الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمع قواعد منهج السلف والمرجعية للسلف نمضي بمشيئة الله، وقد تحدّثنا في الدرس السابق عن خصائص منهج السلف، وأن هذا المنهاج موصول بمشكاة النبوة، وأن ما أجمعوا عليه فهو حق، وأنه يضمن لأصحابه أي المتبّعين له دخول الجنة والنجاة من النار، وأن هذا المنهاج موافق للفطرة التي فطر الناس عليها، وأن هذا المنهاج أسلم وأعلم وأحكم من كل منهاج آخر، وأن نهج السلف يتميز بالسلامة من الشك والاضطراب، وأنه يتصف بالشمولية والثبات والاستمرارية، وأنه محفوظ بحفظ الله تعالى إلى قيام الساعة، وأنه منهج وسط، وفيه تعظيم للنصوص الشرعية، وتكلمنا على الآثار الناجمة عن ترك التمسك بمنهج السلف، وأن ذلك ينبني عليه الإخلال بالتوحيد، وينبني عليه التفرُّق والاختلاف، وكذلك تكلمنا عن بعض الأخطاء التي تتعلق بفهم بعض الناس لمنهاج السلف؛ كاعتبار رأي أحد السلف أنه رأي لجميع السلف، أو اعتبار المخالف في المسائل الاجتهادية خارج عن منهاج السلف، والدعوة للأخذ من الكتاب والسُّنة دون الرجوع لأهل العلم، رددنا على هذه الدعوة، وأنه لا يجوز التعصُّب لقول إمام من أئمة السلف، تحدّثنا عن الهجمة الشرسة التي تقوم بها أطراف مختلفة على منهاج السلف، وهذا واضح جدًا اليوم، وفي هذه البرهة وفي هذه المدة الآن صار الاحتساب في الرد على الذين يغيرون على منهاج السلف واجبًا؛ لأن الطاعنين فيه كثُر، والذين يغيرون عليه كثُر، ويجب علينا أن نتصدى إذا كان عندنا وفاء للسلف - رحمهم الله - وأن ندافع عن هذا المنهج؛ لأنه رأس المال، وتكلمنا في الذين يكتبون المقالات الصُّحفية وغيرها، ويتكلمون أيضاً في البرامج طعناً ولمزاً وغمزاً من قناة السلف - رحمهم الله - ويصفون الذين يتبعون المنهاج السلفي بأنهم تارة يقولون عنهم ظلاميون رجعيون ماضويون متكلسون متحجرون صائيون منغلقون جامدون أثريون نصوصيون، ونحو ذلك، وأن بعض هذه التهم هي في الحقيقة تُهم مشرفة، فلو أتُهمت أنت بأنك نصوصي يعني تتبع النصوص، هذه مفخرة .
ونريد أن نتعرّض لبعض الشُّبهات التي يثيرها الآن المناوئون لمنهاج السلف، فقالوا: أن منهاج السلف ليس بحجة ولا يجب اتباعه؛ لأن السلف بشر يصيبون ويخطئون، وقد رددنا على هذه الشبهة؛ وقلنا: إننا نفرق بين عصمة الفرد وعصمة المنهج، وأن منهاج السلف هو حُجّة بمجموع أقوالهم بما اتفقوا عليه وليس إذا خالف واحد منهم البقية، فإن هذا الواحد نعتبر له عِصمة، أو إذا قال الواحد منهم شيئًا دون الآخرين قلنا هذا له العصمة، لا! وإنما العصمة للمنهج عموماً، ولما اجتمعوا عليه، وليس للفرد الواحد، فالأفراد غير معصومين في اعتقادنا.
وكذلك فإن ما اجتمعوا عليه حُجّة؛ لأن النبي ﷺ بين لنا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، وكذلك تحدث بعض هؤلاء المتهمين والمهاجمين لمنهاج السلف بأنه لا يتناسب مع العصر الحديث، ورددنا على ذلك بأننا مأمورون باتباع منهج السلف إلى قيام الساعة لأن النبي ﷺ قال: فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ [رواه أحمد: 17142، وأبو داود: 4607، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2549]، وكذلك فإن هذه الأمة لن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها.
قولهم: الرجوع إلى منهج السلف تخلُّف ورجعية
كذلك يقولون: إن الرجوع إلى منهج السلف تخلُّف ورجعية.
فنقول: إن العبرة باتباع الحق والرجوع إليه أينما كان، وفي أي زمن كان، وفي أي مكان كان، فرجوع الإنسان إلى السابقين إلى سلفه ليقتدي بهم لا يعتبر ذم إذا كانوا على الحق، لو كانوا على الباطل لقلنا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23]، هذا لا يجوز الاقتداء بالآباء والأجداد إذا كانوا غلى باطل أو على ضلاله، لكن إذا كان الآباء والأجداد هم أبو بكر وعمر، ابن مسعود، ابن عباس، أبو موسى، وأبو سعيد، وإذا كانوا هم سعيد بن المسيِّب وعطاء وإبراهيم النخعي وعلقمة وعكرمة، وكانوا هم أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة، وكانوا هم سادات الأمة، فهل الرجوع إليهم والتأسي بهم هو رجعية وتخلّف أو هو يعتبر عزاً وتقدماً أن تعود إلى سلفك فتقدي بهم وهم سادات الأمة؟ والإنسان مأمور باتباع الحق، وكلما كان الحال أصفى وأنقى كان أهله أتبع للحق، ونحن نعلم أن هذه القرون الثلاثة المفضلة الأولى هم أصفى الأمة وأنقاها.
وأما قولهم: إن الذي يتبع منهاج السلف رجعي وأثري ونصي وأصولي، فإنه يرجع إلى الحق وأصوله ويتمسك بنصوص الوحي وآثاره، وينسب إلى السلف ويستسلم للنصوص، ثم هل يريد هؤلاء أن نضرب بسلفنا وتاريخنا الماضي هذا عرض الحائط وننقطع عنه ونرميه ونتبرأ منه؟ هل التقدم هو بالتبرؤ وعدم الاقتداء بهم؟ إذا كان هؤلاء اليوم ينبشون الآثار ويحفرون ليبحثوا عن أمم بادت ومضت، ويضعون متاحف لأصنامهم وأثارهم وأوانيهم الفخارية، وإذا كانت هذه الأمم الأوربية تجد في شوارعها إلى اليوم في لندن وفي غيرها أبنية من ثلاثمئة وأربعمئة وخمسمئة وسبعمئة سنة، وقلاع في فرنسا وألمانيا وغيرها، يرفضون التخلي عنها ويرفضون هدمها، وأحياناً يعدلون الشارع لكي تبقى ويقولون: هذا تاريخ، إذا كان الكفرة يفعلون ذلك فنحن أولى.
ثم هؤلاء العلمانيون أو المنافقون باللفظ الشرعي: "المنافقون" هم يدعون للرجوع إلى ثقافة الفراعنة والأشوريين والرومانيين، ويقولون: هذه بلاد الفراعنة، وهذه بلاد الأشوريين، وهذه حضارة الرومان، حضارة اليونان، أنتم تريدون أن ترجعونا إلى ما قبل حضارة الإسلام، وإذا جئنا إلى الإسلام المرحلة بعد هذه الأمم تقولون: لا، وما قبلها نعم، وتقدسّون وتدعون للرجوع إليه، وتعظمونه، وتجعلون متاحف وأصنام في الشوارع، وفي الميادين الرئيسة، وتنفقون عليها الملايين، وفي الأخبار تضخمون القضية واكتشف مومياء بكذا وكذا، فإحياء أثار الأمم الكافرة وتضخيمه وتسليط أضواء عليها، هذا عندكم يعتبر من الحضارة، وإذا رجعنا نحن إلى عصر أبي بكر وعمر وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي هذا عندكم يعتبر تخلفاً؟ وكذلك فإن بعض هؤلاء يريدون أن نرجع إلى لغات قديمة ونترك العربية، ونذهب إلى لغات أخرى في العالم، ونتخلى عن لغتنا، بينما يريدون إحياء لغات أقوام بادوا، ويهتمون بها، ويجعلون لها معاهد وتخصصات ورسائل جامعية ويريدون إحيائها.
