الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين . وهذا الحديث قد رواه مسلم -رحمه الله-. [رواه مسلم: 768]
وقوله: "فليفتتح": هذا أمر للاستحباب، وهو ندب مؤكد، "بركعتين خفيفتين" كما جاء في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين"، فيسن إذن لمن قام الليل أن يفتتح صلاته بهذا، يقتصر على أقل الكمال ولا يستوفي الأكمل، والحكمة في ذلك أن يكون تنشيطًا، أن يكون تنشيطًا لما بعده، واستعجال حل عقد الشيطان بهاتين الركعتين كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله-، وقال غيره: "هما مقدمة لقيام الليل"؛ ليدخل بعد ذلك في مزيد من اليقظة، ويكون هذا مثل تقديم السنة القبلية على الفرض.
وفي الحديث: إرشاد إلى أن من شرع في شيء أنه يأخذ فيه قليلاً قليلاً، وهذا من الحكمة في الدين، ومن التربية للنفس، ومن ترويض النفس أن الإنسان يأخذ نفسه بالعبادة شيئًا فشيئًا؛ ولأنه إذا دخل مباشرة في صلاة طويلة، فربما يمل، إذا دخل في صلاة طويلة من أول ما يبدأ فربما يصيبه الملل، وأما إذا بدأ بهاتين الركعتين فتكون كالتهيئة والتوطئة والتقديم، وفي هذا فائدة واضحة وبينة لمن يريد أن يستمر ويطيل بعد ذلك.
ثم قال -رحمه الله-: وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "لأرمقن صلاة النبي ﷺ فتوسّدت عتبته أو فسطاطه، فصلّى رسول الله ﷺ ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة"، [رواه مسلم: 765].
زيد بن خالد الجهني المدني صحابي مشهور، مات بالكوفة سنة ثمان وستين، وله خمس وثمانون سنة .
قوله: "لأرمقن صلاة النبي ﷺ": يدل على اهتمام الصحابة بمعرفة سنة النبي ﷺ في الكبيرة والصغيرة، وأنهم يهتمون، ولذلك يرمقون ينظرون يراقبون يتأملون، كل ذلك لضبط السنة، ونقل السنة، وحفظ السنة، والعمل بها.
"فتوسّدت عتبته أو فسطاطه": العتبة: إسكفَّة الباب، والفسطاط: بيت من شعر؛ فيكون المراد من توسُّد الفسطاط توسُّد العتبة هنا، والمراد: رقدت عند بابه، وجعلت عتبته كالوسادة، فوضعت رأسي على العتبة: بت هناك، وهذا منه حرص بالغ، وأن طالب العلم أو مريد السنة أو الذي يريد أن يتعلم من العالم، فإنه يتعرض لأحوال أو يكون في أحوال فيها شيء من الشدة، ولذلك لما أراد ابن عباس أن يسأل زيدًا توسّد عتبة بابه، وجعلت الريح تسفي عليه، ولذلك لما خرج زيد يعني شق عليه أن ابن عم رسول الله ﷺ نائم متوسد عتبة بابه، ولكن هكذا أمروا أن يفعلوا مع العلماء.
"فصلى رسول الله ﷺ ركعتين خفيفتين افتتح بهما صلاة الليل، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين": كررها ثلاث مرات للمبالغة في إطالتها، وإنما بالغ في تطويل هاتين الركعتين؛ لأن النشاط في المقدمة يكون أقوى، والخشوع أتم، ولذلك أطال فيهما.
"ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" يعني: في الطول، فذكرهما ست مرات، أولاهما خفيفتين، ثم اللتين بعدهما أطول الجميع، ثم الأربع التي بعدها كل ركعتين أقصر مما قبلها، ركعتين، ركعتين، ركعتين، ركعتين، أربع مرات، قبلها الثنتين الطويلة أطول شيء، قبلها الثنتين الخفيفة أخف شيء.
