الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للبشرية، البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم تحية طيبة في هذه الليلة التي أسأل الله -تعالى- أن يجعلنا فيها من عتقائه من النار، وفي ليلة الجمعة نتذكر حق هذا اليوم العظيم الذي جعله الله لنا عيداً نجتمع فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
حث الإسلام على الاعتدال والسداد في المواقف والأعمال
وحديثنا عن هذا الدين علماً وعملاً، قولاً وفعلاً، عاطفة وعقلاً، والله قد دعانا إلى الاعتدال والسداد في المواقف والأعمال، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء: 135] لا تأخذكم العاطفة تجاه الوالدين والأقربين فتجوروا أو تظلموا من أجلهم، قولوا العدل ولو كان على الوالدين والأقربين، قولوا العدل ولو كان في غير مصلحة الوالدين والأقربين.
العاطفة غريزة وجبلة
العاطفة غريزة شفافة في الإنسان، ومشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، جبل عليها الإنسان، والدين لم يأت لنزع العاطفة، بل جاء لتهذيبها وتنميتها وتوجيهها، هذا الدين موازنة بين هذه العواطف والمشاعر، وهذا العقل، والتحكم في النفس.
المسلم لا ينجرف وراء العاطفة
والمسلم لا ينجرف وراء عاطفته فيضيع، فقد يضيع في متاهات الشرك والبدع والغلو والخرافات، كما وقع لبعض المبتدعة بسبب طغيان العاطفة، ولا ينساق كذلك الإنسان وراء مسألة التحكم البعيد أو الخالي من العواطف فيقع في الجفاء وتبلد الإحساس وفقد المشاعر كما هو الحال عند بعض الناس.
الإسلام دين العقل والعاطفة
هذا الدين مزيج واعتدال، هذا الدين فيه عقل وعاطفة، فيه تجرد وإنصاف وتحكم وتوازن، هذا التكامل بين العقل المرشد والعاطفة الجياشة، يتخذ المسلم مواقفه في الحياة بناءً على الحقائق مع وجود العواطف في نفسه، الحقائق والقواعد والعلم والمعرفة مهمة جداً في بناء المواقف.
نجد اليوم المواقف تنحرف أحياناً نتيجة العواطف غير المنضبطة، وكذلك تكون المواقف أحياناً قاسية وجائرة نتيجة خلو الإنسان من العواطف.
مواقف خالدة في انطلاق المسلم في مواقفه وأفعاله من الأصول الثابتة
والمسلم ينبغي أن ينطلق في مواقفه وأفعاله من الأصول الثابتة التي تعصمه من الجور والانحراف، وأن يتعلق بالشرع والمنهج لا بالأشخاص والعاطفة، فليس فعل شخص ولا عاطفة الإنسان دليلاً على الحق وإنما الكتاب والسنة، ولكن هذه العاطفة مهمة في معاملة الإنسان لمن حوله، ربما كان الدرس الذي تلقاه المسلمون قاسياً جداً في غزوة أحد لما حصلت الهزيمة، وعندما جاشت المشاعر ببعض الناس من المسلمين نتيجة خبر أشيع عن مقتل النبي ﷺ كذباً، فقعد بعض الناس، أصيبوا بالإحباط، فقال الله -تعالى- لهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144].
وبنو إسرائيل قتلوا أنبياء كثيرين، كانوا يقتلون النبي في الليل أو في الصباح؛ فإذا تعالى النهار يبسطون سوق بقلهم، ما عندهم رحمة ولا عندهم إيمان، يقتلون الأنبياء، قال الله للمؤمنين: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] تتركون العمل للدين، تتركون نصرة الله لأجل خبر: أن محمداً ﷺقد قتل: وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144].
كان موقف الصديق حاسماً في موضوع وفاة النبي ﷺ، ومعروف أن موضوع وفاة النبي ﷺ قد استجاش العواطف، وصار في الصدور عند الصحابة ما الله به عليم؛ لدرجة أن عمر نفى الخبر، قال يعني إن محمداً ﷺ قد صعد إلى السماء مثل ما صعد عيسى، وسيعود ليقطع أيدي أناس وأرجلهم ممن يقولون: إنه مات، صار عنده في نفسه من ردة الفعل شيء عظيم جعله حتى لا يصدق بالخبر.
ماذا فعل الصديق وهو أثبت وأقوى وأفقه؟
عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول اللهﷺ مات وأبو بكر بالسنح العالية، مكان في المدينة، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله ﷺ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله ﷺ، اخترق الصفوف حتى وصل إلى السرير، والنبي ﷺ مسجى عليه، فكشف وقبله، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج فقال: يا أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً ﷺ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر: 30]، وقرأ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] فنشج الناس يبكون [رواه البخاري: 3667، 3668]، كأن الآية نزلت للتو، أيقن الناس أن النبي ﷺمات من كلام الصديق.
العواطف قد تأخذ أحياناً بالإنسان إلى أن يجنح حتى في موضوع دفن الميت، فكأنه إذا مات عنده واحد في البيت يريد يرفع السرير ما يدفن، يقول: كيف يدفن؟ تدفنوه؟ يعني التراب عليه؟
حصل لما دفن النبي ﷺ قالت فاطمة: يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺالتراب؟" [رواه البخاري: 4462].
وفي رواية عند الدارمي: "أن أنساً بكى لما سمع منها هذا الكلام [ينظر سنن الدارمي: 88، وقال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح"].
قال ابن حجر: "أشارت فاطمة بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك" يعني كيف تهيلوا التراب عليه وهذا نبيكم؟ قال ابن حجر: "أشارت فاطمة بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رقة قلوبهم عليه، لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها"، لماذا سكت أنس عن جوابها؟ قال: "رعاية لها"، بنته، وامرأة أنثى، عاطفتها جياشة، ماذا يقول لها؟ "ولسان حاله يقول: لو تكلم لم تطب أنفسنا بذلك إلا أنا قهرناها على فعله امتثالاً لأمره" [فتح الباري: 8/149]؛ لأنه أمرنا بدفن الأموات، وما نترك الميت بدون دفن، لكن نحن ما كانت أنفسنا تطيب بأن نهيل التراب عليه، لكن هو أمرنا فقهرنا أنفسنا امتثالاً لأمره، جاهدنا، فعاطفتهم تجاه النبي ﷺ لم تمنعهم من تنفيذ أمره، وامتثال حكمه.
وهذا الدرس -يا أيها الإخوة والأخوات- عظيم؛ فلننظر مثلاً إلى إبراهيم -عليه السلام- العلاقة مع أبيه عظيمة، أبوه الذي أنجبه، وسبب وجوده، لكن أبوه كفر بالله، وأصر على الكفر، وربما دفعت العاطفة إبراهيم ليستغفر لأبيه: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86]، لكن الله لما أنزل بعد ذلك الميزان في الموضوع هذا انتهى إبراهيم عن ذلك، -طيب- بماذا علل الله فعل إبراهيم الخليل؟ قال الله -تعالى-: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [التوبة: 114]؛ لأنه قال ماذا؟ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ [يوسف: 98]، مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، مع أنه أبوه، تبرأ منه ، خلاص،وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا[الممتحنة: 4]، كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ[الممتحنة: 4].
إذًا، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114] العاطفة تقول: استغفر لأبيك ولو كان كافراً يمكن ويمكن، لكن الشرع يقول:مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى[التوبة: 113] الصراع بين العاطفة أحياناً والعقل الذي يبنى على النص الذي يقول: لا يجوز الاستغفار للمشرك، وأبوه مشرك.
