الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفي هذ الدرس من سلسلة حياة البرزخ، نتناول بمشيئة الله -تعالى- ما ينبغي عند الموت، وما لا ينفع عند الموت، وبعد ذلك أحوال المحتضرين.
الموت حقيقة واقعة بالعباد
الموت حقيقة واقعة بالعباد، كتبها الله على خلقه وتفرد بالبقاء سبحانه، فقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26- 27].
ومع أن الموت يوقن به المؤمنون والكفار، ولكن أكثر الناس في سعيهم ينسون هذه الحقيقة.
نذر لله للعباد قبل الموت
ومن رحمة الله بعباده: أنه لم يتركهم إلى غفلتهم، ولم يعاملهم بنسيانهم، بل أرسل إليهم الرسل والنذر، لتتم النعمة، وتقوم الحجة.
فما هي النُذُر؟
قال سبحانه: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ[فاطر: 37].
ولما ذكر تعالى حال السعداء قبل هذه الآية ذكر حال الأشقياء، فقال: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ينادون، يجأرون إلى الله بأصواتهم، يعني في النار: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيسألون الرجعة إلى الدنيا، ولكن هيهات هيهات.
وقد علم الله تعالى أنه لو ردهم إلى الدنيا، فإنهم سيعيدون لما نهوا عنه، الله رحيم وكريم، وهو يعلم أنه لو رد الكفار إلى الدنيا من النار إلى الدنيا مرة أخرى لرجعوا إلى ما كانوا فيه، يعني أن عذاب النار هذا الذي رأوه مع شدته سينسونه، ويرجعون إلى الغفلة، يعني لو كان في فرصة، لو كان هناك أمل فيهم، لو كان هناك تغيير ممكن، لكن لن يكون هنا تغيير، الله وهو يعلم العواقب، ويعلم نفوس العباد، وما سيحدث فيها من التغيير، أخبرنا قال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [الأنعام: 28].
إذًا، قولهم: أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37]، هم فيه يكذبون، كذابون سيعيدون لما نهوا عنه، والله تعالى حكم أنه من خرج من هذه الدار لا يعود إليها، وقال تعالى لهم ردًا عليهم وهم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم لكن لا يتذكر فيه من تذكر: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم؟ أوما أعطيناكم المهلة، وعشتم في الدنيا أعمارًا لو كنتم تنتفعون بالحق لانتفعتم من قبل، لانتفعتم في هذا العمر الذي أعطيناكموه، ولذلك قال قتادة رحمه الله: اعلموا أن طول العمر حجة، يعني حجة من الله على الذي طال عمره، قال: فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر؛ لأنه يقال يوم القيامة لأهل النار: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم؟ أعطيناكم المهلة وأعطيناكم عمرًا، قال السعدي رحمه الله في تفسيره: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم دهرًا وعمرًا يتمكن فيه من أراد التذكر أن يعمل، ومتعناكم في الدنيا، وأدررنا عليكم الأرزاق، وقيضنا لكم أسباب الراحة، ومددنا لكم في العمر، وتابعنا عليكم الآيات، وواصلنا عليكم النذر، وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا إلينا، وترجعوا إلينا، فلم ينفعكم إنذار، ولم تفد فيكم موعظة، وأخرنا عنكم العقوبة حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت أعماركم، ورحلتم عن دار الإمكان، بشر الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار، يعني الآخرة سألتم الرجعة؟ هيهات هيهات، فإن وقت الإمكان فات، وغضب عليكم الرحيم الرحمن، واشتدت عليكم النيران، ونسيكم أهل الجنة فامكثوا في جهنم خالدين مخلدين، وفي العذاب مهانين.
لكن هذه الآية: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم؟ كم سنة؟
اختلف المفسرون في هذا، فقال بعضهم: سبعة عشر سنة.
وقال بعضهم: ثمانية عشر.
وقال وهب: عشرون.
وقال آخرون: ست وأربعون.
وقيل: سبعون.
وقيل: ما بين الستين والسبعين.
وقال الحسن: أربعون.
وعن مسروق: كان يقول إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله ؛ لأنه سيقال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم أعطيناكم المهلة.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم أربعون سنة، ورجحه ابن جرير.
وفي رواية عن ابن عباس: أنه كان يقول: إنها ستون سنة.
وقال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ [فاطر: 37]؟ ستون سنة.
وقال ابن كثير: فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا. [جامع البيان: 20/477، تفسير القرآن العظيم: 6/553 ].
وبوب البخاري رحمه الله: "باب من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر"، لقوله: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37]. [الجامع الصحيح: 8/111].
يعني الشيب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ نعمركم عمرًا يتذكر فيه من أراد أن يتذكر، العمر الذي يتذكر فيه من تذكر، الحديث عن النبي ﷺ نصه: أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة [رواه البخاري: 6419].
قال ابن حجر: "وأصح الأقوال في ذلك ما ثبت في حديث الباب". [فتح الباري: 11/239].
