الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبة أجمعين.
أما بعد:
المقدمة
فقد تكلمنا في المحاضرة السابقة عن موقف منهج السلف من تلقي الأحكام الشرعية كيف يكون؟ وما هو القول في كتب المذاهب؟ واتباع المذاهب؟ وأن ذلك يعين على ضبط الفقه على أصوله، وتيسير أدلة الأحكام، وتربية الملكة الفقهية، ومعرفة شرح أدلة الأحكام من الكتاب والسنة، ومعرفة مذاهب السلف في الحلال والحرام، ويفيد طالب العلم ويعنيه على التدرج في طلب العلم، وأن هذا أجمع للعلم في صدره، وأبعد له عن الشتات، وأنه يستفيد من هذه الكتب ترتيب الكتب، والأبواب، والمسائل، ويعين على تصورها في الذهن، وكذلك يفيد الإلمام الشمولي للمسائل الأصولية والفقهية، والتعامل مع النوازل تعاملاً صحيحاً.
ثم تحدثنا عن بعض المزالق الخطيرة في موضوع التفقه، كالأخذ بالشذوذات، والأقوال التي ليس لها سلف، ولا قال بها من قبل أحد الأئمة، وأيضا خطورة تتبع الرخص وسقطات العلماء، والفرار من تقليد الكبار إلى تقليد من هو أصغر أو أقل منهم، وكذلك التصدر قبل التأهل، وذكرنا بأن الكتب الأخرى للعلماء المجتهدين الذين ليسوا على مذهب معين يستفيدوا منها، مثل كتب ابن الحزم رحمه الله، كتب الشوكاني والصنعاني، ونحوهم هؤلاء أئمة لم يتبعوا مذهبا معينا لكنهم علماء، وعلى مستوى الاجتهاد، وعلى قدر من الفقه، ولذلك يستفاد من كلامهم أيضا، ولا يقال أن العلم كله محصور في المذاهب الأربعة، كلا فهناك من العلماء ممن هم خارج هذه المذاهب، أو ليسوا متبعين لأحدها تحديدا، وقد يأخذون بعضا منها، فإن هؤلاء يتبعون، وتؤخذ أقوالهم، وتعتبر أيضا.
وقلنا: أن العامي لا يسعه حتى التمذهب، بمعنى أن يأخذ كتب المذهب ويمشي عليها؛ لأن عبارات الكتب تحتاج إلى فك، وتحتاج إلى فهم لا يملكه العامي، وأن العامي حسبه أن يجد عالما ثقة يخاف الله، وعنده أهليه، فيستفتيه ويتبعه، ويكفي بينه وبين الله تبرأ الذمة باستفتائه، ويتحمل ذلك العالم مسؤولية الفتوى، وبعض الناس لا يفرقون أحيانا بين القاص، والأديب، والشاعر، والعالم، والواعظ؛ ولذلك يجب التفريق، هذا دين وأمانة، وأن العامي يعرف العالم بسؤال طلبة العلم، دلوني على عالم، أريد استفتي من الذي أسأله؟ وكذلك يعرف العالم باشتهار أمره بين أهل العلم، وليس بين العامة، العامة قد يشتهر بينهم خصوصا في عصر الفضائيات واحد ليس بأهل.
تحدثنا عن خطورة التعصب المذهبي، وما يورثه من العداوات بين المسلمين إذا صارت القضية قضية محاماة بالباطل، ومسألة تمسك بالكلام، كأنه يعتقد العصمة في الإمام، فهذا الذي يفعل ذلك معناه أن عنده خلل في أصل عظيم، وهو أنه لا معصوم إلا محمد ﷺ، وأن أهل العلم مهما بلغوا يخطئون ويصيبون، ولذلك لا يوجد أحد يجب تقليده إلا محمد ﷺ، لا يوجد أحد يجب اتباعه في كل كلمة يقولها إلا محمد ﷺ، وأن العالم مهما عظم يؤخذ من قوله ويرد.