موقف مشابه في قصة نوح -عليه السلام- العاطفة مع الابن هذا ولو كان كافراً ضالاً، لكن كان يتمنى أن ينقذ من النار، وحاول حتى اللحظة الأخيرة:يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ[هود: 42]، لكن وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 43] نوح من العاطفة، قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود: 45]، يعني أنت وعدتني أن تنجيني وأهلي، وأنا ابني من أهلي؟ قال: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] انظر الحقائق، لما تأت الحقائق خلاص العواطف على جنب، قال: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47].
ولذلك سبحان الله! وجدنا أن أم موسى -عليه السلام- لما تبين لها أمر الله ما توانت عن إلقاء الولد في النهر أو اليم، مع أن العاطفة تقول: لا تلقيه، لكن لما تبين لها أمر الله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ليذوق طعم الثدي واللبن منك، ويألف ذلك، ويحفظ هذا؛ لأننا سنجعله يرفض كل ثدي إلا ثديك: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ما قال خبئيه، ألقيه في اليم، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7].
موقف آخر من القرآن، وهذه مسألة مهمة -يا إخوان- قضية ما تجنح بنا العاطفة فنرفض حكماً شرعياً أو نتراخى ونتهاون في تنفيذه.
بعض الناس مثلاً يمكن في حد السرقة يعني يقول لك: اقطع يستاهل! في حد القتل اقتلوه يستاهل! في حد القذف اجلدوه يستاهل! السكران فعل الله بك وفعل! ولما يأتي على حد الزنا يمكن بعض الناس يقول: مغريات وتعرف الآن الجوالات والفضائيات والصور والقنوات الإباحية! وتعرف تبرج الفتيات يا أخي! والشباب لازم نرحمهم! يعني الواحد إذا فعل شيئا هذه الأيام يعني! يمكن يعني! قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ [النــور: 2] إذا كان غير محصن، ما سبق له الوطء في نكاح صحيح وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور: 2] لماذا في حد الزنا قال: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ؟ ما ذكر في حد القصاص، حد السرقة، حد القذف، هنا في الزنا، قال: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ ؟ رَأْفَةٌ يعني العاطفة تتحرك، وبعض الناس يعذر الزاني والزانية، يقول: يعني تعرف الشهوة قوية والمغريات! ويعني الشباب مساكين! أين يذهبون؟
لا مجال للعاطفة، ويا الله سامحناك مرة ثانية ما تعودها!
ما في هذا، فيه حد؛ لأن النفوس قد تتعاطف مع الزانية والزاني؛ لأن كل واحد عنده شهوة، فيقول: يمكن أنا لو مكانه يمكن سويت نفس الشيء، فيصير فيه نوع من التعاطف، قال الله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2].
لما يأتي من الحكيم الخبير ما فيه الآن مجالاً للتعاطف، ونتعاطف معه، ولعله، وندرأ الحد، والنبي ﷺماذا يتضح في قوله: وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ؟ [رواه البخاري:3475، ومسلم: 1688] مع أنها بنتي، والإنسان يتعاطف مع ابنته، هذه البنت الوحيدة التي بقيت، كل أولاده وبناته ماتوا في حياته، فاطمة بقيت، النبي ﷺ ابتلي بوفاة كل أبنائه وبناته في حياته إلا فاطمة، ما بقي له إلا هذه البنت، يعني حتى إبراهيم الصغير مات في حياة أبيه، فقال: وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، فما كانت لتأخذه العاطفة فيترك قطع يد ابنته لو أنها سرقت، يعني الحد حد، والحق حق، والحكم حكم.
قال الملك الأشرف الأيوبي -رحمه الله-: مات مملوك من ممالكي، كان عند الملك الأشرف الأيوبي مماليك، فقال: مات مملوك من مماليكي وترك ولداً ليس في الناس بتلك البلاد أحسن شباباً، ولا شكلاً منه، يعني شباب وجمال وشكل، لابن مملوكي، ابن مملوكي، -طبعاً- الابن يأخذ حكم أبيه، قال: فأحببته وقربته، أحببت هذا المملوك ابن المملوك، مملوكي ابن مملوكي وقربته، فاتفق، حدث أنه يعني هذا الشاب عدا على إنسان فضربه حتى قتله، فاشتكى إلي أولياء المقتول، يعني يطلبون القصاص، فقلت: أثبتوا أنه قتله، فأثبتوا ذلك، فحاجفت عنه مماليكي، وأردت إرضائهم بعشر ديات، قلت: أعطيكم بدل الدية عشرة، خلوا هذا، خلوه لي، قلت: أعطيكم عشر ديات، فلم يقبلوا، ووقفوا لي في الطريق، وقالوا: قد أثبتنا أنه قتله، الآن العاطفة ماذا تقول؟ يعني اضغط عليهم، انظر أي حل من هنا ومن هنا، قال: فقلت: خذوه، مقتضى الشرع أن يتسلم أولياء القتيل القاتل، فأخذوه فتسلموه فقتلوه، ولو طلبوا مني ملكي فداءً له لدفعته إليهم، ولكن استحييت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي [ينظر: البداية والنهاية: 13/172].
لو نظرنا للموقف الذي حصل بين كعب بن مالك وابن عمه بعدما أمر النبي ﷺ بالقطيعة، مقاطعة كعب بن مالك، قال كعب بن مالك بعد أن أمر النبي ﷺ الناس بهجره: "حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه"، ابن عمي، يعني فيه قرابة وعاطفة، "فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته في الثالثة، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار" الحديث.. [متفق عليه، رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769].
فإذًا، العلاقة القوية والقرابة والعاطفة، لكن أبا قتادة لم تحمله عاطفته على مخالفة الأمر النبوي بالقطيعة، وقاطع وما تكلم ، ولما تكلم ما أعطاه كلمة تقر بها عينه، قال: الله ورسوله أعلم، خلاص، اذهب عني.
موقف سعد بن أبي وقاص مع أمه لما طلبت منه الردة، وحلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، يعني تعمل إضراباً عن الطعام، وقالت لسعد لولدها المسلم وهي مشركة: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا ترجع إلي دينك الأول؟ فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجَهد، فقام ابن لها يقال له: عمارة، فسقاها، فقامت، انتبهت، فجعلت تدعو على سعد، انظر الضغط العاطفي، ضغط عاطفي رهيب، أمه، وأضربت عن الطعام، وأوشكت على الهلاك، وتأمره، وتدعو عليه، ومع ذلك ما تراجع سعد ؛ فأنزل الله : وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 8] [رواه مسلم: 1748]، ثبت على الحق، وحكم العلم والشرع، ولم تجنح به العاطفة، ولم تزعزعه عن موقفه.
بناء المواقف على الحقائق الشرعية
لماذا نحتاج -أيها الإخوة والأخوات- إلى بناء مواقفنا على الحقائق، وعلى العلم والشرع، وأن لا نتابع العواطف في المواقف، وإنما المواقف تبنى على الشرع والحقائق الشرعية؟
أولاً: لأن الحق والشرع ثابت لا يتغير، العاطفة قد تجنح، تزيد تنقص، تذهب يميناً أو شمالاً، تتبدل تتغير، الحب يصير كرهاً، الكره ينقلب إلى حب، بمرور الأيام والأزمان والأحوال، واختلاف المكان، وحال الأشخاص والمحيطين، لكن يبقى الشرع شرعاً في كل وقت وحين.