ما معنى: أعذر الله؟
الإعذار إزالة العذر، يعني لم يبق له عذر، لم يبق لابن آدم الذي بلغ الستين أي عذر، إذا مات ولا رجع، بعد ما بلغ الستين، فمتى سيتوب؟ خلاص، لم يبق له، أعذر إليه، بلغه أقصى الغاية في العذر، ومكنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة، مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال على الله بالكلية، والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به، والله لا يعاقب إلا بعد بلوغ الحجة.
وقوله: أعذر الله إلى امرئ أخر أجله يعني أطاله حتى بلغه ستين سنة. [فتح الباري: 11/240].
لقد أعذر الله في عمره إليه، قال ابن بطال رحمه الله: "إنما كانت الستون حدًا لهذا؛ لأنها قريبة من المعترك" يعني معترك المنايا الذي تكثرت فيه الوفيات، العمر التي تكثر فيه الوفيات، المعدة للوسط لموت البشر بين الستين والسبعين في هذا الزمان في هذه الأمة، قال: "وهي سن الإنابة والخشوع، وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار، لطفًا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا، وطول الأمل، لكنهم امروا بمجاهدة النفس في ذلك". [فتح الباري: 11/240].
نحن الآن -يا إخوان ويا أخوات- أقيمت الحجة علينا بهذا القرآن، وبهذا النبي ، أقيمت الحجة علينا لما بلغنا البلوغ الشرعي، ونحن نعرف الكتاب، ونعرف الرسول، ونعرف الدين، ونعرف الإسلام، أقيمت علينا الحجة، لكن الحجج تتوالى، فإذا أخرنا إلى أربعين، ثم إلى ستين، فإنه يقيم علينا حجة بعد حجة، ويعطينا مهلة بعد مهلة.
إن هذا التأخير بعد التأخير، وهذه الحجة بعد إقامة الحجة، إن هذه نذر من الله ، وقد قال النبي ﷺ: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك [رواه الترمذي: 3550، وابن ماجه: 4236، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 757]، الذي يتعدى السبعين أقل، وأكثر الأمة من يموت ما بين الستين إلى السبعين.
أعذر الله إليه إذًا، بلغ به أقصى العذر، وقد أعذر من أنذر.
وقد تقدمت نذر الله لهذه البشرية، فمن عمره الله ستين سنة، لم يبق له أي عذر؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة: سنة الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين، فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي لصاحبها الإقبال على الآخرة بالكلية، لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة.
وقوله: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37] من هو النذير؟ ما هو النذير؟
قال بعض المفسرين: النبي ﷺ.
وقال بعضهم: الشيب.
وقال بعضهم: القرآن.
وقال بعضهم: موت الأهل والأقارب.
وقال بعضهم: كمال العقل [جامع البيان، لابن جرير: 20/478، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 14/353، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/556].
فالشيب، والأمراض، وموت الأهل، ومجيء النبي ﷺ، كلها داخلة في هذا المعنى، وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37]، قال بعضهم: رسول الموت.
أما موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان، فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، وحين وزمان، قال القائل.
وأراك تحملهم ولست تردهم | فكأنني بك قد حملت فلم ترد |
وقال آخر:
الموت في كل حين ينشر الكفن | ونحن في غفلة عما يراد بنا |
وكمال العقل، هذا تعرف به حقائق الأمور، كل هذا لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، فيا أيها الظالمون ما لكم من نصير.
أما الشيب، فإنه من نذر المنايا لصاحبه، وحسبك بالنذير، عن عبد الله بن بكر السهمي رحمه الله قال: نظر أبي في المرآة يومًا فجعل يتأمل شيبًا في لحيته ويبكي، فقيل: ما يبكيك؟ قال: إن الشيب تمهيد الموت. [العمر والشيب، لابن أبي الدنيا، ص: 70].
وقد ألف ابن أبي الدنيا رحمه الله كتاب: "العمر والشيب".
وقال القاضي منذر بن سعيد البلوطي -رحمه الله-:
كم تصابي وقد علاك المشيب | وتعامى جهلا وأنت اللبيب |
كيف تلهو وقد أتاك نذير | وشباك الحمام منك قريب |
يا مقيما قد حان منه رحيل | بعد ذاك الرحيل يوم عصيب |
إن للموت سكرة فارتقبها | لا يداويك إذا أتتك طبيب |
ثم تثوى حتى تصير رهينا | ثم يأتيك دعوة فتجيب |
بأمور المعاد أنت عليم | فاعلمن جاهدا لها يا أريب |
وتذكر يوما تحاسب فيه | إن من يذكر الممات ينيب |
ليس في ساعة من الدهر إلا | للمنايا عليك فيها رقيب |
كل يوم ترميك منها بسهم | إن يخطىء يوما فسوف يصيب |
[التذكرة، ص: 46].
