الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
مكانة العقل في الإسلام
فقد ذكرنا في حلقاتٍ ماضيةٍ أنواعًا من الانحرافات عن التَّوحيد من هذه الأطروحات المعاصرة التي تكون في كثيرٍ من الدَّورات، ومن هذه الانحرافات ما سنتناوله في هذا الدَّرس بمشيئة الله تعالى، وهو ما يتعلَّق بالعقل الباطن، العقل في الإسلام له مكانةٌ عظيمةٌ تُميِّزُ صاحبه عن البهائم، العقل هو مناطُ التَّكليف من لا عقل له ليس بمكلَّف، وقد قال النَّبي ﷺ: رُفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النَّائم حتى يستيقظ، وعن الصَّغير حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل [رواه أبو داود: 4403 ، والنسائي: 3432، وابن ماجه: 2041، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة: 1660]. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
وثبتت كرامة العقل بالقرآن الكريم كثيرًا، والله خاطب أهلَ العقول وطالبهم بالعقل والفكر والفهم، وقال: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[يونس: 24]. لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ[الأنعام: 98]. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[البقرة: 242].
ولكن هذا العقل لا يجوز أن يرفع فوق منزلته التي جعله الله فيها، ولا يجوز أن يتخذ إلهًا، وغلا كثيرٌ من النَّاس في ما مضى من الأزمنة وفي زماننا هذا في العقل، حتى جعله بعضُهم إلهًا يُعبَد من دون الله، وجعله بعضهم حاكماً على الشَّرع، قال الإمام الشَّاطبي رحمه الله: "اعلم أنَّ الله جعل للعقول في إدراكها حدًا تنتهي إليه لا تتعدَّاه، ولم يجعل لها سبيلاً من الإدراك في كُلِّ مطلوبٍ، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون"[الاعتصام: 2/318]. انتهى الاعتصام.
إذًا من زعم أنَّ العقل البشري لا حدود له، وأنَّ طاقة العقل البشري لا متناهية؛ فهو في الضَّلال المبين.
ومن صور الغلوِّ في العقل: تلك القدرات الخارقة التي أضفاها بعض أصحاب الدَّورات، لاسيما البرمجة اللغوية العصبيَّة على ما يعرف بالعقل الباطن، فما هي حقيقته؟ وما هي هذه الإطلاقات؟ وماذا يحدث بشأنها من انحرافات؟.
تعريف العقل لغةً:
أمَّا العقل لغة: فهو الحَجر، وقيل: هو التَّمييز الذي به يتمَّييز الإنسان عن سائر الحيوان، وعقَلَ الشَّيء يعقله أي: فهمه عقله عقلاً، وسُمِّي العقل عقلاً: لأنَّه يعقل صاحبه عن التَّورط في المهالك، ويحبسه عن التَّردي، ويطلق العقل على القوَّة المتهيئة لقبول العلم وفهمه، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوَّة: عقلٌ.
تعريف العقل شرعاً:
والعقل شرعًا: هو الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعمل بها، قال الإمام أحمد: "العقل غريزةٌ". [مجموع الفتاوى: 9/287].
مكانة العقل عند الفلاسفة
ومن الذين غلوا في العقل: الفلاسفة، وقد حصل خلطٌ كبيرٌ عندهم بين فهمهم للرَّب والرُّبوبية، وفهمهم للعقل فيُسمُّون الرَّب عقلاً والعقل ربًا، ثم تطور هذا الفكر الخرافي حتى وصل إلى الفيسلوف أفلوطين، الذي طوَّر نظريةَ الفيض الإلهي، وصار في نظريته العقول العشرة، أي: الأفلاك وعقولها، وأنَّها هي التي تُدبِّر العالم، وأنَّ الله تعالى أوكل لها توضيب العالم وتدبيره، تعالى الله عن قولهم، يُدبِّر الأمر لا شريك له، ليس لهم شركٌ في ملكه، وليس له منهم ظهيرٌ، ولا تُقبل الشفاعة عنده إلا من أذن له، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هؤلاء" يعني: الفلاسفة "يزعمون أن العقل الأول أبدع ما دونه من العقول والأفلاك، إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو مبدع ما تحت فلك القمر، وهذا كُلُّه من أعظم الكفر عند الرُّسل وأتباعهم من أهل الملل". [ الجواب الصحيح: 5/26]. الجواب الصحيح.
إذًا الفلاسفة يقولون: العقل الأول هذا المهيمن على العالم أوجد عشرة عقول، أدنى واحدٍ فيها هو يتحكَّم بالقمر فما دونه، فهو الذي يتحكَّم في العالم، الفلاسفة أعداء الرُّسل وليس عندهم من الوحي نصيبٌ، فيخطر في بالهم شيءٌ فيقولونه ويعتقدونه ويروِّجونه، ويظنُّون أنَّ هذا هو الحقُّ، وهذا الفرق بين من كان ينطلق من الوحي وبين من ينطلق من عقلٍ مجرَّدٍ، وهذا المفهوم موجودٌ عند الحركات الفلسفية الباطنية المعاصرة.