ثانياً: العاطفة لا يعرف كنهها ولا يمكن تقديرها بشيء، وما يمكن تقول للآخر: أنا أحبك عشرة كيلو، القضية هذه ما لها مقاييس، العاطفة ليس لها ضابط يضبطها إلا الشرع.
ثالثاً: العاطفة لا تعطي حكماً دقيقاً بمفردها، فقد تختلف نظرتنا إلى الأشخاص وما يصدر عنهم من أقوال وأفعال باختلاف أحوالنا العاطفية، فقد نراعي فلاناً؛ لأنه قريب، ونعاقب فلاناً لأنه غريب، مع أن الذنب الذي صدر منهما واحد، لماذا؟ لماذا اختلفت مواقفنا مع أن الذنب واحد؟ لأن هذا قريب وهذا غريب، إذًا صارت القضية ما هي عدل، وإنما عواطف.
ومراعاة لهذا المبدأ نجد الشريعة جاءت بأحكام؛ فمنها: لماذا لم تجز الشريعة للمرأة أن تكون قاضية بين الناس أو متولية للإمرة والخلافة مثلاً؟ لشدة عاطفة المرأة.
وكذلك لم تجعل الشريعة ولاية نكاح المرأة بيدها، ولا قرار الطلاق بيد المرأة؛ لأن عندها عاطفة قوية قد تغلبها فتتخذ القرار، بينما ينبغي أن يكون هذا بيد شخص هو أكمل في العقل، وأشد تحكماً بنفسه وعاطفته، وهو الرجل، فلذلك كان الولي في النكاح رجلاً، والطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة، فمسؤولية الولي في الإسلام عظيمة، المرأة كيف تسأل عن المتقدم؟ كيف تسأل عن الخاطب؟ يعني المرأة هي الآن البنت هذه المخطوبة هي التي تذهب إلى عمل الرجل، وتسأل زملاءه في العمل أو أصحابه أو إمام المسجد الذي يصلي فيه أو جيرانه؟ أم هذا عمل ووظيفة وواجب الولي هو الذي يسأل؟ والولي المفترض أن يكون عنده من العقل والحكمة، وضبط الانفعالات والتوازن ما يمكنه من اتخاذ القرار الصائب، هل يقبل هذا الخاطب أو لا يقبل، لكن عاطفة المرأة نجدها مستثمرة في الشرع في الحضانة، فتقدم المرأة في حضانة الطفل على الرجل؛ لأنها أصبر وأبصر وأخبر وأقدر، وأشد عاطفة، وهو ما يحتاجه الطفل في صغره، فلذلك المرأة تضحي بنومها من أجل نوم ولدها ورضاعه، وهي أقدر على سماع الأصوات في الليل من الرجل، وأمهر في العناية والرعاية، ولذلك الشرع لما جعل الحضانة عند المرأة؛ لأن عاطفتها أشد من عاطفة الرجل، وهي أقدر وأصبر على رعاية المولود من الرجل، فالشرع وضع كل شيء في موضعه، وهذا تعريف الحكمة.
-طيب- بسبب غلبة العاطفة على الإنسان نحو أقاربه علماء الفقه الإسلامي ذكروا إنه لا تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا الأب لابنه في المحاكم، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، إذا قال القاضي: هات شهوداً، ما يجوز أن يأتي الإنسان بابنه أو بأبيه أو بزوجته شهداء، لماذا؟ لأن علاقة القرابة والعلاقة الزوجية ممكن تجنح بالشاهد نتيجة العاطفة إلى الشهادة لمصلحة قريبه على حساب الحق.
وكذلك قد تُخدع الفتاة بالخاطب في كلامه ومظهره مثلاً ما لا يخدع وليها، فكانت عقدة النكاح بيد الولي.
ضبط العاطفة بالشرع
العاطفة مهمة ولا يعني ما سبق من الكلام أن نتجرد من العواطف، وأن نتخلى عن العواطف، وأن نحارب العواطف، بل إن العاطفة فطرة بشرية، والله خلق الإنسان من قبضة من طين، وجعل له عقلاً وعاطفة، عقل يفكر، وعاطفة تؤثر، وأنزل عليه الوحي بالكتب والرسل، ليبين له المنهاج.
إذًا، العاطفة قد تكون هوجاء فتصبح العواطف عواصف لا يزمها عقل، ولا يردعها رادع.
وقد تضبط العاطفة بالشرع فتصبح عاطفة جميلة محببة ضرورية، كيف نتخيل علاقة بين زوجين ما فيها عواطف؟ كيف نتخيل علاقة أب بابنه أو بنته ما فيها عواطف؟ ما يمكن.
اشتملت قصة يوسف على ذكر العواطف في مواضع متعددة، قال الله -تعالى-:وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ[يوسف: 84].
قال في حوار يعقوب مع أبنائه:قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[يوسف: 85 - 86].
وعمر لما قرأ هذه الآية في الصلاة وخلفه الصحابة سمع نشيجه من وراء الصفوف، قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ:إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ[يوسف: 86] [صحيح البخاري: 1/144، ومصنف ابن أبي شيبة: 2/114]، الأب الذي لا يحزن لفراق ولده أو لفقد ولده هذا ناقص، الذي لا تدمع عيناه لموت ابنه أو بنته أو أبيه أو أمه هذا إنسان جامد القلب متحجر، ولذلك الشرع ما آخذ على دمع العين، بل سمح بدمع العين، تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، انظر التحكم سبحان الله العظيم، انظر المزج، تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، هذا هو التوازن الصحيح.
أهمية العاطفة
تكمن أهمية العاطفة في أمور:
أولاً: قوة التأثير، فالكلمة وحدها إذا خرجت عقلانية صرفاً لا تؤثر مثل لو كان معها عاطفة، النبي ﷺكان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش [رواه مسلم: 867].
الكلمات بدون انفعالات عاطفية تكون باردة، بالانفعالات العاطفية تتغلغل في قلوب السامعين، قال العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله ﷺ يوماً بعد صلاة الغداة -الفجر- موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ [رواه الترمذي: 2676، وهو حديث صحيح].
ثانياً: العاطفة تدفع للمزيد من البذل والتضحية، وقصة أنس بن النضر معروفة، ولما جعل الله له كرامة لأنس بن النضر أن مكنه من أن يشم رائحة الجنة، شم أنس بن النضر رائحة الجنة قبل أن يموت، كرامة من الله، فاشتاقت نفسه، فتقدم فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانين من بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته الربيع بنت النضر: "فما عرفت أخي إلا ببنانه" طرف الأصبع [رواه مسلم: 1903].
العاطفة مهمة في الثبات على الحق، الإنسان إذا امتزج الحق عنده بمشاعره وخالط قلبه، وصار متأثراً به يصمد أمام الزوابع.
