الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

54- ضوابط البدعة، والانحرافات في أبواب البدعة والتبديع 6


عناصر المادة
المقدمة
مظاهر الانحراف في التبديع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

المقدمة

00:00:09

فقد تقدم في الدرس الماضي ذكر أمثلة من البدع الحديثة، وانتشارها في هذه الوسائل الحديثة، وذكر وجه مخالفتها للشرع ودخولها في مسمى البدعة، ثم بدأنا في بيان بعض الانحرافات في أبواب البدع والتبديع.
وذكرنا أن الناس في موقفهم من البدعة والتبديع كما هي العادة في سائر الأمور طرفان ووسط:
فمنهم من انحرف إلى جانب الإفراط والغلو، فبدع ما ليس ببدعة، وبدع من لا يستحق التبديع، أو غالا في التبديع.
ومنهم من انحرف إلى جانب التفريط والجفاء، فضيق مفهوم البدعة، وأباح ما هو بدعة، وجعله سنة، وأخرج منها ما هو فيها، حتى كاد بعضهم لا يدخل في البدعة إلا البدع الأمهات الكبار كالاعتزال، والإرجاء، والقدرية، والجهمية، والخوارج.
والوسط هو التزام أصول منهج السلف الصالح في هذا الباب، فنحن لا نوسع مفهوم البدعة حتى يشمل ما ليس ببدعة، ولا نضيق مفهوم البدعة حتى نخرج ما هو بدعة فنجعله مباحًا أو سنة.
ثم ذكرنا أن من مظاهر الانحراف في أبواب البدعة والتبديع في جانب الغلو والإفراط التساهل والتسرع في التبديع، وبيان خطورة ذلك، وأنه قد كثر في هذا الزمان التساهل في رمي الناس بالبدع، فأسهل شيء على البعض قوله إذا أخطأ أحد، أو خالفه، أو خالف من يعظمه هذا الشخص، إذا كان يعظم إنسانًا فجاء شخص وخالف هذا الإنسان بدعه، لماذا يخالف شيخه أو المعظم عنده، فيقول: هذا المبتدع ضال مضل.

وذكرنا أن من مظاهر الانحراف في هذا الباب أيضاً التسلسل في التبديع، فمن لم يبدع فلانًا فهو مبتدع، ومن لم يبدع من بدعوه فهو مبتدع، وهكذا.

مظاهر الانحراف في التبديع

00:02:25

ثالثًا: ومن ضمن أيضاً الانحرافات في التبديع امتحان الناس لمعرفة مواقفهم من فلان أو فلان: ثم بناء التبديع على ذلك،  فمن البدع المنكرة ما حدث في هذا الزمان من الامتحان بالأشخاص، سواء كان الباعث على الامتحان الجفاء في شخص يمتحن به، أو كان الباعث عليه الإطراء لشخص آخر، وإذا كان نتيجة الامتحان الموافقة لمن أراده الممتحن ظفر بالترحيب، والمدح والثناء، وإذا سقط في هذا الامتحان فحظه التجريح، والتبديع، والهجر، والتحذير، ومن المعاصرين الذين كتبوا بمنهجية جميلة في هذا الباب الشيخان: عبد المحسن بن عباد العباد البدر، والشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وغيرهم.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص، أو بإهداره وإسقاطه، ونحو ذلك، نظر فيه، فإن كان قد فعل ذنبا شرعيًا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنبًا شرعيًا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم"، هناك عداوات شخصية، فهل إذا كان بين الشيخ فلان وشخص آخر عداوة شخصية بدعنا أي واحد يسأل هذا الآخر، أو يجلس إليه، أو يذهب إليه لأجل العداوة الشخصية.
قال شيخ الإسلام: "وإن لم يكن أذنب ذنبًا شرعيًا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره، وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس" -لاحظ كلام دقيق وجميل، وفيه معالجة لكثير من الانحرافات الواقعة- يقول: "وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس، ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة: 2].

وليس لأحد منهم" -يعني: هؤلاء المعلمين- "أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده"، إما أن تتبعني في كل ما أقول، وتسلم لي في كل ما أقول، وإلا الطرد، أو يحكم عليه أنه مبتدع، لماذا ما وافق الشيخ فلان في كل ما يقوله، من الذي جعل الشيخ فلان أو علان معصومًا وكل ما يقوله صحيح؟ ليس إلا النبي ﷺ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لأحد منهم أن يأخذ على أخذ عهدًا بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان وأمثاله، الذين يجعلون من وافقهم صديقًا واليًا، ومن خالفهم عدوًا باغيًا" مجموع الفتاوى [28/16].
يوجد من يجعل معيار قبول الشخص موالاة الشيخ فلان، ومعيار تبديع ومعاداة الشخص مخالفة الشيخ فلان، أنت خالفت كلام الشيخ فلان أنت مبتدع، أنت ضال، اهجروه بدعوه، هذا ضلال مبين، لأن معنى ذلك تقديس الشيخ فلان هذا، وأن كل ما يقوله حق، وهو المعيار، ومن كان معنا فهو صديقنا، ومن خالفنا فهو عدونا، هذا مبدأ بعض الطغاة المعاصرين من طغاة الغرب، هذا منطق بعض المعاصرين من طغاة الغرب، ابن تيمية يقول: "هذا منطق جنكيز خان؛ لأنه في عصره كان جنكيز خان عنده هذا المبدأ، تشابهت قلوبهم، وبعض المنحرفين المعاصرين عن منهج السلف عندهم هذا المبدأ من لم يكن معنا فهو ضدنا، من أنتم؟ من هو الشخص إذا لم يكن معه فهو عدو؟ أبو بكر وعمر، الناس يخطئون ويصيبون.

