السبت 12 شوّال 1445 هـ :: 20 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

03- طالب العلم والرحلة


عناصر المادة
وبعد:
حكم الرحلة في طلب العلم
رحلة موسى  لطلب العلم
رحلة الصحابة لطلب العلم
أسباب رحلة السلف لطلب العلم
رحلة التابعين لطلب العلم
رحلة المحدثين لطلب الحديث
فوائد الرحلة لطلب العلم
آداب الرحلة لطلب العلم
الرحلة لطلب العلم في العصر الحاضر
عوائق الرحلة لطلب العلم في هذا الزمان
السفر للدراسة في الجامعات الشرعية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

00:00:14

أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ففي هذه السلسلة التي كنا قد ابتدأنا فيها عن طالب العلم، والتي تضمنت: "طالب العلم والمنهج"، و"طالب العلم والحفظ"، و"طالب العلم والقراءة" نتكلم أيضاً في هذه الليلة -إن شاء الله- عن "طالب العلم والرحلة".
ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم.

حكم الرحلة في طلب العلم

00:01:00

وهذه الرحلة حكمها يختلف بحسب حال الشخص والعلم الذي يريد أن يتعلمه، فإن كان علم فرض لا يمكن تحصيله إلا بالرحلة وجب عليه أن يرحل ويأثم لو لم يرحل، والله قد قال: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ[التوبة: 122].
فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وقد أوجب الله الخروج لتحصيل العلم الواجب تحصيله.
وقد تكون الرحلة مستحبة إذا كان لزيادة علم للزيادة من علم ليس فرضًا تحصيله.
وقد تكون مكروهة إذا كان يمكن أن يكون في بلده يحصل العلم فإذا رحل تألم أهله مثلاً وأولاده للفراق.
وقد تكون الرحلة محرمة إذا كان فيها تضييع للأولاد والأهل مع عدم وجود ما يوجب عليه الذهاب، أو إذا قصد بالرحلة حب الظهور والشهرة، وأن يقال: رحل للقاء فلان أو فلان، ويعدد المشايخ والبلدان، ونحو ذلك.

رحلة موسى لطلب العلم

00:02:52

والرحلة في طلب العلم -أيها الإخوة- قديمة فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة: رحلة موسى في طلب العلم على يد الخضر -عليهما السلام-؛ كما روى خبر ذلك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر -عليهما السلام-، وقوله تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66].
وهذا الحديث العظيم الذي ساقه البخاري -رحمه الله- هو الذي يفسر فيه النبي ﷺ قصة موسى مع الخضر كما جاءت في القرآن.
وفي هذه القصة: قوله ﷺ: بينما موسى في ملأ من بني  إسرائيل إذ جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا الخضر يعني عبدنا الخضر أعلم فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، فقال موسى لفتاه: ذلك ما كنا نبغي فارتدا على أثارهما قصصًا[رواه البخاري: 3401] قص الأثر إلى مكان فقد الحوت فوجدا خضرًا، فكان من شأنهما الذي قص الله في كتابه.
وذهب موسى لملاقاة الخضر وطلب من الله أن ييسر له الرحلة في طلب العلم، ولذلك قال في الحديث: فسأل موسى السبيل إليه، وأراد من الله أن يبين له الطريق لملاقاة هذا العالم وهو الخضر.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذا الباب الذي عقده البخاري: "هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن من يغتبط به تحتمل المشقة فيه"[فتح الباري: 1/168] العلم شيء عظيم، ولا شك أن هذا العلم العظيم الجميل الجليل تهون المشاق في سبيل تحصيله.
وكذلك فإن في هذا الحديث من الفوائد: ركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار من العلم، ومشروعية حمل الزاد في السفر؛ لأنه أخذ معه الحوت، ولزوم التواضع في كل حال، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر -عليهما السلام- [ينظر: فتح الباري: 1/169].
من هو أفضل موسى أم الخضر؟
موسى أفضل من الخضر ولا شك، وموسى من أولي العزم ولا شك، ولذلك فإن موسى رغم فضله لم يمنعه فضله وارتفاع رتبته على الخضر أن يسافر إليه لطلب العلم، ويحتمل المشاق لطلب علم عند الخضر ليس عند موسى، ولا شك أن هذا من تواضعه ﷺ.
وكذلك فإن الله أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده أنه رحل إلى رجل عالم يتعلم منه، ويزداد علمًا إلى علمه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60] كل ذلك حرصًا منه لقاء هذا العالم، وعلى التعلم منه، فلما لقي موسى الخضر سلك معه مسلك المتعلم معه معلمه وقال له بكل أدب: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66].
أولاً: سلم عليه بدأه بالسلام، ثم بعده بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتبعه إلا بإذنه، وقال: عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66] أقول: جئت أتعلم، ما جئت متعنتاً، ولا جئت أناقش وأجادل، وأظهر ما عندي، ولا جئت امتحنك، وإنما جئت استزيد علمًا، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعلم.
فهذا نبي الله موسى سافر ورحل لتحصيل ثلاث مسائل من رجل عالم، لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ما هدأ له بال حتى ذهب ولم يقر له قرار حتى سافر لمتابعة التعليم.
وهذا في حال الأنبياء -رضوان الله تعالى عليهم-.

رحلة الصحابة لطلب العلم

00:08:30

أما من بعدهم من الصحابة فإنهم قد ضربوا المثل أيضاً في طلب العلم امتثالاً لأمره الله لما قال: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ [التوبة: 122]، ولذلك جاء أنه كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، يعني مجموعة فيأتون النبي ﷺ فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم، ويقولون: ماذا تأمرنا أن نفعل؟ وماذا تأمرنا في عشائرنا؟
ويبعثهم النبي ﷺ إلى قومهم ليقوموا فيهم بأمر الله .
وكذلك فإن هؤلاء الصحابة كان كثير منهم نزاع من القبائل، كان من كل قبيلة يأتي أفراد إلى النبي ﷺ، ومنهم الإمام العظيم أبو ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه- الذي جاء في قصة إسلامه كما في صحيح البخاري: لما سمع بمبعث النبي ﷺ قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي" اذهب إلى مكة "فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق أنيس حتى قدم مكة وسمع من قول النبيﷺ، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلامًا ما هو بالشعر، فقال أبو ذر: ما شفيتني فيما أردت، فتزود أبو ذر ، وحمل شنة له فيها ماء" قربة "حتى قدم مكة فأتى المسجد والتمس النبي ﷺ حتى وقع عليه، وعثر عليه، وأسلم على يديه، وتعلم منه، وتحمل في سبيل ذلك أذى أهل مكة حتى أنهم ضربوه بالحجارة، بالحجر والمدر، ما تركوا حجرة ولا مدرة ولا عظمًا إلا ضربوه لما علموا أنه جاء يسأل عن النبي ﷺ، حتى قال: "خررت مغشيًا عليّ فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر" [رواه البخاري: 3861، ومسلم: 2474] يعني من كثرة الدماء التي سالت عليه.
وبعد ذلك لزم النبي ﷺ وهاجر معه.
وكان الصحابة يرحلون في طلب العلم، فهذا عمر هو وجاره يتناوبان في طلب العلم، يجلس هذا في المزرعة يوماً، وينزل الآخر يومًا ليتعلم، فيجمعان بين مصلحة طلب العلم وبين القيام على الأموال واستصلاح الأرض والزراعة.
وكذلك فإنه قد جاء في مناقب أهل اليمن في الصحيح عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي ﷺ وعقلت ناقتي بالباب فتاهت فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قال: بشرتنا فأعطتنا، مرتين، ظنوا المسألة فيها عطايا مادية قالوا: ما دامت بشرى يعني فيها عطايا مادية، فتغير وجهه ﷺ، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميمقالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك، من اليمن يرحلون، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال النبي ﷺ: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء [رواه البخاري: 7418].
هذه رحلة أهل اليمن في طلب العلم، ومنهم أبو موسى الأشعري ، ولهم فضل عظيم.
وهذا دليل على الرحلة في طلب العلم.