العاطفة قد توقع الإنسان في المنكرات
العاطفة في الجهة الأخرى ربما توقع الإنسان في منكرات وانحرافات، ولذلك لا بد من ضبط القضية، ولا بد يكون في مزيج من العاطفة والعقل والعلم، ولا بد أن تضبط العاطفة بالعلم الشرعي، ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية": أن الملك الأشرف الأيوبي لما استولى على مدينة خلاط، كانت عاصمة لأرمينيا، قال: كنت جالساً يوماً إذ دخل الخادم فقال: بالباب امرأة تستأذن؟ فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها، امرأة كاشفة نصرانية، وهي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي، فذكرت أن الحاجب قد استحوذ على قرية لها، وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكراء، الإيجار، وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء، يعني قالت: إيجارات بيوتنا التي لها إيجارات أخذوها، أنا ما عندي شيء أعيش منه إلا نقش الحناء، وأنا بنت ملك، فأمرت برد ضيعتها إليها، وأمرت لها بدار تسكنها، وقد كنت قمت لها حين دخلت، وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت، ومعها عجوز، فلما أنهى حاجتها، قال: انهضي على اسم الله -تعالى-، فقالت العجوز التي مع تلك البنت، بنت الملك النصرانية: يا خوند، وهذه لفظة أعجمية معناها: السيد، ولفظة تركية مقابل الخاتون وهي: السيدة، "يا خوند، إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة، انظر الكفار ما عندهم مشكلة في قضية، يعني واحد جاء له ضيف فيقدم له ابنته يعني الليلة هذه إكراماً للضيف، وقال هذه جاءت يعني عندها حاجة، فالعجوز قالت: ترى ما عندها مانع تبيت معك الليلة يا الله مكافأة لك، فوقع في قلبي تغير الزمان، وأن خلاط يملكها غيري، وتحتاج بنتي أن تقعد هذه القعدة، انظر ماذا فكر مباشرة؟ قلت: الزمن يدور، والبلد هذه غداً يأخذها غيري، ملك آخر، ويمكن بنتي تضطر أن تجلس مثل هذا المجلس، فلا بد أن أري الله من نفسي خيراً، فقلت: معاذ الله ما هذا من شيمتي، فقامت الشابة باكية تقول بالأرمني: سترك الله مثلما سترتني، فقلت لها: مهما كان من حاجة فانهيها إلي أقضها لك، فدعت وانصرفت، فقالت لي: نفسي في الحلال مندوحة عن الحرام، فتزوجها، ثم قلت: لا والله لا كان هذا أبداً، أين الحياء والكرم والمروءة؟ [ينظر: البداية والنهاية: 13/172] يعني أول شيء هذه امرأة نصرانية يمكن ما لي خير إني أتزوجها، ثانياً: يعني كأن زواجي بها سيكون مقابل المعروف الذي صنعته لها، أين المروءة؟ انظر المقاومة، الإنسان قد تتنازعه عواطف ومشاعر وأهواء وشهوات، لكن إذا ما زمها بالشرع هلكت.
قد تكون العاطفة سبباً للهلاك
وقد تكون العاطفة فعلاً سبباً لهلاك الإنسان تؤثر على دينه، عمران بن حطان الخارجي كان من العباد، كان على مذهب أهل السنة، فتزوج امرأة من الخوارج حسناء جميلة وهو دميم الشكل، فقال: لعلي أن أردها إلى السنة، فارتد معها إلى بدعتها، هي التي حرفته، فصار عمران بن حطان من الخوارج، وكان من العباد، جنحت به امرأة.
قد تكون العاطفة قرينة في التوصل للحق
قد تكون العاطفة قرينة وعلامة في المقابل للتوصل إلى الحق، يعني هل ممكن تستعمل العاطفة في بيان الحق والوصول إليه؟
ممكن، مثال: عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: كانت امرأتان معهما ابناهما كل واحدة معها ابنها، خرجتا للبرية جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، خطف صبياً أو طفلاً من الطفلين وهرب به، افترسه، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الآخرى: إنما ذهب بابنك))، فاختصمتا على الطفل الباقي، فتحاكمتا إلى داود ، كان هو النبي وهو القاضي: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20]، فلعل داود حكم على قاعدة: أن الأصل أن الشيء لمن هو بيده، إذا ما فيه بينة فالأصل أن الشيء لمن هو بيده، أتاك اثنان يختصمان في ساعة، كل واحد يقول: هذه ساعتي، وليس عند أحدهما بينة ولا شهود، فالأصل القاضي يحكم لمن بيده الساعة، على قاعدة الأصل: أن الشيء لمن هو بيده –طيب- فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السلام- فأخبرتاه، فقال سليمان : ائتوني بالسكين أشقه بينهما؟ فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى، انظر استجاشة العاطفة ظهرت عاطفة الأم الحقيقية، ومستعدة للتنازل عن الولد، ولا ينشق نصفين تأخذه خالته [رواه البخاري: 6769، ومسلم: 1720].
قال النووي: "فاستدل سليمان بشفقة الصغرى على أنها أمه، وأما الكبرى فما كرهت ذلك، بل أرادته لتشاركها صاحبتها في المصيبة بفقد ولدها" [شرح النووي على مسلم: 12/18] فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء: 79].
قد تكون العاطفة سبباً في الهداية
وقد تكون العاطفة سبباً في هداية الإنسان ودلالته على الطريق المستقيم، قالت ليلى بنت أبي حثمة زوجة عامر بن ربيعة: كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، يعني قبل أن يسلم عمر كان مؤذٍ للمؤمنين، فلما تهيئنا للخروج إلى أرض الحبشة، جاءني عمر بن الخطاب وأنا على بعيري أريد أن أتوجه، فقال: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت: آذيتمونا في ديننا فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله، فقال عمر لما سمع الكلمة: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا، انظر بداية تأثر عمر كان من مواقف عاطفية، فجاء زوجي عامر بن ربيعة، فأخبرته بما رأيته من رقة عمر، فقال: أطمعت في إسلامه؟ قلت: نعم، قال: والله لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب، يعني إذا أسلم حمار أبيه هو يسلم، لماذا؟ قالت: لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام [مستدرك الحاكم، ص: 6895]، لكن عمر لما ضرب أخته، وصفعها صفعة، ونزل الدم، وطار القرط من أذنها، ماذا صار في عمر؟ تأثر، وكانت بداية الهداية، ممكن بداية الهداية تكون موقفا عاطفيا في الحق.
قد تكون العاطفة سبباً للأجر العظيم
قد تكون العاطفة سبباً لحصول أجر عظيم، وقد تكون عاطفة جبلية طبيعية فطرية كعاطفة الأمومة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما يعني من البنتين تمرة، ورفعت إلي فيها تمرة، لتأكلها، فالبنتان كانتا قد التهمتا التمرة، كل واحدة التهمت تمرتها واستطعمتاها، يعني كل من البنتين صارت تريد التمرة التي عند الأم، فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله ﷺ، فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار [رواه مسلم: 2630].
هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحقائق والعواطف
كيف كان النبي ﷺ بين الحقائق والعواطف؟ وبين الشرع والمشاعر؟ كيف كان تعامله؟ كيف استثمر المواقف في إقناع من معه؟ كيف استعمل العاطفة في بيان الحق مثلاً؟ واستمالة قلوب أصحابه للحق؟
لما قسم ﷺ الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم، ولم يقسم للأنصار منها شيئاً، وجدوا في أنفسهم، يعني هؤلاء أسلموا حديثاً يعطي الواحد منهم مائة من الإبل، يعطي أبا سفيان، ويعطي العباس بن مرداس الأسلمي، ويعطي.. ويعطي.. مائة من الإبل، ونحن الذي كنا معه من سنين، وجاهدنا وقاتلنا وآوينا ونصرنا، وضحينا، ما يعطينا شيء، وهؤلاء أسلموا الآن، يمكن بعضهم ما أسلم إلا للعطايا يعطيهم مائة من الإبل، وجدوا في أنفسهم، على النبي ﷺ فأتاهم، فحمد الله، انظر كيف المدخل والكلام والأسلوب؟ وكيف تستعمل العاطفة واستجاشة المشاعر في الحق؟ فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ يا معشر الأنصار ألم آتيكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة -فقراء- فأغناكم الله؟ وأعداء -تتقاتلون الأوس والخزرج- فألف الله بين قلوبكم؟ انظر بدأ بحقائق ما يمكن إنكارها، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ورسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً -فقيراً- فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا؟ ومتاع الدنيا قليل، كل الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله ﷺ في رحالكم؟ تحوزونه إلى بيوتكم، الذي أخذ مائة من الإبل راح فرح بها، راح ينميها، ثروة، والذي أخذ، والذي أخذ، وأنتم ترجعون بالكنز العظيم والبشير النذير والرحمة المهداة والسراج المنير محمد بن عبد الله، ترجعون به، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار، الأنصار شعار، والناس دثار الشعار الثوب الذي يلي البدن مباشرة، والدثار من خارج، يعني أنتم مني مباشرين مباشرة، أقرب شيء إلي أنتم، أنتم شعار، والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً [رواه البخاري: 4330، ومسلم: 1061، وأحمد: 16470، وغيرهم].