إذن، الثلاث عشرة هذه التي وصفها: ثنتين خفيفة جدًا، وثنتين طويلة جدًا بعدها، ثم اثنتين أقل من التي قبلها، واثنتين أقل من التي قبلها، واثنتين أقل من التي قبلها، واثنتين أقل من التي قبلها"، وهذا تدريج، "ثم أوتر بواحدة؛ فذلك ثلاث عشرة ركعة": ذكر هذا، وأكد العد بهذه الطريقة؛ لئلا يسقط منه شيء.
سبق ذكرنا كيف جمع العلماء بين حديث الإحدى عشر وحديث الثلاث عشر، بعضهم قال: هما سنتان، تريد أن توتر بإحدى عشر، تريد أن توتر بثلاث عشرة، بعضهم قال: الثلاث عشرة هذه فيها ركعتان ليستا من قيام الليل أصلاً، رجّح بعضهم وقال: حديث الإحدى عشرة: متفق عليه، وحديث الثلاث عشرة: رواه مسلم فقط، ورجّح حديث الإحدى عشرة، الأمر واسع.
ولو واحد قال: هل يجوز أن نزيد ثلاثة وعشرين، نقول يجوز، ولكن ما هو الأفضل اتباع السنة، فأنت يا مسلم إذا أردت الأجر الأكثر الأكبر اتبع السنة.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله ﷺ من رمضان؟ فقالت: "ما كان رسول الله ﷺ ليزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا لا تسل عن حُسْنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا، قالت عائشة: قلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي . هذا حديث متفق عليه [رواه البخاري: 2013، ومسلم: 1147].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف؛ اسمه: عبد الله، وقيل: إسماعيل، توفي أبوه وهو صبي، وأرضعته أم كلثوم، ولذلك كانت عائشة خالته من الرضاع، وكان فقيهًا مجتهدًا كبيرًا حجة إمامًا، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في قول أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، يقول: سأل عائشة فأجابته: "ما كان رسول اللهﷺ ليزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة": وهي التي نصليها الآن في التراويح إحدى عشرة ركعة، فصلاته ﷺ كانت متساوية في جميع السنة، لكن هذا لا ينافي أنه إذا دخل العشر اجتهد وطول ما لا يطيل في غيرها.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وظهر لي أن الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل" [فتح الباري لابن حجر: 3/21]، يعني هذا من تأملات الحافظ، لماذا قيام الليل ما يزيد عن إحدى عشرة ركعة؟ قال: "ظهر لي أن التهجُّد والوتر مختص بصلاة الليل، وفرائض النهار الظهر وهي أربع، والعصر وهي أربع، والمغرب وهي ثلاث وتر النهار"، كم صارت؟ كم صارت؟ "إحدى عشرة، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلاً".
هذا ملحظ منه -رحمه الله-، في هذا الحديث أنه لا يزيد على إحدى عشرة، وفي حديث زيد بن خالد أنه صلى ثلاث عشرة، فجمع العلماء أن عائشة لم تتعرض للركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما قيام الليلﷺ، فيكون مراد عائشة بالإحدى عشرة الإحدى عشرة الطوال، ولم تعد الركعتين الخفيفتين اللتين في المقدمة.
قال ابن رشد -رحمه الله-: "واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان، فاختار مالك في أحد قوليه وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود القيام بعشرين ركعة سوى الوتر، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يُستحسن ستًا وثلاثين ركعة والوتر ثلاث" [بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/219].
ولا شك في أن الأكمل والأفضل هو هدي النبي ﷺ إحدى عشرة ركعة، لكن إحدى عشرة، يعني متقنة طويلة، فإن قال قائل: الناس لا يتحملون إحدى عشرة ركعة طويلة، فهل نصلي بهم ثلاثًا وعشرين، لأجل أن يصمدوا أو يصمد بعضهم، فنقول: لا بأس، يعني مراعاة حال الناس طيب، ولكن أيضًا تعويد الناس على السنة خير وأطيب أيضًا.
قال ابن عبد البر: "لا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود، وأنها نافلة وفعل خير وعمل بر، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر" [التمهيد: 21/70].