فرويد ونظرية العقل الباطن
ومن الملاحظات أن فرويد صاحب النَّظرية هذه له كلامٌ في هذا الموضوع، فرويد الذي ذهبَ إلى مسألة وجود العقل الباطن، وله فيها كلامٌ طويلٌ، ونحن نعرف أنَّ هذا الرَّجل من الملاحدة، وكلامه يدور على أنَّ هناك عقلٌ واحدٌ يدرك الأشياء من خلال الحواس الخمس، ويرتبط بالواقع الخارجي ويقوم بالإدراك والتَّفويض والرَّبط والتَّقرير، وأنَّ العقل الباطن: مجموعةُ عناصر فاعلة تتكَّون منها الشَّخصية الإنسانية، وهذا له علاقة بالتَّنفس وتنظيم دقات القلب ونشاط الدَّورة الدَّموية والمشاعر إلى آخره، وأنَّ كل ما ترصده أجهزة الإنسان تتحوَّل إلى نتائجه تلقائيًا وإشاراته إلى العقل الباطن، ويسمُّونه العقل الخلَّاق، وهؤلاء لا يؤمنون بوجود الله، فيقولون: إنَّ العقل الباطن له قوةٌ خارقةٌ تُدبِّر كُلَّ شيءٍ، ففكرة العقل الباطن أوجدتها الفلسفة الإغريقية وثبَّتها اليهودي سيجمند فرويد الذي كان يسعى إلى نشر أفكاره الإلحادية لتحطيم العقائد والدِّيانات، وهو مؤسس فكرة التَّحميد النَّفسي، ومجدد التَّنويم المغناطسي، الذي كان في أوساط صوفية اليهود المعروفين بالقفالة، وزعم هؤلاء أنَّ العقل الباطن يتحكَّم في سائر الأعضاء ونشاطات الجسم والسَّعادة والتَّعاسة والغنى والفقر ونحو ذلك، ونحن نعلم بأنَّ الله خلق نفسَ الإنسان فيها إسرافٌ ولا شكَّ، وأنَّ الإنسان له قدراتٌ كثيرةٌ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4].
وأنَّ عقل الإنسان يحفظ ويُحلِّل ويستنتج ويستنبط، وعنده ربطٌ، ولكن ليس لدرجة أنَّه يعلم الغيب أو أنَّه يخلق أو أنَّه يتحكَّم في الخارج كما يريد مثلاً، هذا كُلُّه يقول به فرويد، إذًا ليست المسألة: أنَّ الإنسان عنده قدراتٌ، فنحن نعلم أنَّ عنده قدرات بالتأكيد، وليس عندنا إشكالٌ بأنَّ للإنسان مشاعر وعواطف وخيال يتخيَّل به إلى آخره، ولسنا ننكر أنَّ الإنسان عنده ذكرياتٌ وأنَّه يُخزِّن هذه الذِّكريات، ولا نُنكِر أنَّ الإنسان عنده طاقةُ تذَكُّر، وأنَّ بعض الأشياء قديمةٌ جداً تُتذكَّر في أوقاتٍ وأحوالٍ معينة، بل نجد بعضهم يفقد الذَّاكرة أو يصاب بالزَّهايمر فيتذكَّر ويتكلَّم ويتحدَّث عن أشياء قديمةٍ كانت قد ترسَّخت في عقله، ونحن نعرف من كلام علمائنا أنَّ العلم في الصِّغر كالنَّقش في الحجر، لكن أن يكون هذا العقل الباطن إلهًا، وأن يكون متَّصفاً بالعقل الكلِّي الذي يقول عنه الفلاسفة: أنَّه يُدبِّر الكون، وأن يكون هذا العقل الباطن يمكن أن يستمدَّ من العقل الكلِّي الغيبَ وأن يتحكَّم بالواقع فيخلقُ لا، وهذا من الفروق بين أهل التَّوحيد وأهل الكفر، فأهل التَّوحيد لا ينكرون أنَّ الإنسان يتذكَّر ويحفظ ويُحلِّل ويستنبط ويربط، وأنَّ الإنسان له خياله وعواطف ومشاعر، وأنَّه يُخزِّن المعلومات ويستدعيها ويتذكرها، وأنَّ النَّاس يتفاوتون في الذَّاكرة والحافظة، ومنهم من يحفظ من أوَّل مرَّةٍ يقرأ أو يسمع، ومنهم من يحفظ من ثاني مرَّةٍ وثالث مرَّةٍ، وأنَّ أكثرهم لا يحفظون إلا إذا كرَّروا كثيرًا نحو عشرين وأكثر، فكلَّما كرَّرت حفظت ورسخ أكثر، كل هذا لا ينكرنه، لكن أن نأتي بنظرية العقل الباطن ذات الجذور الوثنية المستنهبة من عقيدة تحضير الأرواح، التي أعاد فرويد صياغتها آخذًا لها من السَّحر الأسود وخزعبلات فلاسفة الإغريق، الذين أوهموا النَّاس بأنَّ للكواكب والأفلاك عقولاً ونفوسًا، وأنَّها تملك سلطة القرار في السَّماء، وتتحكَّم في عقول البشر ومصير أهل الأرض، وأنَّ العقل الباطن يرتبط بها يمكن أن يستمدَّ منها ويأخذ عنها، فهذه مصيبةٌ.
علاقة البرمجة اللغوية العصبية بالعقل الباطن
نحن الآن لا نتحدث عن علاقة البرمجة اللغوية العصبية بهذا الموضوع؛ لأنَّ المسألة هنا تطول، لكن في جزء من البرمجة اللغوية العصبية تبث في موضوع العقل الباطن، حيث صوَّر فرويد شخصية الإنسان على أساس أنَّ اللاشعور أو العقل الباطن هو الإنسان الحقيقي، وأنَّ العقل الواعي المرتبط بالبصر والسَّمع واللمس يعني بالحواس، فهذا إنسانٌ مزوَّر لا يمتُّ إلى الحقيقة بصلَةٍ، وأنَّه إنسانٌ مخلوقٌ على إنسان حقيقيٍ.