انظر الانحراف حكر الحق في شخصية معينة، لا يوجد شخصية معينة الحق محتكر فيها إلا محمد ﷺ.
نعم الحق في منهج السلف محتكر بمجموع الأشخاص، الصحابة التابعون من تبعهم، ومن تبع من تبع من تبعهم، هذا المنهج، أما في شخصية معينة فلا.
نأتي في العصر الحاضر نقول من لم يكن معه فهو ضده، ونحن أعداء من ليس معه، وحصر الحق فيه هذا انحراف واضح جداً، وقد مشى على هذا طائفة من الناس.
يقول الشيخ عبد المحسن العباد: "لا يجوز أن يمتحن أي طالب علم غيره بأن يكون له موقف من فلان المردود عليه، أو الراد، فإن وافق سلم، وإن لم يوافق بدع وهجر، وليس لأحد أن ينسب إلى أهل السنة مثل هذه الفوضى في التبديع والهجر، وليس لأحد أيضاً أن يصف من لا يسلك هذا المسلك الفوضوي بأنه مميع لمنهج السلف" انتهى[رفقا أهل السنة بأهل السنة: 22].
رابعًا: من الانحرافات في موضوع التبديع جعل البدع كلها مرتبة واحدة في الإثم: وأشد من ذلك من جعل البدع كلها مكفرة، ولم يفرق بينها، فنحن نقول ما قاله ﷺ: كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، الحديث معروف [أبو داود: 4609، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 2735]، لكن هذا لا يعني أن البدع كلها متساوية، فيؤدي إلى النار الكبيرة والبدعة والكفر، لكن شيء يخلِد وشيء لا يخلِد، وشيء يطول عذاب صاحبه، وشيء لا يطول، فالبدع ليست متساوية في الضلالة، ولا في الإفساد، والتسوية بين البدع مخالفة لمنهج السلف، فهناك بدع عملية، وبدع اعتقادية، وبدع مكفرة، وبدع غير مكفرة، ويتفاوت أهل البدع بتفاوت بدعهم، ومدى قربهم أو بعدهم من الحق، وبالتالي ينبغي أن تتفاوت المواقف منهم، وأن تتفاوت معاملتهم بحسب بدعتهم، أنت تبدع البدع المكفرة مثل البدع غير المكفرة تعاملهم سواء هذا ظلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض" [مجموعة الرسائل والمسائل: 3/16].
وقال أيضاً: "ومما ينبغي أيضاً أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات:
منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة.
ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة" انتهى كلامه [مجموع الفتاوى: 3/348].
وأيضا المبتدعة أنفسهم منهم من لهم أعمال صالحة جليلة، ومنهم من ليس كذلك، يعني: صاحب السيئات إذا كان له حسنات كثيرة ما يختلف الموقف منه من صاحب السيئات الذي لا يكاد يوجد له حسنات.
انظر الفقهاء من السلف وممن تبعهم تفاوتت مواقفهم، انظر موقف الإمام أحمد من المعتصم لما فتح عمورية، المعتصم كان على منهج المعتزلة استمالوه استحوذوا عليه، كما استحوذوا على المأمون قبله، لكن الإمام أحمد موقفه من المعتصم لما فتح عمورية بتلك المرأة التي قالت: وامعتصماه، ليس مثل الشخص الذي ماله حسنات مغرق في البدعة، ولا له مواقف في النصرة الإسلام والمسلمين، انظر إلى موقف آل قدامة الحنابلة كيف قاتلوا مع صلاح الدين وفي جيشه ساروا، وفي جيش صلاح الدين من الأشاعرة وغيرهم؛ لأن في عملية نبيلة جليلة فتح بيت المقدس، ولذلك التسوية والتعميم أن الموقف واحد كلهم مبتدعة، نعم كلهم مبتدعة، لكن هناك مبتدعة لهم حسنات جليلة، بدعته في جانب معين في الأسماء والصفات، لكن في جوانب أخرى تلغيها، تعمم عليه كله، وتقول: هم سواء، والذين ابتدعوا في كل المجالات سواء، هذا ظلم، وقد جعل بعضهم البدع كلها مرتبة واحدة في الإثم، بل وبدع من لم يقل بذلك.

فقال هذا المنحرف في هذا الباب: الإثم قدر مشترك بين البدع كلها، فلا يجوز أن نحكم على بدعة بأنها أقل إثمًا من غيرها، -كلام خاطئ- والتفريق في الوصف قائم على الرأي المحض، وهو بدعة في نفسه، يعني: الآن يقول لك إذا فرقت بين البدع بالوزن هذا بدعة، شف إلى أي درجة يصل الانحراف بالتبديع، وعموم سحب الحكم، ومن غير تفريق، ومن عير عدل، وبجور وظلم، نحن لا نقلل من شأن البدعة، ولا نقول هذه بدعة بسيطة في الأسماء والصفات، لا هي ليست بدعة بسيطة، هذا اعتداء على أسماء الله الحسنى، هذا شيء عظيم، لكن في فرق بين من قامت عليه الحجة، وبين من لم تقم عليه الحجة، من سلك هذا المسلك عن اجتهاد خاطئ، ومن سلك هذا المسلك تقليدًا للمنحرفين، أو سلكه وهو يعلم أنه انحراف، وأقيمت عليه الحجة، هناك فرق لا يستوون.
عدم التفريق بين رؤساء البدعة وبين الأتباع:
يجب أن نفرق بين رؤساء البدعة وبين الأتباع، الأتباع أحيانًا همج رعاع، عوام هوام يتبعون، نفرق بين رؤوس المبتدعة الذين يزينون، وقد اطلعوا على ردود أهل السنة عليهم، وبين هؤلاء الصغار الأتباع الذين ما قرأوا، ولا يعرفون، ولا عندهم وعي، ويحسبون مشايخهم على شيء، يجب أن نفرق.