فلو أنه صلّى ما شاء الله أن يصلي، أي عدد وأوتر بواحدة فهو طيب، يعني لا حرج في هذا مطلقًا، الآن النقاش ليست في قضي أنها سنة وبدعة وحرام وحلال، القضية: ما هي السنة؟ يعني ما هو الأفضل فقط، أما من ناحية الجواز جائز، صلِّ ما أردت جائز من ناحية الجواز.
قال القاضي عياض: "ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد"، ليس في ذلك حد لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التي كل ما زيد فيها زيد في الأجر والفضل، وإنما الخلاف في فعل النبي ﷺ، يعني الأسوة الحسنة الذي يريد السنة كم؟ هذا هو الذي حصل فيه الخلاف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "قيام رمضان لم يوقِّت النبي ﷺ فيه عددًا معينًا، بل كان هو ﷺ لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أُبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخف في القراءة بقدر ما زاد من الركعات"، يعني إذا زاد في الركعات قصر في القراءة، لأنه إذا نقص في الركعات سوف يطيل ويزيد من القراءة؛ "لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة" [مجموع الفتاوى: 22/272]، أخف على الناس، قال: "كان أبي يصلي عشرين ويوتر بثلاث ويخفف القراءة، لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ، فكيف ما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن".
وقال بعض العلماء: "الأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام"، افرض مثلاً مسجد فيه طلاب جامعة كلهم شباب، فهؤلاء لا يصعب عليهم أن يقوموا فيهم قوة وشدة، مسجد في سوق، الناس يريدون أن يفتحوا بسرعة، مسجد في حي فيه عجزة أو فيه كبار في السِّن، وناس لا يطيقون طول القيام.
إذن، مسجد مستشفى، مراعاة التخفيف، فإذن، الأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإذا كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي ﷺ يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، يعني لو واحد قال أنا سأصلي إحدى عشر طويلة والذي أعجبه أعجبه والذي ما عجبه يمضي!، فالناس انفضوا ما بقي معه إلا قليل، أيهم أحسن هذا؟ أو أنه يزيد عدد الركعات، ويخفف القراءة، فيمكث معه ناس أكثر، الثاني أحسن لا شك، لكن الأحسن من هذا وهذا أن الناس يعرفون السُّنة ويطبقونها، فإذا وجد وحصل فالحمد لله.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي ﷺ لا يجوز الزيادة عليه ولا يجوز النقصان منه فقد أخطأ، فإذا كانت هذه السَّعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه، كل ذلك سائغ حسن.
يقول شيخ الإسلام: "وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها" [مجموع الفتاوى: 22/273].
فإذن، مراعاة حال الناس، نجد الآن مثلاً بعض الأئمة -هداهم الله- يقصّرون الصلاة، ويطيلون الدعاء جدًا، فتجد الصلاة نصف ساعة، والدعاء نصف ساعة، كل الصلاة نصف ساعة، الأصل صلاة الليل قيام الليل، فكيف تجعل لها هذا يعني نصف الوقت والدعاء هذا نصف الوقت، وبعض الناس يطيل في الدعاء ويطيل حتى يمل الناس، كما تقول إحدى العجائز: "صلّيت وراء إمام فجعل يطيل في الدعاء، وهو يدعو، وأنا أدعو أنه يخلص، وهو يدعو وأنا أدعو أنه ينتهي"؛ لأنه ما يعني ما أطاقت، مبالغة، بعض الناس بعضهم خمس وأربعين دقيقة الدعاء، خمسين دقيقة.
فإذن، مراعاة الناس هذه من الأهمية، وقوله ﷺ: من أمّ بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف -فيهم المريض- وذا الحاجة [رواه البخاري: 90، ومسلم: 467]. يدل على هذا.
وفي الحديث قولها: "يصلي أربعًا لا تسل عن حسنهن وطولهن": كمال الحسن والطول، وهذه الأربع هل هي متصلة أو منفصلة؟ إذا أخذنا حديث: صلاة الليل مثنى مثنى [رواه البخاري: 990، ومسلم: 749]، يترجح لدينا أنها منفصلة، وهذا هو الأولى.
