الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد قال الإمام الترمذي - رحمه الله - تعالى في كتابه الشمائل المحمدية: عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله ﷺ إذا استجدّ ثوبًا سماه باسمه عمامة أو قميصًا أو رداء، ثم يقول اللهم لك الحمد كما كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صُنع له حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1767، وصححه الألباني في المشكاة: 1767].
ومعنى: "إذا استجدّ"، يعني: لبس ثوبًا جديدًا، ومعنى: "سماه باسمه" أي: اسمه المتعارف عليه؛ سواء كان عمامة أو قميصًا أو رداء أو سراويل أو خف أو إزار ونحو ذلك، وهذه أمثلة.
ومعنى "سماه باسمه" الآن أن يقول مثلًا إذا جيء بالثوب الجديد أو أتى بالثوب الجديد ليلبسه يقول: رزقني الله أو أعطاني عمامة، قميصًا، جوارب، شماغاً، غترة، بدلة، أو يقول: هذا كذا هذا كذا هذا كذا، يسمّيه باسمه، ثم يقول: اللهم لك الحمد كما كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صُنع له
ما هو خير الثوب؟ أسألك خيره ما هو خير الثوب؟
بقاؤه من خيره، نقاؤه من خيره، طيبه من خيره، طهارته من خيره، كونه يقي الحر والبرد من خيره، التجمُّل به من خيره، أسألك خيره وخير ما صُنع له من أجله من الحر والبرد وستر العورة.
فإذن، ((خيره)) بقاءه نقاءه، كونه ملبوسًا للحاجة والضرورة، وخير ما صنع له للوقاية من الحر والبرد وستر العورة، يسأل الله الخير في هذه الأمور، ومن الأشياء الطيبة والخير العظيم أن يكون هذا الثوب عونًا على الطاعة والعبادة، فيستر عورته للصلاة ويتزين به للمسجد ونحو ذلك.
قال: وأعوذ بك من شره وشر ما صُنع له من شره مثل كونه حرامًا أو نجسًا أو لا يبقى زمانًا طويلًا، أو يضايقه عند لبسه وينغّص عليه، أو يكون سببًا للمعاصي والشرور، أن يكون ثوب شُهرة، أن يكون مشابهًا للباس الكفار، أن يفتن به؛ لأنه قد يلبسُه الشاب فيُفتن به، وقد تلبسه المرأة فتُفتن به، أو تفتِن به أو يُفتن به، فإذن، الثياب تفتن الآخرين، كما تفتن الشخص نفسه، فيكون مثلًا فيه خيلاء، أو فيه كبر أو فيه غرور؛ نتيجة الملابس؛ لأن قارون مثلًا ونحوه من الناس المتكبرين، ربما يلبس الثوب فيمشي به أشِرًا بطِرًا متبخترًا بين بُردين تعجبه نفسه وللأرض منه وئيد فربما يخسف الله به، فإذن، قد يكون الثوب سببًا للشر أو العُجب والغرور والفخر والخيلاء والكبر واحتقار الآخرين ونحو ذلك، ولذلك من الأدعية النبوية: اللهم لك الحمد كما كسوتنيه فهو يعترف لله بالفضل، أسألك خيره وخير ما صُنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صُنع له وهذا الحديث يدل على استحباب حمد الله تعالى عند لبس الثوب الجديد، قال: وعن أنس بن مالك قال: "كان أحب الثياب إلى رسول الله ﷺ يلبسه الحِبرة". حديث صحيح، وأيضًا رواه الشيخان. [رواه البخاري: 5812، ومسلم: 2079].
الحبرة بوزن عنبة، برد يماني موشى مخطط مزين من برود اليمن تصنع من قطن، كانت من أشرف الثياب لديهم في ذلك الوقت، سُمّيت حبرة؛ لأنها تُحبّر، معنى تحبر يعني: تُزيّن، مثل ما قال أبو موسى: "لو أعلم أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا" [رواه النسائي في الكبرى: 8004، وابن حبان: 7197، وقال الألباني في التعليقات الحسان حسن صحيح: 7153].