قولهم: منهج السلف يقصي الآخر ويلغيه
ثم ومن التهم أيضاً التي يتهم بها الذين يتبعون منهاج السلف الصالح بأن هذا المنهج منهج إقصائي حاد وعنيف ويلغي الآخر، ولا نعترف به ويؤدي إلى تقسيم المجتمع وتفتيت الوحدة، فنقول: أنتم تريدون إقصاء منهج السلف وتمييع هذا المنهج بإدخال تعددية ثقافية ومذهبية تزاحمون بها الحق، نحن نعرف أن الحق هو الإسلام والتوحيد، فتريدون أن نأتي بأشياء مضادة للتوحيد، وأشياء مناقضة للإسلام من أديان أخرى ومذاهب أخرى وفرق أخرى، وتقولون: هذه لحمة ونسيج واحترام للآخر، فعجبًا لكم تريدون إقصاء منهج السلف والإتيان بالمناهج الأخرى تقدّمونها، تريدون المحافظة عليها، إذن مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: 154]، أين العدل؟
والمسألة في قضية منهاج السلف ليست مسألة آراء، هذا رأي، وأنت مخير بين هذا وهذا، ولكن قضية احتكام ورجوع إلى ميزان، هذا منهاج، هذا هو الضابط، هذا هو المعيار الذي نقيس به الأمور، نعرض على منهاج السلف الكتاب والسنة بشرح السلف الصالح، فنعرف الحق من الباطل، والمخالف في أشياء اجتهادية لا يُنكر عليه، والإمام مالك - رحمه الله - لما استشاره هارون الرشيد في حمل الناس على الموطأ قال: "لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله ﷺ تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعتُ علم أهل بلدي" [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 6/339]، أو كما قالوا، فنقول: إذا كان الأئمة لم يرضوا بأن يجتمع الناس بالقوة على كتاب من مؤلّفاته مع أنه من نصوص الوحي خشية أن تكون هنالك نصوص أخرى ما اطلعوا عليها، ما أطلع عليها، أو ما شملها بكتابه، هناك أحاديث عن صحابه آخرين، وعلم آخر في بلدان أخرى مثل ما جمعه مالك - رحمه الله - في الموطأ، بالتأكيد فلا يريد أن يجمع الناس بالقوة على كتابه ويتُرك ما عداه، وقد يوجد خارج هذا الموطأ أحاديث وحق وعلم آخر صحيح، فانظر إلى هؤلاء السلف، هل الإمام مالك إقصائي رفض قضية أن يُجمع الناس على موطئه؛ مع أن فيه الأسانيد الصحيحة والأحاديث، لكن هو يعلم أنه يوجد أحاديث أخرى ما وصل إليها، فأبعد الناس عن الإقصاء والتحجير هم السلف، لكن يقصون الباطل؟ نعم، يحجرون على الباطل؟ نعم، لكن ما يحجرون على الحق، ولا واحد يقول: الحق معي أنا فقط، مالك ما قال الحق كله في الموطأ، والعلم كله في الموطأ، ورفض إن الخليفة يحمل الناس على موطئه.
ثم أصحاب منهاج السلف ينطلقون في تعاملهم مع المخالف من النصوص الشرعية ويميزون بين الكافر والعاصي والفاسق، ويميزون بين الطاعة والمعصية، وبين السُّنة والبدعة، وبين العدل والفاسق، والبر والفاجر، وعندهم مراتب للشرك والكفر والمعصية، فيه كبائر وفيه صغائر، فهناك عدل في الحقيقة.
وفي أجواء الحملة المضادة ربما يحاول بعض الناس أن ينحني للعاصفة حتى لا تقتلعه، والمداهنة والموافقة على بعض الباطل، ويقولون: الآن الأعداء هؤلاء هجموا علينا، وهجموا على منهاج السلف، وهجموا على مناهجنا، وهجموا على ما عندنا، هذا التصور قد يخطر في بال بعض الناس، قد يكونوا من الدعاة أو من غيرهم، يقولون: نحني رؤوسنا للعاصفة، ولنوافق القوم أو نسكت يعني ما ندافع على منهاج السلف، ما دام في هجمة شديدة الآن ما ندافع على منهاج السلف حتى تهدأ العاصفة ثم نرجع وننشر منهاج السلف نقول: لا، الآن في أوج الهجمة نكون نحن في أوج الدفاع عن منهاج السلف؛ لأنك لا تضمن إذا اكتسحت هذه الهجمة ومسحت أشياء أنك ستستعيد هذه الأشياء، والذي يموت في هذه الفترة، فترة الهجمة التي أنت ساكت فيها، من يتحمّل مسؤوليته؟ وعندما يخفى الحق بمثل هذه الهجمات أو يكاد يخفى، فهل يسع المسلم أن يسكت؟ أليس البيان واجباً في وقت الحاجة؟ فكيف يجوز لنا أن نقول الآن: منهاج السلف يُهاجم فندع هؤلاء القوم يهاجمونه ونحن نقف على جانب الطريق حتى تمر العاصفة؟ وما أدرانا كم ستأخذ من الوقت حتى تمر والقوم كلما رأونا في ضعف ازدادوا هجومًا؟ وهل عندهم مدة معينة للهجوم وبعد ذلك سيسكتون؟ لا، بل إننا إذا أظهرنا مزيداً من الصمود فهذا الذي سيجعلهم ييأسوا من مواصلة الهجمة وقد قال الله : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9]، ومع الأسف إن بعض المنتسبين للدعوة الآن يعطي تنازلات، وكأن الدين هذا ملكه، هو ممكن يتنازل؛ لأنه يمثل المسلمين ويمثل المنهج، وهذا وباله عليه وحسابه عند ربه، ولا يجوز لإنسان أصلاً أن يتنازل عن شيء من المنهج، وهذا المنهج لا يملكه إلا الله وهو الذي أنزل الكتاب والذي أنزل الشرع والمنهاج، فلذلك ليس ملكاً لأحد حتى يتنازل أو يقول: نعم لقد أعطيناكم صكاً وتنازلاً عن شيء من هذا، والله قال لنبيه ﷺ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9]، ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك لهم إلى الركون إلى آلهتهم فيميلون إليك في عبادة إلهك، وقال الحسن البصري - رحمه الله - "ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم" [تفسير القرطبي: 18/230].
