الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102].يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء:1].يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب:70، 71].
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: تكلمنا في الأسبوع الماضي عن أنواع المجالس التي يجلس فيها الناس، وتكلمنا أيضاً عن أهمية هذا المجالس، وأنها مرآة المجتمع، وأن أفكار الناس وتصوراتهم، وآراءهم تطرح في مجالسهم في الغالب، وأن المجالس لها تأثير كبير على عقول الناس، وأن ما يحدث في المجلس ينعكس على داخل الأسرة بشكل مباشر، أو غير مباشر.
وأن المجلس -أيها الإخوة- فرصة خير لمن أراد الله تعالى به خير، ومن أراد الله واليوم الآخر، وذكر الله كثير، وهو فرصة للازدياد من الشر والسيئات، والوقوع في حبائل الشيطان لمن أغواه عبد الله إبليس، وجعله من جنده وأعوانه.
ولذلك -أيها الإخوة- ذكرنا في المرة الماضية أن غالب مجالس الناس إما أن تكون حديثاً دنيوياً بحتاً من أول المجلس إلى آخره ليس فيه ذكر لله تعالى، ولا تسمع فيه آية ولا حديثاً واحد، وذكرنا أن هذه المجالس مجالس مذمومة، وأن رسول الله ﷺ وصف أهلها الذين لا يذكرون الله تعالى فيها أبدا، ولا يصلون على رسول الله ﷺ بأنهم يتفرقون على مثل جيفة الحمار.
والنوع الثاني: من المجالس في الغالب مجالس السوء والمعصية التي تمتلأ غيبة وبهتاناً في عباد الله تعالى، وتمتلئ استهزاءً وسخرية بآيات الله وأحكامه وشرعه، من المجالس في الغالب مجالس السوء والمعصية التي تمتلأ غيبة وبهتاناً في عباد الله تعالى، وتمتلئ استهزاءً وسخرية بآيات الله وأحكامه وشرعه، وهي كذلك -أيها الإخوة- تمتلئ بالملهيات التي تشغل عن ذكر الله، فمنهم من يقعد يلعب بالورق، أو بالألعاب الأخرى حتى يطلع الفجر، أو ينام قبل الفجر بقليل، أو يسهر سهراً طويلاً يضر بحضوره في صلاة الفجر، فتفوته هذا الصلاة بالكلية، لا يصليها في بيته فضلاً عن أن يصليها مع الجماعة في المسجد.
وكذلك -أيها الإخوة- فإنك ترى في المجالس من الاشتغال بأحاديث المنكر، والاشتغال بالملهيات عن ذكر الله أمراً فضيع، أمراً لا تكاد تحتمله عقول المسلمين ولا فطرهم الصافية، إنك ترى الناس كثيراً ما يشتغلون بأحاديث الرياضة والملهيات، وأخبار الكرة، ويوالون عليها، ويعادون فيها، ويتقسم الناس أحزاباً وشيع بفعل انقسامهم بحسب ميولهم الرياضية ونحوها.
ونحن -أيها الإخوة- نعلم جميعاً بأن الإٍسلام حث على تقوية البدن، وعلى الاشتغال بما يفيده، ولكن منع أيما منع من الالتهاء بها، حتى تكون هم الإنسان الشاغل، وحتى تكون معادات الناس وموالاتهم على مثل هذه الأشياء التي لا يرضاها الله ، وبالجملة فإن مجالس الناس في هذه الأيام لا يرضى الله تعالى عنها لما امتلأت به من أنواع المنكرات، والفواحش.
كيف نجعل مجالس إسلامية؟
ونريد أن نوضح -أيها الإخوة- في هذا المقام نريد أن نوضح كيف نجعل من مجالسنا مجالس إسلامية يرضى الله تعالى عنها وعن أهلها، ويثيب الله تعالى القاعدين عليها درجة ودرجات.
لابد -يا إخواني- بادئ ذي بدء، لابد لكل واحد فينا يجلس في مجلس، أو يدعو الناس إلى مجلسه، أو يجيب دعوة الناس أن ينظر في حال من يجالس. إن انتقاء الجليس من الأمور الأساسية المهمة، ولذلك أخبر الله تعالى بأن رجلاً من أهل النار قد وقع فيسوء العذاب بسبب قرينه: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لماذا؟ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [سورة الفرقان:27-29].
