الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ :: 31 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

26- ما جاء في تعطر رسول الله ﷺ


عناصر المادة
فضل المسك على سائر الطيب
الفرق بين طيب الرجال وطيب النساء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد روى الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه: الشمائل المحمدية: باب ما جاء في تعطُّر رسول الله ﷺ

عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه، قال: كان لرسول الله ﷺ سكّة يتطيب منها" [رواه أبو داود: 4162، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 185]. والحديث رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.

ومعنى "سكة" قيل: طيب مركّب، وقيل: وعاء الطيب، فإن كان المراد بها هنا نفس الطيب، "سكة يتطيب منها" إن كان المراد بكلمة سكّة الطيب نفسه فمن تكون للتبعيض، "يتطيب منها" يعني: بجزء منها؛ لأن السكة هي الطيب، وإن كان المراد بها الوعاء الذي يوضع فيه الطيب فتكون من للابتداء، فيتطيب من هذه السكّة ويأخذ منها.

والظاهر أن المراد بالسكّة هو الظرف الذي يوضع فيه الطيب كما يشعر بذلك قوله: منها؛ لأنه لو أريد بها نفس الطيب لقيل يتطيب بها، وقوله: "يتطيب منها"، يستعمل الطيب على دفعات، بخلاف ما لو قيل يتطيب بها، فإنه يوهم أنه يستعملها دفعة واحدة، وعلى القول بأن هذا طيب مركب فهو يشتق من الرامك، يتخذ من الرامك؛ وهو شيء أسود يخلط بمسك ويعرك ويقرص ويترك يومين ثم يثقب بمسلة ثم ينظم في خيط، وكل ما عتق عبق.

فالخلاصة: أن هذا طيب مجموع من أخلاط، كان ﷺ يضعه في سكة في إناء يتطيب منه، فإذن، طيبه ﷺ كان أخلاطًا، مركبًا من طيب من عدة أنواع، يوضع في إناء يتطيب منه.

والحديث يدل على: استحباب استعمال التطيب، ومحبة النبي ﷺ للعطر، وكانت الريح الطيبة صفته ﷺ وإن لم يمس طيبًا، فإن رائحته طيبة ﷺ، وكان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في التطيب، وتطييب رائحته لملاقاة الملائكة ومجالسة المسلمين.

وقد جمع النبي ﷺ أطيب الأشياء، فله من الأخلاق أطيبها، ومن الأعمال أطيبها وأزكاها ومن المطاعم أطيبها، ومن الروائح أطيبها، ولذلك كان من أخلاقه التطيب، يحبه، ويكثر منه، بل هو إحدى محبوباته في هذه الدنيا كما قال ﷺ: حُبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة  رواه أحمد، وهو حديث صحيح. [رواه أحمد: 14037، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3124]. 

ولا شك أن قرة العين أعلى من المحبة، فجعلت قرة العين في الصلاة العبادة، والمحبة الدنيوية المباحة كانت في الزوجات والإماء، وكانت في الطيب.

ومن خصائصه ﷺ أنه كان طيب الرائحة ذاتيًا، أي أن جسمه يفوح منه الطيب كما روى أنس بن مالك ، قال: "ما مسستُ حريرًا ولا ديباجًا ألين من كفّ النبي ﷺ ولا شممتُ ريحًا قط أو عرفًا قط أطيب من ريح أو عرف النبي ﷺ" [رواه البخاري: 3561].

وعن جابر بن سمرة قال: "صلّيتُ مع رسول الله ﷺ صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، قال جابر: "وأما أنا فمسح خدي فوجدتُ ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار" [رواه مسلم: 2329].

وجؤنة العطار: سلسلة مستديرة مغشاة كالسفط يجعل فيها العطار عطره، فيسكب منها ليبيع للناس.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي جحيفة: "أن النبي ﷺ توضأ وصلى الظهر ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده يمسحون بها وجوههم".

وقد قدمنا أن الله جعل في النبي ﷺ بركة ذاتية فهو مبارك ويتمسح به وبعرقه وبلعابه ﷺ ويتبرك بذلك، قال: فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم، فأخذت يده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وهذا بيان ما كان ﷺ من الطيب الذاتي المحمدي الصرف أكرمه الله تعالى في جملة ما أكرمه به من صنوف الإنعام والإكرام، وكان ﷺ يكثر من الطيب ويبالغ في استعماله حتى يوجد له لمعان الطيب، لمعان الطيب في مفرق رأسه وشعره ﷺ، وكان يعرف بطيب رائحته إذا أقبل أو أدبر.

وروى أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس: "كان رسول الله ﷺ إذا مرّ في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك فيقال: مرّ رسول الله ﷺ فيعرف أنه مر من الطيب من طيب رائحته، وجد منه رائحة المسك، ومن هذا صفته أبعد الناس عن الروائح الكريهة، ولذلك ترك أكل الثوم والبصل والكراث لأجل رائحتها وهو يناجي الملائكة.