ولكن منهاج السلف الكتاب والسُّنة يأبى هذه الصيغة التوافقية المذمومة، إذا صحّ أن تُسمى توافق؛ لأنه أصلاً ما تركب على بعض حتى تسمى توافق، وهو عبارة عن خلط الحق بالباطل، لبس الحق بالباطل، التخلي عن بعض الحق مقابل ماذا؟
ونلاحظ في هذه الأيام من يحاول إدخال كثير من الألفاظ الأجنبية عن الدين، بل والمخالف له في قاموس الأمة العلمي، فمن هذه الألفاظ التي غزتنا الان "التسامح الديني، الإخاء الديني، الاعتراف بالآخر " المختلف عنا تمامًا في الدين والعقيدة مشرك كافر يقول: نعترف به، كيف تعترف به؟ نحن ما نفهم كيف نريد أن نعترف بواحد مشرك، أو نعترف بمنهج بدعي، كيف تعترف بالآخر؟ تقول: أقر لك بما أنت عليه؟ أوفقك بما أنت عليه؟ ماذا يعني الاعتراف بالآخر؟ ماذا نفهم من الاعتراف بالآخر؟ ما معنى الاعتراف بالآخر؟ إذا نعترف أنه موجود، نعم هو موجود، هذا بالحس والعقل معروف أنه موجود، لكن هم يقولون: الاعتراف بالآخر، يعني بدين الآخر يعني أنت تعترف وتقر باليهودية والنصرانية أنها كلها صح، وتقر ببقية مذاهب أهل الزندقة والزيغ والباطنية والمبتدعة أنها كلها صح، أنا صح، وأنتم صح، وكلهم صح، وكلنا صح، فهل هذا يجوز شرعًا؟
يقولون: نبذ التعصب والكراهية والله قال: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، يعني نحن نبغض الشرك والمشركين والكفر والكافرين حتى يؤمنوا بالله وحده، هناك حقيقة كره منا لأهل الكفر؛ لأن القضية ليست قضية شخصية كفروا بالله وأشركوا بالله وقالوا: عيسى ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة، وقالوا: اتخذ الله ولداً، وقالوا: له صاحبة، وقالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: هؤلاء الغلاة والباطنية يقولون: إن عليًا هو الله، تعالى الله علواً كبيرًا، كيف نرضى نحن بهذا ونريد أن نعترف ونقر لهؤلاء الآخرين بذلك؟ إذا أقررنا نحن إذاً خرجنا عن ملّتنا، إذاً خرجنا عن ديننا، نحن إذا أقررنا بأن الكفر والشرك أنه حق، إذا اعترفنا به معناه أننا خرجنا عن ديننا؛ لأن لا يمكن الجمع بين الكفر والإسلام، ضدان لا يجتمعان، التوحيد والشرك لا يجتمعان، كيف أنا أقر بهذا الشرك والكفر؟ وقد قلنا مراراً: إن عدم الإقرار بالكفر والشرك شيء، وسوء المعاملة لأهله شيء آخر، لا يلزم من رفضنا للكفر والشرك والبدعة أن نسيء معاملة الناس الذين على هذه الأنواع من الباطل وأننا لا نلين في دعوتهم، لا، نحن نلين في دعوتهم، ونحسن معاملتهم في الدعوةـ ونجتذب قلوبهم للدين، ونريد أن يرجعوا للسنة، ويأتوا للتوحيد، وأن يدخلوا في الإسلام، نحن نريد أن نحسن معاملة هؤلاء ليدخلوا في الدين، فكوني أكره الكفر والكافر والشرك والمشرك والبدعة والمبتدع، هذه قضية مسلّمة ومفروغ منها، هذا من صميم منهاج السلف، وفرق بين الاعتداء عليه وظلمه والبغي في حقه، وأن أظْلِمهم بأي نوع من أنواع الظلم .
وبعضهم يقول: البحث عن المشترك الإنساني، ما هو البحث عن المشترك الإنساني؟ هم يقولون لازم نتعايش بحيث ما في فرق، لا تفتح لي موضوعاً عن دينيـ ولا تجيب لي دينك، كل واحد على دينه، ونتعايش، إظهار المواقف كان واضحاً من النبي ﷺ وهو في مكة وفي مرحلة الاستضعاف كان واضحاً جداً، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1، 2]، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم: 89-90]، يعني واضح جداً الإنكار، هل النبي ﷺ أمر في مكة بعدم الإنكار على الكفار أو السكوت عنهم أو يقول: نحن وإياكم صح أو قال: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24]؟
فإذن، كانت الآيات والأحاديث فيها وضوح، نحن على الحق، نحن على التوحيد، أنتم على الشرك، ولا نقركم على ذلك ولا نوافقكم عليه، ولا يمكن أن نقول: إن اعتقادكم صحيح، هذا كان واضحاً جدًا، هذا كله الآن يراد نسخه وتغيره وجعل الكفر والإسلام شيئاً واحداً، ليس هناك تفريق، كله سواسية، يا سبحان الله! أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18]، المؤمن والفاسق، كيف المؤمن والكافر؟ المؤمن والفاسق، قال الله: لا يستوون، كيف المؤمن والكافر؟ لا يستوون وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر: 19 - 22]، فكيف الآن تريد أن تستوي هذه الأشياء؟ وفي المقابل نجد عملية تغيب مقصودة لكثير من المصطلحات الشرعية، مثل الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين، وأحكام أهل الذمة؛ لأن قضية أهل الذمة تعطي درجة ثانية وهم لا يريدون أن يقولوا لأهل الذمة: درجة ثانية؛ لأنهم كلهم سواسية، يا أخي الشريعة ماذا فعلت بينهم في الدية؟ سؤال: دية المسلم مثل دية الكافر؟ موجود في كتب الفقه، فأنت ماذا تريد؟ أن تسوي بينهم تماماً؟ الله فرق بينهم، أنت تريد أن تلغي التفريق، الله جعل فروقات في الأحكام، فالمطلوب الأن إلغاء الفروقات التي جاء بها الكتاب والسنّة!
ثم هؤلاء الذين يتهمون متبعي منهاج السلف بأنهم إقصائيون، هم يريدون إقصاء أهل الحق ولا يعطونهم فرصة لا للكلام ولا للرد ولا لنشر الرد ولا شيء، معروف من طريقتهم، هل هم يعطوهم فرصة متساوية أو ينشرون الباطل، وإن أرسلت ردًا غيبوه وينشرون واحداً من عشرة، إذا اضطروا إلى نشر شيء؟ من هو الإقصائي إذن؟
وكذلك يدعون إلى الديمقراطية، فإذا فاز بعض من يسمونهم بالإسلامين بالانتخابات فلا، واعترضوا، إذاً من هو الإقصائي في هذه الحالة؟ حتى هذا النظام الغربي الذي أتوا به ما رضوه لما حصل فيه فوز لخصومهم.
اتهامهم لمنهج السلف بأنه منهج تكفيري
ومن الهجمات على منهج السلف اتهامه على أنه منهج تكفيري.
والجواب: إن أتباع منهج السلف أبعد الناس على التكفير بالباطل، فهم يكفرون بالحق ولا يكفرون بالباطل، ولذلك هناك فرق كبير بين أتباع منهج السلف وبين الخوارج، الخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة، الخوارج يكفرون المسلم، منهج السلف لا يقبل تكفير المسلم مهما كان عاصياً وعنده من الكبائر، منهاج السلف لا يقبل تكفيره لا يمكن، ما يُكفَّر إلا واحد عنده كفر عندنا من الله فيه برهان، كفر واضح، وعندنا احتياطات كثيرة؛ فالجاهل ما نحكم عليه بالكفر، الذي عنده شُبهة، المكره، عندنا موانع للحكم بالكفر، فلا نحكم على فلان الفلاني بالكفر إلا إذا تبين له الحق، وما كان مكرهًا، فأما إذا كان جاهلاً متأولاً مكرهاً، هذا له حكم آخر، له تفصيل، ما نحكم عليه بإطلاق، فإذن، انظر إلى عدل منهج السلف في قضية التكفير، وإلى اتهام هؤلاء له بالباطل، وكذلك فإن منهج السلف هو القرآن والسُّنة ليس فيه تكفير إلا للكافر، فبعض الناس يزعمون أن الحق إنه ما يكون عندك تكفير أبداً، ما حكم اليهود في دين الله؟ لقد كفر الذين قالوا: عزير ابن الله، كفر الذين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]، كفر الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181]، ألم يقل ربنا : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73]، فإذا كفّرهم الله، أنتم ما تكفّرون؟ أنت لا تريد أن تكفِّر من كفّره الله، أو تتورع عن تكفير من كفّره الله؟ ما هذا الورع؟ فالإسلام واضح وصريح، وفرقٌ بين أن يُحكم على من حكم عليه الله بالكفر ورسوله ﷺ وبين أن نكفِّر بالباطل، تأتي لواحد من عوام المسلمين تكفّره، أي والٍ من الولاة تكفّره، أي مرتكب كبيرة تكفّره، أي واحد، ليس على رأيك واجتهادك تستحل دمه وتكفّره، هذا مذهب الخوارج، تكفير عامة الناس، تكفير عامة المسلمين.