لا نريد أن نأتي يوم القيامة -أيها الإخوة- ويتحسر الواحد منا ويقول يوم لا تنفع الحسرة والندامة: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً.
يا ليتني ابتعدت عنه ونبذت، يا ليتني لم أقترب منه، ولم أجلس معه لحظة واحدة، لقد كان سبب في ضلالي، وفي وقوعي في حبائل الشيطان، لقد كان يزين لي المنكر، ويحثني عليه، ويجعلني شريكاً معه في الإثم، وعبادة الطاغوت، ومدح الله رجلاً من أهل الجنة، وأخبر أن سبب نجاة أنه تخلص من حبائل صديقه وجليسه وخليله الفاسق، أو الكافر في اللحظات الأخيرة، فقال الله تعالى حاكياً عن رجل من أهل الدنة، قعد يبحث عن صديقه وجليسه الذي كان يخاف الله في الدنيا، فوجده في النهاية: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:55].
اطلع هذا الرجل من الجنة، فرأى صاحبة في سواء الجحيم، في وسط جهنم: قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتردين معك فيها وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [سورة الصافات:56، 57]، في هذا الحساب والعذاب تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ.
أيها الإخوة: إن الجليس له خطورة كبيرة على جليسه، وتأثير بالغ، وبعض الناس قد أعطاهم الله قدرة في الإقناع، وقدرة في الجذب، فقد يجذبك معه إلى سوء الضلالة -والعياذ بالله، ويستطيع أن يتفنن في إغوائك، وأن يضلك عن سبيل الله ومنهج الله، إن أناساً يستطيعون أن يجذبوا نفوس الناس، ويسحروا عقولهم ليردوهم في نار جهنم، إن هناك شياطين من الإنس كما أن هناك شياطين من الجن، قلي من تجالس أقول لك من أنت.
إذاً كان الجليس عنوان جليسه، هذه هي النقطة الأولى.
والشيء الثاني -أيها الإخوة-: الذي يحرصنا على أن يكون جلسانا من أهل الخير والصلاح: حال السلف –رحمهم الله تعالى–، عندما كانوا يبحثون عن جلساء الخير، وهذه القصة التي رواها الإمام البخاري –رحمه الله– تبين هذا المقصود: عن علقمة -وكان من كبار التابعين، ومن أجلائهم- قال: قدمت الشام فصليت ركعتين في المسجد، ثم قلت: -انظروا أيها الإخوة ماذا كان يدعون الله؟ انظروا بماذا كانوا يدعون الله؟ بأي شيء يدعون؟ ما هو موضوع دعائهم؟ ثم قلت بعد أن فرغ من تحية المسجد: "اللهم يسر لي جليساً صالحا" هذا كان دعاءهم "اللهم يسر لي جليساً صالحا" يذهب إلى المسجد، إلى مظنة وجود الجلساء الصالحين، أين تجد الجلساء الصالحين؟ في الأسواق؟ في الدكاكين؟ في الشوارع؟ وفي الطرقات؟
كلا، إنك تجدهم في المجالس، إنك تجدهم في المساجد أولاً، فلتكن نقطة الابتداء من المسجد.
ثم قلت: "اللهم يسر لي جليساً صالحا" فأتيت قوماً من الناس جالسين في المسجد، فجلست إليهم، فإذا شيخ جاء حتى جلس جنبي، قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء الصحابي الجليل، صاحب الرسول ﷺ أبو الدرداء، فقلت يقول علقمة قلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحا، فيسرك لي... إلى آخر الحديث.
كانوا يدعون الله بشروط الدعاء المستجاب، فيستجيب لهم الله في الحال، وييسر لهم جلساء صالحين.
هذا الرجل التابعي رزقه الله بصحابي جليل ليجلس إليه، ويستمع منه، ماذا كان رسول الله ﷺ يفعل ويقول؟
الجليس -أيها الإخوة- له صفات كثيرة، وله حقوق، قال سعيد بن العاص -رحمه الله تعالى: لجليسي علي ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به، وإذا جلس وسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.