النبي ﷺ كان للعاطفة منه نصيب، كان قائد الدولة، وكان مجيش الجيوش، وكان القاضي والحاكم والمعلم والمربي، كان ﷺ كان لهم كل شيء، لكن مع هذه الأشغال العظيمة التي كان يقوم بها وينوء بها ما ترك زيارة ولده الصغير المسترضع عند قوم من الأنصار، وجد وقتاً كي يزوره مع كثرة أعبائه، كان يذهب إلى عوالي المدينة حيث كان ابنه إبراهيم مسترضعاً فيأخذه فيقبله ثم يرجع [رواه مسلم: 2316] فهذه الرجولة الكاملة، الرجولة الكاملة فيها عاطفة، وفيها مجال لملاعبة الصغار وتفقد الأولاد، مع وجود مشوار إلى العوالي عند المرضعة في بيت المرضع، صاحب اللبن يزور الولد. العاطفة التي جعلت النبي ﷺ يخفف من صلاته لما يسمع بكاء الطفل مع أمه في المسجد، ويقول: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه [رواه البخاري: 709، ومسلم: 470].
وإذا خطبت فللمنابر هزة *** تعرو الندي وللقلوب بكاء
قال أبو هريرة : "أخذ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه"، هل العاطفة النبوية كانت لتسكته ﷺعن التدخل أو منع الولد من أكل التمرة وهو صغير وابن بنته؟ أبداً؛ لأن هذا تمر الصدقة، والصدقة لا تجوز لآل محمد ﷺ، فرغم العاطفة يعني لما جاء موقف شرعي وقف، قال ﷺللحسن وهو صغير: كخ كخ ، كلمة تقولها العرب لردع الصبي عن تناول ما يستقذر ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟ [رواه البخاري: 1491، ومسلم: 1069].
وموقف أيضاً لما جاء واحد مشرك مجرم حاول يستثير عاطفة النبي ﷺ في مكان ما فيه مجال للعاطفة، كان بعض المشركين سبوا النبي ﷺ، وألفوا شعراً في هجائه، وربما رموا زوجاته وآذوه في دينه وآله وبيته وأصحابه، فالنبي ﷺ أهدر دم جماعة، خلاص ما فيه إلا القتل، يعني ما فيه حل آخر، من هؤلاء عقبة بن أبي معيط، الجرائم التي فعلها عقبة بن أبي معيط في المسلمين جرائم عظيمة، فأهدر النبي ﷺ دمه، لما فتحت مكة فر عقبة بن أبي معيط باتجاه الكعبة، وتعلق بأستار الكعبة، فوقف المسلمون عليه مهدور الدم، فقال: يا محمد من للصبية؟ من للصبية يا محمد أولادي؟ من للصبية؟ قال: النار [رواه أبو داود: 2686، وهو حديث صحيح]، ما في مجال للعاطفة هنا، يعني ماذا تسترحمني بالصبية وقد فعلت ما فعلت؟ الصبية سنتكفل بهم، ما لهم ذنب، نحن سنتكفل بهم، لكن أنت ما لك إلا النار، وقتل.
كان ﷺ خير الناس لأهله عطوفاً، لكن هل العاطفة كانت تميل به عن العدل بين النساء، وعنده عدة زوجات؟
أبداً، عن أنس قال: "كان النبي ﷺعند بعض نسائه، وهي عائشة أحب الزوجات إليه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام [رواه البخاري: 2481]، -طبعاً- صحن طعام يأتي من امرأة تجيد صناعة الطعام، يعني مثلاً صفية قالت عائشة: "ما رأيت صانعة طعام مثل صفية؟" [رواه النسائي: 3957، وأحمد: 25155] يعني في الطبخ، يعني صحن طعام من امرأة تحسن الطبخ في بيت عائشة، في يوم عائشة، يعني كأن عائشة -رضي الله عنها- نظرت لها أن هذا تحدٍ، فضربت عائشة يد الخادم فسقطت الصحفة، فانفلقت، خلاص المرأة يحتمل منها الغيرة ما لا يحتمل من غيرها، يعني لو نفس التصرف صدر من رجل ما يحتمل، لكن الغيرة كما قالت عائشة: "لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه" [مسند أبي يعلى: 8/129] إذا قامت الغيرة، ماذا فعل النبي ﷺ؟ هو صح يحب عائشة، وعائشة أفضل الزوجات، لكن العدل عدل والشرع شرع والحكم حكم، فجمع النبي ﷺ فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: غارت أمكم ، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند عائشة، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت [رواه البخاري: 5225].
إذًا، إناء بإناء، قصاص، مع أنه يحب عائشة، لكن الحق حق.
من نماذج الانطلاق من الحقائق رغم قوة العاطفة في حياة النبي ﷺ نجدها لما زار قبر أمه، وأمه ماتت على الشرك، وأبوه مات على الشرك، معروف هذا، رغم محاولة بعضهم إنه يصحح أحاديث أن الله أحياهما ليسلما، وأسلما وماتا، لكن لم يصح، يعني انظر الآن إلى العاطفة، نحن نتمنى أن يكون أبوه وأمه أسلما، وإذا أردت تصحح الأحاديث بالعواطف ممكن تأتي بحديث موضوع، وتقول: لعل له طرقاً يشد بعضها بعضاً، كلام، لكن في الميزان العلمي ما يسوى شيئاً، عن أبي هريرة قال: زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، سألوه، قال:استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت[رواه مسلم: 976].
إذًا، المشرك ما يجوز أن نستغفر له، -طيب- هل نعتبر من أهل الفترة؟ حتى لو اعتبرنا أحكام الدنيا أنه مات على الشرك، ومن أحكام المشرك الذي مات على الشرك ما ندعو له بالمغفرة والرحمة، ماذا يفعل الله به يوم القيامة؟ هذا أمره إلى الله، ما لنا دخل، لكن أحكام الدنيا خلاص ما فيه، استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي مع أنها أمه.