أسباب رحلة السلف لطلب العلم

00:13:08

وكذلك فإن هناك أمرًا من الأمور العظيمة التي فاتتنا مع الأسف في هذا الزمان، وكانت من أكبر أسباب الرحلة في طلب العلم، وهي جمع الحديث.
لا شك -أيها الإخوة- أن من أكبر الأسباب الدافعة لعلماء السلف في الرحلة لطلب العلم: جمع الحديث، فإن القرآن مجموع معلوم، ولا حاجة إلى الرحلة لجمعه؛ لأنه مجموع، أما الحديث فإنه كان قد تفرق في البلدان بتفرق الصحابة، والصحابة علموا من بعدهم، وتفرق الحديث في البلدان، فلما أراد العلماء جمع الحديث وكتابة الحديث رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها، بل كانوا يرحلون في طلب الحديث لأجل علو السند، فإذا سمعه من رجل قال: من حدثك به؟ قال: فلان بالكوفة، يسافر إلى فلان بالكوفة لكي يسمعه من الشيخ الأصلي، لكي يكون سنده أعلى إلى النبي ﷺ، وهذا الشيء الذي نتحسر عليه في هذه الأيام؛ لأن جمع الحديث قد انتهى، ولذلك الرحلة في جمع الحديث انتهت بجمع الأحاديث وكتابة الأحاديث وتدوين الأحاديث، ونقول في أنفسنا: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزًا عظيمًا.
والصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا على رأس الذين يرحلون في سماع الأحاديث، فإن جابر بن عبد الله رحل شهرًا إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد؛ كما أخرج البخاري -رحمه الله- في الأدب المفرد، في باب المعانقة من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل من أصحاب النبي ﷺ حديث سمعه من رسول اللهﷺ فاشتريت بعيرًا من أجل الرحلة، ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرًا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه؟ فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلاً غرلاً يعني غير مختنين بهمًا قلنا: ما بهمًا؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة [رواه البخاري في الأدب المفرد: 970، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 570] لابد من تصفية الحسابات، الحديث..
وهذا دليل على أن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- رغم أنهم كانوا مع النبي ﷺ، وسمعوا الأحاديث لكن يطلبون المزيد، ويطلبون السماع المباشر.
وهذا الحديث الذي يرحل من أجله كان السابقون يقدرون له قيمته، ففي الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها ثم قال الشعبي: خذها بغير شيء" خذ هذا الحديث مجانًا "فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة" [رواه البخاري: 5083] يعني يذهب من الكوفة إلى المدينة من أجل حديث واحد.

رحلة التابعين لطلب العلم

00:17:28

وكذلك فإن التابعين قد ساروا على نهج الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فهذا التابعي الجليل أبو العالية قال: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله ﷺ بالبصرة فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم" [الجامع لأخلاق الرواية: 2/226].
وكذلك قال الإمام مالك -رحمه الله- عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: "كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد" [تهذيب الأسماء واللغات، للنووي: 1/220].
وعن الشعبي -رحمه الله- أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: لعلي ألقى رجلاً لقي النبي ﷺ أو من أصحاب النبي ﷺ [المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، الرامهرمزي، ص: 226].
والشعبي -رحمه الله- كان من كبار الحفاظ وكان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا" ما يحتاج إلى كتابه؛ لأن كله محفوظ في الذهن "ولا حدثني رجل بحديث قط الا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالما" [تذكرة الحفاظ: 1/66].
قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد" ما اعتمدت على أحد "والسير في البلاد" الرحلة في طلب الحديث والعلم "وصبر كصبر الجماد" [تذكرة الحفاظ: 1/64].
وفي رواية: كصبر الحمار" [تاريخ دمشق، لابن عساكر: 25/355]؛ لأنه معروف بصبره على الذل وقلة التفقد، يعني لو ما تفقده أحد فهو يصبر، وبكور كبكور الغراب.
كانت العرب تقول: تعجبنا من أربعة أشياء: من الغراب والخنزير والكلب والسنور، فأما الغراب فسرعة بكوره، وسرعة إيابه قبل الليل.
وكذلك قال أبو قُلابة الجرمي -رحمه الله-: أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به.
وكان مكحول -رحمه الله- عبدًا لسعيد بن العاص فوهبه لامرأة من هذيل بمصر فأنعم الله عليه بمصر وأعتق.
قال عن نفسه: "فلم أدع بها علمًا إلا حويته فيما أرى في ظني في مصر، ثم أتيت العراق فلم أدع بها علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل" [سير أعلام النبلاء: 5/158].
وكان الإمام عبد الله بن فروخ -رحمه الله- يرحل ويسافر قال: لما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش، فسألت عنه، سأل عن الأعمش فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث فحلف ألا يسمعهم مدة" هذا جاء للشيخ، الشيخ يبدو أن بعض الطلبة قد ضايقوه، فالأعمش حلف ألا يسمعهم مدة ، قال: والله لا أحدثكم شهرًا، عقوبة لهم حتى يتأدبوا، هذا الطالب جاء للبلد فوجد الشيخ حلف ألا يحدث، قال: فكنت اختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه، فلم أقدر على ذلك، فما استطعت، فجلست يومًا على بابه وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع إذ فتحت جارية بابه يومًا وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب وأعلمتها بخبري، قالت: وأين بلدكم؟ قلت: إفريقية، فانشرحت إليّ، وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها؟ قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو، فتأملتني، ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم، وإذا هي جارية كانت لنا بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش وقالت: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره بالباب، فأمرها بإدخالي فدخلت وأسكنني بيتًا قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني، وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه [ترتيب المدارك، اليحصبي: 3/110].


والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- طلب الحديث وهو ابن ست عشرة سنة، وخرج إلى الكوفة في أول سفرة، وخرج إلى البصرة، وخرج إلى سفيان بن عيينة بمكة، وهي أول سنة حج فيها، وخرج إلى عبد الرزاق بصنعاء اليمن، ورافق يحيى بن معين في هذه السفرة.
قال أحمد -رحمه الله-: سافرت فِي طلب العلم والسنة إلى الثغور والشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراقين جميعًا وأرض حوران وفارس وخراسان والجبال والأطراف،[طبقات الحنابلة: 1/47] ثم عدت إلى بغداد، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة، وسادته، فحممت فرجعت إلى أمي -رحمهما الله- ولم أكن استأذنها [الآداب الشرعية: 2/48]
ولو كان عندي تسعون درهمًا كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج؛ لأنه لم يكن عندي شيء.
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند.
وكان من تلامذته إسحاق بن منصور الكوسج وكان فقيهًا عالمًاً جمع مسائل عن الإمام أحمد ثم بلغه أن الإمام أحمد رجع عن تلك المسائل التي كتبها عنه، فجمع إسحاق بن منصور المسائل في جراب وحملها على ظهره، وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة استفتاه فيها، قال: هذه كتبتها عنك رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ فأقر له بها وأعجب أحمد بذلك.
فهذا رحل للتأكد هل العالم رجع عن المسألة أم ما رجع عن المسألة.
وكذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ: بقي بن مخلد -رحمه الله-، وهذا من علماء الأندلس، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد -رحمه الله-، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، بقي بن مخلد قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل، المحنة معروفة التي جرت على الإمام أحمد وكان مما حصل على الإمام أحمد حصل عليه سجن وضرب، وحصل عليه إقامة جبرية، وحصل عليه منع من التحديث والتدريس على الإمام أحمد.
بقي بن مخلد رحل من الأندلس جاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضًا عليه الإقامة الجبرية، والمنع من التدريس، ولا أحد يستطيع أن يقترب من بيت الإمام أحمد، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت بذلك غمًا شديدًا فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اكتريته في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع الكبير.