شبهة: المنهج السلفي يرفض التقدم
وكذلك من الفرى قولهم: إن المنهج السلفي يرفض التقدم، أو يرفض العلوم التجريبية، أو يرفض الأخذ بالمكتشفات الحديثة والمخترعات، طبعاً هذا كلام باطل، ومعروف أصلاً أن المسلمين من زمان، من فجر الإسلام، كانوا يأخذون بأسباب القوة، وكانوا يأخّذون بالأفكار المفيدة، والنبي ﷺ عمل برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وأخذ بالفكرة، وأصل الفكرة فارسية، فكرة حربية فارسية، وفي حصار الطائف استعمل المنجنيق، والمنجنيق أداة حربية ما كانت أصلاً عند العرب، فكرتها وتصميمها مستورد، وما منعه أن يكون هذا التصميم المستورد معمولاً به ما دام فيه فائدة للمسلمين وقوة للمسلمين، وأمرَ زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود فتعلمها في سبعة عشر يوماً" تعلم لغات أخرى لصالح الإسلام والمسلمين لا آمن يهود على كتابي تعلّم لي لسان يهود [رواه أبو داود: 3645، وصححه الألباني في المشكاة: 4659]، تعلموا له، إذا كانت الدعوة تقتضي الانفتاح على لغات الآخرين ننفتح عليها، وإذا كانت الدعوة تقتضي معرفة ما عند الآخرين في بلادهم، نعم نعرف ما عند النجاشي، وماذا يوجد عند هرقل، وماذا يوجد عند كسرى، نعرف ونتعامل معهم بحسب ما عندهم، والنبي ﷺ حتى استعمل بعض كلمات الحبشة في مداعبة أولاد بعض الصحابة الذين كانوا بالحبشة قال: هذا سنا يا أم خالد [رواه البخاري: 5823]، وسنا بلغة الحبشة يعني: حسن جميل؛ لأن هذه البنت كانت في الحبشة مع أهلها من المهاجرين، فاستعمل كلمات من لغات أخرى في أحوال معينة، ما رفض استعمال أي كلمة من لغة أخرى، لا، هذا ينبيك إن هذا المنهج متفتح، وأنه ينفتح على الآخرين بما عنده، ما هو يفتح ما عنده للآخرين، لا، ينفتح بما عنده للآخرين، وكذلك أن الأمة أخذت بأسباب الرُّقي في العمران وفي الزراعة وفي الطب وكذلك في البصريات وفي العلوم التجريبية، وكان لابن النفيس وابن الهيثم وغيرهما من أهل العلم حتى بالأمور التجريبية من المسلمين آثار كبيرة على البشرية، واختراع الصفر الذي جعل هؤلاء يكتبون، ما كان كانت الأرقام عندهم طويلة، وبعضهم يمكن ما كانت تكتب، فلما اخترع المسلمون الصفر، وتعلّم أولئك القوم صاروا يعرفون كتابة الأرقام، فإذن، ما وجدنا أن تاريخ المسلمين حتى في عصور ازدهار الأمة وقوة الأمة وتفوُّق الأمة وغلبة الأمة على غيرها أنهم كانوا يتركون للأخذ بما يفيد في العلوم الدنيوية بل يستفيدون من ذلك.
وبعض الذين يهاجمون منهج السلف يقولون: إن السلفية تعني الرجوع إلى ما كان عليه الناس في الماضي من ركوب البغال والحمير واستعمال الفوانيس ونحو ذلك، وهذا باطل، والله قال لنا: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13]، واستفاد المسلمون مما خلق الله تعالى في الأرض، والنصوص الشرعية فيها اعتبار العُرف، والعرف يتغير بتغير الزمان والملابس والمراكب وغيرها، تتغير وينبني على ذلك أحكام، لو قلت اليوم للزوج: وعاشروهن بالمعروف، فأنت مطالب أن تعطي زوجتك كذا وكذا مما كان يعطي الزوج زوجته في الماضي ولم يكن هذا الأمر المعاشرة بالمعروف.
كيف يمكن لمنهج السلف أن يقال عنه أنه يدعوا الناس إلى الماضي وإلغاء الكهرباء وإلغاء ركوب السيارات والطيارات والعودة للبغال والحمير ونحو ذلك وهم أي المسلمين الذين ساروا على هذا المنهج برعوا في الرياضيات وكتابة الكتب التي استفاد منها غيرهم، واخترعوا الكسور العشرية، هم الذين ابتدعوها في الرياضيات، ولهم في الفلك رصد وآلات، ولهم في الجغرافيا اسطرلابات وخرائط، لهم في البصريات والعدسات كشوف، هؤلاء علماء الذين ساروا على منهج السلف قد توصلوا إلى نتائج عظيمة في علوم مختلفة في الجاذبية والنسبية وفي الطب، وكذلك في الصيدلة ولهم فضل على العالم في أشياء كثيرة وهذا ابن البيطار المتوفي سنة 646هـ اشتهر في كتابه المغني في الأدوية المفردة والجمع في الأدوية المفردة وجمع في المواد الطبيعية والمواد المعدنية.