قلنا: بأن هؤلاء الأكابر المجتهدين يتبعون، وأن طالب العلم إذا استطاع أن يعرف المسألة بدليلها وكيف أخذها العالم هذا يعتبر خير عظيم، وفتح كبير، وبداية حقيقية للتفقه في الدين.
ننتقل إلى موضوع آخر يختلف تماما عن هذا الموضوع، وهو أيضا منزلق من المنزلقات، وآفة من الآفات، وانحراف من الانحرافات المخالفة لمنهج السلف، وقد سبق الحديث عنه، لكن نريد أن نأصله بمزيد من التأصيل، ونذكر مزيدا من القواعد حول هذا الموضوع، ألا وهو موضوع التكفير.
خطر التكفير
نحن في سلسلة حماية منهج السلف نتعرض لمسائل من التي صار فيها انحراف عن منهج السلف، ونعرف ما هو منهج السلف فيها، ونظراً لأن هذه القضية من القضايا المتداولة، والتي خاض فيها الكثير، فلا بد من توضيحها، وبيان حقيقتها.
أما التكفير بحد ذاته فإن منه حقا ومنه باطل، لا يمكن القول أن التكفير كله حق، أو القول أن التكفير كله باطل، والدين الصحيح لابد أن يعرف، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ[البقرة:256]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ[المائدة:73] فالذي يقول: أن الإسلام ليس فيه تكفير هذا جاهل، لا يعرف قواعد الدين، الله ذكر كفرا في كتابه، وذكر عاقبة الكافرين، وذكر أقواما نص على كفرهم مثل المستهزئين بالدين، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ[التوبة:66]، ولكن هذا التكفير ليس بوابة يدخلها كل أحد، وليس كلمة يوصم بها أي أحد، وليس إطلاقا يطلقه أي أحد، لأن هذا التكفير لوما انضبط؛ وما كان له قواعد؛ وما كان يتعلق به أحكام ستصبح القضية فوضى، ويطلق على من هب ودب، ويبنى عليه استحلال الدم، والمال، والعرض...الخ.
وحيث أن الشارع حكيم عليم، حيث أن الله يعلم أنه سيأتي من يطلق التكفير بالباطل فقد جاء التحذير الشرعي من هذا، فقال نبينا ﷺ: أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما [رواه البخاري: 6104، ومسلم: 60].
وجاء في حديث آخر: لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك [البخاري: 6045].
يعني إذا ما كان هذا الذي قيل عنه: كافر كافراً حقيقة عند الله فإن إثم هذا سيعود على من أطلق الكلمة.
وقوله: لا يرمي رجل رجلا بالفسوق فيه تنبيه آخر على خطورة التفسيق والتبديع، ليس فقط التكفير، حتى ما هو أقل من التكفير، يا فاسق، يا مبتدع، أنت مبتدع، أنتِ مبتدعة، هذه الكلمة اتهام أيضا، والذي يقولها أو يطلقها على شخص أو أكثر وليسوا من أهلها يبوء بإثمها أيضا الذي أطلقها، وحسب الحديث يرتد الوصف عليه، وليس المراد من الحديثين أن من قال لأخيه: يا كافر؛ ولم يكن كذلك أنه يصبح كافرا، حتى هذا يجب أن يكون فيه على العدل، وإنما المقصود بالحديث رجع عليه، أو حار عليه، أن الإثم قد ارتد عليه، ورجع عليه، ومعصيته بالتكفير قد أحاطت به، فالحديث على الزجر والوعيد، والمقول له إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل لما قال: يا كافر، مثلاً: سمعت واحد يسب الله بعقله، صراحة، من غير أي إكراه، ويعلم ما يقول، ما هو سكران، فهذا يعتبر كافرا، الذي يشك في كفره قد يخرج من الملة، هذه مسألة واضحة بينه، فالذي يشك فيمن يسب الله صراحة بلا إكراه وهو يعلم ما يقول ممكن يخرج من الملة، يعني: كما يقول بعض الضلال: إذا سب الله أتعامل معه بإنسانية، إذا سب الله أتعامل معه على أي أسس؟ إذا سب الله ألا يجب علينا أن نبغضه؟ ألا يجب علينا أن نكرهه؟ ألا يجب علينا أن نتبرأ منه؟ لا يجوز لنا أن نلقي السلام عليه، لا تؤكل ذبيحته، لا يورث لا يرث، لا يزوج من المسلمات، ولا يدفن في مقابر المسلمين إذا مات، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، لا يجوز أن يدعى له بالمغفرة والرحمة، إذا كان كفرا حقيقيا هناك تصرفات ومعاملات تترتب على ذلك، إذا المقول له: يا كافر إن كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن كذلك رجع على القائل معرتها وإزرها وإثمها، لأنه تكفير بغير حق.
