السبت 22 جمادى الأولى 1446 هـ :: 23 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

40- ما جاء في قراءة رسول الله ﷺ


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله-: باب ما جاء في قراءة رسول الله ﷺ.

يعني: في كيفية قراءته وترتيله مدًّا، ووقفًا، وإسرارًا، وإعلانًا، وترتيلاً.

قال: عن يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله ﷺ: "فإذا هي تنعت قراءة مفسرة؛ حرفًا حرفًا"، الحديث أخرجه الترمذي في سننه أيضًا، وقال: حسن صحيح غريب، ورواه النسائي وأبو داود وقال الدار قطني عن رجاله كلهم ثقات، وصححه النووي في التبيان، والذهبي في مختصر الجهر بالبسملة، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل ومشكاة المصابيح؛ لكنه في موضع آخر في المشكاة نفسها ذكره وصححه [رواه الترمذي: 2923، وصححه الألباني في المشكاة: 1210]، فإذن، الحديث قد صححه النووي والذهبي، وقال: الدارقطني عن رجاله أنهم ثقات، وقال الترمذي عنه: حسن صحيح.

عن يعلى بن مملك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله ﷺ: "فإذا هي تنعِت قراءة مفسرة؛ حرفًا حرفًا"، "تنعت" يعني: تصف، "قراءة مفسرة" يعني: مبينة واضحة مفصلة، "حرفًا حرفًا": كلمة كلمة.

ففي هذا الحديث: بيان صفة قراءة رسول الله ﷺ وأنها كانت مشروحة، واضحة، بينّة الحروف، مرتلة؛ الحرف يميز عن الحرف الذي قبله وعن الحرف الذي بعده، الكلمة أيضًا مفصولة عن الكلمة التي قبلها والكلمة التي بعدها، ليست الكلمات متداخلة في بعضها، بعض الناس اليوم إذا قرأ أكل بعض الأحرف، أدخل بعض الكلمات في بعض، فقد يقول مثلاً في الصلاة على النبي ﷺ بدلاً من أن يقول مثلاً: ﷺ، يقول: (صل لله وسلم)، فهذه مثال على تداخل الحروف والكلمات، ليست كل كلمة مفصولة عن الأخرى ولا مبينة: (صل لله وسلم)، ليست هذه مما أُمرنا به، والأجر عندما يصلي الإنسان على النبي ﷺ هكذا بالبيان والتفصيل، كذلك بعض الناس في الأذان مثلاً يقول: (حا صلاة)، وهي: حيّ على الصلاة، هذا في الأذكار والأذان في بعض الناس في القرآن، في القرآن يدغم الكلمات في بعض بدون أن يكون هناك وجه للإدغام، ويدخل الحروف في بعض ويختصر حروفًا وهكذا.

فلما سئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله ﷺ فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفًا حرفًا".

وينبغي التأسي بالنبي ﷺ في الأمور وفي طريقة الكلام؛ ومن ذلك وعلى رأسه ترتيل القرآن الكريم، فلا يكفي أن تكون القراءة هذًا كهذِ الشعر، ونثر الدقل؛ وهو التمر الرديء، بل هذا مذموم، ولا يعين أبدًا على التفكر والتدبر؛ لأن العجلة والهذرمة وعدم توضيح الحروف وعدم إعراب الكلمات وبيان كل حرف والحركة التي عليه، والكلمة يُشْكل آخرها، والقرآن إنما أُنزل للتدبُّر والعمل بما فيه، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29]، والتدبُّر لا يحصل بسرعة القراءة، بل بالتأني وحسن الترتيل، وقد أمر الله نبيه ﷺ بترتيل القرآن، وأكد هذا الأمر بالمصدر في قوله:  وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، لم يقل له ورتل القرآن فقط، وإنما قال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً  [المزمل: 4] ، ترتيلاً، فإذن، هذا تأكيد.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عونًا على فهم القرآن وتدبره" [تفسير ابن كثير: 8/261].

وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن قراءة النبي ﷺ كانت مرتّلة مفسّرة، وكذا قراءة السلف، وقد نُهي عن الإفراط في الإسراع في القراءة ويسمى: الهذَّ.