نزل العفش في الفندق، وجاء للمسجد الجامع الكبير، وأنا أريد  أن أجلس إلى الحلق، وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي: فلان ثقة، فلان ضعيف، وهكذا.. فقلت: من هذا؟ لمن كان بقربي، قالوا: هذا يحيى بن معين، هذا العالم يحيى بن معين، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه، قرب الشيخ، فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله رجل غريب ناء الدار أردت السؤال فلا تستخفني؟ فقال لي: قل، فسألته عن بعض ما لقيت من أهل الحديث، فبعضًا زكى، وبعضًا جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار، فقال: صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، إلخ..، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمة الله عليك، غيرك له سؤال، فقلت: وأنا واقف على قدمي اكشفك عن رجل واحد، أريد أن أسألك عن رجل واحد أحمد بن حنبل، فنظر إليّ يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل، إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.
ثم خرجت استدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه فقرعت بابه، فخرج إليّ ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، ما عرفني، فقلت: يا أبا عبد الله رجل غريب الدار هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الأسطوان، يعني الممر إلى داخل الدار، ولا تقع عليك عين، يعني لا يراك أحد، فقال لي: وأين موضعك؟ أين البلد التي قدمت منها؟ قلت: المغرب الأقصى، فقال لي: إفريقية، فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، الأندلس، فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إليّ من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك، وصلني الخبر بمنعك من التدريس قريب من البلد وأنا داخل على البلد، فقلت له: يا أبا عبد الله هذا أول دخولي وأنا مجهول العين عندكم، أنا غير معروف في البلد، فإن أذنت لي أن آتي لي في كل يوم زي السؤال، ألبس ملابس الشحاذين، وآتي إلى بيتك، فأقول عند باب الدار ما يقولونه، يعني أقول عند باب البيت ما يقول الشحاذون، فتخرج إلى هذا الموضع فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيها كفاية، قال له: ألبس ملابس الشحاذين وآتي أطرق الباب وتخرج إليّ، تتظاهر كأنك تعطيني شيئاً، تعطيني حديثاً واحداً ، فقال لي: نعم على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك، حتى لا يعرف الرجل يبقى هذا غريب مجهول، فكنت آخذ عودًا بيدي مثل الشحاذين وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي التي يكتب بها في كمه، ثم أتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله، فيخرج إليّ ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، وهكذا.. حتى اجتمع نحو من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، الخليفة الذي امتحن أحمد مات، وولي بعده من كان على مذهب السنة فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره، إلى آخر القصة، قال فيها: فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.


أحمد يقول للناس بعد ما رجع أحمد إلى التدريس، وانفكت المحنة يقول: هذا يصلح فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى إفريقية جاء إلى بغداد، هذا الذي تنكر بزي الشحاذين، ورضي أن يلبس ملابس الشحاذين، حتى يتعلم الحديث كل يوم حديثاً وحديثين، هذا يصلح أن يقع عليه طالب علم.
فالآن اسم طالب العلم صار اسمًا ممتهنًا لكل أحد، يقولون: هذا فلان طالب علم، وما فعل شيئًا مما فعله بقي، ثم يقص عليهم قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليّ وأقرأه عليه، فاعتللت علة، يقول: مرضت مرضة ففقدتني من مجلسه، فسأل عني فعلم بمرضي فقام مباشرة فورًا عائدًا إليّ، هذا كان استأجر بيتاً يقول: كسائي عليّ وكتبي عند رأسي، استأجر غرفة في الفندق، قال: بقي، وهو مريض في الفندق، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك أبصروه هذا إمام المسلمين مقبلاً؛ لأن الإمام أحمد رفع الله ذكره، فكان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً أو شيئاً قام الناس، جاء أحمد، قام الناس، هذا بقي مريض في الفندق لما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إليّ صاحب الفندق مسرعًا، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن هذا هو أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك، عائدًا لك، فدخل فجلس عند رأسي، وقد احتشى البيت من أصحابه، فلم يسعهم حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفًا، وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات فقال: يا أبا عبد الرحمن أبشر بثواب الله أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ثم خرج عني، فأتاني أهل الفندق يلطفون بي، ويخدمونني ديانة وحسبة، فواحد يأتي بالفراش، وآخر بلحاف، وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم، لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل، بمجرد ما أحمد بن حنبل زاره هكذا حصل.
وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين، امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عامًا، والثانية عشرين عامًا، ولذلك كتب مجلدات.
وهذا الإمام أبو حاتم الرازي لما ذكر رحلته في طلب العلم، يقول ابنه: سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ" الفرسخ كم كيلو متر؟ أكثر من خمسة كيلو مترات، يعني هذا مشى على قدميه أكثر من خمسة آلاف كيلو متر، المشي على الأقدام غير الرواحل، يقول: كنت سرت من الكوفة إلى بغداد ما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر في المغرب الأقصى إلى مصر ماشيًا، ومن مصر إلى الرملة ماشيًا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ومن طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليّ شيء من حديث أبي اليمان فسمعته ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيًا، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين [الجرح والتعديل: 1/359] هذا من رحلته رحمه الله تعالى.