وعن ثابت ابن الضحاك عن النبي ﷺ قال: لعن المؤمن قتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله[رواه البخاري: 6047].
هذا يبين إثم تكفير المؤمن، وقتل المؤمن ذنب عظيم، وزوال الدنيا أهون عند الله من قتل المؤمن، فعندما يقول: من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله، نتصور حجم الإثم العظيم، الذي يكون على من، من كفر مؤمنا؛ لأنه قال: كقتلهوقتله في الإثم.
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء: 93]، فليس تكفير المؤمن أمرا هينا عند الله.
قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله"، يعني: يريد أن يشتمه فقال: يا كافر، وهذه تحدث ترى في المشادات، في المضاربات، في احتدام الخصومات.
قال شيخ الإسلام: "وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله" [الاستقامة لابن تيمية:1/165]، فهو إذا ارتكبها شتيمة كقتله، وإذا اعتقد تكفير المسلمين وليس مجرد شتيمة -انتقل إلى الاعتقاد- كيف يصبح إثمه.
ولعظم وخطورة هذا الأمر قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "فالواجب في النظر ألا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة" [التمهيد: 17/22].
وقال الشوكاني -رحمه الله-: "اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار" انتهى [السيل الجرار: 4/578].
هذا يبين أهمية الحذر من إطلاق التكفير، والتساهل به، وخطورة عقيدة الخوارج الذين يكفرون المسلمين، وفي المقابل يوجد -وهذا ينبغي التأكيد عليه- ناس لا يبالون بالكفر، ولا يتحرك فيهم شيء عندما يكفر بالله، ورسوله، ودينه، وأحكامه، وهذا إرجاء خطير جدا في مقابل مذهب الخوارج، لأن هذا يدل على موت الغيرة الدينية، لأنهم سبوا الله، ودينه، والرسول، والأحكام؛ ولم يتحرك لك ساكنا، فالواجب أن يحذر المؤمن من مذهب الخوارج كما يحذر من مذهب المرجئة، فكلاهما ضلال وانحراف، إذا كان تكفير الواحد بهذه الخطورة، فكيف بتكفير الجماعة، والقبيلة، والبلد، تكفير جماعي، ومما يزيد من خطورة مسائل التكفير أن الحكم بتكفير شخص معين تترتب عليه آثار في الدنيا والآخرة، لأن المسألة كما يقول شيخ الإسلام: "مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام"، يعني: ليست قضية مجرد إطلاق لفظة، "مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة"، اإذا أطلقنا أنه كافر إذا مات على هذا فهو خالد مخلد في النار، وتتعلق بها الموالاة، والمعاداة، والقتل، والعصمة، وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان" انتهى [مجموع الفتاوى: 12/468].