يعني: لحسّنت صوتي وجمّلته وزينّته لك يا رسول الله، يعني من أجل سماعك وليدخل السرور عليك وأنت تسمع لتسر من قراءتي أكثر، وهذا الحديث يدل على استحباب لباس ثوب الحبرة وهو الثوب المخطط، والحبرة كانت أحب الثياب إلى رسول الله ﷺ، وهل يعارض هذا ما تقدم من أن أحب الثياب إليه ﷺ فيما سبق ذكره كان القميص، فقال بعض العلماء: إن القميص كان أحب إليه بالنسبة لما خُيِّط، وهذا بالنسبة لما يُرتدى به، أو أن محبته للقميص كانت حين يكون عند نسائه، والحبرة كانت حين يكون بين صحبه، ولعل هذا بالنظر إلى راوي الحديث، فالذي قال: "إن أحب الثياب إليه القميص" أم سلمة، والذي روى أن: "أحب الثياب إليه الحبرة" أنس، فإذن، أم سلمة من أهل بيته، فلعله كان إذا كان في البيت القميص وإذا كان بين أصحابه الحبرة، كان ﷺ يحب هذين النوعين من اللباس.
وابن القيم - رحمه الله - قال: "وكان أحب الثياب إليه القميص والحبرة" [زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/135].
فجمع بينهما.
والحديث يدل على مشروعية لباس الزينة من الثياب إذا كان مما يعتاد لُبسه، وليس من الشهرة.
كراهة السلف لذي الشهرتين من اللباس
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تعبُّدًا وتزهُّدًا، بإزائهم طائفة قابلوهم، فلا يلبسون إلا أشرف الثياب ولا يأكلون إلا ألين الطعام، فلا يرون لُبس الخشن ولا أكله تكبرًا وتجبرًا، وكلا الطائفتين مخالفة لهديهﷺ, ولهذا قال بعض السلف: "كانوا يكرهون الشُّهرتين من الثياب العالي والمنخفض"[زاد المعاد في هدي خير العباد: 1/140]، لأن العالي يلفت الأنظار بغلائه وزينته فاخر جدًا، والمنخفض يلفت النظر إليه من جهة أن يُقال: فلان هذا ما شاء الله متواضع ثوبه فيه سبع رقع! ولذلك كانوا يكرهون الشهرتين من اللباس العالي والمنخفض، ولذلك الواحد يلبس مما يلبس الناس؛ لكي لا يشتهر بشيء ولا يُشار إليه بالبنان فيكون من عامة الناس من عامة المسلمين، وفي السنن عن ابن عمر يرفعه إلى النبي ﷺ: "من لبس ثوب شُهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلّة، ثم تُلهب فيه النار"، رواه ابن ماجه، وحسّنه الألباني.
ولماذا؟ لأنه قصد به الاختيال والفخر فعاقبه الله بنقيض ذلك فأذلّه، فالذي يلبس ثوب الشهرة يقصد لفت الأنظار، وأن يرفع الناس إليه أبصارهم ويقولون: انظروا إلى فلان، فيقصد الاستعلاء، فيذله الله يوم القيامة ويعامله بنقيض قصده ويُلهب فيه النار عندما يلبس ذلك الثوب يوم القيامة.
قال - رحمه الله -، أي ابن القيم: "وهذا لأنه قصد به الاختيال والفقر فأذلّه، كما عاقب من أطال ثيابه خيلاء بأن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" [زاد المعاد: 1/140]، وفي الصحيحين: عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة [رواه البخاري: 3665، ومسلم: 2085]، وكذلك لُبس الدنيء من الثياب يُذمُّ في موضع ويُحمد في موضع، فيُذمُّ إذا كان شُهرة وخيلاء، ويُمدح إذا كان تواضعًا وسكينة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يُذمُّ إذا كان تكبرًا وفخرًا وخيلاء ويمدح إذا كان تجملًا وإظهارًا لنعمة الله، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيﷺ قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، قال: إن الله جميل يجب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس [رواه مسلم: 91].
فالكبر: أن تجحد الحق وتعرض عن الحق وتغمط الناس حقوقهم وتزدريهم وتنتقصهم وتحتقرهم، هذا هو الكبر، أما أن يكون الثوب جميلًا والنعل حسنًا، فليس من الكبر، فإذا قصد بلبسه التكبر على الناس، أو الثوب أدى به إلى الكبر، فهذا مذموم.
قال: وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه ، قال: رأيت النبي ﷺ وعليه حُلّة حمراء، كأني أنظر إلي بريق ساقيه" [رواه الترمذي: 197، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 197].
