخادم مثلاً، يفعله العبد لسيده، يفعله الراعي؛ مع ذلك النبي ﷺ كان يحلب الشاة؛ لأن الكبراء لا يفعلون ذلك، ولا ينزلون إلى الشاة ليحلبوها، وإنما يشربون اللبن جاهزًا محلوبًا.
وعن أنس بن مالك ، قال: "كان النبي ﷺ يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب، ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكها حتى مات" [رواه أبو يعلى الموصلي: 4015، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 287]. والحديث رواه أبو يعلى أيضًا، وهو حديث صحيح.
"كان النبي ﷺ يدعى إلى خبز الشعير والإهالة" والإهالة: هي دهن اللحم، ومعنى "سنخة" يعني: متغيرة الرائحة، ولقد كان في استجابته لهذه الدعوة على خبز شعير وشحم متغير الرائحة من طول المكث، ولا يجد غضاضة، ولا يأنف، ولا يرفض الطعام، ولا يعيبه، ولا يقول: جئت بي على هذا؛ كما يفعل بعض الناس، يجيب إلى خبز شعير وإهالة سنخة، شحم متغير الرائحة من طول التخزين.
"ولقد كان له درع عند يهودي": درع من حديد مرهون عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير أخذها نفقة لأهله قبل أن يموت.
"فما وجد ما يفكها حتى مات": حتى مات ما وجد شيئًا يدفع لليهودي ليفك رهن الدرع، وهذا ربما لا يوجد له علاقة مباشرة للتواضع وقضية رهن الدرع، لكن يوجد له علاقة مباشرة بمسألة ضيق ذات يد النبي ﷺ وأنه لم يكن من الأغنياء المترفين، ولو سأل أدنى واحد من أصحابه أعطاه، لكن مع ذلك ما كان يسأل حتى أصحابه، ولو سأل أدنى واحد من أصحابه أن يفك له رهن هذه الدرع لسعوا في فكها، ولو قال لواحد من أصحابه: ارهنها، ارهن درعي عندك بخمسين لرهنها بأضعاف ما رهنه به اليهودي؛ لكنه ﷺ لا يريد أن يكلف أحدًا شيئًا، فاليهودي لن يعطيه أكثر مما يساوي الرهن حقيقة، هذا إذا ما بخسه، لكنه لو أعطاها أحد من المسلمين يعطيه يمكن أضعاف أضعاف قيمة الرهن، لكن اليهودي لن يكون كريمًا في هذا، فلا يخشى من المحاباة، وهذا جواب سؤال لو واحد سأله وقال: لماذا تعامل النبي ﷺ مع اليهودي؟ لماذا ما تعامل مع المسلمين؟
نقول: لو أعطى مسلمًا -وسيكون بالتأكيد واحد من الصحابة- درعه ليرهنها مقابل كم، لا شك أن ذلك المسلم سيعطيه ويعطيه، لكنه رهن عند اليهودي؛ لأن اليهودي لن يجامل في هذا ولن يكون غاضًا من حقه شيئًا أبدًا، لا تخاف على حق اليهودي، فلذلك رهنها عنده لئلا يأخذ أكثر مما يحق له أن يأخذ.
قال العلماء: "والحكمة في عدوله ﷺ عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهودي إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم أو خشي أن لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا، فلم يرد التضييق عليهم، ولعله لم يطلع على ذلك من كان يقدر واطلع عليه من لم يكن موسرًا".
إذًا لو أنه رهنها عند صحابي، فالصحابي يقول لا ما يحتاج رهن خلاص خذ الدرع وخذ الشعير؛ لأن الصحابي لن من هو الصحابي الذي سيأخذ الدرع ويطالب ويقول أين الشعير أو بعت الدرع، أما اليهودي سيفعلها، سيفعلها ولا يبالي.
النبي ﷺ ما أراد أن يثقل على أصحابه، ولا أن يأخذ منهم شيئًا بلا مقابل، ولذلك تعامل مع هذا اليهودي، والقصة فيها فائدة مهمة فقهية في قضية جواز معاملة الكفار، وإن كانت مكاسبهم خبيثة؛ بشرط أن تكون طريقة التعامل بينك وبينهم صحيحة، ليست ربا ولا رشوة ولا أكل مال بالباطل ولا بيع محرم ولا ميسر، طريقة تعامل صحيحة شرعًا بينك وبين الكافر فهذا يجوز، وفيها: جواز الرهن في الحضر، أخذوا منه عدة فوائد، لكن النبي ﷺ كان متقللاً من الدنيا وهذا من زهده -عليه الصلاة والسلام- قنوعًا باليسير راض بما تيسر من العيش.