فإذًا من البدع ما هو مخرج عن الملة، ومنها ما هو أشد من الكبائر، ومنها ما هو بمنزلة الكبائر، ومنها ما هو مثل الصغائر، ولكن كلها ضلال، بلا شك، لكن هل تستوي بدعة الباطنية مع بدعة الموالد، مثلاً: بدع الرافضة، والإسماعلية، والدروز، والنصيرية، تستوي مع بدعة تتعلق بالأذكار، هل تستوي بدعة الجهمية مع بدعة من نذر أن يصوم في الشمس قائمًا ولا يتكلم، وحتى علماء السلف فرقوا بين رواية المبتدع الداعي إلى بدعته، وبين المبتدع غير الداعي لبدعته، معناه أنهما ليسوا سواء.
وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء من جهلهم وعدوانهم أنه لما سئل هل البدعة كفر أو دون الكفر؟
فقال: البدعة كلها كفر، أليس هناك بدع كفرية، وبدعة من الفسق والمعصية وليست كفرًا، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[الصافات: 154]، فلا يستوون عند الله.
سادسًا: من الانحراف في هذا الباب اعتقاد ومعاملة من وقع في بدعة على أنه مبتدع: ولا يلزم ذلك، ممكن يقع في بدعة واحدة لكن ما يوصف أنه مبتدع، يوافق مسلكًا بدعيًا في مسألة فقط، لا يقال: إنه واحد منهم؛ لأنه وافقهم في مسألة، افرض أن مذهب هذه الطريقة البدعية مثلًا مائة مسألة فجاء  واحد وافقهم في مسألة واحدة فهل يحكم عليه أنه منهم؟ ويدخل فيهم؟

لا، وقد يكون مجتهدًا مخطئًا وافق بدعة في جانب معين، فترى هؤلاء الغلاة المنحرفين عن منهج السلف في التبديع يبدعونه، ويخرجونه عن السنة، ويجعلونه من الفرق النارية، وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الغلاة الجفاة إلى أن يبدعوا الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام النووي، وغيرهم، ويقولون: ابن حجر مبتدع، النووي مبتدع،  وبعضهم قال: هؤلاء ليسوا من الفرقة الناجية، ليسوا على ما كان عليه محمد ﷺ وأصحابه، قل: ليسوا عليه في جميع المسائل، لكن ليسوا عليه البتة، نخرجهم عن ملة رسول الله ﷺ، وطريقة رسول الله ﷺ إخراجًا تامًا، وهم الذين فقهوا سنته، وجمعوا حديثه، وخدموا السنة هذه الخدمة العظيمة الجليلة، ذبوا عنها الكذب، وشرحوها، بينوا معانيها، قربوها للناس، صنفوا الكتب فيها، كيف يقال عنهم بعد ذلك هؤلاء في النار، هؤلاء من الفرق السبعين التي في النار، جور وظلم في الحكم، والمشكلة أن الذي يتكلم بهذا الكلام ما يساوي نعال ابن حجر، ولا ظفر النووي، من هو في العلم أصلا؟ ما هو مستواه العلمي؟
ونحن عندما نسير على منهج السلف إذا أخطأ ابن حجر، وخالف منهج السلف في مسألة، نقول: أخطأ ولا نجامل، وإذا خالف النووي منهج السلف في مسألة مثلاً في الأسماء والصفات، نقول أخطأ النووي -رحمه الله-، ونبين خطأه، ولا نجامل مهما كانت الشخصية هذه علو كعبها في العلم، لكن هذا ليس معناه أن هذا من الفرق النارية، ونخرجه عن أهل السنة إخراجًا تامًا، ثم هؤلاء الكبار الظن بهم أنهم لو وافقوا منهجًا مبتدعًا في جزئية، أو في بعض الجزئيات، في بعض المسائل، هل الظن بهم أنهم معاندون للحق متعمدون للانحراف، أو أنهم مجتهدون مخطئون، وأن الله قد يغفر لهم خطأهم؟ أليس العالم إذا اجتهد وأصاب وله أجران: وإذا اجتهد وأخطأ له أجر، ابن حجر عالم، النووي عالم أخطأ في بعض المسائل في الأسماء والصفات، نحن ما نجامل، سنقول: هذا خطأ، هذا تأويل باطل، هذا مردود لا نقبله، خلاف الحق، حتى ولو جاء من فلان وفلان، لكن كل حسناته هذه الأخرى مردودة مرفوضة باطلة، الرجل ليس من أهل السنة مبتدع، من الفرق النارية هذا ظلم، نذود عنهم، وندافع عنهم، ونبجلهم، ولكن كل هذا لا يحملنا على أن نجامل، ونقول عن خطأ أدى إليه اجتهاده، نقول: هذا صواب، نقول، هذا خطأ، هذا باطل، هذا العدل.