لنا جلساء ما نمل حديثهم | ألباء مأمونون غيباً ومشهدا |
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى | وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا |
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة | ولا نتقي لهم لسان ولا يدا |
هذه صفات جلساء الصلاح والتقوى.
وفقنا الله وإياكم لئن نجلس معهم، وأن نجدهم، ونتأدب معهم بآداب رسول الله .
الواجب على المسلم في المجالس
فإذا جلست -يا أخي- في مجلس من المجالس، فإنه يجب عليك لكي يكون هذا المجلس مجلس خير أن تفعل أشياء كثيرة، منها:
أولاً: سيقول كثير من الناس كلاماً منكرا، وزخرفاً من القول وزورا، وستنطلق ألسنة السفهاء في غيبة عباد الله، ونهش لحومهم، كثير من المسلمين يجلسون بلا مبالة، ولا ينكرون هذه المنكرات التي يسمعونها، ورسول الله يقول في الحديث الصحيح: من ذب عن عرض أخيه بالغيبة عندما يكون أخوه غائباً. كان حقاً على الله أن يعتقه من النار.
ويقول في اللفظ الآخر الذي رواه أحمد بإسناد صحيح: من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة.
المجالس اليوم مجالس غيبة كبيرة، وكثيرة، لابد أن ترد الغيبة عن أخيك، لابد أن تنكر عن هذا الذي يتكلم في عرض أخيك، وإلا فلا يجوز الجلوس، ولا السكوت، ولابد أن تتكلم، وتنكر ما يقولون، لابد أن تتكلم، وتبين بالحق خطأ ما يفعلون.
وكذلك -أيها الإخوة- تتعرض مجالس المسلمين اليوم لغارات يشنها أعداء الله تعالى من داخل المجالس لا من خارجها، إنهم يستهزئون بشرع الله ودينه، إنهم يغيرون على أحكام الله تعالى بسهام القدح والاستهزاء، والسخرية حتى يجعلوا من نصوص الكتاب والسنة اضحوكة في عقول الناس.
إنهم يريدون أن يميعوا قضايا التميز والولاء في عقول المسلمين.
بعض هؤلاء الناس -أيها الإخوة- يفعلون هذه القضية بجهل، ولكن الله تعالى لا يعافي هؤلاء من هذا الجهل، إنه جهل مذموم لا يعذر الله صاحبه.
وبعض الناس يتقصد آيات الكتاب، وأحاديث رسول الله بسوء نية، وخبث طوية، فيجعل منها أضحوكة وسخرية في المجالس، يستهزئ بالأحكام، يستهزئ بالمظاهر الإسلامية، يستهزئ بثياب المسلمين وأشكالهم، ويستهزئ بالأحاديث التي تذم الغناء والملاهي والمنكرات.
إنهم يستهزئون -أيها الإخوة- بأشياء كثيرة، ماذا يكون موقف المسلم الجاد الذي يريد أن يسلك طريق الله المستقيم، ويغير واقع المجالس الفاسد؟ ماذا يفعل؟ وكيف يتصرف؟ وأنى له معرفة الطريقة السليمة في هذه الحالة؟
اسمع معي -يا أخي المسلم- لهذه الآية التي تهز كيان المؤمن هزاً عنيفاً كأن قلبه سينخلع عندما يسمع وقع هذه الآية على قلبه، يقول الله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا [سورة النساء:140]، وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ..، في حالة: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [سورة النساء:140]، وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ما هو التصرف؟ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ حتى يغيروا الموضوع، ويقلعوا عن هذه المعصية، ويقلعوا عن هذا الكفر، أعظم المعاصي، يقلعوا عن الكفر، ويبدؤوا في موضوع آخر: حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ تقوم من المجلس، وتنكر عليهم إنكاراً شديداً، وتقرأ عليهم هذه الآية، توبخهم بها على هذا الفعل الشنيع؟ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، وتقول لهم: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [سورة النساء:140].