فضل المسك على سائر الطيب

00:06:19

وكان ﷺ يتطيب بعدة أنواع من الطيب، فإن قيل: ما أفضل الطيب؟ فقد قال أهل العلم: والمسك هو الأفضل من أنواع الطيب كلها، ففي صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال:  والمسك أطيب الطيب [رواه مسلم: 2252]، قال النووي عند شرح الحديث: "وفيه أنه أطيب الطيب وأفضله" [شرح النووي على مسلم: 15/8]، يعني: المسك.

قال ابن القيم: "وأخطأ من قدّم عليه العنبر، كيف وهو طيب الجنة - يعني المسك -، ومن ترابها المسك الأذفر الذي تفوح رائحته وتعبق"، طبعًا يوجد أنواع مغشوشة وأخلاط رديئة، فيستغرب بعض الناس هذا الطيب فيقال أي نوع هو، الذي يتحدث عنه العلماء، والممدوح في الحديث المسك أطيب الطيب، لا شك أنه المسك الأصلي، أما المغشوش والمخلوط بأشياء أخرى فحتى لو لم يستسغه الإنسان يقال له: ليس هذا هو المقصود، فإذًا من جهة الأفضلية كما أن الثريد أفضل الطعام المسك أطيب الطيب، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأخطأ من قدّم عليه - يعني على المسك- العنبر وهو كيف وهو طيب الجنة - يعني المسك - والكثبان التي هي مقاعد الصديقين فيها منها لا من العنبر، والذي غر قائله أنه لا يتغير على مر الزمان عن العنبر كالذهب وهذه خصيصة واحدة لا تقاوم ما في المسك من الخواص" [فيض القدير: 1/547]. فالمسك ملك أنواع الطيب وأشرفها وأطيبها، وهو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به غيره ولا يشبه بغيره، ومن منافعه -يعني المسك- أنه يطيب العرق، ويسخن الأعضاء، ويمنع الأرياح الغليظة المتولدة في الأمعاء، ويقوي القلب، ويقوي الأعضاء الظاهرة، وينفع من داء الصداع، ويقوي الدماغ، وينفع من جميع علله الباردة، ويبطل عمل السموم وغير ذلك.

وقال بعضهم: في استعمال النبي ﷺ للطيب الجاهل يظن أن ذلك من حب التزين للناس فقط قياسًا على أخلاق غيره، وهيهات فقد كان مأمورًا بالدعوة وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم -المدعوين- وتحسين صورته في أعينهم، وهذا الفعل يجب على كل عالم تصدى لدعوة الخلق إلى الحق.

يعني أن النبي ﷺ كان من حُسن الدعوة وهو يدعو الناس ويعلم الناس أنه يتطيب لأجل أن أنهم يغشوه فيشم منه رائحة طيبة.

ويتأكد الطيب للرجال في الجمعة، والعيدين، وعند الإحرام، وحضور الجماعة، والمحافل، وعند قراءة القرآن، وحضور حلق العلم والذكر، وصلاة الجماعة، ويتأكد لكل من الرجل والمرأة عند المباشرة، يعني بين الزوجين؛ لأنه من حسن المعاشرة.

والتطيّب من الفطرة: ولهذا بوّب ابن القيم في زاد المعاد: باب هديه ﷺ في الفطرة وتوابعها، وأورد أحاديث الطيب من ضمنها.

والطيب يحفظ الصحة: ولذلك بوّب ابن القيم -رحمه الله- في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: "باب في حفظ الصحة بالطيب"، وقال ابن القيم: "لما كانت الرائحة الطيبة غذاء الروح، والروح مطية القوى، والقوى تزداد بالطيب وهو ينفع الدماغ والقلب وسائر الأعضاء الباطنية، ويفرح القلب، ويسر النفس، ويبسط الروح، وهو أصدق شيء للروح، وأشده ملاءمة لها، وبينه وبين الروح الطيبة نسبة قريبة؛كان أحد المحبوبين من الدنيا إلى أطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه" [زاد المعاد: 4/256]؛ يعني نظرًا لهذه الفوائد كان ﷺ يحبه.

قال في فيض القدير: "ومن محاسن الطيب أنه مقو للدماغ" [فيض القدير: 5/185]، وكذلك قال الشافعي: "من نظّف ثوبه قلّ همُّه، ومن طاب ريحه زاد عقله" [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 11/76].