فانظر إلى هؤلاء المنحرفين الذين بلغت بهم السفاهة أن قالوا بوجوب إحراق فتح الباري لابن حجر، وشرح صحيح مسلم للنووي، وقال: اجعلوها حطبًا في الشتاء، شرح سنة رسول الله ﷺ تجعل حطبًا للشتاء، لأن فيها بعض الأخطاء عجبًا، ويجب أن نعلم أن منهج السلف منهج عدل، ومنهج إنصاف، لكنه منهج جاد ما فيه مجاملات، ومن الإنصاف بيان خطأ المخطئ من أهل العلم والفضل، والترحم عليه، ونتلمس له العذر.
قال الذهبي -رحمه الله-: "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه" [سير أعلام النبلاء: 14/376].
وقال أيضاً: ولو أن كل ما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده" -هؤلاء من الكبار- "ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفضاضة" [سير أعلام النبلاء: 14/40].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع" -يعني: من هؤلاء العلماء الذين أخطؤوا- "دخل في قوله: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[البقرة:286]، وفي الصحيح أن الله قد قال: قد فعلت [مجموع الفتاوى: 19/191].
هذا هو إنصاف منهج السلف، وهذا هو العدل.
سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء ما هو موقفنا من العلماء الذين أولوا في الصفات مثل ابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم؟ هل نعتبرهم من أئمة أهل السنة والجماعة؟ أم ماذا؟ وهل نقول إنهم أخطؤوا في تأويلاتهم؟ أم كانوا ضالين في ذلك؟
فأجابت اللجنة موقفنا من أبي بكر الباقلاني، والبيهقي، وابن حجر، وأمثالهم -هؤلاء وقعت منهم بعض الأخطاء في الأسماء والصفات- قالت اللجنة: وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله -تعالى- أو فوضوا في أصل معناها، -يعني: لم يثبتوا حقيقة المعنى، فوضوا- أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة،  وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي ﷺ بالخير، وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات، وخالفوا فيه سلف الأمة، وأئمة السنة -رحمهم الله-، سواء تؤلوا الصفات الذاتية مثل اليد والوجه والقدم، وصفات الأفعال مثل الضحك وان الله يعجب ونحو ذلك، أم بعض ذلك، وبالله التوفيق. عبد العزيز بن باز، عبد الرزاق عفيفي، عبد الله بن قعود. [فتاوى اللجنة الدائمة: 3/240].
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- بالنسبة للعلماء الذين وقعوا في بعض الأخطاء في العقيدة كالأسماء والصفات وغيرها، تمر علينا أسماءهم في الجامعة حال الدراسة فما حكم الترحم عليهم؟
الشيخ سأل السائل قال: مثل من؟
قال: مثل الزمخشري والزركشي وغيرهما.
قال الشيخ: الزركشي في ماذا؟ يعني: أخطاؤه في أي جانب؟
قال السائل في باب الأسماء والصفات.
فأجاب الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: على كل حال هناك أناس ينتسبون لطائفة معينة شعارها البدعة كالمعتزلة مثلاً، ومنهم الزمخشري، فالزمخشري معتزلي ويصف المثبتين للصفات بأنهم حشوية مجسمة، ويضللهم فهو معتزلي، ولهذا يجب على من طالع كتابه الكشاف في تفسير القرآن، أن يحترز من كلامه في باب الصفات"، يقول الشيخ: لكنه من حيث البلاغة -انظر العدل عند علماء السلفيين- قال: "لكنه في باب البلاغة من حيث البلاغة، والدلالات البلاغية اللغوية جيد، ينتفع بكتابه كثيرًا، إلا أنه خطر على الإنسان الذي لا يعرف في باب الأسماء والصفات شيئًا"، فإذًا الذي يعرف منهج السلف في الأسماء والصفات ممكن يقرأ كتاب الكشاف، والذي لا يعرف ما عنده خلفية ما عنده قاعدة في هذا الباب ما ضبط منهج السلف في الأسماء والصفات، ممكن يقرأ في هذا التفسير وتنطلي عليه أشياء، ما قال الشيخ: اتخذوه حطبًا في الشتاء، قال: الذي عنده علم بالأسماء والصفات يستفيد منه في باب البلاغة والبيان.
قال الشيخ: لكن هناك علماء مشهود لهم بالخير لا ينتسبون إلى طائفة معينة من أهل البدع، لكن في كلامهم شيء من كلام أهل البدع، مثل ابن حجر العسقلاني والنووي -رحمهما الله-، فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًا مطلقًا من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول يجب أن يحرق فتح الباري لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح"، يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: فهذان الرجلان بالذات، ما أعلم اليوم أن أحدًا قدم للإسلام في باب أحاديث الرسول ﷺ مثلما قدماه، ويدلك أن الله بحوله وقوته -ولا أتألى على الله- قد قبلها، ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس لدى طلبة العلم بل حتى عند العامة، فالآن كتاب رياض الصاحين يقرأ في كل مجلس، ويقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعًا عظيمًا، وأتمنى أن يجعل الله لي كتابًا مثل هذا الكتاب كل ينتفع به في بيته، وفي مسجده، فكيف يقال عن هذين إنهما مبتدعان ضالان، لا يجوز الترحم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما، ويجب إحراق فتح الباري، وشرح صحيح مسلم، سبحان الله!
يقول الشيخ ابن عثيمين: فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال وبلسان المقال:

أقلوا عليهم لا أب لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

[زهر الآداب وثمار الألباب: 2/362].
من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدم هذان الرجلان إلا أن يشاء الله، فأنا أقول: غفر الله للنووي ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين، وأمنوا على ذلك. [لقاء الباب المفتوح للشيخ ابن عثيمين: 3/79].
نحن ننقل من كلام المعاصرين لأن بعض الانحرافات هذه التي ذكرتها انحرافات معاصرة عن منهج السلف، ذكرنا أشياء في باب التكفير، وها نحن نذكر الآن في باب التبديع.
سئل الشيخ صالح الفوزان: لقد ظهر بين طلاب العلم اختلاف في تعريف المبتدع، فقال بعضهم: هو من قال أو فعل البدعة ولم تقع عليه الحجة، ومنهم من قال: لا بدّ من إقامة الحجة عليه، ومنهم من فرق بين العالم المجتهد وغيره من الذين أصلوا أصولهم المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وظهر من بعض هذه الأقوال تبديع ابن حجر والنووي، وعدم الترحم عليهم.
فأجاب الشيخ صالح:
هذه ملاحظة مهمة:
"أولاً: لا ينبغي للطلبة المبتدئين، وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق"، صغار الشباب هؤلاء الذين يظنون أنفسهم محامين عن منهج السلف، وعندهم جهل وغلو وإفراط، ويريد أن يتكلم في ابن حجر والنووي، ماهو مستواك؟ من الذي نصبك في علماء أكبر منك، وأغير منك على الدين، وأحرص منك على القيام بأمر الله؟ سبحان الله! مجموعة غوغاء لا يصلح أن تقول: نصف طالب علم، ومن أسوأ صفاتهم قلة الأدب، إذا كان طلاب الإمام أحمد -رحمهم الله- يجلسون عنده ليتعلموا منه الأدب قبل العلم، هؤلاء لا علم ولا أدب، ولذلك التطاول عندهم سهل، يأتي لشيخ في الحرم يضربه بالنعال، يقول: سود الله وجهك يوم تسود الوجوه، لا يوجد أدب ولا تربية.

مثل هؤلاء الغلاة في التكفير، من الذي يتولى التكفير؟ صغار، وينصب نفسه قاض، ويحكم بالردة، ويستبيح الدم، ويستحل المال، المسائل خطيرة كبيرة ينتصب لها أغرار سفهاء، لا أدب ولا علم، ولا فقه، ولا حكمة، ولا يعرف موازنة المصالح والمفاسد أساسًا ويريد يشتغل بالتكفير والتبديع، والحكم باستحلال الدم والمال، وهذه مصيبتنا، هذه الآن من مصائب الأمة، الأمة الآن متخلفة، وتسلط عليها الأعداء، التشبه بالكفار، والاشتغال بالدنيا، وأشياء كثيرة من أسباب تخلف الأمة، وهذا واحد منها، يعني: هذا واحد من الابتلاءات.
قال الشيخ صالح -نفع الله به-: أولاً: لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق"، من هو هذا الذي يحكم أن فلان مبتدع، وفلان كافر، وفلان مرتد، وفلان فاسق، وفلان حلال الدم والمال؟ ما هو هذا، اخرجوا أنتم -يا أيها الأصاغر- اخرجوا من هذا المربع مالكم فيه نصيب، أولاً: أذهبوا تربوا تعلموا،  ليس هذا شغلكم أنتم يا أيها الأصاغر الأراذل.
قال الشيخ: "لا ينبغي للطلبة المبتدئين، وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق؛ لأن ذلك أمر خطير، وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضاً هذا يحدث العداوة والبغضاء بينهم، فالواجب عليهم الاشتغال بطلب العلم، وكفى ألسنتهم عما لا فائدة فيه لهم، قال: بل فيه مضرة عليهم، وعلى غيرهم".

"ثانيًا: البدعة: ما أحدث في الدين مما ليس منه"، وإذا فعل الشيء المخالف جاهلاً"، -يعني: خالف مذهب السلف في مسألة أو أكثر- "فإنه يعذر بجهله، ولا يحكم عليه بأنه مبتدع، لكن عمله يعتبر بدعة" نحن ما نجامل، لكن ما يوصف هذا أنه مبتدع، أولاً: لأنه ليس صاحب منهج كامل في البدعة.
ثانيًا: أنه فعل ما فعل مجتهدًا، ولم تقمت عليه الحجة فعاند، قال: "وإذا فعل الشيء المخالف جهلاً فإنه يعذر بجهله، ولا يحكم عليه بأنه مبتدع، لكن ما عمله يعتبر بدعة.
ثالثًا: من كان عنده أخطاء اجتهادية تأول فيها كابن حجر والنووي، وما قد يقع منهما من تأويل بعض الصفات لا يحكم عليه بأنه مبتدع، ولكن يقال: هذا الذي حصل منهما خطأ، ويرجا لهما المغفرة، لما قدماه من خدمة عظيمة لسنة رسول الله ﷺ، فهما إمامان جليلان موثوقان عند أهل العلم" فتاوى الشيخ صالح الفوزان [3/ 135].
الأخذ من مشايخ الدعوة السلفية في هذا الزمان مهم؛ لأن الانحرافات الآن في هذا الزمان، فنحن نأخذ ممن تقدم القواعد، والكلام، والعلم، وممن تأخر من رؤوس أهل العلم الموجودين الآن الذين يعالجون الانحرافات، ويطلعون عليها ويسألون عنها؛ ولذلك نهتم بكلامهم.
قال الشيخ الألباني: "مثل النووي وابن حجر العسقلاني وأمثالهم من الظلم أن يقال عنهم أنهم من أهل البدع".