أيها الإخوة: المسألة خطيرة، خطيرة جداً بكل ما تحمل الكلمة من المعنى، أناس كثيرون اليوم من المسلمين يستهزئون في المجالس بأشياء كثيرة بأحكام الدين، وشرائع الله، وسنة المصطفى ﷺ، ما هو الحل؟
الحل موجود في هذه الآية، وكثير من المسلمين لم يسمع الآية من قبل مطلقاً: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ماذا نزل عليكم في الكتاب؟
نزل علينا -أيها الإخوة- آية أخرى تشبهه هذه الآية، ومضمونها مضمون هذه الآية، الآية المذكورة في سورة النساء، والآية المشار إليها التي سنقرأها الآن في سورة الأنعام، ما هي الآية الثانية؟ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [سورة الأنعام:68] أعرض عنهم بالقول، وبترك المجلس، وبالتوبيخ والزجر، وأعرض عن الاشتراك معهم في هذه الجريمة، الساكت عن الحق شيطان أخرس فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
فإذا نسيت، وأنساك الشيطان أن تترك المجلس، أنساك، نسيت الموضوع واسترسلت معهم في الكلام، ما هو الحل؟ ليست هناك مشكلة في الإسلام ليس لها حل، قال تعالى في تمام السياق: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:68]، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ في حالة أن ينسيك الشيطان الموقف الصحيح، فماذا تفعل إذا تذكرت ورجعت إلى رشدك، وانتبهت من غفلتك؟ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى. بعد التذكر مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[سورة الأنعام:68].
إنها آيات مفاصلة، آيات شديدة -أيها الإخوة-، تعاليم الإسلام اليوم مضيعة بين الناس، لا يفهمون حدود الله تعالى، ليس في الإسلام تلاعب، ولا تمييع للعقيدة، ولا سماح لأي مغرض بأن يمس العقيدة بأدنى سوء، لذلك تجد الآيات شديدة؛ لأن الموضوع موضوع عقيدة، دين الله يستهزئ به، وأحكام الله تجعل سخرية وأضحوكة، المسألة إذاً خطيرة، فلذلك كان الجواب حاسماً: فلا تقعد معهم: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:68]، فلا تقعدوا معهم: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، مثلهم في الكفر الخطورة.
الخطورة -أيها الإخوة-، الإسلام لا يرضى أن تمس عقيدتك -يا أخي المسلم- بأي سوء، وكذلك مجالس أهل البدع، مجالس المنكرات والفسق والمعاصي كثير من الناس يجلس في مجلس، فأهل المجلس يدخلون في أعراض الناس، أو يتبادلون قصص المنكرات، يقول هذا: أنا فعلت كذا وكذا، وأنا سافرت إلى مكان كذا وفعلت كذا، ويتبجحون يسترهم الله تعالى وهم يكشفون ستر الله عليهم يتبجحون بالمعصية.
هؤلاء أيضاً لا يجوز لك أن تسكت عما يقولون، لا يجوز لك أن تسكت عما يقولون مطلق، لابد أن يكون لك موقف.
يا أخي المسلم: لابد أن تفهم أنك صاحب موقف، لابد أن تفهم أنك صاحب رسالة، ما خلقك الله هملا.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له | فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
مع الأغنام مع الماشية، لا تمش بلا هدف، المؤمن دائماً صاحب رسالة، وصاحب هدف، وصاحب حق، وصاحب مواقف إيمانية أينما حل، وأينما ارتحل، وأينما جلس، في أي مجلس يفصح عن عقيدته، ويلقن الناس الدروس الإيمانية، فيما يحمله في طيات قلبه من مبادئ وأفكار أنزلها الله في القرآن والسنة.
لا تكن -يا أخي المسلم- غير مبال، لا، هذا خطأ كبير، إن الله لم يخلقك لتجلس في هذه المجالس ثم تصمت على هذه المنكرات، وتكون شيطان أخرس.
كذلك -يا إخواني- من المقترحات التي ينبغي الأخذ بها لتحسين أحوال مجالسنا: اليوم الناس غارقين في هذه المنكرات في المجالس، التحسين يحتاج إلى وقت وإلى جهد، يحتاج إلى عمل دؤوب، يحتاج إلى نوع من التمرس والمرونة في قلب هذه المجالس من مجالس منكرة إلى مجالس خيرة.