التوازن في الحفاظ على الحقائق مع عدم إهمال المشاعر العاطفية
من صور التوازن الحفاظ على الحقائق مع عدم إهمال المشاعر العاطفية؛ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، انظر لما خرج المشركون في غزوة بدر، من كان معهم في الجيش، جيش مكة؟ أبو العاص، من أبو العاص؟ زوج زينب بنت النبي ﷺ، النبي ﷺ زوج زينب من زمان، قبل أن يأتي الحكم الشرعي: لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] فتقدم أبو العاص رجل من قريش، كافر طبعاً، لكنه صاحب أخلاق، زوجه قبل الحكم الشرعي، لما زوجه، خديجة أم زينب -رضي الله عنهما- جهزت ابنتها بأشياء منها قلادة، أعطتها لزينب لما أدخلتها على زوجها أبي العاص، لما خرج أبو العاص مع جيش المشركين في بدر أسر مع الأسرى، لما أذن الله بقبول الفدية من المشركين ، كل واحد من أهل مكة له أسير أرسل فدية، زينب كانت بمكة ما استطاعت الهجرة في ذلك الوقت؛ لأن بدر صارت في أول العهد المدني، فأرسلت زينب قلادتها فداءً لزوجها أبي العاص -طبعاً- هذا موقف مؤثر، يعني تأتي القلادة إلى النبي ﷺ؛ لأنه هو الذي يجمع الأموال، تأتي قلادة زينب من ابنته لتفدي زوجها الأسير المشرك، والنبي ﷺ يرى القلادة ويعرفها، هذه التي أدخلت خديجة زوجته ابنتها على زوجها بها-، طبعاً- هذه الآن القلادة حق المسلمين؛ لأن فداء الأسرى هذا للمسلمين، وبيت مال المسلمين، فهو ما يستطيع أن يقول للمسلمين: ردوها، أمر، ما يستطيع، لكن ماذا يمكن أن يفعل؟ يشفع، يعني لخاطر ابنته، والمسلمون هم أصحاب الحق، قال: فلما رآها رسول الله ﷺ رق لها رقة شديدة، لما رأى قلادة زينب، رق لابنته، وقال: إن رأيتم ، انظر يعني هو الزعيم القائد، يعني ممكن يأمر أي أمر ويمشي، قال: ((إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها؟))، فقالوا: نعم [رواه أحمد: 26362، وأبو داود: 2692، وحسنه الألباني في الإرواء: 1216].
تذكر عهد خديجة، وصحبة خديجة، ووحشة زينب الوحيدة في مكة، وغربة زينب وزوجها الأسير، مع ذلك ما أمرهم، الحق حق، لكن التمس، عرض، رجا: لو رأيتم فالعاطفة ما غلبت على الحق.
ومن المواقف كذلك التي كانت في السيرة النبوية ما حصل بين بريرة وزوجها مغيث، يحق للأمة شرعاً إذا كانت زوجة لعبد، ثم أعتقت أن تنفصل عن زوجها إذا كان لا زال عبداً، هي صارت حرة، زوجة لعبد، أمة زوجة لعبد، لو عتقت الأمة وصارت حرة من حقها شرعاً أن تختار الانفصال، بريرة -رضي الله عنها- كانت زوجة لمغيث، وكلاهما أرقاء، لما عتقت بريرة اختارت الانفصال، زوجها يحبها جداً، وتأثر لهذا القرار، وصار يرجوها، ويتوسل إليها، وهي ما تريد، يقول ابن عباس: "كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته" [رواه البخاري: 5283].
وفي رواية للبخاري أيضاً: "يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها، فقال النبيﷺ لعباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فقال النبي ﷺ يشفع عند بريرة: لو راجعته؟ [رواه البخاري: 5283].
وفي رواية للنسائي: لو راجعتيه، فإنه أبو ولدك [رواه النسائي: 5417] فقالت: يا رسول أتأمرني؟ اعتبر هذا أمراً ملزماً، قال: إنما أنا أشفع يعني الحق لك شرعاً، ما يمكن أن نمنعك من حقك، لكن نشفع، قالت: لا حاجة لي فيه [رواه البخاري: 5283].
وفي رواية: لو أعطاني كذا وكذا ما بت عنده [رواه البخاري: 6758]، تقع حالات يعني الزوجة ما تريد الزوج، والزوج متعلق بها جداً، هل النبي ﷺ لما رأى بكاء مغيث وأخذته العاطفة وقسر بريرة على البقاء؟ ما فعل، الحق حق، ما منعها من حقها.
العواطف لا تغير في الأحكام
العواطف لا تغير في الأحكام، ولذلك جاء في الأثر عن علي : "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما" [رواه الترمذي: 1997]، يعني اقتصدوا في العواطف، لا تجنح بك العلاقات والمشاعر كما قال الطبري في "تهذيب الآثار": "أفرطت النصارى في حب عيسى ابن مريم حتى قالوا: هو ابن الله -جل الله عما قال وعز-، وأفرطت الغالية، الغلاة في حب علي حتى قال بعضهم: هو إلههم، وأبغضت اليهود عيسى ابن مريم حتى قذفوا أمه بالفرية، وأبغضت المارقة من الخوارج علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- حتى أكفروه" [تهذيب الآثار: 3/287]، انظر الجنوح ماذا يفعل؟ النصارى جنحوا وغلوا في العاطفة حتى جعلوا عيسى إلهاً، واليهود غلوا في بغضه حتى قالوا ابن زنا.
النبي ﷺ حكم الشرع حتى في أشد المواقف حساسية وعاطفة، في صلح الحديبية يطلب المشرك أن أي مسلم يأتي من مكة فاراً بدينه يسلم للمشركين، يعني ما بعد جف الحبر الذي كتبت فيه الاتفاقية، الكلام انقضى في الاتفاقية، من الذي كان يتولى عن المشركين المفاوضات؟ سهيل بن عمرو، وإذا بولد سهيل بن عمرو وهو أبو جندل يستطيع أن يتفلت من المشركين بمكة، ويأتي في قيوده فاراً بدينه إلى مكان الاتفاقية في الحديبية يلقي بنفسه إلى المسلمين، سهيل بن عمرو الذي كان مشركاً قال: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي [ينظر الحديث في البخاري: 2731] يعني طبق الاتفاقية، أول ما أقاضيك عليه بناءً على الهدنة، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ يعني أبو جندل يقول: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين، وقد جئت مسلماً ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً، لو حضر واحد منا كيف يكون؟ ومع ذلك يأمر النبي ﷺ برد أبي جندل إلى المشركين؛ لأنه هدنة، جرت عليه المعاهدة، -طيب- عاطفتنا ومشاعرنا ومواقفنا وكل نفوسنا مع أخينا المسلم، لا بد من رد، حسب المعاهدة، المسلم لا بد أن يرعى العهد: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] لكن جعل الله له فرجاً ومخرجاً بعد ذلك، الله لا يتخلى عن عباده.
هل -يا إخوان- من شروط الشخصية القوية تكون متجردة من العاطفة؟ هل من سمات الشخصية القيادية أن يكون ما عنده عاطفة؟ هل الواحد إذا كان قوياً في الحق؟ قوياً في الدين يعني ما عنده عاطفة؟
أبداً، قد يكون قوياً في الدين جداً وعنده عاطفة عظيمة، يعني عمر كيف كان في الهيبة والقوة؟ يقول ابن عباس: "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له" [رواه البخاري: 4913، ومسلم: 1479].