قال العلماء: "والترتيل مستحب للتدبر؛ ولكنه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرًا في القلب".

وهل الأفضل الترتيل مع قلة القراءة، أو السرعة مع كثرتها؟ لو قال واحد: أنا عندي نصف ساعة لتلاوة القرآن يوميًّا، هل الأفضل أن أرتّل فيها ترتيلاً ببطء، ولو ما قرأت إلا خمسين آية؟ أو أحدر القراءة حدرًا وأقرأ مائتي آية أو مائة وخمسين آية، أو مائة آية؛ يعني الضعف؟

فذهب ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما- وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبُّر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها؛ لأن المقصود من قراءة القرآن: فهمه، وتدبُّره، والفقه فيه، والعمل به، وتلاوته، وحفظه، وهذه كلها وسيلة إلى معانيه، وقراءة جزء بترتيل أفضل من جزئين بغير ترتيل.

جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني سريع القراءة، وإني أقرأه في ثلاث!

قال: " لأن اقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما تقول"، رواه البيهقي وغيره.

جاء رجل لابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين؟ فقال ابن عباس: "لأن أقرأ سورة واحدة، أعجب إلي من أن أفعل مثل الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً لا بدّ فاقرأه قراءة تُسمع أذنيك، ويعيه قلبك"، [رواه البيهقي: 4060].

وعن الشعبي قال: "إذا قرأت القرآن فاقرأه قراءة تُسمع أُذنيك ويفقه قلبك، فإن الأذن عدل بين اللسان والقلب" أخرجه ابن المبارك في الزهد.

قال الإمام الآجري -رحمه الله-: "والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبُّره أحب إلي من كثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر" [مختصر أخلاق حملة القرآن: 67]، فظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة، وأقوال أئمة المسلمين.

لماذا أنزله الله؟ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ  [ص: 29]، فكيف يحصل التدبر مع السرعة المفرطة في القراءة.

ولذلك بعض الناس يقول لك: إذا قرأنا كمية أكثر أحسن؛ لأن الحرف بحسنة والحسنة بعشر حسنات وإلى أضعاف كذا، فالآن أنا قرأت ألف آية أحسن، فيغفل عن ماذا؟ يغفل عن أجر التدبر، فهو يقارن بين صفحتين وصفحة، ويقول لك: أجر صفحتين أكثر من أجر صفحة، وينسى في هذه المقارنة أمرين عظيمين:

أولاً: أجر الترتيل، الآن أنت عندك طريقة الحدْر والإسراع وعندك طريقة الترتيل والترسُّل، فالحدر له أجر، لكن الترتيل له أجر أكبر؛ لأن المأمور به في القرآن وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً  [المزمل: 4].

ثانيًا: أجر التدبر، فالتدبر الحاصل مع القراءة البطيئة المترسّلة المتأنية أكبر من التدبر الحاصل مع القراءة المستعجلة والسريعة، أصلاً القراءة السريعة ليست مجالاً للتدبر، ممكن تكون القراءة السريعة للحفظ، إذا واحد مطالب بحفظ فممكن يقرأ قراءة سريعة عشر مرات عشرين مرة؛ ليحفظ، لكن إذا كان يريد أن يتدبر، فالقراءة السريعة لا تعين على التدبر، القراءة المترسلة المتأنية الترتيل هو الذي يعين على التدبر.

وقال بعضهم: كثرة القراءة أفضل واحتجوا بحديث ابن مسعود ، قال: قال رسول الله ﷺ:  من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة؛ والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف  [رواه الترمذي: 2910، وصححه الألباني في المشكاة: 2137]. 

قالوا -يعني أصحاب مذهب الإسراع في القراءة أنه أفضل؛ لأنه أكثر أجرًا- قالوا: ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة، وذكروا آثارًا عن كثير من السلف في كثرة القراءة.