من المقترحات -أيها الإخوة-: أن يدعى أهل الخير لحضور المجالس، كثيراً ما يقيم الناس ولائم للزفاف، أو يعمل الإنسان عقيقة، فيذبح لولده، ويدعو الناس، أو بعضهم يعمل مثلاً وليمة عند قدومه من سفر، أو عند نزوله في بيت جديد، أو يكون هناك دورية بين الناس كل يوم في الأسبوع على واحد منهم.
هذه المجالس -أيها الإخوة- هي الآن من شغل الناس الشاغل، مجالس تسأل عن فلان بعد صلاة العشاء غير موجود، أين؟ عنده عزيمة، عنده دورية، عنده ديوانية، عنده مجلس، عنده ضيوف، وهكذا.
هذه الأوقات -أيها الإخوة- لا يصح بأي حال من الأحوال أن تذهب سدى، لابد أن تستغل، ماذا نفعل؟
من الحلول: أن ندعو أهل الخير، أهل الصلاح، أهل العلم، وطلبة العلم؛ لكي يجلسوا في هذه المجالس، ويلقوا علينا، وينصحونا، ويعظون ويذكرون، ويبين لنا شيء من كتاب الله، أو سنة رسوله ﷺ يذكرونا بالله، وبأيام الله، وباليوم الآخر، وبعذاب القبر، وبأشياء كثيرة، وبأحكام فقهية، يحيوا واعظ الله في قلوبنا، إننا نحتاج إلى هذه النوعية أشد الحاجة، أن ندعو هؤلاء الناس إلى مجالسنا، هؤلاء الناس الذين نتوسم فيهم الخير، قد يكون لك قريباً خير، طيب، ملتزم بأحكام الله، ادعه إلى هذا المجلس، اجعله يحضر، ألح عليه بالحضور، واطلب منه أن يفتح في ذلك المجلس حديثاً إسلامياً، يستفيد الجالسين منه، وإذا خاض الناس في إفكهم، فقل لهم: لحظة يا جماعة، موجود فلان نريد منه أن يحدثنا عن كذا، موجود فلان الذي عنده سؤال يطرح السؤال الذي عنده، لا بد أن ننتهز وجود هؤلاء الناس فنطرح عليهم هذه الاشكالات التي تواجهنا، والشبهات الممتلئة بها عقولنا، كثير من الناس عندهم شبهات، نجلس في بعض المجالس تجد أن بعض الناس عنده شبهات ضد الأنبياء، واحد يقول في مجلس: نبي الله يوسف كان شهواني، وكان رجل، ويقول دليلاً على ذلك:وَهَمَّ بِهَا ولا يعرف ما معنى قول الله تعالى: هَمَّ بِهَا ولا الفرق بين هم يوسف، وهم امرأة العزيز؟
إذاً -أيها الإخوة- عقول المسلمين اليوم نتيجة ابتعادهم عن دينهم، وهذه الشكوك والشبهات ممتلئة، ممتلئة بالشبهات حتى أعلاها.
كذلك -أيها الإخوة- ما المانع أن يكون في مجلس الواحد منا كتاباً، تفسير قرآن، كتاب "رياض الصالحين" في أحاديث الرسول ﷺ، كتاب عن أحكام، خطب جمعة مكتوبة، أحاديث ترقيق وترغيب وترهيب، فإذا جاء جلساؤه، قال: يا جماعة، لحظة لا نريد أن نضيع المجلس، فيأخذ الكتاب، ويفتح، ويقرأ، يقرأ الأحاديث -يا أخي-، رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ربما ينتفع من هذه الكلمة أناس يخرجون من المجالس فيغيرون من واقعهم، أنت السبب، ويعود لك مثل أجورهم، ما المانع أن يقول الإنسان لولده الطيب الصالح يقول له: تعال -يا ابني- أنا لا أقرأ، أنت تقرأ، أنا تقدم بي السن وفاتني علم كثير، أنت فتح الله عليك، تعال -يا ولدي- اجلس في هذا المجلس، حدثنا، ماذا سمعت من مدرس الشريعة؟ ماذا سمعت في خطبة الجمعة؟ ماذا سمعت في الدرس الفلاني؟ المحاضرة الفلانية، اعطني ملخص لشريط سمعته من خطيب، أو عالم من علماء المسلمين.