لكن مع ذلك يقول أسلم مولى عمر: خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر فقصدناه، فإذا فيه امرأة تمخض وتبكي، امرأة في الولادة في الولادة في الطلق تبكي من الألم، فسأل عمر عن حالها، قالت: أنا امرأة عربية ليس عندي شيء، زوجها لعله كان غائباً يلتمس شيئاً، جاء عمر في هذا الوقت ومعه خادم، عبده أسلم فبكى عمر وعاد يهرول إلى بيته، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لكِ في أجر ساقه الله إليك؟ وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمل على ظهره دقيقاً وشحماً، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة خرقاً وأشياء وأربطة، وجاءا فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها، وزوج المرأة ما يعرف من هو هذا، أعراب في الصحراء، ما يعرف أن هذا عمر أمير المؤمنين، جلس عمر مع الرجل يسليه، وأم كلثوم زوجة عمر مع المرأة تولدها، فوضعت المرأة غلاماً، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام! فلما سمع الرجل هذا ارتاع، يعني هو جالس مع أمير المؤمنين طيلة الوقت وبعدين زوجة أمير المؤمنين تولد، وأخذ يعتذر إلى عمر، فقال عمر: لا بأس عليك، ثم أوصى لهم بنفقة وما يصلحهم وانصرف [ينظر: البداية والنهاية: 7/153].
حادثة أخرى: قال أسلم: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم الحرة الشرقية بالمدينة حتى إذا كنا بصرار اسم بئر هناك إذا نار، فقال: يا أسلم إني لا أرى ها هنا ركباً قصر بهم الليل والبرد انطلق بنا؟ فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار، وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون، يعني يصرخون يبكون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، وكره أن يقول يا أصحاب النار، يعني هم أوقدوا ناراً، لكنه لفظ معيب، فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنوا؟ قالت: أدنوا بخير أو دع، فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبيان يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، فقال: أي رحمك الله وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ قال أسلم: فأقبل علي، فقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق وكبة من شحم، فقال: احمله علي، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك، فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحركه لك، وجعل ينفخ تحت القدر، ثم أنزلها القدر، فقال: أبغيني شيئاً، يعني أسكب فيه، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم، يعني حتى يبرد أسطح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك الباقي، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، أنت أولى تصير أمير المؤمنين من عمر، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا، ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقال: يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت [رواه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة: 382، وسنده حسن].
إذًا –يا إخواني- الشخصية القيادية والشخصية القوية لها مواقف من العاطفة الجياشة والرعاية والحنان والعطف على المسلمين، ما يتنافى هذا مع هذا.
بعض مظاهر الخلل في المواقف بين الحقائق والعواطف
ومن مظاهر الخلل في المواقف بين الحقائق والعواطف: إهمال جانب والإغراق في جانب آخر، هذه المشكلة، ومنها هذا:
الإغراق في العواطف على حساب الحقائق
أولاً: الإغراق في العواطف على حساب الحقائق، ومن صورها مثلاً: استغلال المبتدعة للعاطفة لترويج بدعتهم، فيدخلون على الناس من باب العاطفة؛ فمثلاً: من فرق الباطنية من روجوا لمذهبهم تحت عنوان: مظالم آل البيت ومقتل الحسين ، كل المسلمين في قضية مقتل الحسين عواطفهم جياشة، ابن بنت النبي ﷺ يقتل، -طبعاً- تثور العواطف، آل البيت وحقوق آل البيت، -طبعاً- تثور العواطف، لكن المبتدعة الباطنية الكفرة استغلوا القضية في الدخول على المسلمين من باب العاطفة باسم مظالم آل البيت ومقتل ابن بنت رسول الله ﷺ، ومشت على كثير من المسلمين، وانتقل كثير منهم من مذهب أهل السنة إلى أهل البدعة، تجد الآن مثلاً مجالس العزاء والرثاء والبكاء واللطميات، ومشكلة أن بعض الشباب صاروا يضعونها نغمات جوال، ويسمعونها، ويتأثرون بها، وفيها شرك، والله العظيم فيها شرك، وفيها بدع ما أنزل الله بها من سلطان، لكن العاطفة تجعل بعض الناس يتأثر بالبدعة من مدخل عاطفي.
أحياناً تجد بعض القصائد البدعية يعني يكون الرادود فيها طفل أيضاً، فالناس يتأثرون، وطفل، وكذا.. ويتكلم ويبكي وينشج، هو ماذا يعني؟ المهم الصوت الطفولي ولا المهم المحتوى، لكن من الذي يفقه؟ تستخدم النبرات الصوتية الملحنة والحزينة، وإلى آخره، وتحريك الأشجان، لكن أنت تبني مواقفك على الأشجان وعلى النبرات الملحنة والحزينة أم تبني على الحقائق وعلى المحتوى، وعلى ما هو موجود فيها؟ الآن بعض أهل البدع يستغل صراع الأمة مع الصهاينة، اليهود إخوان القردة والخنازير، فيستغل القضية، فتجد في كلامه وخطبه الرنانة: الموت لليهود، لبيك يا أقصى، أهلنا في فلسطين، كذا.. وهو كافر ابن كافر، ملحد زنديق واضح جداً من مذهبه الفاسد الذي هو عليه، لكن يدغدغوا عواطف المسلمين، فكثير من المسلمين يتعاطفون مع مثل هذا الطرح؛ لأنه دغدغ عواطفهم بفلسطين الأقصى ومآسي المسلمين، ويغفلون عن دين وعقيدة المتكلم، ويذهبون مع الخطب الرنانة، أين المنهج؟ أين الحق؟ أين الحقيقة؟ أين بناء المواقف على الحقائق؟ قال الفضل بن موسى: "كان صياد يصطاد العصافير في يوم ريح، فجعلت الرياح تدخل في عينيه الغبار فتذرفان، فكلما صاد عصفوراً كسر جناحه وألقاه في ناموسه، فقال عصفور لصاحبه: ما أرقه علينا ألا ترى إلى دموع عينيه؟ وقال له الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى عمل يديه"، هذا العصفور العاقل، ما هو العصفور العاطفي.
أحياناً تستغل العاطفة من قبل بعض المنحرفين باسم محبة النبي ﷺ ليدخلوا الشرك على الأمة، وتأتي قصيدة: البوصيري:
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم
يعني الشرك، إذا كان من جودك يا رسول الله الدنيا وضرتها يعني الآخرة ماذا بقي لله -عز وجل-؟ وإذا كان ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم، فأين استعن بالله؟ [رواه مسلم: 2664]، أين إذا استعنت فاستعن بالله؟ ؟ [رواه الترمذي: 2516، وأحمد: 2669، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 5302] أين.. أين.. ؟ ماذا أبقيتم؟
ومن علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، يعني "من" للتبعيض يعني إذا كان علم اللوح والقلم من علومه إذًا ماذا بقي في علم الله؟
فإذًا، قضية استغلال العاطفة في إدخال الشرك على الأمة حصل، وجعلوا الرقص ديناً، والغناء ديناً، وإلى آخره، يستغل المنافقون عاطفة المرأة في حرفها وإخراجها عن أحكام الشرعية، إعطاء المرأة مكانها، والرقي بالمرأة، وإخراجها من الذكورية، والسيطرة الذكورية، والهيمنة الذكورية، وهكذا.. فممكن تنقاد المرأة وراء هؤلاء المنافقين؛ لأنها ترى أنهم يدغدغون عواطفها، وإنهم يعطونها حقوقها المسلوبة، وأنهم.. -طيب- الشرع أعطاها كل الحقوق، تريد أكثر من الشرع يعني؟ لا حقوق إنسان ولا حقوق حيوان، الشرع أعطى المرأة وأعطى البهائم وأعطى كل الرجال والنساء والأطفال الحقوق كاملة، فالواجب المناداة بالشرع لا بغيره. انظروا -أيها الإخوة- ما فعلت مثلاً الدراما بالناس التمثيليات الفيديو كليبات، الدراما الآن مبناها على العاطفة في أشياء كثيرة، وحبكة وقصة وبطولة ، ما النتيجة على المتفرجين والمستمعين والمشاهدين؟ وتستخدم الإيحاءات والمؤثرات والمجسدات والخلفيات والصور، يعني المؤثرات الصوتية وغير الصوتية، وإتقان التمثيل والشخصيات، وممكن يقلب لك الحق باطلاً، والباطل حقاً، ويجعل مثلاً صحابياً، أو رجلاً من أهل الدين كأنه شيطان، ويجعل واحداً من أتباع الشيطان الرجيم كأنه ولي من الأولياء، قضية إن واحداً يحسم المواقف بناءً على موقف عاطفي خطأ، قال الشعبي: "شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها وبكت، فقال الشعبي: قلت لشريح: يا أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة؟ فقال: يا شعبي: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون [أخبار القضاة: 2/221] إخوة يوسف جاؤوا يبكون وكانوا ظلمة ألقوا أخاهم في الجب، ولذلك لا يصلح الانسياق وراء العواطف، وإنما ينظر في القضية، وهذا شأن الأم والأب في الحكم بين الأولاد، ممكن يأتيك واحد يبكي، ويجهش بالبكاء وهو المعتدي أصلاً.