وينبغي أن نقول هنا أيضًا: إن عثمان وغيره من الذين كانوا يسرعون في القراءة أحيانًا كانوا يفهمون، فقد قرأ بالتأكيد من قبل قراءات مترسّلة ومتدبرة، ففهم معناه، ولذلك إسراعه فيه للحفظ أو تثبيت الحفظ أو لأجل مزيد من الأجر في التلاوة ما كان عن عدم تدبر وعدم فهم، بل هو عنده علم وفهم، والشافعي مثلاً ممكن يقرأ القرآن في ليلة، لكن كم قرأه من قبل عن ترسل وتدبر وفهم ما معناه، أو معانيه، فإذن، ينبغي أن لا نَغفل أو لا نُغفل أن كثيرًا من السلف الذين كانوا يقرءون ورد عنهم أنهم كانوا يقرءون بسرعة ويختمون في ليلة؛ كان عندهم معرفة بتفسيره، بخلاف كثير منا اليوم يسرع وما عنده معرفة بتفسيره.

وبعض الناس ربما يتوسط ويقول: الأصل الترتيل أفضل، ؛ لأنه أعون على التدبر، لكن إذا الإنسان كان عنده نصيب من التدبر ومعرفة التفسير ومر على معاني القرآن، لمَّا تأتي بعض المواسم مثل ليالي رمضان فهو ربما يسرع فيه في الاعتكاف لأجل إنهاء ختمات كثيرة، وللحفظ أيضًا ربما يقرأه مرات كثيرة مسرعًا ليحفظ ويثبت الحفظ، مع أنه في أحيان أخرى من السنة يقرأه بترسل وتأني، وسبق ضبطه على شيخ وقرأه بترتيل، وسبق عرف تفسيره، مر على تفسير القرآن، فمثل هذا يقبل، مثل هذا يقبل، يعني أن له أحوال في السنة يقرأ بترتيل، وله أحوال مثلاً أحيانًا في الاعتكاف أو في بعض أيام رمضان يريد أن ينهي أكثر من ختمة، فهو لذلك يحدر القراءة.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًا، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/328].

فضرب لها مثلاً قال: إذا أردنا أن نقارن قارن بين واحد تصدق بجوهرة مرة واحدة جوهرة نفيسة جدًا، وواحد تصدق بعشرة آلاف مثلاً.

وعن قتادة قال: "قلت لأنس بن مالك: كيف كانت قراءة رسول الله ﷺ؟ قال: "مدًّا" [رواه أحمد: 13002، والنسائي في الصغرى: 1014، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 269].

الحديث أيضًا رواه البخاري بلفظ: "يمدّ مدًّا" [رواه البخاري: 5045].

وسئل أنس في هذا الحديث من قبل قتادة عن وصف قراءة النبي ﷺ بالنسبة للمد، هل هي ممدودة أو مقصورة، قال: "مدًّا" أي: ذات مد، والمراد به: تطويل النفس في حروف المد واللين وفي الفصول والغايات، والمعنى أنه كان يمكّن الحروف ويعطيها أكمل حقها من الإشباع، ولا سيما في الوقف الذي يجتمع فيه الساكنان: العالمين، الرحيم، اجتمعت الياء الساكنة مع الميم، والياء الساكنة مع النون، هذه المدود، ومد اللين، المد اللازم، المد الكلمي، المد الحرفي، المد المتصل، المد المنفصل، مد التعظيم، المدود، ولا سيما في الوقف الذي يجتمع فيه الساكنان، فيجب المد لذلك.

وليس المراد المبالغة في المد بغير موجب؛ كما يفعله بعض المؤذنين، فإنه إذا أذّن حي على الصلاة، الصلاة هذه فيها الطلوع ونزول وهبوط وصعود، قمم جبال وقيعان ووديان ومنحنيات ومنعطفات لماذا تمد؟ أربعة عشر حركة، فهذا مد في غير موضعه، وبعض الذين يقرءون أيضًا القرآن يمد في غير موضعه، أصلاً الفتحة حركة إذا عملتها حركتين صارت ألف تغير المعنى، فأحيانًا المد البسيط يقلب المعنى، هاتوا مثالاً على هذا، مد بسيط يغير المعنى؟ هذا مثال: "قالَ" واحد قال كذا كذا، لو مديت الفتحة هذه إذا "قالا" صاروا اثنين: قالا، يعني: هذا إذا اختصرت المد يتغير المعنى، نحن الآن نريد إذا مددت العكس، شيء ليس فيه مد، إذا مددته تغير المعنى، شيء ليس فيه مد إذا مددته تغير المعنى، المقصود المد في غير موضع المد، هذا من أخطاء بعض الناس.