فإذا لا يجوز للمؤمن أن يقدم عليه، وسترتب عليه عداوة، وكره، وبراءة، ويترتب عليه إجراء أحكام من عدم أكل ذبيحته، وعدم دخوله الحرم، وعدم تزويجه، ولا يرث، ولا يورث، ولا يدعى له بالرحمة والمغفرة، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه إذا مات، فلا يجوز الإقدام عليه لأي شبهة لأنه ستترتب عليه مترتبات، بالإضافة إلى حكمه عند الله، يعني: حكم التكفير نفسه غير المترتبات، وفي المقابل لا يجوز إطلاقا الحكم بإسلام من جاء الشرع بكفره، فمن كفره الله مثلاً: النصارى الله، قال بصريح الكلام في كتابه العزيز: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ[المائدة: 73]،
وكذلك إذا قالوا: المسيح ابن الله، وأن الله اتخذ صاحبة، فإذا إذا كفر الله اليهود لقولهم: يد الله مغلولة، إن الله فقير ونحن أغنياء، وكفر الله النصارى لأنهم قالوا: أن الله هو المسيح ابن الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، أو كفر الله هؤلاء المنافقين نفاقا أكبر، والذين كرهوا ما أنزل الله، كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ[محمد: 9]، وكذلك الذين استهزءوا بدينه لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 66]، فإذا كفرهم نحن كيف نحكم بإسلامهم، لا يمكن ولذلك عبارة "نحن لا نكفر أحداً" عبارة ضالة، خاطئة، آثمة، مخالفة للكتاب والسنة، فإذا التكفير ليست باطلا بالكلية منه حق ومنه باطل، ولما كان الحكم بالتكفير مزلة أقدام، وقضية صعبة وخطيرة تترتب عليه الآثار؛ فإنه لا بد أن يوجد له ضوابط في كلام أهل العلم ومنهج السلف، وهذا ما نريد التعرف عليه.
ضوابط وقواعد في مسألة التكفير
ضوابط وقواعد في مسألة التكفير:
الضابط الأول
أولا: التكفير حكم شرعي، وحق خالص لله ، فلا تملكه هيئات، ولا جماعات، ولا أفراد، لا هذا التكفير حق لله، هو الذي يكفر سبحانه، ويبين من الذي يكفر ومن الذي لا يكفر، ونحن علينا أن نتبعه فيما أنزل علينا، وسمعنا وأطعنا، فنكفر من كفره، ونمتنع عن تكفير لم يكفره سبحانه، وحكم له بالإسلام أو بالإيمان، إذا التكفير لا بد أن يكون بنص شرعي من صاحب الحق وهو الله ، هذي قضية مهمة جدا: التكفير حق لله، ولا يمكن إعماله وإطلاقه إلا بنص من صاحب الحق.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فلهذا كان أهل السنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن خانك فلا يجوز أن تخونه، ولو أن أحدا فعل الفاحشة بأحد من أهل الشخص، هل يجوز للشخص أن يرد بعمل الفاحشة في أهل أحد من ذاك الفاعل، لا، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[الأنعام: 164]، وحتى هذه العقوبات يعني مثلا لو أن رجلا عمل الفاحشة بشخص، هل تعمل فيه الفاحشة ردا لا في حكم شرعي، من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به[أبو داود: 4464، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 2422]، إذا كان راضيا، والزني إذا كان محصنا يرجم، وإن كان غير محصن يجلد مائة جلدة، ولذلك من كفر مسلما لا يجوز لهذا المسلم أن يكفره، لأنه حق لله ليس حقا شخصيا للإنسان، لأن التكفير حق لله.
قال شيخ الإسلام: "فلهذا كان أهل السنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف كفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنا بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله -تعالى-، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله" انتهى [تلخيص كتابة الاستغاثة لابن تيمية: 2/492].
ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله- في النونية المسماة الشافية الكافية:
الكفر حق الله ثم رسوله | بالشرع يثبت لا بقول فلان |
من كان رب العالمين وعبده | قد كفراه فذاك ذو الكفران |
[شرح قصيدة ابن القيم: 2/412].
وليس بحقنا أن نكفر من ليس بكافر في حكم الله -تعالى- شرح رياض الصالحين للشيخ بن عثيمين. [1/2060].
إذا قضية التكفير ليست بالهوى، ولا بالتشهي، ولا هي عقوبة، وليست ردت فعل.