قال سفيان: "أراها حِبَرة" التي كان يلبسها ﷺ، "كأني أنظر إلى بياض ساقيه" يدل على أن الساق إذا ظهرت فليس بعورة، وهذا من الرجل، وعليه حُلَّة حمراء وهي الحبرة من برود اليمن، تُسمى حُلّة؛ لأنها تكون من ثوبين فلا تسمى حُلّة في اللغة إلا إذا كانت من ثوبين، يعني قطعتين، "وكأني أنظر إلى بريق ساقيه" لمعانهما، وقال الراوي: "نراه حِبرة"، الحلّة الحمراء التي كان يلبسها ﷺ مخططة فيها خطوط حمراء، يعني ليست كلها حمراء اللون، ليست حمراء قانية خالصة، وإنما مخططة بالأحمر، وهذا نوع من البرود اليمنية الموشى والمخطط كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "إن الحلة الحمراء بردان يمنيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، وغلط من قال إنها كانت حمراء بحتًا، قال: "وهي المعروفة بهذا الاسم" [زاد المعاد: 1/132].
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرح رياض الصالحين: الأحمر قد نهى عنه النبي ﷺ إذا كان خالصًا، وقد تقدم حديث نهى عن المفدم المشبع بالحمرة، قال: "فإن كان أحمر وفيه بياض فلا بأس".
وعلى هذا يُحمل حديث أنه كان عليه حلة حمراء، إذن، خالطه لون آخر، وليست حمراء خالصة، قال: "فهذه الحلة الحمراء ليس معناها أنها كلها حمراء، لكن معناها أنها علامة حمراء مثل ما تقول: الشماغ أحمر وليس كله أحمر، بل فيه بياض كثير، لكن نقطه ووشمه الذي فيه أحمر، كذلك الحلة الحمراء يعني أن أعلامها حمر، أما أن يلبس الرجل أحمر خالصًا ليس فيه شيء من البياض، فإن النبي ﷺ نهى عن ذلك، انتهى كلام الشيخ -رحمه الله- والشوكاني - رحمه الله - ناقش بأن المقصود هو الأحمر، وأن هذا تعبير الراوي، إلى آخره، لكن الذي ينبغي إليه المصير في الجمع بين الأدلة أن نقول بهذا، كيف ينهى عن الأحمر ويلبس أحمر إلا أن يكون الذي لبسه ليس أحمر خالصًا، والمنهي عنه الأحمر الخالص، وبعضهم قال: إن المقصود بالأحمر المنهي عنه المصبوغ بالعصفر يعني المعصفر، لأنه يؤدي إلى لون الحمرة.
وقال الترمذي - رحمه الله -: "ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنهم كرهوا لبس المعصفر، ورأوا أنما صُبِغ بالحمرة بالمدر أو غير ذلك فلا بأس به إذا لم يكن معصفرًا"، هذا رأي آخر في القضية، والأقوى والله أعلم أن الأحمر الخالص لا يلبسه الرجال؛ لأنه من لباس النساء، وأما بالنسبة للأحمر المخطط، أحمر مخلط بغير ألوان فلا بأس للرجل أن يلبسه، وقال البيجوري: "النهي عن الأحمر البحت للتنزيه، وفي الحديث استحباب تقصير الثياب إلى نصف الساق، وكانت الحلة التي يلبسها إلى أنصاف ساقيه الشريفتين ﷺ"
وقال بعضهم: هذا موضعه في الإزار، يعني في الشيء الذي لا ينشمر إذا مال الإنسان أو ركع مثلًا، الإزار إذا ركعت أنت لا ينشمر، لكن الثوب إذا ركعت ينشمر؛ لأنه معلق على المنكبين، ولذلك ينشمر يعني: يقصر من أسفل، ولذلك نازع بعضهم في قضية نصف الساق قال: هذا في الإزار ونحوه مما يُلبس على وسط الجسد، وقال حديث إزرة المؤمن إلى منتصف الساق [رواه النسائي في الكبرى: 9626، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2029].
قال: وأما ما ينشمر إذا مال الإنسان أو ركع كالثوب المعلق على الكتفين الملبوس على الكتفين المحمول عليهما فلا، يعني أنه يكون أطول منه، حتى إذا ركع لا ينشمر ويقصر عما فوق ذلك.
قال: وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ﷺ: عليكم بالبياض من الثياب ليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم، فإنها من خير ثيابكم حديث صحيح. [رواه الترمذي: 994، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1236].
وعن سمرة بن جندب ، قال: قال رسول الله ﷺ: البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم البسوا من ثيابكم البياض [رواه الترمذي: 2810، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1235]. "من" للتبعيض، أو تكون من بيانية، البياض يوضح اللون، قوله فإنها يعني الثياب البيضاء أطهر يعني: لا دنس ولا وسخ، وقيل: المقصود أنه يظهر فيها سريعًا فيزال بخلاف بقية الألوان فإنه لا يظهر فيها الوسخ سريعًا، أما الثوب يظهر فيه سريعًا فيزال أو يغير؛ لأن البياض أكثر تأثرًا من الثياب الملونة فتكون أكثر غسلًا وأكثر طهارة بالتالي، وقوله: ((أطيب)) يعني أحسن طبعًا وشرعًا، وقيل: أطيب لدلالته غالبًا على التواضع وعدم الكبر والخيلاء والعُجْب.