يقول النووي: "هذا لبيان الجواز"، يعني: إنها إذا كانت أربع بتسليم واحد، وإلا فالأفضل التسليم من كل ركعتين وهو المشهور من فعل النبي ﷺ وأمرِه بصلاة الليل مثنى مثنى".
قلت: "يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟": كأنه كان ينام بعد الأربع ثم يقوم فيصلي الثلاث، فيصلي ثمان ثم ينام ثم يقوم فيوتر بثلاث، وقد استقر عند عائشة أن النوم ناقض، ولذلك سألته، فقال ﷺ: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي [رواه الترمذي: 439، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 439]، وهذا من خصائص الأنبياء؛ لأن الأنبياء كما قال ﷺ: إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من العلماء: "رؤيا الأنبياء وحي، ولو سُلّط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم".
إذن ما فائدة أن قلوبهم لا تنام؟ أن رؤياهم وحي، ولذلك كان ﷺ ينام حتى ينفخ، فنوم صفة الجسد هذه موجودة، لكن القلب لا، القلب حي، القلب لا ينام، ولا يعارض نومه بالوادي؛ لأننا كما قلنا رؤيا الشمس من فعل الجسد أو من فعل القلب؟ من فعل الجسد، وأما الوحي الذي يراه في المنام فهو من فعل القلب، وليس من فعل العينين.
الكيفيات التي تُصلى بها صلاة الليل متعددة، فمن ذلك:
أولاً: ثلاث عشرة ركعة يفتتحها بركعتين خفيفتين مخصوصتين، ثم يصلي ركعتين طويلتين جدًا، ثم يصلي دونهما اثنتين، دونهما اثنتين، دونهما اثنتين، دونهما اثنتين، ثم يوتر بركعة ثلاث عشرة ركعة.
الثانية: إحدى عشرة ركعة، يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: "كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء وهي التي يدعو الناس العتمة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة.
الكيفية الثالثة: يصلي ثلاث عشرة ركعة؛ منها ثمانية يسلم بين كل ركعتين، ثم يوتر بخمس لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة، إذن اثنتان، ثم اثنتان، ثم اثنتان، ثم اثنتان، صارت ثمانية، كل ثنتين بتسليم، كل ثنتين بتسليم، ثم يصلي خمسًا متوالية، لا يجلس ولا يسلّم إلا في الركعة الخامسة، صار المجموع: ثلاث عشرة، ثمان مثنى مثنى، وخمس متوالية، ودليله: حديث أحمد عن عائشة: "أن رسول الله ﷺ كان يرقد، فإذا استيقظ تسوّك، ثم توضأ، ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين فيسلّم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلا في الخامسة، ولا يسلّم إلا في الخامسة"، رواه مسلم بمعناه، والحديث صححه الألباني.
الكيفية الرابعة: إحدى عشرة ركعة؛ كيفيتها: يصلي منها أربعًا بتسليمة واحدة، ثم أربعًا بتسليمة واحدة، ثم ثلاثًا كما في حديث عائشة، هذا على القول أنه لم يسلّم في الأربع إلا مرة واحدة.
الكيفية الخامسة: يصلي إحدى عشرة، لكن منها ثمان ركعات لا يقعد إلا في الثامنة متوالية، ثمان متوالية لا يقعد إلا في الثامنة، يتشهد ويصلي على النبي ﷺ في الثامنة، ثم يقوم ولا يسلم، ثم يوتر بركعة، ثم يسلّم، فهذه تسع، ثم يصلي ركعتين جالسًا.
مرة أخرى في وصف هذه الكيفية؛ لأنها وردت في صحيح مسلم؛ يصلي إحدى عشرة منها ثمان لا يقعد إلا في الثامنة يتشهّد ويصلي على النبي ﷺ ثم يقوم، يعني الآن صار عندنا ثمانية ثم تشهّد ثم يقوم ولا يسلّم، ثم يوتر بركعة ثم يسلّم، صارت تسع، بتشهدين، بعد الثمانية تشهد، وبعد التاسعة تشهُّد، وكم تسليمة؟ تسليمتين يعني سلام واحد، سلام واحد، سلام واحد في آخر الصلاة هذه، ثم يصلي ركعتين وهو جالس.