وبعض شيباننا -ولله الحمد- أيها الإخوة- فيهم طيبة كبيرة، ولقد سمعنا ورأينا أناس منهم من هؤلاء كبار السن الذين أنعم الله عليهم بفطرة صافية، وخشية لله تعالى يقول لولده: تعال -يا ولدي- تعال لقد فاتني كثير، وأنت عندك شيء كثير أعطني مما عندك، ويأتي به على أعين الناس في المجالس، ويقول له: علمنا، وأقرأ علينا، وحدثنا.
هذه النوعية -أيها الإخوة- موجودة، ولكنها تحتاج إلى تكثير، تحتاج إلى تشجيع.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة: ولا بد من الإكثار من ذكر الله تعالى في المجلس، وذكرنا بأن ذكر الله والصلاة على رسول الله واجبة في كل مجلس، في كل مجلس من المجالس.
ولهذا أسباب وحكم، منها: أنه من الصعب على الإنسان أن يقول في المجلس: لا إله إلا الله، وصلى الله على محمد، فلان بخيل، وفلان كذا وكذا، لا يحدث التوافق، لا تتوافق الأمور، يريد الله منك أن تذكره في المجلس حتى تطرد الشيطان، يريد أن تشغل لسانك بالمجلس بذكره حتى لا تنشغل بذكر الناس، وعيوب الناس.
كذلك في الوقت الذي نحث الناس فيه على إحياء مجالسهم بذكر الله تعالى، وأهل الخير، نحث الدعاة إلى الله تعالى على انتهاز هذه الفرص، ومجامع الناس، ومجالسهم ليعلموا الناس دين الله تعالى، واجب مسؤولية عظيمة وخطيرة على الدعاة إلى الله اقتداء بسنة رسول الله ﷺ أولاً، كان يغشى الناس في مجامعهم، فيعرض عليهم الدعوة إلى الله، ويعلمهم العقيدة.
المجالس -أيها الإخوة- فرصة مهمة جداً، إذا فوتت فقد فات خير كبير، أين تجد هؤلاء الناس مجتمعين، حتى تتكلم معهم؟ إذا لم أتكلم أنا ولم تتكلم أنت، ولم يحضر المجلس فلان وفلان من أهل الخير، فمن الذي يحضر؟ من الذي يتكلم؟ ومن الذي يعلم؟ ومن الذي ينصح؟
إنها مسؤوليتنا جميعاً أن تجلس مع الناس، انتهز كل فرصة لتطرح الخير الذي عندك، صحح تلك المفهومات الخاطئة في العقيدة والعمل، وفي التصورات التي امتلأت بها عقول الناس.
إذا سمعت رجل في مجلس يقول: ودخلت على المدير الفلاني في المشكلة الفلانية، فقلت له: مالي إلا الله وأنت، وأنا مشكلتي كذا! قله: يا أخي قف، هذه الكلمة التي تفوهت بها كبيرة عند الله، ما يجوز لك أن تقول: مالي إلا الله وأنت، هذا شرك بالله، تقول: مالي إلا الله ثم أنت، اعتمد على الله ثم عليك، وهكذا.
وهكذا -أيها الإخوة- نسمع أحياناً في المجالس كلمات تخرج عفوية من الناس، لكن لها مدلولات خطيرة تقدح في العقيدة، أجلس مع واحد من الناس، أقول له: حال فلان، أقول: أما فلان فهذا ربنا افتكره ومات، يعني: الله كان ناسٍ هذا الرجل، بعدين افتكره وأخذ روحه؟!
هذه كلمات تنطلق على ألسنة الناس، أخطاء عظيمة تدل على أن هذا الرجل لا يعلم ولا يفهم ولا يعي أن الله يعلم كل خافية: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[سورة يونس:61].
إذاً الناس عندهم أخطاء إذا لم تصلح هذه الأخطاء فمن ذا الذي يصلحها؟ فإذاً -أيها الإخوة- القضية عظيمة، والمسؤولية مشتركة.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للقيام بها حق القيام، اللهم وارزقنا ذكرك وشكرك.