وكذلك فإن ابن منده -رحمه الله- أراد أن يخرج للرحلة، فخرج وكتب شيئًا كثيرًا جداً، وكانت رحلته خمسة وأربعين سنة رحمه الله تعالى.
وابن السمعاني خرج من مرو ودخل بغداد سنة أربعمائة وواحد وستين، وناظر الفقهاء، ثم خرج منها إلى الحجاز على غير الطريق المعتاد.
وهذه القصة تبين أن بعض العلماء عندما كانوا يرحلون في طلب العلم يصابون بمصائب، وتحصل لهم حوادث، ومع ذلك يتحملون، فهذا يقول: خرجت على غير الطريق المعتاد فأسرني عرب البادية، وكانوا يأخذونني مع جمالهم إلى الرعي، ولم أقل لهم إني أعرف شيئًا من العلم فاتفق أن رئيسهم أراد أن يتزوج، فقال: نخرج إلى بعض البلدان نبحث عن فقيه ليعقد لنا، فقال أحد الأسرى: هذا الرجل الذي يخرج مع جمالكم إلى الصحراء فقيه خرسان، فاستدعوني وسألوني عن أشياء فأجبتهم، وكلمتهم بالعربية فخجلوا واعتذروا، وعقدت لهم العقد ففرحوا، وسألوني أن أقبل منهم شيئاً فامتنعت، وسألتهم فحملوني إلى مكة في وسط السنة وبقيت بها مجاورًا بمكة، ولقي الحافظ الزنجاني رحمهما الله [سير أعلام النبلاء: 19/115].
وكذلك الحافظ محدث الشام: خيثمة بن سليمان القرشي هذا أيضاً ركب البحر وقصده جبله، فلقيهم مركب فقاتلوهم، ثم تسلموا المركب من الأمام فأخذوني ثم ضربوني، يعني كان بعض العلماء يقعون في أيدي الروم، بعضهم في أيدي قطاع الطرق وهم في الرحلة، يتعرضون للإهانات، قال: وكتبوا أسماءنا، فقالوا: ما اسمك؟ قلت: خيثمة، فقال: اكتب حمار بن حمار، إهانة، ولما ضربت سكرت، يعني أصابني الغشي من شدة ألم الضرب ونمت، فرأيت كأني انظر إلى الجنة، يعني في المنام وعلى بابها جماعة من الحور العين، فقالت إحداهن: يا شقي أيش فاتك؟ قال: أيش اختصار أي شيء، قالت أخرى: أيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين، فقالت لها: لأن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له، ثم انتبهت، قال: ورأيت كأن من يقول لي: اقرأ سورة براءة، فقرأت إلى قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، قال: فعددت من ليلة الرؤية أربعة أشهر، ففك الله أسري [تذكرة الحفاظ: 3/52، وسير أعلام النبلاء: 15/414].
وكذلك الحافظ ابن نقطة -رحمه الله- رحل وحفظ.
والحافظ الرواسي رحل حتى سقطت أصابعه من شدة البرد؛ لأنهم إذا مروا بالبلدان الباردة في بعض الأحيان ولا يكون عندهم شيء للتدفئة فإن الأعضاء تتساقط من شدة البرودة، فبعض العلماء رحلوا حتى سقطت أعضاؤهم من شدة البرد.
وكانوا يرحلون ويقابلون المشايخ حتى أن بعضهم لقي ثلاثة آلاف وستمائة شيخ.
وكان بعضهم إذا أراد قصد شيخ عجل إليه، فربما سافر ودخل البلد فوجد الشيخ قد مات، قال بعضهم: أنه سافر إلى نيسابور إلى بيت أحمد بن خلف فكان قد مات لتوه، قال يعني لما سمع خبر موته قال: فكادت مرارتي تنشق [تذكرة الحفاظ: 4/56].


وكذلك فإن الحافظ أبا الوقت عبد الأول السجزي الهروي -رحمه الله تعالى- كان من مشاهيري الذين طوفوا البلدان، قال أحد تلاميذه: لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إليّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت عليّ، هذا من تواضعه، يقول: لو تعرفني على الحقيقة ما سافرت إليّ، ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاء طويلاً، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، ثم قال: يا ولدي تعلم أني رحلت أيضًا لسماع الصحيح ماشيًا مع والدي من هراة إلى بوشنج، ولي من العمر دون عشر سنين، هذا أبوه علمه الرحلة في طلب الحديث، أخذه وعمره عشر سنين، قال: فكان والدي يضع على يدي حجرين، يقول: أنا عمري ابن عشر سنين يعطيني حجرين آخذهما أحملهما في السفر أمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي أحد الحجرين، فألقيه فيخف عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول: هل عييت؟ فأخاف، وأقول: لا، فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع ساعة ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر فيلقيه فأمشي حتى أعطب، فحينئذ يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين فيقولون: يا شيخ عيسى ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول والدي: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله ﷺ بل نمشي [سير أعلام النبلاء: 20/307- 308].
وهكذا كانوا من الصغر يعلمون على الرحلة في طلب الحديث، فلا غرابة إذًا إذا كبروا أن يفعلوا ذلك.
وكذلك فإن من الذين طوفوا البلدان أبو سعد السمعاني -رحمه الله تعالى- نهض برحلات قاربت عشرين سنة، الرحلة الأولى كانت مدتها عشر سنوات كانت خرسان شرقًا إلى الشام غربًا، ومن العراق شمالاً إلى الحجاز جنوبًا.
وكذلك فإنه لما أراد أن يخرج لم يرض أهله حتى يخرج مع عمه مرافق، خرج مع عمه جلس في البلد يطلب العلم يريد من عمه أن يطفش ويفارق، حتى يكمل هو الرحلة، واختبأ في البلد من هنا إلى هنا، ولكن عمه بقي ينتظره، ثم إن الإذن قد جاء له بالسفر فسافر ومات في سفره عمه والوصي عليه، وأكمل الرحلة رحمه الله تعالى.
ورحلته الثانية ست سنوات زار فيها مدن خرسان.
ورحلته الثالثة أربع سنوات زار فيها بلاد ما وراء النهر، وزار مدنًا كثيرة جداً فدخلها، وكتب عن العلماء فيها.

رحلة المحدثين لطلب الحديث

00:42:58

وكان بعض المحدثين ربما بال الدم في طلب الحديث، يعني من شدة الحر والقيض والمشي في الهواجر ربما مرض حتى بال الدم.
وهذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث.
وقلنا -أيها الإخوة- في أول الأمر: إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجودًا في البداية، بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجودًا في عصرنا ولا شك.
أما هؤلاء المحدثين فلابد من ذكرهم والتعويل على سيرهم؛ لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه، ولذلك كان لابد من ذكر حالهم، وقد قال بعض أهل العلم وهو الحافظ الرامهرمزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلاد إلى بلاد خائضين في العلم كل واد شعث الرؤوس خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم همًا واحدًا، ورضوا بالعلم دليلاً ورائدًا، لا يقطعهم عنهم جوع ولا ظمأ، ولا يمله منهم صيف ولا شتاء، ما يزين الأثر صحيحه من سقيمه وقويه من ضعيفه، بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا، في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون، وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم، فانتبهوا مذعورين قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصًا عليها، وميلاً إليها لعلمهم أنه حراس الإسلام، وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين" [لمحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ص: 220 - 221].
فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرات ولا قطارات ولا سيارات ما في وسائل المواصلات الحديثة هذه لكنهم ساروا مشيًا وركوبًا وعلى الرواحل، الأسفار الشاسعة، والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي ﷺ.
وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب.
ولقوا ومصاعب، وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا.
وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.

فوائد الرحلة لطلب العلم

00:46:22

وإذا أتينا للكلام عن فوائد الرحلة في طلب العلم، فإن الرحلة في الطلب العلم -أيها الإخوة- فيها فوائد كثيرة، فإن الإنسان إذا رحل لطلب العلم فإنه يلاقي أهل العلم، وعندهم معارف مختلفة، فيأخذ عنهم من معارفهم، ويتحلى من فضائلهم وأخلاقهم؛ لأن العلم يتعلم بأمور منها: الملاقاة، ومنها: المحاكاة والتلقين المباشر، فإذا لقي الشيوخ وجلس إليهم فاحتك بهم يصل إليه من خيرهم ويرسخ في نفسه مما ينطبع فيها من أخلاقهم وشمائلهم، فيكون هذا الرسوخ قوياً.
وكذلك فإن العلماء قد رحلوا وقرأوا واستفادوا، فالإنسان إذا لقيهم وجلس إليهم يأخذ عنهم فوائد ربما لا يحصلها في الكتب سنين طويلة، يعني ربما تأخذ فائدة عن عالم لو أنت جلست تبحث في الكتب سنين ربما لا تجدها لكن هو قد سبقك إليها، وقرأ الكتب قبلك وحازها، فهو يعطيك نتائج سنوات طويلة من البحث، ويهبك بالمجان فوائد وفرائد قد لا تقع عليها في الكتب إذا قرأت، فلذلك فيها اختصار للأوقات، وفيها الحصول على كنوز وفرائد.
وكذلك فإن عندهم ضبط وتحريرات وفوائد علمية تَجل عن الحصر، ولا شك أن العلم الذي يؤخذ بصعوبة لا يفلت بسهولة، هذا مجرب، فالإنسان إذا رحل وسافر وصرف مالاً ليلقى شيخًا يسمع منه ويأخذ منه فائدة يصعب أن تنسى هذه الفائدة، لكن الشيء الذي يؤخذ في البيت وتحت المكيف بدون تعب من الصحف قد ينسى بسرعة؛ لأنه ما تعب في تحصيله، فالمعلومات التي يتعب الإنسان في تحصيلها لا تنسى بسهولة، وهذه فائدة مهمة من فوائد الرحلة في طلب العلم.