وفي رواية للبخاري عن قتادة أنه سأل أنسًا كيف كانت قراءة النبي ﷺ؟

فقال: "كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمدُّ ببسم الله، ويمدُّ بالرحمن، ويمدُّ بالرحيم" [رواه البخاري: 5046].

فلو واحد قال: بسم الله، ما اسمك أنت؟ يقول: عبدَالله، لا، اسمي: عبدُ الله، المد في لفظ الجلالة، هذه أخطاء شائعة، اسم الأخ يقول: عبدَالله، هي: عبدُ الله فيها مد، الرحمان هذا مد طبيعي، لكن لو قال واحد: الرحمن، الرحمن، يعني بدل الألف صارت فتحة، يمكن تطلع كلمة فارسية مثل بهمن ورحمن.

فإذن، عدم المد في موضع المد يمكن يغير المعنى يحرف المعنى، قال: "كان يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم"، فإذن، هذا فيه بيان المد الطبيعي أيضًا.

قال ابن - حجر رحمه الله -: "المد عند القراءة على ضربين: أصلي: وهو إشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء، وغير أصلي: وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة؛ وهو متصل ومنفصل، فالمتصل: ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل: ما كان بكلمة أخرى، فالأول: - يعني الأصلي الذي هو إشباع الحرف الذي بعده ألف أو واو أو ياء ليس همزة- يؤتى فيه بالألف والواو والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني: يزاد في تمكين الألف والواو والياء زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يُمد كل حرف منها ضعفي ما كان يمده أولاً، وقد يزاد على ذلك قليلاً، وما أفرط فيه فهو غير محمود" [فتح الباري لابن حجر: 9/91].

وإطالة الصوت والمد في حروف المد مما يعين على الخشوع في الصلاة، والتدبر الدائم لآيات كتاب الله وعلى عكس ذلك فمن أسرع في التلاوة سرعة زائدة فإن في ذلك إخلالاً بالتلاوة، وأكلاً لكثير من الحروف، مع في ذلك من التفريط في التدبُّر والتفكُّر في معاني الكلام، فالعناية بأحكام التجويد والترتيل من أهم ما ينبغي أثناء التلاوة، وأهم شيء في ذلك مراعاة أحكام المد والتفاصيل في ذلك على ما بينه علماء التجويد رحمهم الله.

وقد قرأ قارئ على ابن مسعود: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ  [التوبة: 60]، بدون أن يمد الفقراء، فأنكر عليه، وأمره أن يمدها: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ  فلابد أن يمد، هذا مما استدلوا به على وجوب المد في مواضع المد.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكانت قراءته ترتيلاً؛ لا هذًّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المد، فيمد الرحمن، ويمد الرحيم، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وربما كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، وكان تعوذه قبل القراءة" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/463].

ثم قال الترمذي -رحمه الله-: عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "كان النبي ﷺ يقطع قراءته يقول: الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، ثم يقول: الرحمن الرحيم، ثم يقف، وكان يقرأ ملك يوم الدين"، وقد رواه الترمذي -رحمه الله- أيضًا في سننه، وقال حديث غريب، ورواه أحمد وأبو داود وعندهما زيادة بسم الله الرحمن الرحيم، وصححه الألباني في مختصر الشمائل.

وقوله: "يقطع قراءته" يعني: بالتوقف، يقطع النفس، من التقطيع؛ وهو جعل الشيء قطعة قطعة.

وفي رواية: "يقطع قراءته آية آية" أي: يقف عند كل آية، والوقوف عند كل آية من سنة النبي ﷺ، فقد كان يقف على رؤوس الآي تعظيمًا للآية، ولابد من تقييد القول بأن الوقف على رءوس الآي سنة بما لا يُفسد المعنى، ولا يحيله عن وجهه، فإن من الفواصل ما لا يصح الوقوف عليه لفساد المعنى بذلك، وذلك خلاف ما أمر الله به من تدبر القرآن، ولذا فقد جعل علماء الوقف والابتداء الوقف على المواضع التي يشتد تعلقها بما بعدها قبيحًا مع كونها رؤوس آي.