سابعًا: من الانحرافات التناقض في التبديع، والتبديع بالهوى: فإذا وقع من بعض هؤلاء المبدعة في هذا الزمان، هم أنفسهم وقعت منهم أخطاء في بعض مسائل الإيمان، وشابهوا فيها المرجئة، وقع من بعضهم أخطاء في بعض مسائل الإيمان  وافقوا فيها مذهب المرجئة، وهم يلتمسون العذر لكافر وطاغية، ولا يلتمسون العذر لعالم من العلماء، أو داعية من الدعاة، أو طالب علم من الطلبة، ولذلك عندهم تناقضات، واضطرابات ويبدعون بالهوى، وليس على ميزان ثابت، أو ضوابط، لا بالهوى، وإذا وقع من بعضهم بدعة ترى الآخرين يعذرونه، ويلتمسون له، ويدافعون عنه بالحق والباطل، وأن له جهود في نصرة السنة، وأين كلامكم في أولئك  العلماء، وما لهم من جهود في نصر السنة، أو أن من تحبون أو من تبجلون إذا أخطأ قام سوق المعاذير، وأولئك من هم أعلم منه لا تلتمسون لهم الأعذار، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[الصافات: 154] وهذا من الظلم والتناقض، والله تعالى يقول: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة: 8]، وقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[الأنعام: 152]، وقال تعالى: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا[النساء: 135].
ثامنًا: من الانحرافات في التبديع عدم التفريق بين العادات والعبادات: والحكم على بعض العادات والأعراف أنها بدعة، وهي ليس لها علاقة بالبدعة، وسبق أن قلنا: الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يدل دليل على المشروعية، والأصل في العادات والأعراف الإباحة حتى يدل دليل على التحريم أو البطلان.

انظر هذا النقل عن بعضهم من منحرفة العصر قال: بعد البحث والتقصي ظهر لي أن لبس الطاقية طوال الوقت من غير عمامة بدعة شأنه في ذلك شأن بقية البدع كالمولد وغيره، وأن ذلك في الأساس صنيع اليهود المتدينين الذين يحرصون على لبسها، وبالتالي ينبغي علينا تجنب هذا الفعل إلا أن تلبس العمامة من فوقها، وهناك حديث صحيح مفاده أن الفرق يبننا وبين المشركين هو لبس الطاقية تحت العمامة، والغريب في الأمر أيضاً أن وشاح الرأس الذي يسمى شماغ  يشبه الشال الذي يلبسه اليهود حين يصلون، -فإذًا الطاقية وحدها بدعة، والشماغ تشبه باليهود- يقول: فأين نحن من كل النصوص والأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ التي يحذر فيها من مشابه اليهود، إنني أتساءل كيف اقتحمت هذه العادة اليهودية حياتنا.
العمامة كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، والنبي ﷺ مضى على عادات قومه فيما لم ينه عنه.

قالت اللجنة: لبس العمامة من المباحات، وليس بسنة، والأولى أن تبقى على ما يلبسه أهل بلدك على رؤوسهم من الغترة والشماغ ونحوه" [فتاوى اللجنة الدائمة:24/43]، الخطاب موجه لواحد في هذا البلد أما عن لباس الطاقية والغترة والشماغ أو المعروف في هذا الزمان، فكيف يقال: هذا مشابهة لليهود، كتب المعاجم، والآداب، والتاريخ، والفقه، والحديث، والتراث العربي مليئة بذكر الطاقة كلباس معروف عند العرب من زمان، بل ذكر أشكال الطاقية والطواق، وذكروا مسائل فقهية مترتبة عليها.
على سبيل المثال قال ابن قدامة: "ولا يجوز المسح على القلنسوة الطاقية نص عليه أحمد" [المغني: 1/340].

فإذَا لها أحكام ما قالوا: لا يجوز لبسها، قالوا: ما يجوز تمسح عليها.
قال ابن القيم -رحمه الله- إن المحرم ممنوع من تغطية رأسه، والمراتب فيه ثلاثة: ممنوع منه بالاتفاق، وجائز بالاتفاق، ومختلف فيه، فالأول الذي هو الممنوع بالاتفاق كل متصل، ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة، والقبعة، والطاقية، والخوذة، وغيرها. [زاد المعاد: 2/225].
لو كانت حرامًا ما ذكروها، الآن يتكلم على محظورات الإحرام، مثل العلماء لما يتكلموا على لبس المرأة للقفازين، قالوا: أن النبي ﷺ نهى المحرمة عن لبس القفازين، ولو كانت حرامًا أو بدعة كان نهى عنهما في الإحرام وفي غير الإحرام، فكونه منعها في الإحرام يعني أنه جائز في غير الإحرام، النقاب لا تنتقب، النقاب للحاجة فتحة ضيقة لترى الطريق، لا الواسع ولا الذي تحتها زينة، فإذًا هذا من الانحرافات في التبديع جعل ما ليس ببدعة بدعة، الخلط بين العادات والعبادات، العادات المباحة يصيرونها بدعًا، بدع بعضهم استعمال مكبر الصوت في المساجد بحجة أنه لم يكن في عصر النبي ﷺ، عصر النبي عليه الصلاة والسلام ما كان هناك كهرباء أصلاً، ليس فقط مكبرات صوت، المكبر هذا واحد من الأجهزة الكهربائية، فاستعمال مكبرات الصوت هو وسيلة لتبليغ الأذن، ليس هو ذاته المكبر عبادة، المكبر وسيلة لتبليغ الأذان، الأذان هو العبادة، فكيف يكون بدعة في الدين، وحصل أن بعض العوام أنكروا على بعض المشايخ في أول دخول الأجهزة هذه أنكروها عليهم، قالوا: هذه بدعة، ومن ذلك ما سمعته بنفسي من بعض أبناء الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-، ومن أكثر من طريق عن الشيخ أن مكبر الصوت لما جاء إلى البلد، أدخله الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- في الجامع الكبير بعنيزة، لما رأى فيه من تحقيق مقصد الشرع في تبليغ الأذان، ولماذا يحتار المؤذن صيتًا حسن الصوت، ويؤذن على ظهر المسجد ليبلغ الصوت إلى الناس لتذكيرهم بالصلاة، فإذًا كل ما يبلغ الصوت يحقق مقصد الشارع، فحدثني الراوي قال: إن بعض العوام في مسجد الشيخ لما رأوا مكبر الصوت غضبوا، وتركوا الصلاة عند الشيخ، وأحدهم من كبار السن، يقول قابله الشيخ مرة فحياه، وقال: ما بالك يا فلان لا تعد تصلي معنا، فذاك كان صريحًا، قال: والله يا شيخ غيرتم، وبدلتم، وأدخلتم مكبر الصوت، هذا الجهاز صنعه الكفار، وهذه بدعة، وما كانت على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول لي الراوي: وكان في جيب الشيخ عبد الرحمن ورقة مكتوب فيه بخط صغير، وكان هذا المعترض يلبس نظارة، فقال الشيخ لهذا المعترض: يا أبا فلان أرني هذه النظارة التي عليك، فخلعها وأعطاها للشيخ، فقال الشيخ: أخرج الوقة من جيبه، وقال لهذا المعترض: من فضلك اقرأ لي هذه الورقة، يقول: فأخذها حاول يقرأ ما استطاع، قال: البس النظارة الآن، فلبسها، ثم قال: اقرأ لي هذه، فقرأها، فقال له الشيخ: إن المكبر يوصل الصوت للبعيد، والذي يسمعه ضعيف، كما أن النظارة تقرب لك هذا الخط وتعوض النقص الذي عندك في النظر، مثلما بلغتك قراءة الحروف هذا المكبر يبلغك الصوت، يقول: فاقتنع الرجل، وارتاح، وعادل للصلاة، وراء الشيخ، لأن العامي تعرض له الشبهة، ويظن أن مكبر الصوت بدعة.