بناء الاختيارات على العواطف
ومن صور الخلل: بناء الاختيارات على العواطف، الآن ممكن يتقدم لفتاة واحد، وشكل وهندام، ووظيفة، وما في دين، واحد آخر أقل مالاً وأقل منصباً، لكن صاحب دين، فقد يفتنها ذلك الأول، وقد يدغدغ عواطفها، وكلام معسول، وكثير من النساء سقطن عبر شبكة الإنترنت، وعبر الجوالات، بهذه القضية، دغدغة العواطف، والنتيجة فقدان العفة، والإنسان في النهاية سيختار الأصلح في الدين ولو كانت العاطفة مع شيء آخر، ذكر أهل السير: أن زيد بن حارثة -رضي الله عنه- أغار قوم على قومه وأخذوه وهو غلام، فباعوه في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم، لما تزوج النبي -عليه الصلاة والسلام- خديجة وهبت زيداً له، أبوه حارثة بن شراحيل لما فقده أجهش عليه بالبكاء.
فوالله ما أدري وإني لسائل *** أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها *** وتعرض ذكراه إذا قارب الطَفل
يعني الغروب.
حج ناس من قبيلته إلى مكة فرأوا زيداً وكانوا يعرفونه ويعرفون أباه، وزيد كان يحن إلى أهله في الحقيقة، وقال حملوا أهلي هذه الأبيات:
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم *** ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة *** كرام معد كابراً بعد كابر
انطلقوا إلى أبيه وأخبروه، فقدم أبو زيد وأخوه بفداء إلى مكة، سألوا: أين الولد؟ قالوا: في بيت محمد بن عبد الله ﷺ، فجاؤوا إليه، قالوا: ولدنا عندكم؟ فخيره النبي ﷺ بين البقاء معه وبين الذهاب مع أبيه وعمه، فاختار النبي ﷺ، فقال له أبوه: يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأمك وبلدك وقومك؟ فقال: إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً وما أنا بالذي أفارقه أبداً" [الطبقات لابن سعد: 3/30 - 31، والإصابة في معرفة الصحابة: 2/495]، يعني انظر اختار زيد ماذا؟ الأنفع له في الدين، مع أن العاطفة تقتضي أن يلحق بأبيه وقومه، ولذلك ما يجوز معارضة الحكم الشرعي بالعاطفة.
الآن مثل المرأة عندما تثار قضية تعدد الزوجات، قد تجنح مثلاً بعض النساء لعاطفة يعني تأبى هذا، ولا مانع للمرأة أن تكرهه طبعاً لا شرعاً، يعني هي بالطبع لا تريده بطبيعتها لكن شرعاً هي قابلة ومقرة به، فهذه لا حرج عليها، لكن أحياناً بعضهم يريد أن ينسف الحكم لأنه يجنح بعاطفته، وهكذا لا يحملنا أيضاً البغض في المقابل على أن نجحف، مع أن البغض قد يكون ليهود؛ مثال: بعث النبي ﷺعبد الله بن رواحة إلى خيبر، ليخرص ثمرها، ويأخذ نصيب المسلمين منها، فجمعوا له اليهود، خبثاء، أرادوا رشوة عبد الله بن رواحة، يقولون: خذ كذا كذا لك، وحط عنا، حط في جيبك! فجعلوا له حلياً من حلي نسائهم، فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، قتلتم أنبياء الله -عز وجل-، وكذبتم على الله، ولكن ماذا قال؟ وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، انظر مع أني أبغضكم بغضاً عظيماً، لكن لا يمكن أن أجور عليكم وأنتقم منكم مثلاً أضع عليكم قسماً يعني آخذ من حقكم، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض [رواه مالك في الموطأ: 2، ورجال إسناده ثقات].
إذًا، لا إغراق في الحقائق في المقابل مع إهمال العواطف، العواطف لها جزء كبير، الصحابة كانوا ممتلئين عاطفة، وقال الواحد منهم: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت الموت عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإذا دخلتها أخشى أن لا أراك؟ انظر صدق العاطفة، هذه عاطفة واجبة، هذه محبة إيمانية، فلم يرد عليه النبي ﷺ حتى نزل جبريل بهذه الآية:وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69]. [رواه الطبراني في الأوسط: 477، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني: 2933].
بلال كان مؤذن النبي ﷺ، لكن في الفتوحات ذهب إلى الشام، خلاص أذانه انقطع في المدينة، وأذن غيره، لما فتحت بيت المقدس كان بلال موجوداً، طلبوا منه يؤذن، لما أذن بلال في بيت المقدس، كم واحد بكى من الصحابة؟ لما تذكروا الأيام الأولى، "لم ير يوماً أكثر باكياً منه" [سير أعلام النبلاء: 1/357].
وإذا كان الجذع حن للنبي ﷺ لما اتخذ المنبر وترك الجذع [رواه البخاري: 3585] فينبغي أن يكون عندنا حنين إلى النبي ﷺ دائماً، وإلى سنته وسيرته.
قواعد وأصول شرعية
ولنعلم -ختاماً-: أننا يجب أن نقبل شريعة الإسلام، وأن نحكم بها، وأن لا نقدم على قول الله وقول رسوله قول أحد من الناس كائناً من كان، وأن ننقاد للشرع انقياداً تاماً، وإذا حصل نزاع نرده إلى الله ورسوله، وأن لا نقبل أي فعل أو اعتقاد أو قول يخالف الكتاب والسنة، وأن نرجع لفهم السلف للنصوص، وأن نعرف الرجال بالحق وليس الحق بالرجال، وليست الكثرة معياراً للحق، فقد يكون الحق مع الأقل، والحق هو الأصل، والباطل طارئ.
ويجب علينا الإنصاف والعدل: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ [المائدة: 8].
ولا نعمم في الأحكام إذا فصل الشرع فيها، لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران: 113]، قال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا[آل عمران: 75].
ولنحذر الهوى: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [النساء: 135]، يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص: 26].
ونتثبت وما تأخذنا العواطف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6].
إن استحضار هذه الأصول مهم جداً لنا ونحن نخوض في غمار هذه الحياة.
نسأل الله -تعالى- أن يحيينا مسلمين، وأن يتوفانا مؤمنين، وأن يلحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
ابو اسحاق
من اجمل المحاضرات