وكذلك فإن هؤلاء أهل الإسلام الذين كان لهم تفوق حتى في النواحي العسكرية، وهم أول من استعمل البارود كمادة دافعة للمقذوفات، والذين كان عندهم من الآلات ما أدهش بعض الحكام الأوربيين، حكام النصارى الذين وصلتهم هدايا من بعض خلفاء المسلمين، فيقال بعد ذلك أن منهاج السلف يدعو إلى العودة إلى الوراء في مكتشفات؟ هذا أصلاً كلام باطل، والذين يسيرون على منهاج السلف اليوم بحمد الله، ها هم يستعملون مفردات التقنية الحديثة، وما توصلت إليه التقنية الحديثة في نشر علم السلف، والأن تستعمل مواقع الإنترنت في نشر علم السلف، وتُستعمل البرمجيات بأنواعها بنشر علم السلف، وتُستعمل القنوات في نشر علم السلف، فهذه تقنية المعلومات والاتصالات الآن مسخّرة لنشر علم السلف، وهذه الاسطوانات المدمجة مخزن فيها علم السلف، وهذه القدرات البحثية العالية للأجهزة مسخّرة في نشر علم السلف، فمن الذي قال يوماً بأن الذي يتبع المنهاج السلفي لابد أن يكون متخلّفًا يرجع للوراء في الأمور الدنيوية؟ نحن نقول: في الدين نعود إلى سلفنا لفهمه وفي الدنيا نحن نكتشف المزيد، ونأخذ بأسباب القوة، وعندما يكون الشيء قابلاً للتطوير فإن منهاج السلف لا يقف في طريق تطويره، خذ مثلاً: الجوال، كم مرة تطور الجوال منذ ظهوره إلى الآن؟ كم نموذج وكم تحديث طرأ على هذا المخترع؟ لأنه أصلاً فيه نقص، ومهما زادوا فيه نقص، ولذلك يقبل الزيادة، لكن نعطيهم مثالاً نرد به عليهم من المخلوقات؛ الانسان، الانسان خلقه الله بوجه ويدَين وعينين وأنف وفم وأذنين وشعر ورجلين وبطن ، إلى آخره حدثوني وأنبئوني كم تطويراً تم على هذا الإنسان منذ أن خلق الله آدم إلى الآن؟ هل هناك انسان فيرجن1، وإنسان فيرجن3؟ لماذا لا يوجد؟ الانسان هو هو، عندما يكتشفوا مومياء أو أحفورة أو واحداً من العصر الجليدي نفس هو شكل الإنسان الآن؛ لأن الله خلقه كاملاً لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]، الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] فهذا ما يقبل التطوير، ماذا تطور؟ تأتي بواحد عنده عينان من وراء، واثنان من أمام، ما يطلع معك، وعندما حاولوا يلعبوا بالجينات الوراثية كانت النتيجة أم تحمل قرداً جنيناً بصورة كلب، تلاعب بالجينات أدى إلى مصائب، لما حاولوا التلاعب بالجينات النباتية طلع عندهم نباتات، الآن يقولون: المعدّلة وراثياً تسبب السرطان، هذا الإنسان إذا تدخل في خلق الله أفسد، قالوا: يصلوا إلى الإنسان السوبر؟ أرونا، وإنا وإياكم لمنتظرون، تريدون أن تصلوا الإنسان السوبر الذي لا يصيبه مرض، ولا يموت، وقوي جداً، يخرق الجبل، قالوا: الهندسة الوراثية ستساعدنا للوصول الإنسان السوبر، ما يمرض، ولا يموت، ولا يهرم، ولا يشيخ، ولا يشيب، نحن منتظرون، هذه نتحدى عليها، تحدّث فيها، أرونا التطوير؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن: "الهرم لا دواء له" كل شيء له دواء إلا الهرم، فلا بد يهرم الإنسان ويموت رغماً عنه فهم الآن يعبثون بخلق الله، ويزعمون الآن بالتقنية الحديثة، يعبثون بخلق الله، والنتائج ما هي؟ إلى الآن كلها دمار، وأمراض، ومصائب، جهاز طور لأنه اللي اخترع الجهاز الإنسان، الجهاز ناقص، قابل للتطوير، طلع فيجن 100 ، ما في مشكلة، طور، لكن التلاعب بخلق الله، بخلقة الإنسان، هذه نتائجه كما نراه اليوم، فالشاهد منهج السلفي فيه ضوابط، مفتوح لك المجال في تطوير المخترعات التي أنت اخترعتها، لكن تطور على خلقة الله أو أطور على شكل الإنسان أو خلقة الإنسان، ما يمكن، وهذه تجاربهم شاهدة على ذلك، فإذا ارادوا أن يقولوا: إن الضوابط التي عندنا تعيق تقدم العالم، فليرونا شيئاً نحن نقول بأن القرآن والسنة تمنعه؟ ثم فيه فائدة للناس؟ أرونا، لكن اكتشف سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13]، الذي في السموات الأرض كله من الله، اكتشف؛ أخرج معادن جديدة وركب منها أجهزة جديدة، طوّر، المجال مفتوح، خلق لكم جَمِيعًا مِنْهُ خلق لكم لأجلكم امتنّ بذلك عليكم فاكتشفوا واستخرجوا لكن لا تتلاعبوا بخلق الله.
وبعضهم يقول: إن منهج السلف مغرق في الجزئيات وأنه يهمل الكليات، ولكننا نقول: إنه يعطي كل ذي حق حقه فهو لا يمكن أن يقدّم الأمور الجزئية على الكلية بالإطلاق، يقول مثلاً: قدّم إماطة الأذى عن الطريق على التوحيد، لكنه هل يهمل إماطة الأذى عن الطريق؟ هل منهج السلف يهمل الجزئيات؟ لا، بل يقول لك: لا تحقرنّ من المعروف شيئاً [رواه مسلم: 2626]، لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة [رواه البخاري: 887، ومسلم: 252]، فإذن، ينّزل الأمور منازلها، القوم يريدون إهمال الجزئيات يا أخي هذه عليكم بسنتي [رواه أحمد: 17142، وأبو داود: 4607، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4369]، وهذه من سنة النبي ﷺ يقول: هذه سنة، أشياء ليست مهمة، كيف ليست مهمة؟ ما فيها أجر؟ ما فيها ثواب؟ أليست من شعب الإيمان؟ أليس الإيمان بضع وسبعون شعبة وفيها الأشياء المختلفة المراتب؟ لاحظ شمولية هذا المنهاج الذي لا يهمل لا الكليات ولا الجزئيات ولكن ينزلها منازلها.
منهج السلف في التلقي والاستدلال
ننتقل الأن إلى موضوع آخر وهو منهج السلف في التلقي؛ وهذه قضية مهمة جدًا؛ لأن المخالفين لها قد وقعوا في عظائم وكبائر وانحرافات رهيبة في هذا الجانب، فكان لابد من بيان ما هي مصادر التلقي؟ ما هو منهج السلف في التلقي؟ ما هو المرجع؟ إلى أي شيء؟ العقل مثلاً؟ الرؤى والأحلام؟ المرجع إلى أين؟ اتفق العلماء على أن الكتاب والسنة هما أساسا التشريع الإسلامي، والخارج عنهما منابذ بالعداء، ومصرح بالمخالفة، ومحاذ ومستوجب للعقوبة، ومعرض للفتنة، أما الكتاب فهو القرآن فهو كلام الله المعجز المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبّد بتلاوته، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، أنزله الله على رسوله هداية للعالمين، قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155]، نور يهدي به الله اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1]، وقال النبي ﷺ: قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله [رواه مسلم: 1636].
والقران ثابت ثبوتاً قطعياً منقول بالتواتر، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولما كانت ألفاظ القرآن محفوظة منقولة بالتواتر، لم يطمع أحد في إبطال شيء منه، ولا في زيادة شيء فيه، بخلاف الكتب التي قبله، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] " [الرد على البكري ( 1/ 171] ، وكذلك فإنه يجب على كل من يؤمن بكتاب الله أن يحتكم إليه في جميع شئونه، ولا يصلح حال الناس إلا بذلك، الناس أصحاب أهواء وأمزجة، وتفكيرهم مختلف، ولو وكل الشيء والحكم والميزان والقانون إلى عقول الناس، يتفقوا على ماذا؟ لن يزالوا مختلفين، ولذلك جعل الله فينا حكماً عدلاً وميزاناً مقْسطاً؛ وهو كتابه، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني: على التوحيد، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213]، فلا يصلح الناس بلا شريعة، لا يصلح الناس بلا مرجع، فما هو المرجع؟ كتاب الله، أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114]، موضحاً فيه الحلال والحرام، الأحكام الشرعية، الأصول والفروع، لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجلى من برهانه، أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة، قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]، قال ابن كثير - رحمه الله -: "وهذا أمر من الله بأن كل شيء تنازع الناس من أصول الدين وفروعه يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال" [تفسير ابن كثير: 2/345]، وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10]، هذا عام في جميع الأشياء وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ في تجارة، في زواج، في حكم طهارة وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ [الشورى: 10]، وينبغي التفطُّن إلى هذا الأساس والتنبيه عليه فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]، قال الشوكاني - رحمه الله -: "وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة، فإنه أولًا أقسم بنفسه سبحانه، فَلَا وَرَبِّكَ مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي لَا وَرَبِّكَ يعني: لا يؤمنون، نفى عنهم الإيمان حتى يحصل لهم التحاكم، حتى يتحاكموا، ثم نفى عنهم الإيمان حتى يتحاكموا ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا يعني حتى لا يوجد حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيًا، لابد أن يكون عن رضا، واطمئنان، وطيب نفس، وما في حرج، ثم ما اكتفى بذلك حتى ضمّ إليه: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا يعني: يذعنوا وينقادوا ظاهرًا وباطنًا، ما قال: يسلّموا فقط، بل ضمّ إليه المصدر المؤكد فقال: تَسْلِيمًا فلا يثبت الإيمان إلا على طريق التسليم تسليماً لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36].