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة: "فإن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، يعني: لا تعرف بالعقل استقلالا، لابد من وحي، فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً، والعدل من جعله الله ورسوله عدلا، والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم" انتهى [مجموع الفتاوى لابن تيمية: 19/212].
وقال ابن الوزير اليماني -رحمه الله-: الكفر والفسق لا يكون إلا سمعياً قطعياً سمعياً" يعني الوحي قطعياً، ولا نزاع في ذلك، العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم [4/178].
إذا هذا عنوانه التكفير حق لله -تعالى-.
الضابط الثاني
ثانيا: الأصل في أهل القبلة الإسلام والتوحيد حتى يثبت خلاف ذلك، فمن ثبت إسلامه بيقين لم يخرج منه إلا بيقين، أو لا يخرج منه إلا بيقين، فمن صار مسلما بالنطق بالشهادتين فلا يجوز إخراجه من دائرة الإسلام إلا إذا جاء بكفر صريح بوحي، لنا فيه برهان من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، واليقين لا ينقضه الشك، والإسلام الصريح لا ينقضه الكفر المحتمل والكلام المتشابه.
قال الله -تعالى-: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء: 94]، لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدينكم ودعوتكم، وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله لا تقولوا له: هذا تظاهر، ولست مؤمنا في الباطن، وهذا مجرد ادعاء، بل اقبلوا ظاهره، وعاملوه بناء عليه، واحكموا له بالإسلام حتى يثبت العكس.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان رجل في غنيمة له -تصغير غنم- فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا -يعني: لينجو من القتل- فظنوه مشركا، قال الكلمة فقط فرارا من القتل، فأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[النساء: 94] تلك الغنيمة عرض الحياة الدنيا" الحديث رواه البخاري [4591].
ولما قال بعض المسلمين عن مالك ابن الدخشن وكان رجل بالمدينة مع المسلمين: ذلك منافق، فالنبي ﷺ قال: لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله.
قال: الله ورسوله أعلم. فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين.
فقال رسول الله ﷺ: فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله[رواه البخاري: 5401، ومسلم: 33].
إذا المختصر منهج السلف لا يمكن أن يطعن في إسلام مسلم، أو أن يتهمه بالكفر، أو الفسق، أو البدعة بلا برهان، ولا بينة.
قال شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطاء، وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة" يعني: طريق الحق، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك" مجموع الفتاوى [الكيلانية لابن تيمية: 1/78].
هل هذا الكلام ناس حصل منهم كفر صريح وقامت عليهم الحجة؟
لا، هذا في ناس يقع منهم خطاء وغلط، وممكن يقول عبارة ظاهرها ممكن تكون كفرا، لكن نحن ما نحكم عليه بالكفر حتى نقيم عليه الحجة ويصر، خلاص هنا ليس له عذر.
وقد جاءت النصوص المتكاثرة الدالة على ثبوت الإسلام بالشهادتين، قوله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه، وماله، إلا بحقه وحسابه على الله [رواه البخاري: 25، ومسلم: 20].