وقوله: وكفِّنوا فيها موتاكم ، الأمر للاستحباب، وبعض السلف كان يستحب أن يكفن في الثياب التي كانت له فيها لله طاعة، قال ابن المبارك: أحب إلي أن يكفن في الثياب التي كان يصلي فيها، لأنها ثياب عبادة قد تعبد بها، وروى ابن سعد من طريق القاسمي بن محمد بن أبي بكر، قال أبو بكر: "كفنوني في ثوبي اللذين كنت أصلي فيهما"، [فتح الباري لابن حجر: 3/253].
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي قال الزهري: "إن سعدًا لما احتضر دعا بجبة صوف وقال: "كفنوني فيها، فإني قاتلتُ فيها يوم بدر، إنما خبأتها لهذا" [تذكرة الحفاظ: 1/22]. يعني هذه الثياب التي قاتلت فيها يوم بدر تكون هي كفني.
وبعضهم ربما أوصى بأن يُكفن بإزار ورداء الحج الذي حجه، هذا منقول عن السلف، واستحباب باللون من ناحية الكفن، كما نص عليه الحديث الأبيض، وعن عائشة قالت: "خرج رسول الله ﷺ ذات غداة وعليه مرط من شعر أسود" [رواه الترمذي: 2813، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 56].
"ذات غداة" ذات يوم وذات ليلة، "عليه مرط"، كساء يكون تارة من صوف وتارة من شعر أو كتَّان أو خز، "وهو كساء يؤتزر به" كما قال الخطابي. [إكمال المعلم: 6/594]. والمرط" تلبسه النساء أو بعض أنواعه يلبسه النساء، ولا يمنع أن تكون بعض الأشياء كانت تلبس من قبل النساء أو الرجال، لكن كل على تفصيل، أو على هيئة خاصة به، وعن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ لبس جبة رومية ضيقة الكمين، لبس كان ذلك في السفر، جبة اللباس معروف، لباس معروف للناس في ذلك الوقت، رومية مصنوعة عند الروم، وفي رواية: جبة شامية ولا منافاة، لأنه في ذلك الوقت كانت الشام للروم، فالجبة الشامية صناعة رومية، وهذا يدل على جواز لبس الثياب التي نسجها الكفار تستورد من بلاد الكفار، ضيقة الكمين وكان ذلك في غزوة تبوك، والحديث يدل على الانتفاع بثياب الكفار إلا إذا تحقق نجاستها فلا بد أن يغسلها، كونه لبسها ولم يستفصل هل هي نجسة أو لا؟، يدل على أن الأصل في الأشياء الطهارة، البخاري ترجم على الحديث في كتاب الصلاة من صحيحه: "باب الصلاة في الجبة الشامية" [صحيح البخاري: 1/81]، قال الحافظ: "هذا الباب معقود لجواز الصلاة في ثياب الكفار ما لم يتحقق نجاستها، وعليه جُبّة شامية، وكانت الشام إذ ذاك دار كفر، والنبي ﷺ لبسها ولم يستفصل كما تقدّم" [فتح الباري لابن حجر: 1/473]، ولبس الثوب الضيق أو ضيق الكمين؛ لأنه أعون في السفر، ومئونته قليلة بخلاف لو كانت الأكمام واسعة وهي تنزلق وتنشمر وتحتاج إلى كف أحيانًا فيكون الثوب ذي الكمين الضيقين في السفر أعون، مثل الأكمام المزررة الآن مثلًا، بعض الأكمام المزررة أو لها كبك مثلًا، على أية حال وصف الصحابة النبي ﷺ في شعره ولونه وجلده وثيابه، ومما وصفوه أيضًا وصفوا نعليه وخفيه، جاء وصفه بدقة عجيبة، ما في وصف لشخص آخر في كتب التاريخ ما تجد واحداً وصف في التاريخ مثل ما وصف النبي ﷺ، بهذه الدرجة وعدد الشعرات البيضاء في لحيته أو في شعره أو في رأسه وصدغيه.