فأنت قد تستغرب من هذا الكلام، يعني: لمَّا يقول لك شخصٌ إنَّ العقل الظَّاهر المرتبط بالحواس هذا هو الإنسان المزوَّر مفروض فرضًا على الإنسان الحقيقي، والإنسانُ الحقيقي هو العقل الباطن، وأنَّ هذا الفرض من الخارج، ونتيجة لهذا الفرض توجد الموانع والكوابت التي يفرضها المجتمع والقوى الخارجية من الدِّين والأخلاق والتَّقاليد -هذا كلام فرويد- فإذًا العقل الباطن هو ركائز الفلسفة الكفرية الإغريقية، ويقول أحد سدنة البرمجة اللغوية أنطوني ربونز في كتابه قدرات غير محدودة، وجوزيف ميرفي الذي يمكن أن نقول عنه أنَّه من أذكياء الباطن: تستطيع هذه القوَّة المعجزة الفاعلة للعقل الباطن أن تشفيك من المرض، وتعطيك الحيويَّة والقوَّة من جديدٍ.
إذًا لاحظوا: بأنَّ قضية العقل الباطن بدأت تجد عند هؤلاء من التَّأليه، وأنَّ العقل الباطن ربٌّ يخلق ويشفي ويرزق، ولذلك عندهم مسألة التَّكرار: أريدُ أن أكون ثريًا أريد أن أكون ثريًا، أو أنا ثريٌّ أنا ثريٌّ، أنا غنيٌّ أنا غنيٌّ وهكذا، ويعتقدون أن هناك علاقةٌ بين التَّكرار والعقل الباطن، لمخاطبة العقل البطن المرتبط بالعقل الكلي الذي يخلق ويرزق ويعطي، فأنت إذا خاطبت العقل الباطن بهذه التَّكرارات، أو بالتَّركيز، أو بأن تنام وأنت تحلم فالعقل الباطن سيشتغل ويجيب لك ما تريد، ففكرة الاستغناء عن الله لا نشكُّ بأنَّ الذين أتوا بهذه الأفكار، وعنها أُخذت وعليها بُنيت كثيرُ من الدَّورات وتطوير الذَّات، والتَّنمية البشرية، فيها أفكارٌ إلحاديَّة، أو أفكارُ فلاسفة ملاحدة، يعتقدون أنَّ هناك شيءٌ اسمه الوعي الكلِّي أو العقل الكلِّي أو الطاو أو القوَّة العظمى.
هناك عبارةٌ للتَّرويج في إحدى الدَّورات مكتوب: حتى ترى في داخلك عقلك وجسمك يتغيَّر دائمًا، وحتى تتَّحد بالعقل الكلِّي فيما به تتدفَّق قدراتك الريكي، الذي هو الطَّاقة، كما قلنا عبر الشَّكرات والجسم الأثيري، وتأخذ من الكون المرتبط بالعقل الكلِّي أو الطَّاو أو الوجود الكلِّي، الذي هو بديلٌ عن الله عندهم.
المقصود بالعقل الباطن
فالمقصود بالعقل الباطن، أو ما يُسمَّى باللاوعي أو اللاشعور، أحيانًا يقولون: مثل النَّفس والقلب والإرادة والذَّاكرة جزءٌ من العقل، وفرويد يقول: لا، العقل الظَّاهر شيءٌ والعقل الباطن شيءٌ آخر، العقل الظَّاهر يتبع الحواس العامَّة، ومن أطلق العقل الباطن وأراد به النَّفس أو القلب أو الذَّاكرة يمكن أن لا نختلف معه، هذه قضية من قضايا الإصلاحات، وليس القضية أنَّه إلهٌ، فإذا قال قائلٌ: أنَّه يقصد بالعقل الباطن الذَّاكرة، مثلاً إذا كرَّرت أشياءً ستُخزن في العقل الباطن، نقول: لا مانع، لو قال قائلٌ مثلاً: إذا رأيت حادثًا شنيعًا، أو أصابتك صدمةٌ عاطفيةٌ قويةٌ نتيجةَ موتِ قريبٍ، مفاجأةٌ ضخمةٌ ستُخزن في العقل الباطن، ويكون لها أحيانًا عُقُدٌ نفسيَّةٌ تُنشأ فزعاً في الليل، نقول: ليس عندنا مشكلةٌ أبداً في هذا الكلام، يقولون في علم النَّفس: أنَّ النَّفس لها أغوارٌ، وهذه أشياءٌ مشاهدةٌ ومعروفةٌ، ليس عن هذا نتكلَّم، ولا نختلف في هذا الشَّأن، إذ المشكلة قضيةٌ تأليهُ العقل الباطن، ربط العقل بالباطن بالكلِّي الذي هو البديل عن الله، وادِّعاء صفات الرُّبوبية للعقل الباطن: من الخلق والرِّزق والإيجاد والنَّفع والضُّرِّ ونحو ذلك، فليس عندنا إشكالٌ، إذا قال: بأنَّ العقل الباطن يربط بين الأشياء، ويخزِّن الذَّكريات، ويحفظ وترتبط رائحة عطرٍ معينٍ في مكانٍ معينٍ، أو الواحد مثلاً يحبُّ رائحةً معينةً؛ لأنَّها ارتبطت عنده بذكرى جميلةٍ في مكانٍ معينٍ، أو يكره رائحةً معينةً أو لوناً معيناً، أو منظراً معيناً لعقدةٍ نفسيةٍ تكوَّنت فيه من ارتباط هذا اللون أو هذه الرَّائحة أو هذا المنظر بحادثٍ مثلاً، أو ألمٌ حصل له في الماضي، فليس هذا هو موضوع كلامنا ونقاشنا ما دام التَّطبيقات العملية التي يتحدثون عنها بهذا الشأن لا تخالفه في الشَّرح، فنحن نقبل ذلك ما دامت التَّجربة أشهد بهذا الصَّحة والقبول ولا نخالفه، ولكن أن يتَّجه تعريف