فإذا من قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه ما لم ينقضها بناقض بين، فعند ذلك يحكم بالكفر وردته، إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، توافرت الشروط وانتفت الموانع، والإسلام أمر سهل، يعني: ليس أمرا معقدا، الدخول في الدين أمر سهل، وعندما نقول: أصل الحكم بالإسلام مثلا لمن قال: لا إله إلا الله، إلا إذا أتى بناقض بين وكفر صريح، فالإسلام يثبت بالشهادتين، وبالصلاة، وبالتبعية للأبوين، وللدار، يعني: أنت الآن لو رأيت شخصا ما عندك عنه أي خلفية يصلي تحكم له بالإٍسلام، لو سمعت واحد نطق الشهادتين ما عندك عنه أي خلفية تحكم له بالإسلام، لو رأيت ابنا لوالدين مسلمين ما عندك عنه أي خلفية تحكم له بالإسلام تبعا لوالديه، لو رأيت شخصا في مجتمع مسلم الأصل أنه واحد منهم، من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا[البخاري: 391]
هذا الأصل هذا الظاهر، إذا ما عندك شيء ناقل ينقل عن الأصل لابد أن تجري على الأصل، ولا بد أن تحكم بإسلامه، وتعامله على هذا الأساس، وتسلم عليه ...الخ، حتى يثبت العكس، هذا الكلام الذي نقوله قد يبدوا بدهياً، لكن هناك من الفرق التي تنتسب للدين تقول: الأصل الكفر حتى يثبت الإٍسلام، ومنهم من ابتدع بدعة أخرى وقالوا: الأصل التوقف، أنا إذا دخلت مسجد ورأيت إماما يصلي أتوقف في أمره لا أحكم بإسلامه، ولا أحكم بكفره، وما أصلي وراه حتى يثبت لي أنه مسلم، وإذا سمعت واحدا يقول الشهادتين أتوقف لا أحكم بإسلامه ولا أحكم بكفره حتى يتبين لي هذا أو هذا، أنا إذا رأيت جزارا يذبح ذبيحة في بلاد المسلمين ما أكل من ذبيحته حتى أتأكد أنه مسلم، هذه بدعة كبيرة، ومن تأمل في مترتباتها سيتبني عليها قضايا خطيرة، لا يجوز التوقف في إسلام المسلم، لا يجوز لابد نحكم بإسلامه، ثم بعد ذلك يأتي بكفر صراح، يسب الله، يسب الرسول، يسب الدين، ينتقد الأحكام الشرعية، مثلاً أنا يعجبني الربا، التعدد ظلم، قطع اليد وحشية، إذا أتى بكفر صريح ذاك الوقت سنتخذ موقفا أخر، لكن قبل هذا نحكم بإسلامه، لا نتوقف فضلا أن نحكم بكفره، أو نقول: الأصل في الناس الكفر حتى يثبت الإسلام، مثل هذا لو قال قائل: الأصل في الأشياء النجاسة حتى تثبت الطهارة، هذا الأصل أنه نجس حتى يثبت أنه طاهر، نغسله وبعدين ألمسه، هذا فعل المجانين، فعل الموسوسين.
ذات الألفاظ المكفرة أيضا لابد من التعامل الصحيح معها، فقد يقول الكفر شخص يجهل أنه كفر، ليس كل الناس عندهم علم أحكام كل العبارات، ومؤداها، ليس كل الناس يفكرون في معنى الكلام الذي يقولونه، أو ماذا يترتب عليه؟ وماذا يؤدي إليه؟ كثير من الناس عنده جهل باللغة جهل، سطحية في التفكير، ولذلك من القواعد -ستأتي معنا- لا يحكم بالكفر من الألفاظ المحتملة، ضربوا مثال على ذلك، قال رجل: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال له الآخر: كذبت سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن رجل سمع مؤذنا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال: كذبت، هل يكفر؟
-الأمر محتمل كذبت هذي لها احتمالات:
الاحتمال الأول: أنه يعتقد بأن هذا الشخص كاذب في شهادته.
والثاني: أن يعتقد أن محمدا ليس رسول الله سمع شخصا.
سؤل الإمام أحمد عن شخص سمع شخصا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: كذبت، هل يكفر؟
قال: لا يكفر؛ لأنه ليس المعنى الوحيد للعبارة أنه ليس محمد رسول الله، لأن هناك معنى آخر محتمل، وهو كذبت في ادعائك، كذبت في شهادتك أنت في الحقيقة لست مقرا أن محمد رسول الله، بعيداً عن قضية أنه فعلا أنه كاذب أو أنه منافق أو زنديق، ولا متسرع متهور يكفر، أو يكذب المسلم، إثم هذا قضية أخرى، لكن الشاهد من كلام أحمد -رحمه الله- قال: لا يكفر لجواز أن يكون قصده تكذيب القائل فيما قال، لا في أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهد هذه الشهادة، كقوله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] هذه الشهادة ليست حقيقة؛ ولذلك الله كذبهم، قال في آخر الآية: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ[المنافقون: 1]، فشهادتهم شهادة كاذبة [بدائع الفوائد: 5/49].