إذن، لا يمكن أنه الواحد يصير عنده خيارات؛ القرآن وغير القرآن، السنة أو غير السنة، لا، ما عندنا خيار، الكتاب والسنة فقط.
صفات المعرضين عن كتاب الله تعالى
وقد وصف الله المعرضين عن كتابه فقال: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور: 47 - 48]، نجد أن من صفات المنافقين الإعراض عن الكتاب والسنة، وإذا دعوتهم لحكم الكتاب والسنة أعرضوا، ونجد هذا واضحًا عند هؤلاء القوم الذين يهاجمون منهاج السلف، يريدون إقصاء حكم الكتاب والسنة، ولا يكون للكتاب والسنة إلا قضية التبرُّك عندهم بأن يقرأ للأجر، ما عندهم اعتراض، البركة يجعل تحت الوسادة، معلق في السيارة، يجعل آيات منه معلقة في الصدر، يعني ممكن الرقية عند العلمانيين ما عندهم مشكلة فيها، قراءه القرآن ممكن بعضهم يقول: لا، لازم الأدوية الطبية الحديثة، أما يصير القرآن والسنة قضية الحكم والمرجع والقانون والمنهاج والدستور عند الاختصام والاختلاف هو الذي يفصل، هذا لا، وقد ذكرتُ لكم مرة قصة ذلك الدكتور قام في أحد الفصول الدراسية أمام الطلاب المسلمين يقول: إلى متى هذا التخلف والمرأة مسجونه في البيت متى نراها تخرج في المسرح وتغني وتمتع بصوتها الشجي؟ متى تخرج عارضة أزياء وتعرض جمالها بدل ما تستره بهذه الخيشة؟ ومتى نرى المرأة تمثلنا في الأولمبياد والألعاب؟ وأنتم تعرفون ملابس سباق الجري السريع والوثب، كرة التنس كرة المضرب، وكيف ملابس النساء فيه، الرياضات النسائية في الأولمبياد هي عبارة عن عروض شبه عارية للنساء، فيقول: متى نرى المرأة تغنّي وتخرج وتمثّل والرياضات وتخرج بدل من هذا الحجاب المتخلّف؟ فقال له أحد الطلاب: يا دكتور أنا عندي سؤال؛ قال: نعم، قال: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140]، الله أعلم قال: إذا كنت تقول الله أعلم، فالله يقول في كتابه: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور: 31]، ويقول الله في كتابه: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31]، ويقول الله في كتابه: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31]، ويقول الله في كتابه: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]، فنسمع كلامك أو كلام الله؟ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة: 258]، وهؤلاء المعرضون عن الكتاب والسنة، تراهم كما قال الله: إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [النور: 51]، لابد يبحث له مخرج منفذ، أي طريقه يحيد بها عن الكتاب والسنة، إذا قيل لهم: بيننا وبينكم كتاب الله، تولوا، وبعضهم عنده فهم وهي الشبهة الأخرى؛ يرون أن القرآن مرجع في العبادات فقط، وهذا يغلب على كثير من أرباب فكر العلمنة في العصر الحاضر، ما يجحد الكتاب والسنة، لكن يقول هذه فقط كما قلنا: إما يقول البركة وأجر القراءة والثواب، وممكن الأذكار، كذلك العبادات، تنازلنا خذوا أنتم يا أيها الإسلاميون، خذوا التنازل منا القرآن والسنة، العبادات صلاة وصيام وحج والدعاء والأذكار، هذه العبادات المرجع فيها الكتاب والسنة، أما المعاملات، أما شؤون الزراعة والصناعة والبيع والسياسة، فهذه كلها المرجع فيها إلى أهل الدنيا، وبما أن الكفار تقدموا علينا فإذن المرجع إليهم، هم قوانينهم تحكم في الأمور المدنية، الكتاب والسنة، ما يدخل بالاقتصاد، ماله دخل بالمعاملات البنكية، ماله دخل ببطاقة الفيزا، ماله دخل ببيع، تقسيط، تأجير، لا، هذه كلها مالها دخل، الكتاب والسنة على قاعدتهم عزل الدين عن نواحي كثيرة من نواحي الحياة، قاعدتهم دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، هناك فصل عندهم، يقولون: الذي بينك وبين الله ارجع للكتاب والسنة، أما الذي بينك وبين الناس وبين العباد لا، كيف نجد أن الكتاب والسنة قد حكم في النكاح، في الطلاق في سورة كاملة، الطلاق، التحريم، اليمين، الزكاة في الزراعة، الزكاة في بهيمة الأنعام، فيه ضوابط حتى: الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار [رواه أحمد: 23082، وابن ماجه: 2471، وصححه الألباني في المشكاة: 3001]، مثلا: من أحيا أرضاً ميتة فهي له [رواه أبو داود 3073، والترمذي: 1379، مرفوعاً، ورواه البخاري موقوفًا من قول عمر رضي الله عنه: 3/ 106، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5975]. ما هذا؟ أليس حكمًا شرعيًا في قضية تتعلق بالأراضي، كما يوجد أحكام شرعية تتعلق في المواشي، في الزراعة، على أهل الماشية حفظها بالنهار، وعلى أهل الأرض حفظه بالليل، بناء على ذلك يصير الضمان إذا دخلت غنم واحد في مزرعة الثاني وافسدت فيها، يُحكم بين الزوج والزوجة في أحكام شرعية، في الحضانة، في الكفالة، في الوكالة، في الرهن، في الرضاع، وهناك تحريم مبني على الرضاع، هناك أحكام تتعلق بالإجارة، وهناك أحكام تتعلق بالدعاوى والبينات والقضاء، ما هذه؟ أليست هذه أشياء بين الناس؟ قال القوم: لا، عندنا دليل أن المرجع بالأمور الحياتية بين البشر إلى الناس، قوانين أخرى بتصويت، بمجلس تشريعي برلمان، المهم أي صورة، المهم الناس يفتون بها، يحكمون فيها بالأغلبية، نأتي بالقوانين واحدة واحدة بالأغلبية، نأتي القضايا واحدة واحدة بالأغلبية، نعرضها على المجلس التشريعي، إذا أقر المجلس التشريعي - البرلمان - بأي طريقة من الطرق نعمل عليها تصويت، خبراء، إذا الغرب سبقونا أخذنا فيها بما عندهم، ما هو دليلكم؟ دليلنا حديث صحيح عندكم في السنة رواه مسلم: أن النبي ﷺ مرّ بأناس يلقحون فقال : لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شيصا فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت لنا كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم معنى الحديث: النبي ﷺ مر وجدهم يؤبرون، يلقحون النخل، فظن أن هذا التلقيح لا حاجة إليه، ممكن أن تهب الريح فتأخذ حبوب اللقاح وتلقح النخل ولا حاجة لهذا، فقال: لو تركتم هذا كان صار بالريح وما تحتاجون إلى أن تتعبوا أنفسكم فيه، أعطاهم رأياً، ما أعطاهم حكماً من الله، أعطاهم رأياً، أشار عليهم بتركه، الصحابة وأهل الزرع ظنوه حكمًا شرعياً، امتثلوا وما لقحوا فخرج شيصًا، ما خرج رطبًا، ما أثمر على عادته، فقال: ما لنخلكم قالوا: أنت قلت كذا وكذا، فقال ﷺ: أنتم أعلم بأمر دنياكم فأراد هؤلاء القوم أن يهدموا بهذا الحديث كل ما حواه الكتاب والسنة من أحكام في العلاقات بين الناس وفي قضايا الدنيا، أولاً: هو ما أعطاهم حكمًا شرعيًا بوحي ألزمهم به، وإنما أعطاهم رأيًا شخصيًا وبين لهم ذلك؛ لأنه لوكان حكمًا شرعيًا، أولاً: كان نفع ما ضر.