العقل الباطن إلى المفهوم الفلسفي، بحيث يصير وسيلةً للتَّواصل مع الوعي الكوني، الذي يتضمَّن العلم بالماضي والحاضر والمستقبل، ومن خلال هذا التَّواصل بين العقل الباطن وبين العقل الكلِّي يمكن للإنسان أن يحصل المعالم الخفيَّة والعلوم الغيبيَّة من المصدر مباشرةً، ونريد أن نُسجِّل ملاحظةً في ارتباط بعض انحرافات الصُّوفية في هذه النُّقطة، والمعنى المشترك الموجود بين الفلاسفة الإغريق ومنحرفي الصُّوفية والذين عندهم هذا الانحراف مشتركٌ مع فرويد من الملاحدة الجدد وأصحاب الأطروحات الحديثة، مثل: دورات العقل الباطن، القوى الخارقة للعقل الباطن، أو الجزء المتعلِّق بهذه البرمجة اللغوية العصبية؛ لأنَّنا لا نقول بأنَّ البرمجة اللغوية العصبية كُلُّها باطلةٌ، أو كُلُّها شِركٌ أو كفر، لكن توجد أجزاء من بعض الأطروحات والنَّظريات والدَّورات خطيرةٌ ومرتبطةٌ بأمور كفرية، فابن عربي قرَّر مفهوم انعكاس العلوم الغيبيَّة، ومنها علم اللوح المحفوظ على النَّفس الباطنة، إذا تجرَّدت من عوارض البشرية، يعني: أنَّك إذا تجردت من شهوة الطَّعام أو شهوة اللِّباس أو شهوة النِّكاح، فإذا تجرَّدتَ من الشَّهوات فالعقل الباطن يتبعك يرتبط باللوح المحفوظ، وممكن أن ترتقي إلى درجةِ أن تقرأ منه مباشرةً، أو يفيض عليك من المعالم الغيبيَّة، فهذا كفرٌ في الرُّبوبية بلا شكٍّ، فلا يعلم الغيب إلا الله، من الذي يطَّلع على اللَّوح المحفوظ؟ الله ، حتى الملائكة لا يعرفون من الغيب إلَّا ما عرَّفهم الله، ففي ليلة القدر يُنقَل إلى صحفهم ما في اللوح المحفوظ من أرزاقٍ وأمراضٍ ووفياتٍ وشفاءاتٍ وولاداتٍ، مقادير تلك السَّنة تُلقى في صحف الملائكة، فترى الملائكةُ الشَّخصَ في الأرض يمشي وعندهم مكتوبٌ أنَّه من الأموات في هذه السَّنة، لكن ما بعد هذه السَّنة لا يعرفون شيئًا إلَّا ما عرَّفهم الله، فحتى عند الملائكة عن المستقلبات محدودٌ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 26-28].
إذًا الملائكة لهم حدٌّ محدودٌ في ليلة القدر تُنقل إلى صحفهم أشياءٌ معينةٌ، لكن أنَّهم يطلعون على الغيب كُلِّه كلَّا هذا من اختصاص الله تعالى.
ثُمَّ يأتي ابن عربي وغيره من ملاحدة الصُّوفية، ويقولون: أنَّ النَّفس إذا تجرَّدت من الشَّهوات اتصلت باللَّوح المحفوظ، واطَّلعت على عالم الغيبيات، جماعة العقل الباطن الذين يُألِّهونه ويُقدِّسونه، يقولون: العقل الباطن يتصل بالعقل الكلِّي الذي يفيض على العالم، فيطَّلع على عالم الغيب، ويقول أصحاب الدَّورات عبر مجموعة من الخطوات والممارسات هذه من النِّطاق العملية، يعني إذا قلت: ماذا أضافت الدَّورات هذه؟ يمكن أنَّها أضافت بعض الأشياء في قضية الخطوات والممارسات، باعتبارها على أن بعض الصُّوفية عندهم خطواتٌ وممارساتٌ، فيقول: أولُ شيءٍ يا بُنيَّ إذا أردت أن تصل إلى الله وتتَّصل مباشرة وتأخذ عنه مباشرةً لا بُدّ يعطيه أشياء معينة، مثلاً: سبع حباتِ عدسٍ يومياً، وتقول مثلاً: الله الله ألفَ مرةٍ، وأحيانًا يقولون له صلواتٌ وأذكارٌ، إذًا هناك خطواتٌ -حتى عند الصُّوفية- للاطلاع على اللوح المحفوظ، أو الوصول إلى الرُّتبة التي يتم فيها الاتصال المباشر، وكأنَّ هناك أناسٌ غاروا من الوحي إذ كيف يكون إلى الرُّسل فقط فنحن عندنا إجراءات نصل بها إلى الله مباشرةً، ونتعدَّى الرُّسل، ولذلك عند بعض الصُّوفية قضية: أنَّ مقامَ الوليِّ في برزخٍ فويق الرَّسول ودون النَّبي.
من انحرافات أصحاب نظرية العقل الباطن: تأليه العقل
على أيَّة حال: هذا من الانحراف العظيم، ويقول أصحاب العقل الباطن: أن هذا الاتصال يتيح للإنسان علمًا غير محدود ومعرفةً مطلقةً، وهذا النَّبي ﷺ أفضل البشر وأعلم النَّاس بالله وأتقاهم له، لا يعلم إلَّا ما علَّمه الله عن طريق الوحي، وجاءت في حديث الاستخارة الذين علَّمنا إيَّاه نبيُّنا ﷺ: اللَّهمَّ إنَّي أستخيرك بعلمك إلى قوله: فإنَّك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علَّام الغيوب [رواه البخاري: 1109].