وقد سئل الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله- عن إنكار بعض الناس الميكرفون، أو مكبر الصوت في المسجد واعتباره من البدع؟
فكان من جوابه: "لا يخفى أنه لا يقصد بالمكيرفون واستعماله قربة ولا زيادة ثواب عن غيره، وإنما المقصود به كما لا يخفى تكبير الصوت حتى يسمعه من لا يسمع صوت الخطيب لاتساع المسجد ونحوه، هذا في المكبرات الداخلية، فمثله مثل النظارة في تكبير الحرف، وتقريبه إذ القارئ لا يقصد بقراءته القرآن وهو يقرأه بالنظارة زيادة القربة والثواب، وإنما يهدف إلى التمكن من القراءة بوضوح، فكذلك الميكرفون، بل قد يكون استعمال الميكرفون قربة من القرب، إذا احتيج إلى ذلك، إذ إنه وسيلة إلى تبليغ الخطبة لجميع المصلين، وكذلك إبلاغ صوت المؤذن، وقد يقال: إنه من العادات التي لا يقصد بفعلها التعبد، وإنما هو من الأمور العادية، ولو سمع ما يقال عن العوائد بأنها بدع محدثة لاعتبر جميع ما لم يكن في عهد رسول الله ﷺ، وعهد أصحابه من المآكل، والمشارب، والملابس، والمراكب، وكافة أنواع وسائل الحياة مما استحدث بعد تلك العهود من البدع والمنكرات، والقول بذلك في غاية السقوط  والبطلان، والجهل التام بأصول الدين ومقاصده، وكلام رسول الله ﷺ في معنى البدعة واضح جلي، ولا يخفى على أولي البصائر والأفهام أن القصد بالإحداث المردود، يعني: من أحدث في أمرنا ما كان في الدين كالزيادة فيه، أو التزام طريقة لم يلتزم بها رسول الله ﷺ من مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- [2/97].
تاسعًا: من مظاهر الغلو الإفراط في التبديع، التبديع بلازم القول والمآل: يعني التبديع بما يؤول إليه القول، أو التبديع بلازم القول، فيقولون مثلاً من نقل نقلاً من كتاب صاحب بدعة فهو مبتدع، ولو كان المنقول في نفسه صحيحًا، عجيب! مثلاً كتاب الزمخشري من المعتزلة، وعندهم بدع في الأسماء والصفات، لو نقل كلامًا للزمخشري في البلاغة، ماله علاقة بالبدعة، ما له علاقة ببدعة المعتزلة إطلاقًا يعتبر الناقل مبتدعًا، قلنا سابقًا: الكافر لو قال الكافر كلامًا فيه حكمة هل يعتبر من نقل عن هذا الكافر الحكمة والصواب أنه كافر مثله؟ لأنه نقل كلام من كافر يصير كافر.