ومن خصائص الطيب أن الملائكة تحبه وأن الشياطين تنفر عنه؛ لأن الملائكة تتأذى من الروائح الخبيثة ورائحة البصل والثوم وتحب الروائح الطيبة، الشياطين تغشى أماكن الخلاء وأماكن النجاسات وتكون الخبث والخبائث في هذه الأماكن، ولا تطيق الروائح الطيبة، وقد قال  الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور: 26]، كما قال: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ  [النور: 26]، وهذا يتناول الأعمال والأقوال والمطاعم والمشارب والملابس والروائح، فالناس الطيبون يحبون الطيب الطيّب.

ومن الناس رديء يحب الروائح العفنة والنجسة، وكذلك من الناس الطيبين يحبون المكاسب الطيبة، وهناك من الناس أشرار يحبون المكاسب الخبيثة والرّشوة والسرقة والربا والسحت وأكل المال بالباطل، وعلى هذا نشئوا وعلى هذا استمروا.

فأهل الخير أفعالهم وأرياحهم طيبة وأقوالهم طيبة، مكاسبهم طيبة، كلامهم طيب، أهل الشر كلامهم ومكاسبهم وأفعالهم وأقوالهم رديئة.

وعن ثمامة بن عبد الله قال: كان أنس بن مالك لا يرد الطيب، وقال أنس: "أن النبي ﷺ كان لا يرد الطيب"، وعنون البخاري في كتاب اللباس، باب من لم يرد الطيب، وقال ابن العربي -رحمه الله- إنما كان لا يرد الطيب لمحبته فيه ولحاجته إليه أكثر من غيره؛ لأنه يناجي من لا نناجي.

وقال ابن بطّال -رحمه الله-: "إنما كان لا يرد الطيب من أجل أنه ملازم لمناجاة الملائكة، ولذلك كان لا يأكل الثوم وما يشاكله" [فتح الباري لابن حجر: 5/209].

وعن أبي هريرة مرفوعًا:  من عُرض عليه طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الرائحة ، وأخرجه مسلم، وقال بدل الطيب: "ريحان" في رواية مسلم. [رواه مسلم: 2253].

والحديث يدل على أن رد الطيب خلاف السنة، ولذلك نهى النبي ﷺ عنه، ثم أعقب النهي بعلّة تفيد انتفاء موجبات الرد؛ لأنه باعتبار ذاته خفيف لا يثقل حمله، وباعتبار رائحته طيب ولا يتأذى به من يعرض عليه، فلم يبق سبب للرد، فلماذا ترد ما دامت المسألة أنه سهل الحمل، طيب الرائحة، فما هذا معناها أنه محبب، مطلوب لكل نفس فلا يرد، كان أنس بن مالك لا يرد الطيب اقتداء بالنبي ﷺ

قال الترمذي -رحمه الله- أيضًا في كتابه في هذا الباب: عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ  ثلاث لا تُرد: الوسائد، والدُّهن، واللبن [رواه الترمذي: 2790، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3046]. 

ورواه أبو داود وصححه الألباني.

ومعنى:  ثلاث لا تُرد ، أي: لا ينبغي أن تُرد لقلّة المنّة فيها، وتأذي المهدي إذ ردت عليه هديته.

قال: الوسائد: جمع وسادة؛ وهي المخدة، والدهن: وهو الطيب، واللبن معروف، وتخصيص هذه الثلاثة بعدم الرد لخفتها، وعدم كلفتها، وأهميتها، وقلة المنة عليها؛ ولأنها غالبًا ما تقدم للضيف: وسادة، طيب، لبن.

الفرق بين طيب الرجال وطيب النساء

00:14:10

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه  رواه الترمذي وصححه الألباني. [رواه الترمذي: 2787، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 188]. 

وطيب الرجال أي المناسب اللائق بهم والمأذون لهم فيه ما ظهر ريحه، لكن ليس فيه لون كالمسك والعنبر والعود والكافور، فنبه -صلى الله عليه وسلم- على الأدب المناسب للرجال والنساء، فلا يليق بالرجل أن يضع الحناء مثلاً ويتزين بالحناء، هذا رعونة ولا يليق بالرجولة، قال: وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه كالزعفران والخلوق، ولهذا حرم الزعفران على الرجال، قال البغوي: "قال سعد: أراهم حملوا قوله: "وطيب النساء" على ما إذا أرادت الخروج، أما عند زوجها فتتطيب بما شاءت، فالنبي ﷺ نبّه على أدب استعمال الطيب للرجال، وكذلك النساء لأهمية هذا، وخصّ طيب الرجال بالرائحة المنتشرة؛ لأنه ليس فيه فتنة، وحرّمه على النساء لما فيه من الفتنة، فلا تضع طيبًا نفّاذًا وتخرج إلى الشارع، وخصّ طيب النساء باللون؛ لأنه لا تصل رائحته إلى الرجال.

وقد شدد ﷺ على قضية النساء في العطر، فقال: أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية  رواه النسائي وهو حديث حسن. [رواه النسائي: 5126، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2701]. 