قال السخاوي -رحمه الله-: "إلا أن من الفواصل ما لا يحسن الوقف عليه كقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4]، لأن المراد: فويل للساهين عن صلاتهم المرائين فيها، فلا يتم المعنى إلا بالوصل" [جمال القراء وكمال الإقراء: 674].

على أن بعض العلماء قالوا: "إنه يقف على رؤوس الآي، وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، لكنه لا يوقف القراءة أو يركع".

فإذن، ليس الخطأ أن تقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ  [الماعون: 4 - 5] ، لا، أنت الآن طبقت السنة؛ وقفت على رءوس الآي، لكن الخطأ أنك تقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الله أكبر،  فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ  تقفل المصحف وتعيده إلى مكانه تمشي، هذا هو الممنوع.

قال السخاوي أيضًا: "وكقوله تعالى:  وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ  فلو وقف القارئ هنا لكان الكلام لا معنى له؛ لأن الجواب لم يتم، فإن اللام بعدها في قوله تعالى:  لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ  [الحجر: 14 - 15]، متعلقة بما قبلها"، اللام هذه: لقالوا، وأيضًا يجاب بالجواب نفسه، وقال: بل نقف مراعاة للسنة على رءوس الآي.

 يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور: 36]، تقف،  رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ  [النور: 37] ، لكن الخطأ أن تقول:  يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ  وتقفل المصحف وتقوم، أين الفاعل؟ يسبّح فعل،  يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ، الفاعل: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ [النور: 37]، إذن، ليس الخطأ أن تقف على رأس الآية، ولو كان ما بعدها متعلقًا بها، لكن الخطأ أن تسكت تمامًا وتتوقف عن القراءة، هذا الخطأ.

قال: "ولذلك ويسن للقارئ أن يتعلم الوقوف، وأن يقف على أواخر الآي إلا ما كان منها شديد التعلُّق بما بعده؛ كقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، وقوله:  فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82]، فمتى اشتد تعلق الآية بما بعدها لم يصح تعمد الوقف عليها حتى وإن كانت رأس آية، وعلى هذا العمل عند محققي علماء الوقف كما تقدم".

وهذا أيضًا يجاب عنه -كما سبق- أن السنة مقدمة، وأن الوقوف على رأس الآي مقدم، وإن تعلقت في المعنى بما بعدها بشرط عدم التوقف عن القراءة، وهذا بالنسبة لتقطيع الآيات يعني الوقوف على رؤوس الآي، لكن هناك وقوف داخل الآيات، وقف محرم، هناك وقف لو اعتقده كفر،  فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ  [محمد: 19] وسكت،  إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي  [البقرة: 26]، لو سكت، هذا لو اعتقده يكفر، وهناك وقف قبيح:  وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ  [يوسف: 17]، يوسف ما يؤتمن على الملابس ولا على المتاع، تركناه عند المتاع أكل المتاع،  وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ، قبيح،  وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ  إذن، هناك وقف يغير المعنى تمامًا، ويجعله معنى غير مراد وقبيح يجعله قبيحًا. [المقصد لتلخيص ما في المرشد: 5].

قولها: أي: أم سلمة -رضي الله عنها-: "وكان يقرأ ملك يوم الدين"، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "قرأ بعض القراء  ملك يوم الدين  وقرأ آخرون  مالك ؛ وكلاهما صحيح متواتر في السبع، ويقول: مَلِك بكسر اللام، ومَلْكِ بإسكان اللام، ومَلِيك قرئ بها أيضًا، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ: مَلِكِ يوم الدين، أشبع كسرة الكاف فقرأها: مَلِكِ يوم الدين ، وقد رجّح كلًّا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى، وكلتاهما صحيحة حسنة، ومالك مأخوذ من: المِلك، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ  [مريم: 40]، وقال:  قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ  [الناس: 1، 2]، ومَلِكِ مأخوذ من: المُلْكِ؛ كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ  [غافر: 16]، وقال:  قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ  [الأنعام: 73]، وقال:  الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ  [الفرقان: 26].