الضابط الثالث
ثالثا: من القواعد أحكام الكفر والإسلام تبنى على الظاهر، فنحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، فالمرء يحكم عليه بالكفر أو الإيمان بناء على ظاهره، فإن أظهر الكفر حكم عليه بالكفر، وإن أظهر الإيمان حكم عليه بالإيمان، فالأحكام مبناها على الظاهر، ولا يجوز الحكم على النوايا لأنا لا نعلمها، أنا شققت عن قلبه، ما يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، فلا يجوز الحكم على النوايا، والتكفير والتفسيق بالظنون بلا دليل ظاهر.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن النبي ﷺ قال: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته [البخاري: 391].
هذا دخل في حماية الشرع، خلص هذا الآن في جوار الله، في ذمة الله، لا تعتدوا عليه، لا تخفروا الله في ذمته، هذا ظاهره الإسلام، الاعتداء الآن عليه في دمه وماله يعتبر خفر ذمة الله، الله أعطاه حرمة أنت تنتهكها، فلا تخفروا الله في ذمته.
لاحظ هذه الأشياء الصلاة شيء ظاهر، واستقبل قبلتنا شيء ظاهر، وأكل ذبيحتنا شيء ظاهر، هذه ليست أشياء خفية، هذه أشياء ظاهرة بنى عليها حكما، قال: فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فواضح أن الأحكام في الشرع بناء على الظاهر: صلى صلاتنا، استقبل قبلتنا، أكل ذبيحتنا، أشياء ظاهرة، الشرع حكم بناء عليها، فلا يجوز أن تخفروا الله في ذمته، وتنتهك الحرمة التي أعطاها الله لهذا الإنسان.
قال الحافظ بن حجر -رحمه الله-: "أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك" [فتح الباري: 1/496].
وقال الشافعي: "وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه" [الأم للشافعي:1/296]، نحن ما ندري مثلا الصلاة هو بيصلي بجانبك أنت لا تعرف هل له عشرها خمسها، سدسها، سبعها، ثلثها، نصفها؟ من الذي يعلم؟ الله يعلم حقيقة الخشوع في قلبه يعلم حضور ذهنه وشرود ذهنه، يعلم الإخلاص الذي عنده، من الذي يعلم خشيته لله في صلاته، ماذا يعتمل في نفسه من معاني الآيات والأذكار التي يقرأها، هذا أمر الله.
ولذلك الثواب لا دخل لنا فيه أبدا نحكم، فمن دخل هذا المدخل فأنه يعتدي على حقوق الله، لذلك هذه عبارة والله لا يغفر الله لك خطيرة، لأنه من الذي له حق المغفرة عند الله.
قال الشافعي -رحمه الله-: وأحكام الله ورسوله تدل على أن ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر، والظاهر ما أقر به، أو قامت به بينة تثبت عليه" هذا في كتاب الأم [1/297].
نأتي إلى حديث عظيم في هذا الباب حديث أسامة بن زيد، قال أسامة : "بعثنا رسول الله ﷺ إلى الحرقة -قوم-، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، -الأنصاري هذه الكلمة أحدثت عنده امتناع، سمع كلمة التوحيد التي يحكم للرجل بها بالإسلام- فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبيﷺ فقال: يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة، قلت: كان متعوذاً، يعني قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم قالها متعوذاً، فمازال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" [رواه البخاري: 4269، ومسلم: 96].
هذا التمني معناه أن أسامة من شدة الشعور بالذنب والإثم تمنى أن يكون إسلامه تأخر بعد الحادثة، لأن الإسلام يجب ما قبله.
قال الحافظ بن حجر -رحمه الله-: "إظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر" [فتح الباري: 12/273].