أما هذا العقل الباطن فلا يحتاجونه في الاستخارة؛ لأنَّ العقل الباطن يعلم الغيب، فصار بعضهم يستخير العقل الباطن، انظر انحرافات التي دخلت على بعضهم نتيجة بعض الدَّورات المتقدمة في موضوع العقل الباطن، فيزعمون أنَّهم لا يحتاجون للإستخارة فبالعقل الباطن يصل إلى العقل الكلِّي ويعلم الغيب، فمثلاً: هل هذه المرأة مناسبةٌ لي أتزوجها أو لا؟ وهل هذه السَّيارة فيها خيرٌ أم لا أشتريها؟
فيتوصلون إلى ذلك بهذا العقل الباطن ويتركون الاستخارة، انظر هذه الكفريات والانحرافات التي أين تؤدِّي؟ تسقط عندهم الأذكار وما في ذلك من استغناء عن الله، يقول بعض هؤلاء الذين يُؤلِّهون العقل الباطن: النَّوم يُقدِّم لك المشورة، فقبل أن تنام تأكد أنَّ الذَّكاء المطلق من عقلك الباطن سيوجهك ويرشدك، ثُمَّ انتظر التَّوجيه الذي قد يأتيك في اليقظة، مستقبلك مرسوم في عقلك الآن وفقًا لتفكيرك المعتاد ومعتقداتك، سلِّم طلبك لإيجاد الحلِّ لأي مشكلةٍ إلى عقلك الباطن، لاحظ: عندك أيُّ طلبٍ: كأن تريد أن تتزوج، أو تنجح، أو تريد أن تكون ثرياً، أو تريد أن تشفى من مرض، أو تريد ولداً: سلِّم طلبك لإيجاد الحلِّ لأيِّ مشكلةٍ إلى عقلك الباطن قبل أن تنام، ثِق بعقلك الباطن وآمن به، هذه هي البرمجة اللغوية العصبية في بعض الفقرات.
يعني: نحن نستفيد من الموحدين ثِق بالله تعالى وآمن به، فهم يزيلون مسألة الاعتماد على الله ويركنون إلى العقل الباطن، فالمشكلة هي في دورات تنمية وتطوير الذَّات كما يسمونها، فأنت إذا تعمقت ودريت ما عند القوم من أهوال الذين يقولون: ثق في عقلك الباطن وآمن به وسوف تأتيك الإجابة الشَّافية فعقلك الباطن يعرف كُلَّ شيءٍ فلا تشكَّ في قدرته، انتهى. تقول ليلى كايزن هذه التي تنطق بالكفر وتنكر القضاء والقدر، كما عرفنا سابقًا تقول في حسابها على توتير: إذا كنتِ محتارةً بين شيئين كيف يساعدك علم الطَّاقة اسألي عقلك الباطن قبل النَّوم ونامي، فستقومين وقد بان الأمر، إذًا بدلاً من اللجوء إلى الله يلجئون إلى العقل الباطن، لقد أضفى أصحاب الدَّورات –بكل أنواعها لاسيما البرمجة اللغوية العصبية، وجذب الطَّاقة وما شابهها- على العقل الباطن قدراتٍ خارقةٍ تجعله إلهًا مع الله، تعالى الله عن قولهم فقد جعل العقل الباطن كائنًا مستقلاً يخاطبونه وينادونه ويتوكلون عليه، ويثقون به ويدعونه ويسألونه ويسترشدونه ويستقلونه على طريقة الفلاسفة الذين ألَّهوا العقل، بخلاف ما جاء به الشَّرع من احترام العقل وجعله تابعاً للوحي، وأنَّ العقل لا يستغني عن الوحي، وإذا استغنى عن الوحي انحرف، وأنَّ العقل لا يستقلُّ بنفسه ولا يقدر العقل أن يتوصلَّ إلى علمٍ بلا وحي، فمثلاً: لا يقدر أن يتوصَّل إلى عدد ركعات الصَّلوات بدون وحي، ولا يقدر أن يتوصَّل إلى أنصبة المواريث من غير وحيٍ، العقل له دورٌ عظيمٌ في الإسلام، ولكن لا يستقلُّ ولا ينفرد ولا يستغني عن الوحي، ولا يجوز له أن يستغني عن الوحي أصلاً، لكن وظيفته أن يعقل الوحي وأن يفهمه، وأن يستنبط العلماء من الوحي هذه القواعد، والقياس الدَّالة على إعمال العلماء لعقولهم في الاستنباط والاجتهاد ومعرفة الأحكام.
جوزيف ميرفي وكتابه: قوة عقلك الباطن
إذا قلت أننا عرفنا نبيَّتهم في موضوع قانون الجذب روندا بايرن صاحبة كتاب السِّر، فمن هو نبيُّهم في العقل الباطن حديثًا؟ نبيُّهم هذا من أبرز من كَتَبَ وألَّف في هذا الموضوع: جوزيف ميرفي صاحب كتاب قوة عقلك الباطن، وهو من أشهر الكتب في هذا الموضوع وهي اليوم من أكثر الكتب مبيعًا في العالم، وإذا رأيت عبارة من أكثر الكتب مبيعًا في العالم قد تكون كذب وعبارة ترويجيَّة! يعني: من الكذب في المبيعات وقد تكون صحيحةً، لكن أكثر كتاب مبيعًا في العالم وما يدلُّ على أن ما فيه حقٌّ أبداً؛ لأنَّه قد يُروِّج للكفر والشِّرك والخرافة والبدعة، فماذا يعني أكثر مبيعًا في العالم؟ قد تُباع كُتُبٌ شركيَّة وتُروَّج كتب الكفر وهي من أكثر الكتب مبيعًا في العالم، ومشكلة بعض شباب الإسلام سيعتمدون على الكتاب لأنَّه الكتاب أكثر مبيعًا أو من الكتب الأكثر مبيعًا في العالم، يقول جوزيف ميرفي: إنَّ القوَّة المعجزة الفاعلة لعقلك الباطن موجودة قبل مولدك ومولدي، وقبل وجود أي دار عبادة في العالم، وتاريخ الحقائق الأبدية عظيمة، ومبادئ الحياة يسبق جميع الأديان، لاحظ يقول: مصدرنا العقل الباطن يسبق جميع الأديان، قوة العقل الباطن ص107. ومصادرهم كما عرفنا الثَّقافات الشَّرقية والوثنية والفلسفات الإغريقية التي ألَّهت العقل: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40].