وعن أنس بن مالك قال: "حجّ رسول الله ﷺ على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وهو يقول: اللهم اجعله حجًا لا رياء فيه ولا سمعة [رواه ابن ماجه: 2890، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 288]، وهذا حديث صحيح.
والمقصود بـ "الرحل": وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب عليهم من القتب، وهو للبعير كالسرج من الفرس، وكالإكاف للحمار، و"الرث": بالي عتيق، "وعليه قطيفة": كساء له خمل أهداب، هذه لا تساوي أربعة دراهم.
ففي حج النبي ﷺ على ذلك الرحل البالي والقطيفة الرخيصة الثمن دليل على بلوغه قمة التواضع، وكان يقول مع هذا: اللهم اجعله حجًا لا رياء فيه ، يعني خالصًا لوجهه، ولا سمعة : يقال: فعل ذلك سمعة ليسمعه الناس ويمدحوه، فهذا معنى سمعة.
وكان من دعاء النبي ﷺ ربه أن يجعل عمله بعيدًا عن الرياء والسمعة، ومن باب أولى ينبغي على من هو دونه أن يسألوا الله ذلك، وأن يجعل أعمالهم خالصة لوجهه، وهذا من حرص النبي ﷺ على الإخلاص.
قال: وعن أنس بن مالك : "لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله ﷺ، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك". وهذا حديث صحيح. [رواه الترمذي: 2754، وأحمد: 12345، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 4698].
ولم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله ﷺ فإنهم آثروه على أنفسهم، وهجروا لأجل نصرته بلدانهم وقبائلهم، وقاتلوا معه آباءهم وعشائرهم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا مع تلك المحبة وذلك التعظيم وذلك الاحترام والإكرام، لم يكونوا يقومون؛ لأنهم يعلمون مدى كرهه لأن يقوم أحد له إجلالاً، وقد قال لهم معلّمًا: من أحبّ أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار حديث صحيح، [رواه الترمذي: 2755، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5957].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا هذه المسألة؛ مسألة القيام للأشخاص عند مجيئهم: "لم تكن عادة السلف على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه ﷺ، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: "لم يكن شخص أحبّ إليهم من النبي ﷺ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك"، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه" واحد كان مسافرًا غائبًا، فجاء من سفر فيقومون له، لماذا تلقيًا له، كما جاء عن النبي ﷺ أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: قوموا إلى سيدكم وكان قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه، قال شيخ الإسلام: "والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله ﷺ، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدْي هدي محمد ﷺ، فلا يعدل أحدٌ عن هدْي خير الورى وهدْي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع -يعني الأمير السيد شيخ القبيلة الأستاذ- ينبغي على المطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد" [مجموع الفتاوى: 1/375]. ، فينبغي عليه أن يقول لهم: لا تقوموا، لا تقوموا، يعلّم الناس أن لا يقوموا له؛ لأن المطاع إذا قال للناس لا تقوموا، فغيره من باب أولى، فعند ذلك ستطبّق السنة، ولن يقوم أحد لأحد إلا القيام الجائز المشروع كما عرفنا مثل تلقي القادم من السفر أو يقوم بفتح الباب أو يقوم ليكرمه وليجلسه مكانه في مجلسه ونحو ذلك، أما كل ما دخل واحد قام الناس، دخل واحد قام الناس، فهذا القيام هو مما كرهه ﷺ.
لكن الإشكال أن للناس عوائد قوية، عادات قوية، اعتاد القيام في المجالس واعتبروه تكريمًا، وإذا ما قمت للداخل اعتبرها استهانة ومنقصة وأنك الآن تحتقره، فإذا ما قمت نشأت مفسدة فيقول لك: ألا تراني شيئًا؟، أنت ما تحترمني أنت لا تقدّرني، أنت لا، تنشأ مشكلة، فممكن تكون مفسدة ترك القيام أشد من مفسدة القيام؛ لأن نحن متفقون أن التواضع وأخلاق النبوة أو ما جاء به الشرع أن الواحد ما يقوم إلا كما قلنا لتلقي قادم من سفر، أو ليفسح يريد أن يكرم شخصًا يجلسه في مكانه مثلاً، أو يقوم إليه لينزله من يعني كان إذا قدم مثلاً شخص على فرس أو على دابة جاء إلى مجلس ناس فيقوم صاحب المجلس لينزله ليعينه على النزول ويأخذ بيده ويدخله على الجالسين، فمثلاً إذا قمت لتفتح له الباب، إذا قمت لتتلقاه من باب البيت لتدخل معه زيادة في الإكرام والاحترام لا بأس، أما لما يأتي المجلس يدخل انتصبوا له قيامًا، هذا المنهي عنه.