والزنا درجات؛ والعين تزني، والرجل تزني، والأذن تزني، والفرج يزني، والمرأة تتعطر يكون نوعًا من الزنا، وباعتبار ما يؤول إليه وهو جذب الرجال، وإيقاع الرجال في الفاحشة فيكون زنا.

والحديث يدل على: أنه ينبغي للرجال أن يتطيبوا بما له ريح، ولا يظهر له لون، كالمسك والعنبر والعطر والعود، ويكره لهم التطيب بما له لون، والزعفران من هذا، وعن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ مثله بمعناه، أي بنفس السند السابق، والمعنى السابق.

قال: "وعن أبي عثمان النهدي، قال: قال رسول الله ﷺ:  إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده، فإنه خرج من الجنة وهذا الحديث فيه ضعف. [رواه الترمذي: 189، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل: 189]. 

ومعنى عرض عليه الريحان، كل نبت طيب الريح من أنواع المشمومات مثل الورد والفاغية والنما، ما له رائحة طيبة، كل نبات مشموم، فليس خاصًا بالريحان المعروف، وإنما كل نبات له رائحة طيبة.

والحديث الذي بعده حديث جرير بن عبد الله قال: "عرضت بين يدي عمر بن الخطاب فألقى جرير رداءه ومشى في إزار، فقال له: خذ رداءك، فقال عمر للقوم: "ما رأيت رجلاً أحسن صورة من جرير إلا ما بلغنا من صورة يوسف الصديق " [رواه الترمذي: 212، وقال الألباني في مختصر الشمائل: ضعيف جدًا: 190].

جرير بن عبد الله البجلي من ملوك اليمن، من سلالة، نسب، شرف، عائلة ملك، كان جميل الصورة جدًا، طويلاً جسيمًا، أسلم في السنة التي توفي فيها النبي ﷺ، أسلم قبل موت النبي ﷺ بأربعين يومًا ونزل الكوفة بعد ذلك وسكنها، ثم انتقل إلى قرقستا ومات بها سنة إحدى وخمسين للهجرة، كان بديع الحسْن، عظيم الجمال، حتى قال عمر : "جرير يوسف هذه الأمة"، يقول جرير: "ما رآني رسول الله ﷺ إلا تبسّم في وجهي"

والحديث فيه: "عرضت" يعني: عرضني على عمر من ولاه ذلك لينظر في قوتي على القتال؛ لأن الاستعراض كان أمير الجيش يعرض عليه المقاتلين، يعرض المقاتلون عليه حتى ينظر فيهم، فيستثني من لا يصلح للقتال، عرض جرير على عمر، فلما كان بين يدي عمر، أراد أن يتبين حاله، وهل يقوى على القتال أم لا؟ والسبب أن هذا الرجل كان به علة وهي أنه لا يثبت على الخيل، يقع من فوقه إذا ركب الخيل وقع، حتى دعا له النبي ﷺ، ضرب صدره ودعا له بالتثبيت، وغاب بعد ذلك، وجاء في عهد عمر ليشارك في الفتوحات في القتال فاستعرضه عمر ليعرف هل يثبت على الخيل، هل زالت العلة التي كانت، أم لا؟ وقوله: فألقى جرير رداءه ومشى في إزار، إظهارًا للقوة والشجاعة وأنه قادر على القتال، فقال عمر: "خذ رداءك"، يعني اترك مشيك فقد ظهر لي من أمرك ما يدل على قوتك وعلى قدرتك، ثم قال عمر بعد ذلك: "ما رأيت رجلاً أحسن من صورة جرير إلا ما بلغنا من صورة يوسف -عليه السلام-"

ويقول عبد الملك بن عمير: "رأيت جرير بن عبد الله، وكأن وجهه شقّة قمر".

والنبي ﷺ كان أجمل الأمة في غاية الكمال، وكان ﷺ قد أوتي من حسن الصورة وحسن الخلق ما جعله قمة في الأمة، ما وجه الحديث هذا في كتاب التطيب، قال ابن حجر وجه أن طيب الصورة يلازمه في الغالب طيب الريح، ففيه إيماء إلى التعطُّر، ورد بعضهم هذا على أية حال قد يضع بعض المحدثين حديثًا في الباب ولا يدرى لماذا وضعه، وقد يكون وضعه مؤقتًا لينقله إلى مكان آخر، قد يريد به شيئًا خفيًا، فالله أعلم.

وهذا إذًا نبذة عن تطيب النبي -عليه الصلاة والسلام- ومحبته للطيب وبماذا كان يتطيب، والمسألة كما نرى فيها من حُسْن معاشرة الناس ما لا يخفى، وهكذا ينبغي أن يكون كل من يخالط الناس، والله تعالى أعلم.