قال: وعن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة عن قراءة النبي ﷺ أكان يُسرُّ بالقراءة أم يجهر؟ قالت: "كل ذلك قد كان يفعل، قد كان ربما أسرّ وربما جهر"، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. [تفسير ابن كثير ت سلامة: 1/133]. رواه الترمذي، وأحمد في المسند، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الألباني.

"سألتُ عائشة": الذي يتكلم عبد الله بن أبي قيس، "سألت عائشة عن قراءة النبي ﷺ" يعني: قراءته في الليل، في قيام الليل، وفي هذه الرواية غير مقيد بزمن، لكن الترمذي أورده في سننه، فقال: "سألت عائشة كيف كانت قراءة النبيﷺ بالليل، أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟": يخفي أم يرفع صوته بحيث يسمع من يليه.

قال النووي -رحمه الله-: "واعلم أن الإسرار في القراءة والتكبيرات وغيرهما من الأذكار هو أن يقوله بحيث يسمع نفسه، ولا بد من نطقه بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض له، فإن لم يسمع نفسه؛ لم تصح قراءته ولا غيرها من الأذكار بلا خلاف" [الأذكار للنووي: 50].

فلو واحد وقف في الصلاة يصلي الظهر مثلاً وهو مطبق شفتيه الله أكبر إلى الركوع وركع، لا تصح صلاته؛ لأنه ما قرأ، ممكن يستعرض الفاتحة في ذهنه استعرض، لكن تخيل الفاتحة لكن ما قرأ، فإذن، يُسمع نفسه فقط، وليس يُسمع الناس، يسمع نفسه.

فإذن، في حركة: الحمد لله رب العالمين، يعني: في حركة للشفتين واللسان والنفس يتحرك الهواء يخرج، وإلا ما صارت قراءة ولا صارت صلاة، ما صحت الصلاة، وهذا خطأ يقع فيه الكثيرون لا يعرفون ما معنى قرأ الفاتحة، لا يعرفون.

قالت: "كل ذلك قد كان يفعل، قد كان ربما أسر وربما جهر" يعني: بحسب ما يناسب المقام والحال، وقد قال تعالى:  وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110]، يعني: طريقًا وسطًا بين الجهر والمخافتة؛ لأن الاقتصاد مطلوب وفي جميع الأمور محبوب.

وروي أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: "أناجي ربي؛ وقد علم حاجتي"، يعني ما يحتاج أرفع الصوت، قيل: أحسنت، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ ترفع صوتك بالقراءة؟، قال: "أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان"، يعني: الذي به نعاس أو النائم، قيل: أحسنت، فلما نزلت:  وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110]، قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا.

قال النووي -رحمه الله-: "أجمع المسلمون على استحباب الجهر بالقراءة في: الصبح، والجمعة، والعيدين، والأولتين من المغرب والعشاء، وفي صلاة التراويح والوتر عقيبها، وهذا مستحب للإمام والمنفرد، يعني حتى المنفرد إذا صلى الفجر والمغرب والعشاء والتراويح فإنه يجهر، أما المأموم فلا يجهر بالإجماع، ويُسن الجهر في: صلاة كسوف القمر، وخسوف الشمس، وصلاة الاستسقاء.

قال النووي: "ولا يُجهر في الجنازة إذا صُلّيت بالنهار، وكذا في الليل على المذهب المختار" الصحيح لا يجهر، ولا يجهر في نوافل النهار غير ما ذكرناه من العيد والاستسقاء، واختلفوا في صلاة الكسوف والخسوف، وصلاة الخسوف في الليل القمر بالليل، صلاة الكسوف إذا صارت والشمس بالنهار، والراجح الجهر بها.

قال: "ولو جهر في موضع الإسرار أو أسرّ في موضع الجهر فصلاته صحيحة" [التبيان في آداب حملة القرآن: 130]، لكن خالف السنة.

وقول عبد الله بن أبي قيس: "الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة" يعني: اتساعًا؛ لأن النفس قد تنشط إلى أحد الأمرين، فلو ضيق عليها بتعيين أحدهما فربما لم تنشط فتركت؛ فيُحرم من الخير، فالله رحيم بعباده، ولا يشق عليهم، ولم يحملهم على حال واحدة في العسر واليسر، فقد جعل في الدين بدائل ورخصًا وأنواعًا من العبادات، حتى لا تمل النفوس أو يشق عليها الأمر.