دليله: في صحيح مسلم أن سعد بن هشام بن عامر قلتُ: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول اللهﷺ، فقالت: "كنا نعد له سواكه وطَهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلّم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلّم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلّم وهو قاعد، وتلك إحدى عشرة ركعة يا بُني، فلما سنّ نبي الله ﷺ وأخذه اللحم أوتر بسبعٍ وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع".
آخر هذا الحديث هو الكيفية السادسة: تسع ركعات فقط، منها ست لا يقعد إلا في السادسة، ثم يتشهّد ويصلي على النبي ﷺ كما في حديث عائشة السابق، لكن هذا كان في آخر حياته ﷺ.
هذه الكيفيات التي ثبتت عنه نصًا، ومن أراد أن يزيد ويصلي مثنى مثنى ما شاء الله له أن يصلي، فإذا خشي الفجر فليوتر بواحدة، صلّ مثنى مثنى فإن خشيت الفجر فأوتر بواحدة.
وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة [رواه ابن ماجة: 1190، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 2402]، فهذه الخمس والثلاث إن شاء صلاها بقعود واحد وتسليمة واحدة، كما في الصفة الثانية، وإن شاء سلّم من كل ركعتين كما في الصفة الثالثة، وهو الأفضل، إذن لو أراد الواحد أن يوتر بثلاث، ما صفة الوتر بثلاث؟ إما أنك تصلي ثنتين وتسلّم، ثم تصلي ركعة وتسلّم، فتفصل الشفع عن الوتر، وإما أن تصلي الثلاث كلها بتسليمة واحدة وتشهُّد واحد، تصلي الثلاث متوالية بتشهُّد في الأخير فقط والتسليم.
هل يصلي الثلاث مثل المغرب، هل يصلي الوتر مثل المغرب؟ ورد عن النبي ﷺ: ولا تشبّهوا بصلاة المغرب [رواه ابن حبان: 2429، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 2420]، وهذا يدل على أن الوتر لا يكون مثل صلاة المغرب لو أراد أن يوتر بثلاث، ولم يوجد في السنة أنه صلى ثلاث الوتر مثل المغرب، فإذا أراد الإنسان أن يوتر بثلاث، فكيف يخرج من النهي؟ ولا تشبّهوا بصلاة المغرب ، إذا أراد أن يوتر بثلاث كيف يخرج من النهي؟ إما أن يسلّم بعد الركعتين، ويأتي بالثالثة مستقلة، وإما أن يسرد الثلاث كلها وراء بعض بتشهُّد واحد وتسليم، هذه كيفية الخروج من النهي، وبذلك يكون الوتر بالثلاث.
وعن عائشة: "أن رسول الله ﷺ كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن" [رواه الترمذي: 440، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 230]، ورواه مسلم بلفظ: "أن رسول الله ﷺ كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين" [رواه مسلم: 736].
"كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة": هذا فيه دليل كما قال النووي -رحمه الله- على أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة، قال: "وهو مذهبنا ومذهب الجمهور" [شرح النووي على مسلم: 6/19]، وبعض المذاهب يقول: لا يصح الإيتار بواحدة والحديث يرد عليه.
"فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن": والحكمة من هذا الاضطجاع الاستراحة من تعب قيام الليل حتى يجدد نشاطه لصلاة الفجر.
وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي ﷺ كان إذا صلّى فإن كنتُ مستيقظة حدّثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة" [رواه البخاري: 1167]، أي: صلاة الفجر، فالاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر سنة لمن أمن على نفسه من تضييع صلاة الفجر.
جاء في أحاديث أخرى أن الاضطجاع هذا بعد سنة الفجر، وليس بعد قيام الليل وقبل السنة، وإنما بعد سنة الفجر، فروى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر" [رواه البخاري: 626].