ولذلك القيام على ثلاثة أنواع: قيام له، وقيام عليه، وقيام إليه؛ أما القيام عليه: فهو فعل فارس والروم لعظمائها، يقومون على رؤوس ملوكهم قيام الأصنام والتماثيل، يقوم الواحد لا يتحرك على رأس الملك، فلما صلى النبي ﷺ جالسًا لعذر قاموا فأشار إليهم أن اجلسوا، الإمام إذا طرأت عليه علة مؤقتة قابلة للزوال فيصلي جالسًا ويصلون وراءه جلوسًا، ما كانوا يعلمون الحكم، لما صلى جالسًا قاموا، أشار إليهم أن اجلسوا، بعد الصلاة علمهم قال: إن كدتم لتفعلون آنفًا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم جلوس، فترى هذا جالس وهؤلاء قائمون على رأسه، هذا قيام تعظيم ما ينبغي أن يكون للبشر، قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 6]، هذا قيام التعظيم، إذا دخل قاموا له انتصبوا، وإذا ما قاموا له يغضب، "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار"، حديث واضح، من أحب أن يقوم الناس تعظيمًا له فليتبوأ مقعده من النار، ولذلك بعض المدرسين لا يرضى إذا دخل لابد أن يقوم كل الطلاب وينتصبون له انتصابًا، هذا خطير، فالقيام له أو القيام عليه منهي عنهما، أما القيام إليه فجائز، القيام إليه أنك تقوم إليه لتنزله عن دابته، تقوم إليه لتفتح له الباب، تقوم إليه لتستقبله وتدخل به إلى مكان جلوسه، هذا إكرام ضيف لا حرج فيه، وليس قيام تعظيم، هذا ما هو قيام تعظيم.
نرجع إلى مسألتنا، لو كان عدم القيام للداخل يؤدي إلى شحناء أو أن يعتقد أنك تنتقصه، فهل يجوز أن تقوم له درء للمفسدة؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو تُرك لاعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يُقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء".
فإذًا شيخ الإسلام أجاز هذا القيام، لكنه ذكر شروطًا قال:
أولا: إذا كان من عادة الناس هذا.
ثانيا: لو ترك اعتقد أن هذا منقصة في حقه.
ثلاثة: لم يعلم السنة، الجاي هذا الجائي اسم فاعل جاء جائي، إذا كان الجائي لا يعرف السنة، فقيامك أحسن من أن يكون في نفسه بغض وشحناء.
قال: "وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله: من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار ، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء"، ولهذا فرِّقوا بين أن يُقال: قمت إليه، وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبيﷺ لما صلّى بهم في مرضه صلوا قيامًا، أمرهم بالقعود وقال: لا تعظّموني كما يعظّم الأعاجم بعضها بعضًا ، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، وجماع ذلك كله الذي فيه اتباع عادات السلف وأخلاق السلف بحسب الإمكان" [مجموع الفتاوى: 1/375].
فينبغي إذن إفشاء السنة، وتعليم الناس الحكم الشرعي، وأن يقال لهم: إن هذا القيام منهي عنه مكروه، فلا تقوموا كل واحد كبير ومطاع ينهى الناس عن القيام إذا دخل، وهذا هو التواضع، وأما أنه يجبر الناس على القيام فليس هذا مما يوافق الإسلام، بعض المدرسين يقولون نحن إذا دخلنا نقيم الطلاب للتنشيط؛ لأن بعضهم نائم، طيب إنما الأعمال بالنيات، وربما يؤخر إقامتهم حتى يدخل هو بحيث لا يكون قيامهم من أجل دخوله، وإنما يعلمهم أن قيامهم أو أن إقامتهم لتنشيطهم، لتنشيط الكسالى والنائمين.
قال: وعن أنس بن مالك ، قال: قال رسول الله ﷺ: لو أُهدي إليّ كراع لقبلتُ، ولو دُعيت عليه لأجبت [رواه الترمذي: 1338، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5257].