آداب الرحلة لطلب العلم

00:49:00

ونتكلم الآن عن بعض الآداب المهمة في طلب العلم؛ فمنها: الإخلاص لله ، هذا رأس الأمر، الإخلاص لله ؛ لأن بعض الناس يقولون: ذهبنا للقاء فلان، ولقينا فلان، ودخلنا البلد الفلاني، جلسنا مع الشيخ الفلاني، والشيخ الفلاني.
وبعضهم يتباهى بهذا ويتفاخر ويرائي، وربما لا يكون عنده شيئاً، ربما ما قال للشيخ إلا: كيف حالك فقط، ويرجع ويقول: دخلت البلد الفلاني، ولقيت الشيخ الفلاني، وزرت كذا بلد، ولا شك أن هذا ينافي الإخلاص.
ومن سلك سبيلاً يبتغي به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، فالذي يخرج ابتغاء مرضات الله فالله يعطيه من الأجر العظيم، وتكون رحلته هذه سبب لدخوله الجنة.
ومن الأشياء أيضاً: استئذان الأبوين في السفر لطلب العلم، فأما إن كان العلم الذي يريد طلبه مفروضًا فإنه لا يتوقف طلبه على الإذن، لكن إن كان ليس بفرض فيجب استئذان الوالدين شرعًا، ولا يجوز له السفر إلا باستئذانهما، حتى أن بعض العلماء لما أصيب بالعمى قال: ربما كان هذا العمى بسبب دموع أمي التي ذرفتها بكاءً على فراقي لما رحلت، فعوقبت بها.
فإذًا، لا بد من الاستئذان إذا كان لا يمكن تحصيل العلم الواجب إلا بالسفر.
أما إذا كان في بلده من يعلمه العلم الواجب فلا يجوز له أن يسافر إلا بإذن أبويه.
وعن أحمد بن أصرم المزني قال: سمعت رجلاً يسأل الإمام أحمد: طلب العلم أحب إليك أو أرجع إلى أمي؟ وكان السائل غريبًا في بلده، فقال: إذا كان العلم فيما لا بدّ منه أن تطلبه فلا بأس أن تذهب ولو ما وافقت أمك.
قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتاب الجامع: إذا منع الطالب أبواه عن تعلم العلم المفترض فيجب عليه مداراتهما والرفق بهما حتى تطيب له أنفسهما، ويسهل من أمره ما يشق عليهما.
ثم ذكر بابًا بعنوان: ذكر شيء من وجوب طاعة الوالدين وبرهما وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما [الجامع لأخلاق الراوي: 2/228 - 229].
وكان بعضهم يقيم عند أمه حتى ماتت ذهب فرحل في طلب العلم.
وكذلك من الأشياء التي قد تمنع الإنسان عن الرحلة ويكون جلوسه شرعيًا بسببها: الزوجة والأولاد، عن حميد بن الأسود قال: قال لي سفيان تجيء حتى نخرج إلى يونس بن يزيد الأيلي؟ قال: قلت أنت فارغ وأنا عليّ عيال" [الجامع لأخلاق الراوي: 2/235] يعني أنت لست متزوجاً ولا عندك عيال، أنا متزوج وعندي عيال، لو سافرت وتركتهم ضاعوا، فلابد من المقام عندهم، فليس بعيب إذًا أن يجلس إذا لم يكن هناك من يقوم بأمر أهله في حال غيابه.


وقد يمنع طالب العلم المادة ما عنده مادة ليرحل لأن الرحلة تحتاج إلى مصاريف، تحتاج إلى تذاكر سفر، ركوب، تحتاج إلى نفقة طريق، تحتاج إلى أجرة فندق، تحتاج إلى قيمة كتب وأشياء، فلابد من مادة، وقد لا يجد الطالب مادة للسفر، فيكون هذا أحيانًا من أسباب امتناعه، فيكون هذا أحيانًا من الأشياء التي تحول بينه وبين السفر، عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: "لو كانت عندي خمسون درهماً كنت قد خرجت إلى الري إلى جرير بن عبد الحميد فخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء" [الجامع لأخلاق الراوي: 2/235].
أما إذا أراد أن يخرج للسفر فإنه يستخير الله ، ويخرج يوم الخميس، ويستحب التبكير كما هي السنة، وأذكار السفر والدعاء في السفر، ويودع الإخوان والمعارف، عن ابن عباس قال: "من السنة إذا أراد الرجل السفر أن يأتي إخوانه فيسلم عليهم، وإذا جاء من سفره يأتيه إخوانه فيسلمون عليه" [الجامع لأخلاق الراوي: 2/239]
وكذلك من آداب السفر في طلب العلم: التماس الرفيق قبل الطريق، ويلتمس أهل التقى ويحرص عليهم، عن مبارك بن سعيد قال: أردت سفرًا فقال لي الأعمش: سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين، فإن مجاهدًا حدثني قال: خرجت من واسط، فسألت ربي أن يرزقني صحابة، ولم أشترط في دعائي فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير" [الجامع لأخلاق الراوي: 2/235، والمجالسة وجواهر العلم: 2/337] يعني معازف.
والتماس الرفيق في الرحلة مهم جداً؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع.
وقال السلف: التمسوا الرفيق قبل الطريق.
وقيل: "ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك" يعني أعانك.
وينبغي للطالب أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه [الجامع لأخلاق الراوي: 2/236].
ما هو واحد يريد أن يذهب إلى الشرق والآخر للغرب، أو واحد عنده غرض غير الغرض الذي خرج هذا؛ لأنها سيختلفان ويختصمان، ويؤدي ذلك للافتراق.
ومراعاة الرفيق مهمة، قال عن الأصمعي: "كان يقال: الصاحب والرفيق رقعة في قميص الرجل فلينظر بمن يرقعه" [الجامع لأخلاق الراوي: 2/236].
وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفر الطلب، فقد ورد في الأثر: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه [رواه الترمذي: 1944، وقال: "حديث حسن غريب"، وأحمد: 6566، وقال محققو المسند: "إسناده قوي على شرط مسلم"].
وقال مجاهد: "صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه، فكان هو الذي يخدمني".


وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: "للسفر مروءة وللحضر مروءة فأما مروءة السفر فبذل الزاد وقلة الخلاف على أصحابك وكثرة المزاح في غير سخط الله"؛ لأن السفر فيه مشاق، والمزاح يلطف الجو.
وعن صدقة بن محمد أنه قال: يقال إنما سمي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
وقال عمر بن مناذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي فخلع نعليه، فقلت: ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء [الجامع لأخلاق الراوي: 2/243] ما دام أنت انقطع نعليك وأنا عندي نعلين أخلع وأمشي معك حافياً، وأواسيك في الحفاء.
وينبغي للطالب إذا نزل بالبلد الذي إليه رحل أن يقدم لقاء من به من المشايخ، ويتعجل السماع خوف اعتراض الحوادث، قد يمرض هو، قد يمرض الشيخ، قد يموت الشيخ، قد يحصل شيء، قد يزول الأمن، فلابد من انتهاز الفرصة، والفرصة كما قيل سريعة الفوت بطيئة العودة، تفوت بسرعة ولا تعود إلا ببطء.
ولابد من استغلال الغربة في البلد إذا نزل بها، وليعلم أن شهوة السماع لا تنتهي، والعلم كالبحر، فينبغي أن يستغل الفرصة، وقد قال النبي ﷺ: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا [رواه الطبراني في الكبير: 10388، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6624].
ومن العلماء الذين كانوا يضرب بهم المثل في انتهاز الفرصة في السفر وطلب العلم: الحافظ أبو طاهر السلفي -رحمه الله تعالى- هذا الرجل رجل عجيب، ومصنفاته عجيبة، ورحلاته عجيبة، بل إن الله أمد له في العمر فحدث أجيالاً، وأخذ عنه العلم أجيال، قال عبد القادر الرهاوي: بلغني أنه في مدة مقامه بالإسكندرية، أبو طاهر السلفي، ما خرج إلى بستان ولا فرجة غير مرة واحدة، بل كان عامة دهره ملازمًا مدرسته، وما كنا ندخل عليه إلا نراه مطالعًا في شيء، وكان مغرًى بجمع الكتب، وما حصل له من المال يخرجه في ثمن الكتب، وكان عنده خزائن كتب فعفنت وتلصقت بنداوة البلد، فكانوا يخلصونها بالفأس من كثرة الكتب [ينظر: سير أعلام النبلاء: 21/24].
وهذا يقول: لي ستون سنة ما رأيت منارة الإسكندرية، وكانت من عجائب الدنيا السبع إلا من هذه الطاقة، يعني طاقة حجرته في المدرسة، يعني ما هو يذهب ويتفرج على المناظر والآثار، وإنما إذا نزل في البلد جلس يلازم فيها الطلب والتعلم ولم ير منارة الإسكندرية إلا من النافذة، فإذا بلغ الطالب غرضه، وحاز في الرحل ما قصد، وينبغي عليه أن يدون الفوائد يكتب الشوارد والأشياء، فإن بعض الأشياء التي يقولها الشيوخ لا توجد بسهولة في الكتب، ، ولذلك ينبغي أن تكتب فإذا كان الشيخ يشرح في متن يكتب على حاشية المتن في كتاب يصطحبه، له حاشية يكتب فيها، أو كانت فوائد متناثرة يكتبها في دفتر الفوائد.
وكان بعض العلماء يصنفون في فوائد رحلاتهم؛ كما صنف صديق حسن خان -رحمه الله- رحلة الصديق إلى البيت العتيق.


وصنف الشنقيطي -رحمه الله- كتابًا في رحلته إلى مكة، وما جمع فيها من الفوائد.
وهذه الدفاتر دفاتر الفوائد لا شك أنها تكون مرجعا للشخص ذات قيمة لا توصف.
فإذا بلغ الطالب الغرض، وحاز في الرحلة ما قصد له حقق الهدف؛ فينبغي أن يرجع إلى وطنه، ويعجل الرجوع، وقد قال النبي ﷺ: السفر قطعة من العذاب يمنع  أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله[رواه مسلم: 1927]؛ لأن الأهل أيضاً لهم حق، ولا يجوز للإنسان أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر بحال ، كما ذكر بعض أهل العلم.
وبعضهم قال: ستة.
على أية حال: هذا يختلف باختلاف الأحوال.
وبعض الزوجات في بعض البلدان ما تستطيع تجلس لوحدها ولو أسبوعاً، ولذلك يجب أن يكون الإنسان حكيمًا.

الرحلة لطلب العلم في العصر الحاضر

01:00:39

ننتقل الآن إلى الرحلة إلى طلب العلم في عصرنا وملاحظات على هذا الأمر، وهذا أمر مهم -أيها الإخوة-، بل ربما يكون هذا من الأشياء الحساسة في واقعنا نحن الآن.
قلنا سابقًا: أن جمع الحديث قد انقطع، وإن سبباً مهماً جداً من أسباب السفر في جمع الحديث قد انتهى، لكن لا زال هناك في عصرنا السفر، لا زال هناك فوائد في السفر لطلب العلم؛ كما قال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله ونفع به- قال: إن السفر مطلوب، وإنه أيضاً فوائده قائمة في لقي علماء أهل السنة الذين صاروا قليلين في البلدان في هذا الزمان، قال: وقد صار في الأسفار خطورة، فلذلك ينبغي عليه إذا أراد أن يسافر أنه لا يقع في أشياء تمنعه من مراده، وكذلك فإن فيها ملاقاة الإخوان في الأسفار وطلبة العلم والمباحثة والمناظرة.
صحيح أن جمع الحديث قد انقطع، لكن لا زالت الرحلة فيها فوائد.
قلة العلماء في هذا الزمان جعلت أيضاً الرحلات في طلب العلم جدواها أقل مع الأسف، وهذا أمر محزن.

عوائق الرحلة لطلب العلم في هذا الزمان

01:02:27

من الأمور أيضاً العوائق الموجودة في هذا الزمن: عدم التفرغ للرحلة، من زمان كان أحدهم ربما يعني يتاجر سنة، يكسب قوت سنة تالية، فيذهب طيلة السنة التالية مسافرًا، تنتهي الأموال يرجع، ينزل السوق ويبيع ويشتري يكسب سوق سنة ويسافر، وهكذا..
لكن الآن هل يستطيع أحد أن يفعل هذا بسهولة؟
الجواب: لا، هناك عوائق  كثيرة تحول دونك ودون الكسب، ما عادت التجارة سهلة مثل أول، ولا عادت الأوضاع معينة تساعد مثل الأيام الماضية.
كذلك الآن أنت موظف مثلاً لو جئت تأخذ إجازة كم يعطوك إجازة لتسافر مثلاً؟ تستطيع تسافر ستة أشهر أو سنة أو سنين كما فعل العلماء القدامى، هذا صعب جداً.
كذلك لو أنت طالب في مدرسة أو جامعة تستطيع تترك المدرسة وتمشي أو تترك الجامعة وتمشي، هذا يفوت عليك أشياء وربما حرمت من الدراسة، وفصلت من الجامعة، ونحو ذلك، فلذلك -أيها الإخوة- لم تعد الأوضاع في هذا الزمان تساعد مثل أول.
وبالإضافة إلى ذلك الثغرات الموجودة الآن كثيرة، والمجتمع يحتاج إلى طاقات كثيرة في الدعوة إلى الله، تعليم الناس، إنكار المنكر، التربية، بر الوالدين وصلة الرحم الآن صارت العوائل من ضيق الأمور المادية تحتاج، أحيانًا يحتاج البيت يكون فيه أكثر من واحد يعمل، في كثير من البلدان يعمل الزوج وتعمل الزوجة، وربما يعمل الزوج دواماً إضافياً، ولازم يكون أحيانًا في البيت أكثر من رجلين حتى يستطاع الوفاء بحاجات أهل البيت.
ثم إن الأمور قد تشعبت في هذا الزمان حتى الحاجات المآكل والمشارب والملابس، البيوت، مطالب الحياة الدنيا الآن في هذا الزمان قد تعقدت وزادت ، وليست كما كانت في الماضي في سهولة عيشهم، وفي يسر أمورهم، كانت الأمور ميسرة كثيرًا.
حتى الآن السفر هل هو مثل أول، من أول يركب يمشي ما أحد يوقفه على هذه الراحلة أو مشيًا، اللهم إلا قاطع طريق، الآن يحتاج إلى تأشيرات وجواز سفر، ويحتاج إلى تصديق وأختام وأشياء، وفي الحدود وفي المطارات.
فإذًا، تعقيد الأمور في هذا الزمان لا شك أنه من العوائق في قضية الرحلة في طلب العلم، وهذا أمر ينبغي أنه يحسب له حسابه.