إذن، الركعتان هما سنة الفجر، "ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة"، ولا يمنع أن النبي ﷺ فعل هذا مرة وهذا مرة، فمثلاً مرة تكون راحته بعد قيام الليل، وقبل سنة الفجر، ومرة تكون راحته بعد ركعتي الفجر، وقبل الصلاة الفريضة، فهذا من اختلاف التنوُّع وليس من اختلاف التضاد، فإذا أردت أن تطبّق السنة فإن كنت تعبت من قيام الليل وتحتاج إلى الراحة اضطجع قبل السنة، قبل سنة الفجر، وإن كان بك نشاط وصليت سنة الفجر ثم اضطجعت اضطجاعة خفيفة فلا بأس أيضًا.
على أن هذا الاضطجاع الآن هل هو سنة أم لا؟ في المسألة هذه كلام للعلماء فمنهم من قال: إنه ليس بسنة مطلقًا، ومنهم من قال: إنه سنة مطلقًا، ومنهم من قال: إنه سنة لمن يقوم الليل؛ لأنه يحتاج إلى راحة حتى ينشط لصلاة الفجر، ومنهم من قال: -وهذا قول غريب جدًا يُحكى من باب الطُّرفة، لكن قال به ابن حزم رحمه الله- قال: "إن هذا الاضطجاع شرط لصحة صلاة الفجر، وأن من لم يضطجع بعد الركعتين فصلاة الفجر باطلة"، هو من باب الطرفة أو هذا قول واضح شذوذه جدًا.
ولذلك ابن القيم -رحمه الله- قال: "وقد غلا في هذه الضجعة طائفتان، وتوسط فيها طائفة ثالثة، فأوجبها جماعة من أهل الظاهر، وأبطلوا الصلاة بتركها، كابن حزم ومن وافقه، وكرهها جماعة من الفقهاء وسموها بدعة، وتوسَّط فيها مالك وغيره، فلم يروا بها بأسًا لمن فعلها راحة، وكرهوها لمن فعلها استنانًا، واستحبها طائفة على الإطلاق سواء استراح بها أم لا".
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- التفصيل فقال: "إنها سنة لمن يقوم الليل؛ لأنه يحتاج إلى أن يستريح، ولكن إذا كان من الذين إذا وضع جنبه على الأرض نام ولم يستيقظ إلا بعد مدة طويلة فإنه لا يُسن له هذا؛ لأن هذا يفضي إلى ترك واجب"، هذا كلام شيخ الإسلام، فشيخ الإسلام رأى أنها سنة بالنسبة لمن يصلي الليل ويأمن، قال: "أما الذي لا يأمن على نفسه إذا اضطجع" راح في النوم "فإنه لا يفعلها؛ لأنه يؤدي إلى تضييع واجب"، فعلى ذلك لو مثلاً واحد ما يقوم الليل أوقظ لصلاة الفجر، أيقظته زوجته لصلاة الفجر، فقال: انتظري دعيني اضطجع السنة الآن الاضطجاع ما ورد في السنة الاضطجاع دعيني اضطجع فتقول له أصلاً الاضطجاع في حقك ليس بسنّة؛ لأن السنة في حق من قام الليل.
وأما حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: إذا صلّى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح؛ فليضطجع على جنبه الأيمن [رواه الترمذي: 420، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 642]، قال ابن القيم: "سمعتُ ابن تيمية يقول: "هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها"، الصحيح عنه الفعل، وليس الأمر بها، حكاها هكذا قال ابن القيم في زاد المعاد. [زاد المعاد: 1/308].
وعن عائشة قالت: "كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل تسع ركعات"، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضًا، ومسلم بلفظ: "وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر"، وكان يفعله في بعض الأوقات، فلا تنافي بين هذا وبين ما تقدّم من الروايات.
وقد جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن أبي قيس قال: قلت لعائشة -رضي الله عنها- بكم كان رسول الله ﷺ يوتر؟ فقالت: "كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة" [رواه أبو داود: 1362، وصححه الألباني في المشكاة: 1264].