هذا طبيب مهندس فلكي يدرس سلوكيات الأطفال، يدرس سلوكيات البهائم والحيوانات، ويقول: من المفيد استعمال كذا مع الدجاج، ومع الغنم، لأنه كافر من نقل عن كافر يصير كافر، فيقولون: من  كتاب صاحب بدعة فهو مبتدع.
إذا كان الذي نقله ما له علاقة بالبدعة، المبتدعة بعضهم خذ ابن سينا عقيدته كفرية، ابن سينا ممن ينكرون المعاد، ويقولون لايوجد جنة حقيقة ولا  نار حقيقة، والنبوة مكتسبة بالرياضات، وما هي اصطفاء من الله ابن سينا، كلامه كفري لكن عنده كلام مفيد في الطب، في علاج الأمراض الجسدية، فإذا واحد نقل من ابن سينا كلامًا يكون كافرًا في الطب نقل منه كلامًا كذلك، هؤلاء يقولون من نقل نقلاً من كتاب صاحب بدعة فهو مبتدع، لأن هذا النقل يلزم منه أنه راض عن صاحب البدعة، وأنه موافق له في كل كلامه، شف هذا التلزيم يلزم من ذلك، ما يلزم لا عقلاً ولا شرعًا، لا يلزم لكن هؤلاء ابتلينا بهم غلاة، بالمناسبة قد روى البخاري وأبو داود وغيرهما عن عمران بن حطان، عمران بن حطان من رؤوس الخوارج لكن كان الرجل صادقًا، فهو روى أشياء، وما كذب فيها ولا علاقة لها ببدعته، نحن ما ننقل عن الراوي شيء له علاقة ببدعته، يؤيد بدعته، البخاري نقل عن عمران بن حطان، ولم ير بأن هذا النقل فيه بأس، ولا يوافق بدعة الرجل، ولا يؤيد بدعته، فالتبديع بلازم القول ومآل القول باطل، ولا يجوز تبديع أحد بلازم قوله ما لم يلتزمه، يعني: لو هو قال: مؤدى كلامي أنا أؤمن به، وأقول به، هذا شيء آخر صرح، فلا يجوز لنا أن نبدع مسلمًا بناء على لازم قول قاله أو فعل فعله؛ إذ قد لا يقصد هذا اللازم ولا يلتزمه، بل قد لا يخطر على باله أصلاً، لكن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه، ونقوله ما لم يقل، وسبق أن قلنا أن بعض الأشاعرة يقولون: الله لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا قدام ولا وراء، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، هم قالوا: نقصد تنزيه الله عن مماسة الحوادث، وعن وعن من الكلام الباطل، ولا نقرهم على هذا، الآن يلزم من كلامهم أن هذا عدم، فهل نلزم الأشاعرة نقول: أنتم ملاحدة تنكرون وجود الله؛ لأنكم تقولون: إن الله لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا قدام ولا وراء، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، فهذا وصف العدم، إذًا أنتم تقولون: أن الله عدم، إذًا أنتم ملاحدة تنكرون وجود الله، هل يجوز هذا الكلام، هل هذا عدل وإنصاف؟ لا هذا ظلم، ولا يعتقدونه، يعني: الأشاعرة على انحرافهم لكن ما يعتقدون هذا، فأنت تلزمهم بلازم قولهم وهم لم يلتزموه ولا يعتقدونه، ظلم.

قال شيخ الإسلام: "لازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه" -يعني: هذا الكلام- "إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثر مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
الثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، وهذا من التناقض الذي يقع فيه كثير من الناس"، كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- [الفتاوى الكبرى: 4/26].
وقال أيضًا: لازم المذهب ليس بمذهب، وليس كل من قال قولاً التزم لوازمه، بل قد يتفق العقلاء على مقدمة، وإن تناقض بعضهم في لوازمها، هذا في درء تعارض العقل والنقل [4/423].
نختم الكلام أن نقول إن اللازم له ثلاث حالات:
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به، مثل أن يقول من ينفي الصفات الفعلية لمن يثبتها يلزم من إثباتك للصفات الفعلية أن يكون من أفعاله ما هو حادث.
فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك، فإن الله -تعالى- لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد، ولا نفاذ لأقواله وأفعاله، وحدوث آحاد فعله -تعالى- لا يستلزم نقصًا في حقه، يعني: أنا الآن يلزم أن أقول أن الله يفعل أشياء كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، وكل يوم يفعل أشياء، وكل يوم يخلق، فأنا سأقول: إن المخلوقات التي يخلقها هذه محدثة، يعني لها  بداية أنا التزم بما يلزم من كلامي نعم، وهذا لا يستلزم نقصا، هل هذا يجر نقص يعني هل هذا يلحق نقصًا بالله، إذا أثبت أن هذه المخلوقات التي يخلقها لها بداية نقص في الله، لا.
ثانيًا: أن يذكر له ويمتنع التلازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك لليد والوجه  والأصابع لله أن الله مثل المخلوق الذي له وجه ويد وأصابع، هذا الإلزام ما هو صحيح، يا أخي أنا إذا أثبت أنه في رأس المال ورأس الجبل ورأس الإنسان، هل كلمة رأس هذه وهذه وهذه صاروا مثل بعض؟ لا، فأنا إذا قلت: أن لله وجه، ولله يد، ولله أصابع لا يلزم من قولي أنه مثل المخلوق، وأن أشبهه بالمخلوق، فلذلك أقول ما تلزمني به باطل، ولا يترتب أصلاً من الكلام، ولا يلزم أصلاً، فأنت تلزمني بلازم باطل، ولا يدل عليه كلامي، وإذا كانت ذاته ما هي مثل البشر، هل يعني وجهه مثل وجه البشر، ويده مثل يد البشر.
الحالة الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتًا عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال ألا ينسب إلى القائل؛ لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به ويحتمل أن يتبرأ منه، ولذلك يسكت عنه، وما سكت عنه لا يبدع به. 
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه"، ما تحمله مسؤوليته حتى يلتزم به، قال: فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه  كانت إضافته إليه كذبًا عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال"[مجموع الفتاوى: 20/217]، إذًا هذا أحد أنواع الغلو في التبديع، سنواصل الكلام عن هذا في الدرس القادم، وصلى الله على نبينا محمد.