والكراع: مستدق الساق من الرجل، وهذا من حُسْن خُلُق النبي ﷺ وتواضعه وجبره لقلوب الناس أنه كان يقبل الهدية؛ وإن كانت قليلة، ويجيب الدعوة؛ ولو كانت على شيء قليل.
وقد جاء في رواية الجمع بين الكراع والذراع، وقال الحافظ: "وخصّ الذراع والكراع ليجمع بين الحقير والخطير؛ لأن الذراع كان أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، والنبي ﷺ لما كان يرضى بالكراع في الدعوة من تواضعه، ويحث على قبول الهدية وإن قلّت" [فتح الباري لابن حجر: 5/200].
وعن الحسن بن علي قال: "سألتُ خالي هند بن أبي هالة -وكان وصّافًا- عن حلية رسول الله ﷺ وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئًا، فذكر حديثًا طويلاً في هذا، والحديث قد ضعفّه الشيخ الألباني في تعليقه على الشمائل المحمدية، وفيه عبارات جميلة، لكنه من جهة السند فهو ضعيف، ومن ذلك مثلاً:
كان رسول الله ﷺ يؤلّفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذَر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره وخلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس؛ إن كان فيهم قحط أو شدة أو مجاعة، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، وهكذا.
ثم قال: عن جابر -رضي الله عنه-: "جاءني رسول الله ﷺ ليس براكب بغل ولا برذون"، حديث صحيح. [رواه الترمذي: 3851، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 291]. وقد رواه البخاري. [رواه البخاري: 5664].
جابر لما مرض يحكي أن النبي ﷺ جاء يعوده في مرضه ليس براكب بغل ولا برذون، البغل: يتبختر، البرذون: ضرب من الدواب عظيم الخلْقة له سير خاص يُجلب من بلاد الروم فيه جَلَد على السير في الشعاب والجبال، بخلاف الخيل العربية، ويقال: "برذن الفرس" يعني: مشى مشْي البراذين.
فمعنى حديث جابر إذن: يعني أن النبي ﷺ جاءه ماشيًا ليس براكب بغل، ليس براكب بغل ولا برذون، ففيه استحباب المجيء إلى المريض مشيًا أو السير إلى المريض، والتواضع بعدم ركوب الدابة؛ لأن المشي من التواضع.
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: "سماني رسول الله ﷺ يوسف، وأقعدني في حجره، ومسح على رأسي"، حديث صحيح. [رواه الترمذي: 340، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 292].
النبي ﷺ قال: تسمّوا بأسماء الأنبياء [رواه أحمد: وأبو داود: 4950، والنسائي: 4391، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير: 2435]. وطبّق هذا، فسمّى ولده: إبراهيم، وسمّى ابن عبد الله بن سلام: يوسف، قال: "وأقعدني في حجره": وهو الحضن ما دون البطن إلى الكشح، "ومسح على رأسي": وهذا من تواضعه أيضًا للصبيان، وأنه مسح على رأس الصغار رجاء البركة منه ﷺ ومن يده الشريفة.
حديث أنس الحديث قبل الأخير في الباب: "أن رجلاً خياطًا دعا رسول الله ﷺ فقرّب منه ثريدًا عليه دباء، فكان رسول الله ﷺ يأخذ الدباء ويحب الدباء، قال ثابت: فسمعت أنسًا يقول: فما صنع لي طعام أقدر على أن يصنع فيه دباء إلا صنع"، رواه مسلم. [رواه مسلم: 2041]. لأنه ليس كل الأطعمة ممكن يوضع فيها دباء، فأنت ممكن تضع دباء مثلاً مع الرز مع الثريد مع الإدام يحشى الدباء، لكن مثلاً يصعب أن تضع مع المهلبية والسحلب دباء مثلاً، ومع الشاي دباء، فإذن هو يقول: ما صنع لي طعام ممكن يوضع فيه دباء إلا وضعته بعد ما رأى محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- للدباء؛ وهي القرع المعروف، هذا الأصفر.
والحديث رواه مسلم: "أن رجلاً خياطًا دعا رسول الله ﷺ" وفي البخاري: "لطعام صنعه" [رواه البخاري: 2092]. "فقرّب منه ثريدًا عليه دباء" والثريد: هو الخبز المكسر الذي يوضع عليه المرق واللحم، والدباء: القرع المعروف، ويسمى أيضًا: اليقطين، والمعنى أنه قرب الطعام إلى النبي ﷺ ثم انصرف إلى عمله، أي هذا الخياط.