الما يسلم الكافر مهما بلغ في الإجرام لا يجوز أن يقال: بعد كل الجرائم تأتي تقل الشهادتين، هناك ناس ما عندهم قواعد أو حدود توقفهم، يشتغلون عواطف انفعاليون، جهل يقول: أنت بعدما قتلت من المسلمين تعلن الشهادتين.
هل معنى ذلك أنه لو جاء مثلا من هؤلاء الأعداء ونطق بالشهادتين أنه نتركه تماما، لا، الحذر لأنه ممكن يكون هذا منافق، ممكن يكون جاء وقالها فعلا ليعصم دمه، ويستفيد من العصمة والحرمة، ثم يطعن المسلمين من الخلف، لا هذا الآن نحن نكف عنه ولكن هناك أشياء تجعل الحذر مطلوبا، لكن في فرق بين أنك ترفض ظاهره وتقتله وبين أن تحذر ما يمكن أن يكون مخبئا، فلا تقل: أنت متظاهر، أنت مدعي، أنت كذاب، بل تجري الظاهر عليه وتعصم دمه، لا تعتدي عليه ولكن هذا لا يعني أن لا نراقب ظاهره، لأنه قد يفعل شيئا، أو يكون له مآرب أخرى، فلما يظهر شيء آخر نأخذه به، ولذلك قال عمر وعمر لبيب فطن حذر، لا بالخب ولا يخدعه الخب- يقول: "إن أناسا كانوا يأخذون بالوحي في عهد رسول الله ﷺ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن -يعني بعد انقطاع الوحي- بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال، إن سريرته حسنة" رواه البخاري [2641].
إذا شخص أعماله الظاهرة سيئة، لو قال: والله أنا نيتي طيبة، نقول: نحن لنا الظاهر، نحاسبك على ما ظهر منك، وبناء عليه من أظهر الكفر عاملناه به، ومن أظهر الإيمان عاملناه به، والنبي ﷺ ما التفت إلى تعليل أسامة، أسامة قال: إنما قالها متعوذا، إنما قال خشية السيف، ما التفت ﷺ إلى هذا الكلام أبدا، رد عليه، وأنكر، وفي رواية: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم [رواه البخاري: 4351، ومسلم 1064].
وهذا مقتضى العدل، والله : يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]، والعبرة بما في الظاهر من اللسان وعمل الجوارح، والسرائر والنوايا عند الله، حتى المنافقين النبي ﷺ حكم عليهم بظواهرهم.
وقال شيخ الإسلام عن المنافقين: "فكان حكمه ﷺ في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيء إلا بأمر ظاهر" انتهى. [كتاب الإيمان الكبير: 1/152].
وقال الشاطبي: "إن أصل الحكم الظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم" [الموافقات: 3/238].
إذا الله أوحى إليه ببعض أسماء المنافقين، أوحى إليه هذا خبر ما فيه شك، ومع ذلك ما أخذهم وقتلهم، وقال: الله أوحى إلي أن أنتم فلان وفلان وفلان أنكم من المنافقين اقطعوا رقابهم، أنتم زنادقة تظهرون الإسلام وتبطنون الكفر، ما فعل ذلك كله نصرا لقاعدة، وبيانا لمبدأ إجراء الأحكام على الظواهر.
الضابط الرابع
رابعا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بكل ذنب وقع فيه ما لم يستحله، إذا الذنوب لا يكفر بها، الذنوب المعاصي السرقة الزنا القتل الرشوة...الخ، إذا هذه من الأصول المجمع عليها عند أهل السنة، أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة لمجرد ذنب أو معصية ارتكبها مالم يستحلها.
ما المقصود بالذنوب هنا؟
لما يقولون أهل القبلة لا يكفرون بالذنب، ما المقصود بالذنب الكبائر والصغائر، وليست الكفر، هذه القاعدة -بمشيئة الله تعالى- سنأتي على شرحها مع القواعد الأخرى المتعلقة بالموضوع في الدرس القادم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.