صحيح أننا عندما نسمع سيرة العلماء والسلف الماضين نتحمس، ونقول: نريد أن نفعل مثلهم لكن ينبغي أن يكون عندنا حكمة وتعقل في وزن الأمور، ولذلك نقول الآن مراعاة لهذه الظروف الموجودة:
أولاً: يا أخي المسلم ينبغي عليك أن تحصل العلم الذي في بلدك أولاً، وهذا شيء مهم جداً، وقد يكفيك عناء كثيرًا، قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه الجامع: "المقصود في الرحلة في الحديث أمران" هذا حتى على أيام الرحلة" يقول: "أحدهما: تحصيل علو الإسناد وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم، والاستفادة منهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة" [الجامع لأخلاق الراوي: 2/224] إذا كانت الفوائد موجودة في بلدك فلماذا تسافر؟
وقال بعض أهل العلم: ينبغي للرجل أن يقتصر على علم بلده وعلم عالمه، فلقد رأيتني أقتصر على علم سعيد بن عبد العزيز فما افتقر معه إلى أحد.
فالأصل إذًا للإنسان الطالب أن يأخذ العلم عن أهل بلده فلا يذهب للبعيد وعنده قريب؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
وكذلك فعل أهل العلم حتى المعاصرين مثل الشيخ الشنقيطي والشيخ سعد بن حمد بن عتيق -رحمهما الله- وغيرهما من أهل العلم متى رحلوا بعد أن أنهوا طلب العلم، حصلوا العلم عن العلماء الذين في بلدانهم.
الرحلة إذًا ليست مطلوبة لذاتها وليست شهوة، فإن السفر قطعة من العذاب، وليس من المصلحة أن يترك أهله ويمشي إلا لشيء أعظم.


وأريد أن أنبه إلى قضية مهمة تعرض لبعض الشباب أو الذين يريدون طلب العلم ألا وهي: أن بعضهم يريد الطلب على المشهورين من العلماء، يقول: أريد أن أسافر إلى البلد الفلاني أو الإقليم الفلاني وآخذ عن العالم الفلاني، وقد يكون عنده في بلده من طلبة العلم من يسد حاجته، ربما يكون مقصده حسناً في الذهاب إلى الأعلم وهذا شيء طيب وجيد ولا إشكال فيه، لكن أحيانًا يكون العالم المشهور ما عنده حلق علم للمبتدئين، وإنما حلق العلم التي عنده للمتوسطين أو المتقدمين، وكثير من حلق علم العلماء المشهورين لا تصلح للشباب المبتدئين في الطلب، فلذلك لا يركب رأسه ويقول: أريد أن أذهب إلى الشيخ الفلاني، وأروح واستأجر هناك، وأجلس وأتغرب وأترك البلد، ثم هو يذهب ويجلس ولا يفهم، ويريد أن يصعد السلم بالمقلوب، وهذا خطأ، ولذلك إذا استطاع أن يجد في بلده من طلبة العلم من يكون عنده دروس المبتدئين يلزم هذه الدروس؛ لأن هذا هو الوضع الطبيعي في التسلسل في التعلم، ويترقى ويتدرج، ويحصل، ويحصل، حتى إذا تمكن وقوي عوده ذهب للقاء الكبار، وطاف وسافر ورحل، وهكذا..
ولا يستبعد أن يستفيد المبتدئ أبدًا من طالب علم أكثر مما يستفيد من عالم من جهة السهولة، على أن بعض طلبة العلم ربما يشرحون شرحًا يجمعون فيه الأقوال والترجيحات والأشياء لا يفعله بعض العلماء في تشعبهم، ولذلك إذا وجدت حلق علم وجلسات ذكر للمبتدئين في طلب العلم في بلدهم فهي البداية الطبيعية.
بعض العلماء كان لهم حلق علم مبتدئين مثل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله-، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- كان له حلقة للمبتدئين والمتوسطين والمتقدمين، وكان لو جاء واحد من المبتدئين يجلس عند المتقدمين طرده، ولذلك فإنه لابد من التدرج.
ثم لابد من تحقيق فكرة مهمة خصوصًا أنها جربت فنفعت وهي: قضية استدعاء العلماء إلى البلد، استدعاء العلماء وطلبة العلم الكبار إلى البد، واستضافتهم، لابد أن يسعى الشباب في هذا ويحمسوا الجهات التي تستطيع أن تستدعي أهل العلم وتطلبهم، فيقيم مثلاً في البلد شهراً أو اثنين أو ثلاثة، أو الصيف، أو غيره مثلاً، فيكون مجيئه للبلد مسهلاً على الطلاب الطلب؛ لأنه قد أتى  إليهم ووفد عليهم، فمن العيب أن يترك وقد جاء إليهم، ويذهب إلى غيره بغير سبب وجيه.


وقد يكون أحيانًا إتيان العالم إلى بلد للتدريس أسهل من ذهاب الطلاب إلى بلده، ولذلك فإن السعي لاستجلاب العلماء واستضافتهم لإعطاء الدورات لا شك أن هذا من الأفكار المهمة التي ينبغي تنفيذها لحل هذه المشكلة، وهي قضية الصعوبة في الرحلة الآن، وضيق النطاق.
وكذلك فإن في بعض البلدان قد عملوا مدارس خيرية علمية فيؤتى بشيخ يعلم الفرائض، وشيخ يعلم اللغة العربية قد يكون أستاذًا في النحو، قد لا يكون شيخًا مشهورًا، وواحد يدرس مثلاً الأحاديث بالتدريج: "الأربعين النووية" فإذا أخذ شهادة فيها انتقل مثلاً إلى غيرها، مثلاً: "عمدة الأحكام"، ثم ينتقل إلى "بلوغ المرام"، وهكذا..
وكذلك في التجويد يأخذ دورة مبتدئة ثم متوسطة ثم متقدمة.
ولا بأس أن تدفع الأجور لتفريغ بعض طلبة العلم أو أهل العلم لكي يدرسوا في هذه المدارس، وفكرة المدارس الخيرية هذه من أنجح الأفكار، وقد آتت ثمارًا عظيمة.

السفر للدراسة في الجامعات الشرعية

01:12:52

وكذلك من الأمور التي نلقي عليها الضوء أيضاً: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية.
بعض الشباب يتساءلون: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟
والجواب: لا شك في ذلك أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكن هنا ننبه على أشياء:
أولاً: ينبغي على الإنسان بطبيعة الحال أن يراعي أهله فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين.
ثانيًا: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يمشي ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها.
ثالثًا: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل في قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، قبل أن يذهب يكون عنده قواعد هذه مهمة؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، أقصد يبرد وتفتر همته. وكذلك لا بد من الاستشارة، استشارة من حوله؛ لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حولهم، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه، من الذين عندهم علم وعندهم تقى وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، أنا عملي كذا وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن أسجل في جامعة أخرج أو أبقى في البلد؟
الاستشارة من الأمور المهمة جدا في هذا المجال.
كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات.
وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي، ولا قلب للسماع، ولا مناقشة ولا اقتناع.
وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث من المقررات فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا الفصل هذا، احذف لنا هذا، واحذف لنا هذا، ويتملقون المحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم، فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم لكنهم يفرحون بذلك.


وبالنتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الغرض من ذهابهم للرحلة في طلب العلم.
وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، بعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت لأجل هدف فأين تحقيقه واستمراره؟
وكذلك فإن من المصائب العظيمة في هذا الجانب: ابتعاث الناس للدراسة في الخارج في بلاد الكفار، ويقولون: هذا طلب علم ورحلة في طلب العلم، وما هو إلا طلب الفسق والفجور وانحلال الدين وانحلال الأخلاق والسقوط في براثن أهل الكفر والعودة بعقول ممسوخة، وقلوب خاوية، يرجعون شخصيات أخرى هذا ليس بطلب علم أبداً، ولذلك من الأمور المضحكة جداً أن يقال: فلان أخذ شهادة الشريعة من جامعة السوربون أو من جامعة أكسفورد! عيب، بعضهم يقول هناك عند المستشرقين أبحاث وأشياء ويرجع بشبهات ويرجع بأشياء وأخطاء.
وكثير منهم ممن ابتليت الآن بهم الجامعات في بلاد العالم الإسلامي، بل يرجعون لتدريس الشريعة وكل عقولهم مملؤة شبهات في التاريخ الإسلامي، ومطاعن في السنة النبوية، بسبب دراستهم على أيدي الكفرة والمستشرقين.
يقولون: ذهبنا لطلب العلم، طلب العلم في بلد الكفار؟
وكلامنا كله في طلب العلم الشرعي.
أما الذهاب لطلب الأشياء الأخرى فإنه لا يجوز، الأصل عدم جواز الذهاب إلى بلاد الكفار إلا بشروط: أن يكون العلم يحتاج إليه المسلمون ولا يوجد في بلاد المسلمين، عنده علم يدفع به الشبهات، ودين يدفع به الشهوات، من أجل أن يجوز له السفر.
وكذلك لابد أن يراعي الإنسان الغربة، بعض الشباب قد لا يتحمل الغربة، وربما ينشغل بأهله وأولاده، كان هنا في البلد عنده أهله، يضع زوجته وأولاده عند أهله ويذهب هو يحضر حلقة أو يدرس ويقرأ ويسمع، عندما يذهب إلى بلد يتغرب ويقول: لأطلب العلم، ليس هناك أهلها ولا أقرباؤها ولا جيران تعرفهم مثل السابق ومعارف، ولذلك ينشغل بهم؛ لأنهم يشغلونه، لابد نذهب ولابد نخرج ولا بد نفعل، كل شيء هو لابد أن يفعله بخلاف ما لو كان في بلده كان ربما ساعده من أقربائه وأقربائها في أشياء كثيرة، لذلك لا بد من دراسة الأمور بشكل جدي.


وعلى أية حال: أعود وأقول -أيها الإخوة-: إن بعض الناس يندفعون بحماس لقضية السفر لطلب العلم دون تقدير للثغرة التي يتركها أو الجو الذي سيذهب إليه، وقد يترك مسؤوليات شرعية وفروض كفاية هو قائم بها لا يجوز له تركها وليس هناك من يسدها وراءه، يترك ويمشي، ولذلك نعود ونقول: لا بد من استشارة أهل الخبرة وأولي الألباب، والناس الذين يحبون العلم، ما نقول: استشر ناسا يكرهون العلم، ما ينصحك والله، وإنما أناس يحبون العلم الشرعي، العلم الشرعي هو منهجهم.
كذلك أحيانًا قد يكون الطالب في بلد يستغرب أن يتركه، قد يكون في بلد فيها جامعات شرعية، وفيها علماء ومشايخ وموجودين في كل الفروع والفنون، في العقيدة وفي الفقه وفي الحديث وفي الأصول وفي الفرائض وفي اللغة يوجد، فهذا يرحل لأي شيء؟ هذا يسافر لأي شيء؟
نعم، قد يوجد بعض طلبة العلم متقدمين جداً، ربما يوجد شيخ في شنقيط لم يلقه بعد، فهو يريد أن يسافر إليه ربما يجد عنده شيء، لكن بعد أن حصل العلم القريب.
وهناك فكرة أيضاً من الأفكار التي تطرح في هذا وهي: قضية السفر القصير، الأسفار القصيرة، صحيح ربما لا تخدمنا الظروف في قضية الأسفار الطويلة بالسنين والشهور، لكن  يمكن أن الواحد يسافر أسبوعاً مثلاً هذا متيسر، ولذلك أنا عند رأي وأقوله مع شيء من النظر والتأمل إن شاء الله: طالب العلم إذا كان في بلده يدرس وجاد ليس مهملاً، ويقرأ ويطلع ويستمع لشروح المشايخ من الأشرطة، ويحضر الدروس الموجودة مثلاً في بلده، يدون المشكلات التي اعترضته في طلب العلم، ويدون الإشكالات التي واجهته وما استغلق عليه مما لم يستطع حله في بلده، أو الاتصال مثلاً هاتفيًا لإزالته، يكتب هذه الأسئلة والإشكالات، ثم يسافر أسبوعًا بعد أن يرتب أمره يتصل مثلاً بمشايخ، مثلاً افرض أنه هنا في المنطقة الشرقية فهو يتصل مثلاً ببعض أهل العلم في الرياض، ويقول: استأذنك يا شيخ أن أزورك، مثلاً حدد لي وقتًا أو موعدًا، لو ربع ساعة، لو نصف ساعة، لو عشر دقائق، فيسأله عن ما أشكل عليه، الشيخ متخصص فيها فيزيلها له، فيكون حصل، ويتصل بشيخ آخر فيقول: تأذن لي يا شيخ أن أقرأ عليك مثلاً فصلاً في الكتاب الفلاني، أو بابًا في الكتاب الفلاني، ينهيه الآن في ثلاثة أيام أو أسبوع، في سفرة أخرى ينهى فصلاً آخر، في سفرة ثالثة ينهى فصلاً، وهكذا.. قد ينهي أشياء.
وهذه الطريقة أنا أقول: إن شاء الله، هي طريقة جيدة وتناسب واقعنا الموجود والتعقيدات الموجودة عندنا.
وأن هذه الأسفار القصيرة هي من طلب العلم، وإن شاء الله يسهل الله لك بها طريقًا إلى الجنة، وتشعر بلذة فيها.


وهذا يمكن أن يستثمر فيه أوقات، وأن يحصل الإنسان فيه أجرًا كثيرًا وعلمًا، خذ دفترك معك، وقيد المسائل التي اعترضتك، واذهب فاجلس إليهم واسألهم؛ لأن الإنسان كما قلنا -أيها الإخوة- في بلده قد يكون له ارتباطات وأعمال وأهل وأولاد وظيفة أو دراسة، والسفر الطويل ليس بمتيسر، فأقول: إن هذه الأسفار القصيرة جيدة للغاية ونافعة إن شاء الله لمن جربها.
وبعض الشباب نجدهم الآن والحمد لله يسافر إلى الرياض أو إلى القصيم ويرجع في نفس اليوم لمشكلة عرضت له، يرجع لسؤال في مسألة واحدة يحصل الجواب ويرجع وهذا جيد للغاية، بل إنه من سنن السلف، بل هو مشي على منوالهم.
وهذا ما تيسر جمعه وذكره في هذا الموضوع.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسير على نهج السلف -رحمهم الله تعالى-.