وجاء في رواية البخاري: "دخلت مع النبي ﷺ على غلام له خياط فقدم إليه قصعة فيها ثريد وأقبل على عمله" [رواه البخاري: 5420]، قال ابن حجر: "فيه جواز أكل الشريف طعام من دونه من محترف وغيره" [فتح الباري لابن حجر: 9/525]، محترف يعني: صاحب الحرفة.
ففيه: بيان ما كان عليه النبي ﷺ من التواضع، واللطف، وتعاهد أصحابه بالمجيء إلى منازلهم، وإجابة الطعام ولو كان قليلاً، ومناولة الضيفان بعضهم بعضًا مما وضع بين أيديهم، وجواز ترك المضيف الأكل مع الضيف، هذا الخياط يمكن كان من أهل الشمال أو الجنوب، بعض الناس عندهم عادة أنه يترك الطعام مع الضيف والضيف مع الطعام ولا يجلس معه، ربما يعللون ذلك أنه حتى لا يستحي الضيف، ويأكل كما يريد، وأنه لو كان صاحب الطعام موجودًا ربما استحيوا منه وخجلوا منه، فربما قالوا يعني إنهم يتركون الضيف مع الطعا،م وهذا الخياط وضع الطعام وأقبل على عمله، قالوا وفيه جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف؛ لأن في رواية ثمامة عن أنس أن الخياط قدم لهم الطعام ثم أقبل على عمله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أقره على ذلك، وما قال: لماذا ما جئت تجلس معنا مثلاً، ما أنكر عليه، على أن بعضهم أورد احتمالاً: وهو أن يكون الطعام قليلاً؛ فالخياط آثرهم بالطعام، وما جلس حتى يؤثرهم بنصيبه، لو جلس وأكل لصار معهم شريكًا فآثرهم بنصيبه، ويحتمل أيضًا أنه كان أكل سابقًا أو مكتفيًا، ويُحتمل أنه كان صائمًا، ويحتمل أنه كان عنده شغل يتحتم عليه تكميله، كأن يكون تعاقد مع شخص أن ينهي له شيئًا في وقت معين ولابد أن يفي بالعقد فأقبل على عمله ليكمله.
فكان رسول الله ﷺ يأخذ الدباء وكان يحب الدباء، قال أنس: "فلما رأيت ذلك جعلت أجمعه بين يديه"، فإذن، إذا رأيت مثلاً صاحب فضل أو صاحب دين خير صلاح ممن يستحق أن يكرم والد عم جد أستاذ صاحب فضل عليك جلس فأحب شيئًا لونًا من الطعام فاجمعه أمامه، اجمعه له من نواحي الطعام واجعله أمامه؛ لأن من الإكرام أن تقدم له ما يحب.
قال أنس: "فلم أزل أحب الدباء من يومئذ" [رواه البخاري: 2092] وفيه فضيلة ظاهرة لأنس؛ لأنه أحبّ النبي ﷺ لدرجة أن الأشياء الجبلية اتبعه فيها، مع أن الدباء ليس أكله من السنة، ليس سنة يتعبد بأكله، يقال الذي يأكل الدباء يؤجر لاتباعه السنة، لا، لكن من شدة محبة أنس للنبي ﷺ صار يحب ما يحبه النبي ﷺ حتى من الطعام من الأشياء الجبلية، والأشياء الجبلية ليست موضعًا للاقتداء والاستنان، إنما يستن مثلاً: بالأذكار، والعبادات، مثلاً بالأخلاق، أما الأشياء الجبلية يعني أنه هذا يحب كذا لا يحب كذا، فهذه ليست من اتباع السنة أن يتقيد بها الإنسان، لكن من شدة محبة أنس للنبيﷺ صار يحب الدباء وما كان يحب الدباء من أول ولا يحرص عليها.
وقال النووي -رحمه الله-: "وفي الحديث فوائد منها: إجابة الدعوة، وإباحة كسب الخياط، وإباحة المرق، وفضيلة أكل الدباء، وأنه يُستحب أن يحب الدباء، وكذلك كل شيء كان رسول الله ﷺ يحبه ".