ثانياً: كان قال: ابقوا عليه، لكن قال: أنتم أعلم معناه أن الذي قاله هو رأي وليس وحيًا ولا حكمًا، واضح من الحديث قال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم [رواه مسلم: 2363].
فإذن الناس أعلم بأمر دنياهم في شيء ما ورد فيه وحي، في شيء ما ورد فيه حكم، في شيء ما ورد فيه نص، أنتم أعلم بأمور دنياكم عندك شيء - مثلا - يمنعك من استعمال مكبّرات الصوت، الحواسيب؟، عندك شيء يمنعك من استعمال الجوال في نقل الصوت؟ استعمل وأنت أعلم، استعمل وركّب وغيّر وطوّر وحدِّث، تضيف وتحذف، أنتم أعلم بأمور دنياكم مركبات الأدوية؛ ركِّب وطوِّر واستخرج واخترع، أنتم أعلم بأمور دنياكم آلات، مصانع، طيارات، إلى آخره، لكن إذا ورد نص، مثلاً: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حُرم عليها [رواه البخاري عن ابن مسعود: 7/110]، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3]، حرّم عليكم الدم، لحم الخنزير، ما أُهل به لغير الله، انتهينا، لا يمكن لأحد أن يأتي ويقول: الخنزير فيه فوائد، نستعمل الخنزير، نقول: الخنزير حُرّم علينا، هناك نص، ولذلك لا مجال للاستخراج من الخنزير، لا تستخرج من الخنزير، هناك نص، فإذا قال: ممكن نستخرج من البقر؟ استخرج، ممكن نستخرج من النباتات؟ استخرج، ممكن نستخرج من السمك؟ استخرج، ممكن نستخرج من قيعان المحيطات؟ استخرج، ما عندك نص يمنعك من الاستخراج، لكن عندما يأتي إلى أمور يُحكم فيها بأحكام، فلابد من الالتزام بها بهذه القضايا، سواء كانت طبية، حيوانية، زراعية، لابد من الالتزام بها، والنبي ﷺ حكم بأحكام متعددة في هذه الأشياء.
وقال النووي - رحمه الله -: "قال العلماء بعد ما بوّب هو: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سبيل الرأي" [صحيح مسلم: 4/1835]، يعني النووي فرّق بين ما قاله شرعًا وبين ما قاله على سبيل الرأي، قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً" قضية التلقيح كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه ﷺ في أمور المعايش وظنه كغيره - يعني قد يصيب وقد يخطئ - فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك" [شرح النووي على مسلم: 15/116]، فإذن، قوله: أنتم أعلم بأمور دنياكم فيما ليس فيه نص ولا وحي ولا حكم، ولذلك جاء في حديث طلحة: ولا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل [رواه مسلم: 2361]، فكل ما جزم به ﷺ أُلزمنا به طلبه منا أخبرنا به فيلزمنا قبوله والأخذ به واعتماده، وما كان من كلامه ظنًا ورأيًا كما يتبين في هذا الحديث، فإن الأمر متروك للناس في هذا.
الفرق بين ما فعله حكمًا وما فعله رأيًا واجتهادًا
والنبي ﷺ فعل أشياء في أمور حربية، في سياسات شرعية، اجتهد في أشياء، وهذا الاجتهاد مثل الحديث الذي فيه ضعف: "هل هذا منزل أنزلك هو الله أو هو الرأي والحرب والمكيدة؟" لأنه إذا أنزلك الله ما نستطيع نتكلم، أما إذا أنت فعلته اجتهادا، فنحن اجتهاد آخر قد يكون أصوب، الحديث على ضعفه لكن المقصود به يبين ما الذي هو من باب الرأي وما الذي هو من باب الحكم؟ لأن الذي هو من باب الرأي ترك لهم فيه المجال، لكن الذي هو من باب الحكم لا يمكن، ولو خالف من خالف أمامه، يتلّون وجهه، ويتغير، ويصعد المنبر، ما بال أقوام يفعلون كذا، أفلا قعد في بيته، ويقول كما قال في قصة الزبير وجار الزبير، وقال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك قال الآخر: أن كان ابن عمتك؟ [رواه البخاري: 2359، ومسلم: 2357]. يعني أنت الآن قلت له أن يسقي قبلي، الماء يمر عليه يحبس يزرع ثم يمر عليه، يعني بما أنه ابن عمتك؟ غضب تلوّن وجهه ﷺ؛ لأنه ما قاله لا رأيًا ولا محاباة لقريبه، قاله حُكما شرعيًا، فلا مجال إذن للطعن فيه، ولذلك لو قال قائل: كيف عرفنا أن هذا ظن وهذا حكم؟ نقول: الأصل أن كل ما يقوله ﷺ وحي إلا إذا بين أنه رأي فقط؛ لأن الله قال عنه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]، فإذا بين لنا في شيء أن هذا رأي، فعند ذلك لنا الخيار، نلقّح النخل ما نلقّح النخل، قضية تعود إلى أهل الخبرة، لكن عندما يقوله ملزمًا وآمرًا ومشرّعًا من الله ناقلاً للحكم عن الله وحي، ما لنا خيار في هذه المسألة، لا في رضاع ولا طلاق ولا بيع ولا إجارة، ولا أي شيء من نواحي التعامل مع السياسات بين المسلمين، بينهم وبين غير المسلمين، إلى آخره، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 51- 52].
المصدر الثاني للتلقي عند السلف الصالح هو السنة النبوية، السنة: ما صدر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير جاءت في الكتاب العزيز مقرونة به وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113]، ذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة وهي السنة، كما قال الشافعي رحمه الله.
وأحوال السنة مع القرآن على ثلاثة أقسام: إما أن تكون مؤكّدة وموافقة لما في القرآن من كل وجه، مثل: وجوب الصلاة، الصلاة الصلاة [رواه البخاري: 1131، ومسلم: 705]، موافق لقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ [هود: 114]، السنة المبيّنة أو المفسّرة لما أجمل القرآن.
القسم الثاني: قال الشافعي عنه: "ومنه ما أحكم فرضه بكتابه وبيّن كيف هو على لسان نبيه"، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها.
القسم الثالث: السنة الاستقلالية أو التي تزيد عن القرآن؛ لأن القرآن سكت في هذه المسألة، فالسنة بينّت حُكمًا لم يبينه القرآن، كتحريم الجمع بين المرأة وعمّتها، ليس مذكورًا في القرآن ،تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، قال الشافعي - رحمه الله -: "ومنه ما سنّ رسول الله ﷺ مما ليس فيه نص حكم في القرآن" [العدة في شرح العمدة لابن العطار: 1/365].