باب ما جاء في خف رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الترمذي: باب ما جاء في خف رسول الله ﷺ، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن النجاشي أهدى إلى النبي ﷺ خُفّين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما" حديث صحيح. [رواه الترمذي: 2820، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2820]. أما النجاشي فمعناها ملك بلسان الحبشة، كما أن خاقان معناه ملك بلغة الترك، وكسرى معناها ملك بلغة الفرس، وقيصر معناها ملك بلغة الروم، والمقوقس معناها ملك بلغة الإسكندرية، وفرعون معناها ملك بلغة القبط مصر، وتبع معناها ملك بلغة اليمن، فقوله إذن النجاشي هذا ليس اسمًا له، ليس باسمه هذا لقب ملك، لكن اسمه: "أصحمة"، أصحمة بن بحر هو النجاشي الذي أسلم وهو الذي أهدى للنبي ﷺ هذه الهدية وهو التابعي الذي لقي الصحابة وآمن ولم يصبح صحابيًا ولم يهاجر إلى النبي ﷺ لانشغاله بحكم بلده، وكان ردءًا للمسلمين ولعله كان يفهم النجاشي أن بقاءه في الحبشة أنفع للمسلمين من ذهابه إلى النبي ﷺ؛ لأن هذه هي البلد الاحتياطي، فلم تكن المدينة قد فتحت بالقرآن بعد، وبقي الصحابة عنده وقتًا طويلًا، الصحابة بقوا عنده سنوات، متى قدم جعفر إلى المدينة؟ في عام خيبر، إذًا هذه السنوات مع التي هاجروها قبل من مكة، كل الصحابة عند النجاشي، أهدى للنبي ﷺ نعلين ساذجين، ومعنى ساذجين لونهما واحد لم يخالطه لون آخر، وقيل غير منقوشين، وقيل مجردين عن الشعر.
قال القسطلاني: "الساذج معرب سادة" [عون المعبود: 1/179]. سادة تبعنا هذه هي أصلًا هذه اللهجة العامية المنتشرة يقول: سادة، يعني لون واحد لا يخالطه لون آخر، وكذلك في الحديث أن الأصل في الأشياء الطهارة؛ لأن النبي ﷺ لبس الخفين وتوضأ ومسح عليهما ولم يستفصل عن حالهما، وكذلك فإن محل المسح على الخفين إذا لبسهما على طهارة، قال: وعن الشعبي قال: قال المغيرة بن شعبة: أهدى دحية الكلبي لرسول الله ﷺ خُفّين فلبسهما". حديث صحيح. [رواه الترمذي: 1769، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 59].
ودحية بن خليفة الكلبي كان أحسن الناس وجهًا، صحابي جليل أسلم قديمًا وبعثه النبي ﷺ إلى قيصر الروم واسمه هرقل، فقيصر لقب كما قلنا معناه ملك واسمه هرقل، وكان رسولُ رسولَ الله ﷺ، وقد وصل إلى هرقل في محرم سنة سبع، وبعثه النبي ﷺ في آخر سنة ست.
باب ما جاء في نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال - رحمه الله -: باب ما جاء في نعل رسول الله ﷺ، عن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: كيف كان نعل رسول الله ﷺ؟ قال: "لهما قبالان" حديث صحيح ورواه مسلم.
القبالان تثنية قبال، ويسمى شسعًا والشسع أحد سيور النعل، فالقبال هو السير الذي فيه الشَّسع، والشِّسع الذي يكون بين أصبعي الرجل، هل رأيت هذه الجلدة التي تدخل بين أصبعي الرجل تسمى شسعًا، والقبالان تثنية قبال، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: القبال هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين أصابع أي بين أصبعي الرجل، قال ابن الأثير: كان لنعل رسول الله ﷺ سيران يضع أحدهما بين إبهام رجله والتي تليها ويضع الآخر بين الوسطى والتي تليها، فإذن، كان يدخل بين إصبعيه سيرين، قطعتين من الجلد، واحدة بين إبهام رجله والتي تليها، والثانية بين الوسطى والتي تليها، ومجمع السيرين إلى السير الذي على وجه قدمه ﷺ وهو الشراك، انتهى، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان لنعل رسول الله ﷺ قبالان مثني شراكهما"، معنى مثني: من التثنية جعل الشيء اثنين، والشراك أحد سيور النعل يكون على وجهها، وعن عيسى بن طهمان قال: "أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثني ثابت البُناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي ﷺ [رواه البخاري: 3107].
ومعنى جرداوين يعني لا شعر عليهما، استعير من أرض الجرداء التي لا نبات لها، وهكذا كانت نعال النبي ﷺ على الأقل أحد النعال التي لبسها جلد بدون شعر، جلد بدون شعر، وأيضًا لبس جلد أسود لا لون فيه آخر، وأيضًا لبس السبتية كما سيأتينا في الدرس القادم بمشيئة الله تعالى، وصلى الله على نبينا محمد.