وهذا أيضًا من المبالغة؛ وإلا قلنا في الأصل ليست الأشياء الجبلية موضعًا للاقتداء إلا إذا جاء الدليل بقرينة أن فيها قصد التعبد للاتباع، والسنية، فلو قال قائل: النبي ﷺ كان له شعر، هل اتخاذ الشعر سنة؟ لا، النبي ﷺ مثلاً كان يحب أن يعتم يلبس عمامة، هل لبس العمامة سنة؟ لا، النبي ﷺ لبس بردًا يمنيًّا مخططًا، هل لبس البرد اليمني المخطط سنة؟ لا، النبي ﷺ لبس نعالاً كذا، نوع معين، هل لبس النوع هذا المعين سنة؟ لا، وهكذا، كان يحب الثريد، هل محبة الأكل من الثريد سنة؟ إذن، هذه الأشياء الجبلية التي تأتي بالطبيعة والخلقة ليست مجالاً للاستحباب والسنية والمشروعية والأجر والفضل، ولكن الإنسان قد يصل من شدة محبته لمن يتأسى به إلى أن يحب ما يحبه هذا، ها هذا الذي كان يحب أمة سوداء قال: أحببت لحبها سود الكلاب، يعني: أي شيء أسود يحبه، فإذن، إذا كان هذا العشاق الذين يعشقون النساء يفعلون مثل هذا إلى هذه الدرجة، فليس بغريب ولا بعيد عن الأخيار أن يصل بهم الأمر إلى أن تصبح حتى جبلتهم فيها ميل إلى ما كان تميل إليه جبلة النبي ﷺ، وأنه يستحب لأهل المائدة إيثار بعضهم بعضًا إذا لم يكرهه صاحب الطعام.
وعن عمرة قالت: قيل لعائشة ماذا كان يعمل رسول اللهﷺ في بيته؟ قالت: "كان بشرًا من البشر؛ يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه".
"بشرًا من البشر" يعني: يفعل ما يفعله بنو آدم، "يفلي ثوبه": يفتشه ليلتقط ما به من شوك أو دواب يزيلها عن ثوبه، "ويحلب شاته، ويخدم نفسه": عمومًا وخصوصًا.
وفي البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله -تعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة".
وأخرج أحمد من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي ﷺ كان يخيط ثوبه، ويخسف نعله، ويعمل ما يعمله الرجال في بيوتهم". حديث صحيح.
فيقوم بشئون البيت مع كثرة مشاغله، ومن صفات العظمة في الرجل أن لا تشغله الأمور الكبيرة عن الأمور الصغيرة، يعني يستطيع القيام بالجميع، هذا يدل على أن الإنسان مرتب جدًا، ويستثمر وقته للغاية القصوى، وتواضع أيضًا؛ فالإنسان من السنة لو قال لك أنا أسقي الزرع في بيتي، وأغسل سيارتي، وأغسل حوش البيت، وأساعد أم الأولاد في غسل الصحون، إذا صار هناك ولائم مثلاً، وأنا أحيانًا أصلح أشياء من شغل السباك أنا أصلحها، كذلك أصلح قفل الباب، وممكن أضع الغرى للنعل؛ هذا من التواضع، أن الإنسان يتولى مثل هذه الأشياء التي يأنف الكبراء من توليها، ومن أخلاق الأنبياء والبعد عن التنعُّم، ومن تواضع النفس تربية النفس على التواضع ولئلا يخلد الإنسان إلى الراحة المذمومة مثل أن يحمل أغراضه، يحمل أغراضه من السوق، ممكن يستأجر حمال لكن هو يحمل، حتى لا يخرج إلى الرفاهية المذمومة، وحتى يتواضع، ويربي نفسه على ذلك، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11]، الأحاديث هذه تدل على: حسن خلق النبي ﷺ، وعلى تواضعه الكامل، وعلى علو مرتبته، وأنه كان عبدًا نبيًا، ولم يكن ملكًا نبيًا، وأنه كان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويعمل في بيته، ويجلس بين أصحابه، ويأكل ما تيسر، وفتحت عليه الأرض وأهدي له في حجه مائة بدنة، ومع ذلك لما فتح الله عليه مكة، لما دخل مكة كان مطأطئًا رأسه حتى كاد جبينه أن يمس عنق راحلته، كادت جبهته أن تمس عنق راحلته، وكونه كان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويفلي ثوبه، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويعجن عجينه، ويحمل بضاعته من السوق؛ هذا يدل على التواضع، ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، ارتعد الرجل هذا من هيبة النبي ﷺ، فقال له: هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد [رواه ابن ماجة: 3311، والحاكم في مستدركه: 3733، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 7052]. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.