مثل تحريم لحم الحمار الأهلي، ليس موجودًا في القرآن، لكنه موجود في السنة.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: "وهذه السنة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها" [مجموع الفتاوى: 19/85].
حُجية السُّنة من القرآن الكريم وأقسام السنة النبوية
الأدلة على وجوب اتباع السُّنة من القرآن الكريم كثيرة مثل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 32] وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ [النساء: 64] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، ورتّب الوعيد على أن من يخالف النبي ﷺ فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، عن أمره يعني: أمر الرسول، ونفى الخيار عن المؤمنين إذا صدر حكم عن الله ورسوله فقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]، والنبي ﷺ قال: فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم [رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337].
بيّن لنا ﷺ أن قوله حُجّه فقال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله [رواه البخاري: 2957، ومسلم: 1835]، أمرنا الله أن نردّ عند التنازع إلى الكتاب، والنبي ﷺ قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59]، وجعل الرد عند التنازع إلى الرسول ﷺ من موجبات الإيمان ولوازمه، والنبي ﷺ قال: عليكم بسنتي [رواه الترمذي: 2676، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 37]، الاحتجاج بالسنة عند العلماء قاعدة ضرورية وملزمة ولا نقاش في هذا، والسنة تستقل بالتشريع، ولا فرق بالاحتجاج بينها وبين القرآن، ولذلك تجد بعض العلماء في مصادر التشريع الكتاب ثم السنة، يقول: الكتاب والسنة، ما يقال: الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم... لا، يقول: الكتاب والسنة، وإذا أردتَ أن تنظر في مسألة، العالم ينظر في الكتاب والسنة؛ لأن السنة شرح فلابد أن ينظر فيهما معاً، وقد أمر الله بطاعته وطاعة نبيه ﷺ وبعض الزنادقة والخوارج وضعوا حديثًا: ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، قال عبد الرحمن بن مهدي: بعض الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث، أصلاً إذا جئت تعرض على الكتاب سيختلف مع الكتاب؛ لأن الكتاب فيه: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وما كان من السنة زائد على القرآن فهو تشريع مُحكم مُلِزم، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]، فلا يمكن أن نرد شيئًا من قول النبي ﷺ ولو ما كان مذكورًا في القرآن، فأين تجد في القرآن: يحرم بالرضاعة ما يحرم من النسب؟ أين تجد في القرآن خيار الشرط؟ أين تجد في القرآن ميراث الجدّة؟ أين تجد في القرآن منع الحائض من الصوم والصلاة؟ أين تجد في القرآن وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان؟ وأين و أين؟ وأشياء كثيرة جداً، أحكام موجودة في السنة، فإذا قال قائل: هل نحن ملزمون بالسنة؟ نقول: نعم ملزمون بنص كتاب الله، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 132]، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]، أفعاله حُجّة لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]
وأفعاله ﷺ منها ما هو تشريع: صلّوا كما رأيتموني أصلي [رواه البخاري: 631]، صلّى بأفعال، يحب اتباعه بهذا خذوا عني مناسككم [رواه مسلم: 1297]، أفعال انتقالات؛ ورمي طواف سعي، أفعال، يجب الأخذ بهذا.
ثانياً: أفعال جبلّية؛ كالقيام والقعود والأكل والشرب فهذا القسم مباح، لكنه ليس التشريع بمقصود فيه.
وكذلك القسم الثالث: وهي الأفعال العادية التي صدرت منه على وجه العادة.
فإذن، هناك أفعال جبلية تعود للخلقة والجبلة، وهناك أفعال صدرت على وجه العادة، كأحواله في مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته، فهذه تدل على إباحة فعل الشيء، فإذا ورد أمر بها انتقلت إلى القسم التشريعي، فهو أعفى لحيته، فهل أعفاها على سيبل العادة أو على سبيل التشريع؟ لبس العمامة، لبسها على سيبل العادة أو على سبيل التشريع؟ نحن سننظر، فإن وجدنا في السنة أمرًا بها وحثًا عليها، عرفنا أن القضية صارت تشريعاً، وأما إذا قيل فقط فعل كذا، فهذا يحتمل أنه من أفعال العادة غير الملِزمة، فمثلاً تطويل الشعر ولبس العمامة ليس تشريعًا، لكن عندما قال: اعفوا اللحى ارخوا اللحى خالفوا المشركين وفروا اللحى [رواه البخاري: 5892] عرفنا، هذه الأوامر تشريع، عندما قال: اعفوا اللحى ارخوا اللحى وفّروا اللحى خالفوا المشركين ما صارت هذه قضية عادة مثل أنه لبس العمامة وكان يحب الدُّباء، يحب الدُّباء بطبعه، وهناك واحد ما يحب الدُّباء، هل الذي ما يحب الدُّباء خارج عن السنة؟ لا، وهناك أفعال خاصة به؛ كالجمع بين التسع نسوة، فلا يجوز لغيره أن يعمل بها.
الآن قد يفعل أشياء مثلاً يلبس الأبيض هل فعله عادة؟ يعني نفسه تحب الأبيض، فلبس الأبيض، فعل يدل على الإباحة، ننظر في سنته؛ فإن وجدنا حثّا أو أمرًا نقول: صارت القضية تشريعاً، فوجدنا مثلاً حديثاً صحيحاً: البسوا البياض فإنه من صالح ثيابكم [رواه أبو داود: 3878، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3878]، البسوا البياض وكفّنوا به موتاكم [رواه الترمذي: 2810، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 55] علمنا من هذا أن لبس البياض سُّنة يثاب عليها الإنسان يعني مستحب، يعني ليست مجرد عادة، لكن هل هو واجب إذا ما لبستَ أبيض تأثم؟ لا، هو مستحب، إذن، الشيء الذي فعله قد يكون واجباً، قد يكون جبلّة، وقد يكون تشريعًا، ما الذي يدلنا على ذلك؟ النصوص والقرائن الموجودة في السنة، كلام أصحابه أيضًا مثلا، فإذا لابد أن نرجع إلى السنة كلها لنتبين هذه السنة المعينة هي عادة أو هي تشريع؟ وبعض الناس يستغل وجود أشياء تشريعية، وأشياء غير تشريعية، ليدخل تحت الأشياء غير التشريعية كثير من الأشياء التشريعية، انتهاز، وهذا التقسيم للعدوان على الأحكام الشرعية، وجاء الشرع بتفصيل وبيان كل ما يحتاجه في العبادات والمعاملات.
أقسام السنة
النبي ﷺ تؤخذ عنه أقواله وأفعاله وتقريراته، وعندما أباح لنا ما صاده الكلب المعلّم، وأحلّ ميتة السمك، وميتة الجراد، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، حرّم علينا أشياء، هذه أشياء تشريعية، مع أنها متعلقة بمأكولات، وكذلك بيّن لنا أشياء في المشروبات، وبين لنا أشياء في الملبوسات، بيّن لنا في الحرير، بيّن لنا في الذهب الحلي، بيّن لنا حتى في لبس الأحمر، بيّن لنا في المعصفر من ثياب المشركين، كانوا يصبغون بالعصفر، بيّن لنا أشياء في الثياب، فنجد أن الشريعة فيها أحكام متعلقة بأمور حياتية، بأمور دخول الخلاء وقضاء الحاجة، وقد عددنا سابقًا في درس قضاء الحاجة نحوًا من سبعين أدباً أو حكماً في قضاء الحاجة فقط، نحوًا من سبعين في قضاء الحاجة ما بين واجب ومستحب ومكروه ومحرم، فهذا الدين شمولي تدخل فيه كل هذه الأشياء، فنسأل الله أن يفقّهنا في ديننا، وأن يرزقنا اتباع سنة نبينا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.