وهذه الرواية تجمع ما تقدّم من الصفات.
وعن حذيفة بن اليمان أنه صلّى مع النبي ﷺ من الليل قال: "فلما دخل في الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة ، قال: ثم قرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوًا من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم ، ثم رفع رأسه، فكان قيامه نحوًا من ركوعه وكان يقول: لربي الحمد لربي الحمد ، ثم سجد فكان سجوده نحوًا من قيامه، وكان يقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى ، ثم رفع رأسه، فكان ما بين السجدتين نحوًا من السجود، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي ، حتى قرأ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام" شعبة الذي شكّ في المائدة والأنعام، أخرجه أحمد وصححه الألباني، وأصله في مسلم. [رواه أحمد: 23375، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 232].
"صلّى من الليل": هذه من للتبعيض، "لما دخل في الصلاة": أراد الدخول، "قال: الله أكبر ذو الملكوت": مالك الملك، وصيغة فعلوت للمبالغة والكثرة، "الجبروت": من الجبر وهو القهر قهر عباده، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]، وقهرهم بالموت أيضًا -عز وجل-، "والكبرياء": الترفع والتنزه عن النقائص والمكروهات، "والعظمة": التي تجاوزت القدر عن الإحاطة، والكبرياء كمال الذات، والعظمة كمال الصفات، إذا قال القائل: ما الفرق بين الكبرياء والعظمة؟ فمن الفروق: أن الكبرياء كمال الذات، والعظمة كمال الصفات، فهو صاحب الكبرياء والعظمة.
ولذلك لا يجوز أن يقول لمخلوق: صاحب الكبرياء أو يقول: صاحب العظمة؛ لأن صاحب العظمة هو الله، وصاحب الكبرياء هو الله ، لا يجوز للمخلوق أن يُلقّب بهذا، كما لا يجوز أن يقول: ملك الملوك؛ لأن ملك الملوك هو الله "أخنع اسم على الله شاه شاه": ملك الملوك، والله تعالى هو مالك الملك.
"ثم قرأ البقرة": مع فاتحتها، استفتح فقرأ البقرة، "ثم ركع فكان ركوعه نحوًا": يعني: قريبًا "من قيامه"، وكان يقول: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم": فالمقصود التكرار، وليس حصرها في اثنتين، "ثم رفع رأسه فكان قيامه": يعني الذي بعد الركوع "نحوًا من ركوعه".
قال النووي: "فيه دليل لجواز تطويل الاعتدال عن الركوع". [شرح النووي على مسلم: 6/63].
وكان يقول: "لربي الحمد، لربي الحمد" يعني: يكرره أيضًا، وليس المقصود حصره في اثنتين، "ثم سجد فكان سجوده نحوًا من قيامه": الذي بعد الركوع، "وكان يقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى": والمقصود التكرار وليس الحصر في اثنتين، "ثم رفع رأسه فكان ما بين السجدتين نحوًا من السجود، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي": ويكرر ذلك في جلوسه بين السجدتين، "حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام".
وقد جاء في صحيح مسلم عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: "صلّيتُ مع النبي ﷺ ذات ليلة فافتتح البقرة؛ فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوُّذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبًا من قيامه" [رواه مسلم: 772].
هذا إذن مما فعله ﷺ في قيامه ذلك من الطول العظيم، وهذا شكر لله وقد قدمنا بأن العبادة ليست فقط لابتغاء النجاة من النار، النبي ﷺ غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعتقه الله من النار، ومع ذلك عبد؛ شكرًا لله تعالى، فالإنسان يعبد شكرًا، وطلبًا للجنة والمغفرة والنجاة من النار، وليس فقط العبادة لأجل النجاة من النار، بل لأمور كثيرة.
وهذا بعض ما كان عليه سنة النبي ﷺ في قيام الليل في الباب الذي عقده الترمذي -رحمه الله- في الشمائل المحمدية، وأراد أن يبين صفة صلاة النبي ﷺ وأحوال النبي ﷺ، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.