فإذًا: "أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما أسر وربما جهر"؛ لكن في أمور لابد منها؛ مثل قضية أن يسمع نفسه هذه، أن يجري النفس ويتحرك الشفتان واللسان؛ هذه قراءة سرية جهرية لابد منها، أو ما تسمى قراءة أصلاً.

وهناك سنن مثل: قلنا أن يجهر في المغرب والعشاء والفجر، صلاة التراويح والوتر وكذلك يجهر في العيدين والاستسقاء يجهر مع أنها صلوات نهارية في النهار تصلى في أول النهار، يجهر بالجمعة مع أنها صلاة نهارية، وكذلك صلاة الكسوف يجهر بها أيضًا على الراجح، والخسوف أصلاً جهرية ؛ لأنها ليلية.

وعن أم هانئ قالت: "كنت أسمع قراءة النبي ﷺ بالليل وأنا على عريشي"، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه أيضًا وصححه الألباني.

والعريش: كل ما يُستظل به، ويُطلق على بيوت مكة؛ لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها، فيقال هذه بيوت العريش أو كانت بيوتهم عبارة عن عريش، أو يسكنون في عريش، عيدان تنصب ويظلل عليها، وقيل هو السرير الذي ينام عليه.

وقد جاء في رواية أحمد ما يدل على أن ذلك الاستماع كان بمكة، فعن أم هانئ -رضي الله عنها- قالت: "أنا أسمع قراءة النبي ﷺ في جوف الليل، وأنا على عريشي هذا، وهو عند الكعبة".

فهذا يدل على مشروعية الجهر بالقراءة؛ لأن ذلك أدعى للخشوع والتدبر، ولأن نفع الجهر يتعدى للغير ممن كان يستمع سواء من صالحي الإنس والجن، ولذلك لو أذن المؤذن فإنه يشهد له يوم القيامة كل من سمعه من جن وإنس وشجر وحجر وملك، فبعض الناس إذا جهر بالقراءة قد يفوته أنه يستفيد من قراءته الآن بعض الجن، ففيهم صالحون ومسلمون ومصلون ويصلون مع الجماعة ويحضرون الدروس، فقراءة النبي ﷺ بالليل ألم يحصل أن الخبر جاءنا في كتاب الله:  قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا  [الجن: 1]،  وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا  [الأحقاف: 29]، فسمعوه وهو يقرأ قراءة جهرية، كان يقرأ في الليل صلاة الليل، فإذًا الجهر بالقراءة أدعى للخشوع والتدبر وينفع الغير من صالحي الإنس والجن، وربما أسلم الكافر واهتدى الفاسق، الفضيل بن عياض كان يتسلق بيتًا وقد واعد امرأة على الحرام، فسمع قارئًا من الجيران يقرأ، والبيوت متقاربة من قديم، سمع قارئًا:  أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ  [الحديد: 16]، فرجع وكفّ عن الحرام ورجع.

ويكره الجهر بالقراءة أو يحرم إذا كان بحضرة مصل أو بحضرة نائم ونحو ذلك، وقد قال ﷺ: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بم يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن"، رواه مالك وأحمد وهو حديث صحيح.

وعن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن المغفل يقول: "رأيت النبي ﷺ على ناقته يوم الفتح وهو يقرأ:  إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ  [الفتح: 1 - 2] ، فقرأ ورجَّع.

قال معاوية بن قرة: "لولا أن يجتمع الناس عليّ لأخذتُ لكم في ذلك الصوت أو قال في اللحن"، رواه البخاري أيضًا في صحيحه، ولفظ البخاري عن معاوية بن قرة عن عبد الله بن المغفل المزني، قال: "رأيت رسول الله ﷺ يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح فرجَّع فيها"، ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: "لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي ﷺ، فقلت  لمعاوية كيف كان ترجيعه؟ قال: آ آ آ ثلاث مرات"، ورواه مسلم.

عبد الله بن المغفل: المزني صحابي جليل من أهل بيعة الرضوان كان أحد البكائين الذين نزل فيهم قول الله تعالى:  وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92].