من انحرافات تطبيقات العقل الباطن: ادِّعاء علم الغيب
من انحرافات تطبيقات العقل الباطن محاولتهم معرفة الغيب عن طريق استنطاق العقل الباطن، فيقولون إنَّ الماضي موجود في ذاكرتنا، باستطاعتنا من خلال تغيير التَّركيز أن نعود إلى أيِّ فترةٍ زمنيةٍ نريدها، والمستقبل يُعدُّ متاحًا عبر إدراك الحسِّ، ومفتوح أمامنا عبر تغيير التَّركيز، يعني: الآن ممكن نسترجع الماضي، يقولون التَّركيز وتغيير الترَّكيز ورفع الترَّكيز وتنزيل التَّركيز، في النَّهاية أن تعرف المستقبل، هذا من اختصاص الله تعالى. علم الغيب في قوة العقل الباطن: 188.
يقول جوزيف ميرفي: إنَّ الأحداث الماضية والغد مطبوعةٌ في عقلك الباطن، فالآن ممكن أن تتذكر أحداث الماضي، نقول: وإن كان من رحمة الله النَّسيان؛ لأنَّنا لو نتذكَّر كُلَّ مصيبةٍ مرت بنا كأنَّها حصلت الآن فسنموت قهراً وكمداً، لكن من رحمة الله أنَّه يُنسينا وإلَّا ما تحمَّلنا أن نتذكَّر كُلَّ المصائب، لكن دعونا في قضية انطباع الماضي كُلُّه واسترجاعه بالتَّركيز، مع أنَّه يوجد أشياء أحيانًا قد تحاول أن تركِّز وتسترجعها لكن لا يطلع شيءٌ، افرض أن شخصاً عمره خمسون سنةً، كم يستطيع أن يتذكره جماعة العقل الباطن من هذه السَّنوات؟ يقولون كُلُّه مسجلٌ، ما عليك إلَّا أن تقوم بالتَّركيز فترجع، والمستقبل كيف يكون ذلك؟
يقول إنَّ عقلك الباطن هو مخزنُ الذَّاكرة، ولكي تتمتَّع بذاكرةٍ قويةٍ ردِّد ذلك بحسب هذه العبارة، إنَّ الذَّكاء المطلق في عقلك الباطن يكشف كُلَّ شيءٍ تحتاج معرفته في كل مكان وفي كل ميقات، فمثلاً: أنا أحفظ أذكار الصَّباح والمساء، وهناك ذِكرٌ واحد للصباح والمساء لا أحفظه، فلأنَّهم يريدونني أحفظ هذا الذِّكر فلازم أُردِّده مراتٍ، انظر هذه العبارة الصعبة: إنَّ الذَّكاء المطلق في عقلي الباطن يكشف لي كُلَّ شيءٍ أحتاج معرفته في كل مكانٍ وفي كُلِّ الأوقات، فهذه العبارة التي تريد حفظها لازم ترددها موقنًا بها، فتصل إلى أنَّك تعرف كُلَّ شيءٍ في الماضي، وكُلَّ شيءٍ سيحصل في المستقبل، فعندهم أذكار مثل ما عندنا أذكار الصَّباح والمساء وأذكار بعد الصَّلاة وأذكار قبل النَّوم، وكما أنَّ عندنا يقيناً بالله وثقةً به وتوكُّلاً عليه، فهم عندهم ثقةٌ بالعقل الباطن والتَّوكُّل عليه، ولازم نؤمن به بحزمٍ وجزمٍ وعندهم أذكارٌ لازم تقولها وتخاطب العقل الباطن وتدعوه وتسترشده، يقول جوزيف ميرفي عن نفسه: فقدت مرةً خاتمًا قيمًا كنت قد ورثته عن أجدادي، فبحثت عنه في كُلِّ مكانٍ ولم أجده، وقد شعرت بقلقٍ تلك الليلة ففزعت إلى عقلي الباطن، وقلت له قبل أن ألْتجأ إلى النَّوم أنت تعرف كُلَّ شيءٍ فأنت تعرف أين الخاتم، وأنت الآن ستكشف لي مكانه، انظر المترجم حتى يعطيك المسحة الإسلامية أضاف كلمتين لما رأى أن القضية كبيرة، وجعل كلمة بإذن الله، لماذا؟ لأنَّه هو المترجم، ولذلك ممكن يكون المترجم أحيانًا خبيثاً جداً؛ لأنَّ هذا باطلٌ مكشوفٌ، وما تنطلي هذه الكبيرة، فحتى يروج الباطل على المسلمين يأتي بالعبارة الكفرية ثم يجعل لها طلاءً فجعل: إن شاء الله، بإذن الله، أو ألصق آيةً أو حديثاً، انظر الى ما فعل المترجم، يقول ميرفي كلام كفرٍ: في تلك الليلة تحدثت إلى عقلي الباطن، وقلت له قبل أن أتَّجه إلى النَّوم أنت تعرف كُلَّ شيءٍ وأنت تعرف أين الختام أنت الآن ستكشف لي مكانه بإذن الله، ونحن نعرف أنَّ ميرفي لن يقول: وبإذن الله، فهذه العبارة هذه تسويغ لتمرير كلام ميرفي الكافر إلى أذهان الشَّباب والشَّابات، فهذه لازم ما تنطلي علينا يا أخوان، ولو أتى شخصٌ بخنزيرٍ فقال باسم الله وذبحه، فهل صار حلالاً؟ يقول: وفي الصَّباح استيقظت فجأةً على عبارة تتردَّد في أذني استجاب العقل الباطن، هو دعا العقل الباطن والعقل الباطن يستجيب من دعاه فقام من النَّوم وهناك عبارة تتردَّد في أذني اسأل روبرت، فمن هو روبرت؟ هو ابن الجيران، سألته فقال لقد وجدته البارحة بين الأشجار حين كنت ألعب، سبحان الله! قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس: 20].