وكان عبد الله بن المغفل أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة ليفقهوا الناس، وعبد الله بن المغفل هو أول من دخل مدينة "تُسْتَر" حين فتحها المسلمون.

وقد روى عن النبي ﷺ نحوًا من ثلاثة وأربعين حديثًا، وتوفي بالبصرة سنة ستين للهجرة، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي بوصية من عبد الله.

وقوله: "رأيت النبي ﷺ راكبًا على ناقته": العضباء، "يوم الفتح": فتح مكة، وهو يقرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا  [الفتح: 1]... الآيات.

كان ﷺ يلازم العبادة ويقرأ القرآن حتى في طريق السفر حتى وهو على دابته، فقرأ سورة الفتح كاملة كما في البخاري.

و"رجَّع": الترجيع يطلق على عدة معاني؛ ومنها: ترديد القارئ للحرف في الحلق آ آ آ مثلاً، ترديد هذا الترجيع الذي يحدث في الحلق، هو نوع من التغني أو الترنم فهو يجعل الصوت جميلاً حسنًا، لكن السؤال هل فعل ذلك النبي ﷺ قصدًا أو لطبيعة سير الدابة، يعني ممكن مثلاً واحد يقرأ: للفقراء بدون، ممكن يأتي بها يعني بصوت واحد للفقراء بدون، وممكن يكون في ترجيع للفقراء مثلاً، هل هذا الترجيع مقصود؟ هل كان مقصودًا في قراءة النبي ﷺ، أو كان بسبب الدابة التي تمشي به في الطريق فبسبب اضطراب سير الدابة أو أنها تصعد وتهبط فيحصل هذا؟

قال ابن حجر -رحمه الله-: "يحتمل أمرين: أحدهما أن ذلك حدث من هز الناقة، والآخر أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك، وهذا الثاني أشبه بالسياق، فإن في بعض طرقه لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن" أي: النغم، ويفهم منه أن الترجيع غير الترتيل.

قال ابن حجر: "والذي يظهر أن في الترجيع قدرًا زائدًا على الترتيل، فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال: بتُّ مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه؛ لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع" [فتح الباري لابن حجر: 9/92].

واللحن قيل: بمعنى الصوت، وقيل: بمعنى النغم، ويقال: لحن في قراءته إذا طرَّب أو طرِب، واللحون والألحان: جمع لحن؛ وهو التطريب، وترجيع الصوت، وتحسين القراءة والشعر.

ويطلق اللحن أيضًا على الخطأ في الأداء في القراءة، وقال ابن أبي جمرة: "معنى الترجيع: تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء ينافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة" [فتح الباري لابن حجر: 9/92].

قال القاري: "ومما يؤيده أنه ﷺ استمع لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك قال: "لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا"، أي زدت في تحسينه بصوتي تزيينًا، ومن تأمل أحوال السلف علم أنهم بريئون من التصنُّع في القراءة بالألحان المخترعة دون النظر والتحسين الطبيعي.

فالحق أن ما كان منه طبيعة وسجية كان محمودًا، وإن أعانته طبيعته على زيادة تحسين وتزيين بتأثير التالي والسامع، وأما ما فيه تكلف وتصنع بتعلم أصوات الغناء والألحان مخصوصًا كما يتعلمون اليوم المقامات، يتعلمون المقامات لتلاوة القرآن، هذا ليس شيئًا طبيعيًا، هذا ليس شيئًا تم بلا تكلف، يعني هذا ليس شيئًا جاء عن سجية وطبيعة، لا، هذا تكلف هذا تعلم هذا يذهب لتعلم مقامات الغناء ومقامات الألحان ليرتل بها.

قال: وأما ما فيه تكلف وتصنع بتعلم أصوات الغناء والألحان فهذه من التي كرهها السلف والأتقياء من الخلف.

قال ابن القيم رحمه الله: "التطريب والتغني على وجهين" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/474] لأننا الآن في نفس المسألة بعض الناس يقرءون القرآن تحس أنه يطرب يعني يأتي بأنواع من الألحان، فنسأل الله أن يرزقنا اتباع سنته، وأن يجعلنا من المقتدين به، وصلى الله على نبينا محمد.