من انحرافات تطبيقات العقل الباطن
الاعتقاد بأنَّ العقل الباطن يخلق الواقع الخارجي
ومن انحرافات الاعتقاد في العقل الباطن بمفهومه الفلسفي: الاعتقاد بأنَّ العقل الباطن يخلق الواقع الخارجي، ويشكِّل الأحداث ويدبِّر الأمر ويتحكَّم في القدر، فمن قوانين العقل الباطن عندهم ما يسمى بقانون المراسلات، ويعني بذلك: أنَّ العالم الدَّاخلي: هو الذي يؤثِّر على العالم الخارجي، ومنه قانون التَّوقُّع، ومظنونه إنَّ أيَّ شيءٍ تتوقَّعه وتضع معه شعورك وأحاسيسك سوف يحدث في عالمك الخارجي، إذاً هو يتلاقى مع قانون الجذب الذي سبق عرضه، فهؤلاء يقولون: إنَّ يقينيات العقل الباطن تتجلَّى بالمحسوس، حتى يكون هو مصدر تحقيق كُلِّ الرَّغبات بلا استثناء، وأنت ما عليك إلَّا أن تزوِّد العقل الباطن بالرَّسائل الإيجابية، أنا أُريد أنا أريد أنا أثق ما أؤمن به، وهذا مفهومٌ متأصِّلٌ في الفلسفة الشَّرقيَّة الكفريَّة، وعندهم هو قضية العقل الكلِّي والوجود الكلِّي والعقل التَّام، فإذًا عند أصحاب العقل الباطن الثَّروة والصِّحة الثَّراء، والصِّحة والسَّعادة والزَّواج والذُّرية والنَّجاح والشِّفاء توجدها قناعاتُ العقل الباطن، يقول جوزيف ميرفي: الأشخاص الذين يتَّسمون بالفراسة والتَّبصُّر ينصبُّ تركيزهم على العالم الدَّاخلي، وهم يدركون أنَّ العالم الدَّاخلي يخلق العالم الخارجي، يعني: أنت عند تركيزك تخلق بتكرارك توجد باتصالك بإرسال الرسائل تُدبِّر الأمر في الكون، ماذا قال الله؟ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116].
ماذا قال الله؟ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]. ماذا قال الله لمشركي العرب؟ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس: 31].
فمشركو العرب أفقه من أصحاب العقل الباطن وقانون الجذب؛ لأنَّ مشركي العرب إذا قيل لهم من يدبِّر الأمر؟ سيقولون الله، وأصحاب العقل الباطن وقانون الجذب ونحوه، إذا قلت لهم: من يدبِّر الأمر؟ سيقولون العقل الباطن وقانون الجذب، فيزعمون أنَّ العقل الباطن يغيِّر الأقدر.
غلاة الصُّوفية وادِّعاؤهم التَّغيير في اللوح المحفوظ
ويشبهون هنا غلاة الصُّوفية كما قلنا، الذين يزعمون ليس فقط الوصول إلى اللوح المحفوظ والإطِّلاع عليه، يقولون عندهم قدرةٌ على تغيير ما في اللوح المحفوظ، ويدَّعون كذبًا أنَّ عبد القادر الجيلاني غيَّر وبدَّل لرجلٍ في اللوح المحفوظ، وأخرج سفينةً غرقت قبل اثنتي عشر سنة، وذكرنا سابقًا: أنَّ واحدًا من المتصوِّفة يريد أن يسافر فلازم يذهب يستشير شيخه قبل السَّفر، هذه قاعدة عند الصُّوفية، أيُّ قرارٍ حاسم لازم تستشير الشَّيخ وتسأله، وليس مجرَّد استشارةٍ، بل لازم تأخذ إذنَ زواجٍ أو سفرٍ أو قرارٍ تجاريٍ كبيرٍ أو تعيين في منصبٍ أو تختار التَّخصص للدِّراسة إلى آخره، كما أنَّه في الحلقة لازم يتوجَّهوا إلى الشَّيخ وليس للقبلة، توجد تشابُهاتٌ واضحةٌ، فالصُّوفية يأخذون من الفلاسفة ومن الهنادكة ومن البوذية، فستجد تقاطعاتٍ بين الفلاسفة والهنادكة والبوذية والصُّوفية، وبعض عقائد الباطنية والنَّظريات الجديدة: قانون الجذب، العقل الباطن، العلاج بالطَّاقة، الطَّاو الريكي كُلُّها يوجد بينها تقاطعات، فهؤلاء غلاة الصُّوفية يقولون: إذا تريد أمنيتك أن تتحقَّق: فالخطوة الأولى: تستحضر صورة الشَّيخ، الخطوة الثَّانية: تستحضر الأمنية التي تريدها، الخطوة الثَّالثة: تنظر أمامك، وهناك خطواتٌ أخرى وتمتمات وأشياء، بعدها تتحقَّق الأمنية وذلك نفس قضية العقل الباطن، قصة ذلك الصُّوفي الذي أراد السَّفر فذهب إلى الشَّيخ، قال له: أريد أن أسافر، قال له الشَّيخ: لا تسافر، قال لماذا يا شيخ؟
هذا السَّفر ضروريٌ، ومصلحتي متوقِّفة عليه، قال له: إذا سافرت سيخرج عليك قُطَّاعُ طُرقٍ ويقتلونك ويأخذون مالك، فالرجل حزِنَ وانكسر، قال له: أنا مصالحي كُلُّها في السَّفر هذا، قال له الشَّيخ: أذهب إلى الشَّيخ فلان، فجعلوا هنا اسم عبد القادر الجيلاني، فعبد القادر الجيلاني من مشايخ أهل السُّنَّة ليس له شيءٌ أبداً بهذه الكُفريَّات، فذهب إليه، قال له: أنا مضطَّر أن أسافر فذهب إلى شيخي فقال لي: لا تسافر، وإذا سافرت فسيخرج عليك قُطَّاع طُرقٍ، قال له: هل أنت مضطر للسَّفر؟ قال: نعم، قال: سافر، فسافر ورجع وما أصابه شيءٌ، وذهب إلى شيخه الأول، قال له: أنا سافرت حمدًا لله على السَّلامة، وما صار لي شيءٌ، وأنت قلت لي: إذا سافرت سيخرج عليَّ؟ قال له: أنا قلت لك لأنَّه حدِي أطَّلع على اللوح المحفوظ فقط، ولا أقدر أُغيِّر فيه، فأرسلتك على شيخٍ يقدر يغيِّر.
التَّوافق بين أصحاب نظرية العقل الباطن والفِرَق المنحرفة
فأنت تحزن أنَّ هذه دعوة التَّوحيد وهذا القرآن وهذه السُّنَّة، وبالأخير أناسٌ ينتسبون إلى الإسلام يؤمنون بهذه الكفريات بالشَّريعة، فإذًا أصحاب العقل الباطن يشبهون غلاة الصُّوفية الذين يثبتون قضية التَّغيير في اللوح المحفوظ، والتَّدخل في مجريات الأحداث في الكون، ومنع وقوع الحدث الفلاني ووقع الحدث الفلاني، فأصحاب العقل الباطن يتَّفقون مع غلاة القدرية الذين يقولون: أنَّ العقل يخلق فعله بنفسه، فالقدرية مجوس هذه الأمَّة، ومن انحرافات زعمهم القدرة المطلقة والقوة الخارقة للعقل الباطن من خلال تمارين خاصَّة باستثارة العقل الباطن، حيث يمكن التَّحكم في كُلِّ شيءٍ وفعل أيِّ شيءٍ، ويقولون: فكرة المعزِّز إحساسه يصبح إيمانه راسخًا بداخله، ووفقاً لاعتقاده تتحقَّق أهدافه، أنَّ قوة الخيال المدعوم تستحثُّ قوى العقل الباطن القادرة على صنع المعجزات، يقول جوزيف ميرفي: هذا عقلك الباطن لديه حلٌّ لجميع المشاكل، وينصح بترديد عبارة إنِّي أمتلك القدرة على فعل كُلِّ شيءٍ من خلال قوة عقلي الباطن، وفي بعض الدَّورات يُطلَب من المتدرِّبين ترديد هذه العبارة، يردِّد كلمةً تهدم توحيدَه وتهدم عقيدته وتهدم إسلامه، إذا كان الله على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وهو خالقُ كُلِّ شيءٍ فهذه العقيدة انهارت بفعل هذه الدَّورات، وهذه الأذكار وهذه الأشياء التي يُطلَب منهم الإيمان بها وترديدها، من الذي له القدرة على فعل كُلِّ شيءٍ؟ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ال عمران: 189]. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 17].
وهؤلاء يقولون: إنَّ عقلك الباطن مصدرُ القوَّة والحكمة التي تضعك في نطاق الكفاءة المطلقة، إنَّها القوَّة التي تجعل العالم يدور، وترشد الكواكب في مداراتها، وتجعل الشَّمس تشرق، ماذا أبقيتم لله؟ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا[الفرقان: 54]. وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا[الكهف: 45]. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[المائدة:40]. من الذي يفعل ما يريد؟ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16].
لا يعجزه شيءٌ، لا معقب لحكمه، لا راد لأمره، لا يستعصي عليه شيءٌ، لا يخرج شيءٌ عن ربوبيَّته قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ال عمران: 26]. قال الله: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [ال عمران: 154].
وأمَّا نحن البشر ماذا نقول في دعاء الاستخارة؟ فإنَّك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب [رواه البخاري1109].
من أساسيا الإيمان: أنَّك تتبرأ من حولك وقوتك، وتعترف بعجزك أمام ربِّك، ولا تقول أنا على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، هذا طائفةٌ من الموضوع وسنواصل الكلام في معرض الدِّين النَّصيحة الواجبة؛ لأنَّها في هذا الزَّمان واجب، وهذه دوراتُ الكفر تُعرض، فوالله إذا لم ننتبه النَّاس فسنخسر العقيدة والتَّوحيد التي هي رأس المال، نسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ونسأله أن يحسن خاتمتنا.