قال مالك رحمه الله: "أدركت أهل العلم ببلدنا، وهم يطلبون الدنيا" يعني يتكسبون، يعملون لطلب الرزق "ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس". [التذكرة، ص: 46].
والآن إلى فراش المستشفى وهو يبيع ويشتري، في الجوال، حكي عن بعض العلماء، يعني هذه قصة فيها عبارة، أنه كان يميل إلى الراحات، وكثيرًا كان يخلو في بستان له بأصحابه، مثل الآن تجد بعض الناس وقد يكون من طلبة العلم، وقد يكون من الذين اشتغلوا فترة في الدعوة إلى الله، لما صارت موضة الاستراحات، اتخذ استراحة، ومسبحًا، وبعض الدواب، وصار يخرج إليها كثيرًا، ومعه شلة، سمر، وفي الشتاء سمر، حطب وفحم وشوي، يعني بعض الناس يميل إلى الراحة والدعة، ويضيع وقتًا طويلاً في قضية الاستراحات والبر، صحيح أن هذا ليس بأمر محرم، لكن يضيع عليه أوقات في العبادة والطاعة، وطلب العلم، قال حكي عن بعض العلماء: أنه كان يميل إلى الراحات كثيرًا، وكان يخلو في بستان له بأصحابه، فلا يأذن لأحدهم سواهم.
-طبعًا- الناس فيهم من يريد أن يطلب العلم، ويسأل، ويستفتي، ولعل لهم حاجات، قال: إذ رأى رجلاً يتخلل الشجر، فغضب، كيف يدخل عليه واحد ليس من الأصحاب؟ وقال: من أذن لهذا؟ وجاء الرجل فجلس أمامه، وقال: سؤال ما ترى في رجل ثبت عليه الحق عند القاضي، فزعم أن له مدافعة تدفعه عنه، عنده حجة أن الحق هذا لا يثبت عليه؟ فقال العالم للسائل: ينظره الحاكم بقدر ما يرى، القاضي يعطيه مهلة لإنذار البينة، إذا كان عنده بينة مدة، قال السائل: قد ضرب له الحاكم أجلًا فلم يأت بمنفعة، ولا أقلع عن اللدد والمدافعة، فقط يجادل، ويجادل، ما أتى بشيء يعتمد عليه، ولا بينة ولا حجة، قال: يقضي عليه يحكم، ما في بينة، أعطاه مهلة يأتي بالبينة، ما أتى ببينة، يحكم، قال: فإن الحاكم رفق به وأمهله أكثر من خمسين سنة، وهي عمر هذا، فأطرق الفقيه، وتحدر عرق وجهه، وذهب السائل، ثم إن هذا العالم أفاق من فكرته، فسأل عن السائل، فقال البواب: ما دخل أحد عليكم ولا خرج من عندكم أحد؟ فقال لأصحابه: انصرفوا فما كان يرى بعد ذلك إلا في مجلس يذكر فيه العلم. [التذكرة، ص: 46]، يعني صارت موعظة.
وحكي عن بعض المترفين: أنه رفض ما كان فيه بغتة، فجأة ترك حياة اللهو والدعة والكسل والترف، فجأة من غير تدريج، فسئل عن السبب، فقال: كانت لي أمة لا يزيديني طول الاستمتاع بها إلا غرامًا بها، فقلبت شعرها يومًا فإذا فيه شعرتان بيضاوان، فأخبرتها، فارتاعت، يعني هذه الأمة فيها دين وخير، وقالت: أرني؟ فأريتها شعرتين بيضاوين، فقالت: جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ[الإسراء: 81]، ثم نظرت إليّ، وقالت: اعلم أنه لو لم تفترض عليّ طاعتك؛ لأن العبد والأمة يجب عليهما طاعة السيد، لو لم تفترض عليّ طاعتك، لما أويت إليك، فدع لي ليلي أو نهاري، لأتزود فيه لآخرتي، فقال: لا، قالت: أتحول بيني وبين ربي وقد آذنني بلقائه؟ بهذا الشيب الذي ظهر الآن، أول شيية، هذا إنذار: وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37].
قالت: اللهم بدل حبه لي بغضًا، قال: فبت وما شيء أحب إلي من بعدها عني، يعني استجيب دعائها، وصار يبغضها فجأة، وعرضتها للبيع، فأتاني من أعطاني فيها ما أريد، فلما عزمت على البيع بكت، فقلت: أنت أردت هذا؟ فقالت: والله ما اخترت عليك شيئًا من الدنيا، هل لك إلى ما هو خير لك من ثمني؟ قلت: وما هو؟ قالت: تعتقني لله، فإنه أملك لك منك لي، يعني يقدر عليك أكثر مما تقدر أنت عليّ، وأعود عليك منك عليك، يعني الله يتفضل عليك ويعطيك أكثر مما ستمن علي وتعطيني، يعني لو أعتقتني، فقلت: قد فعلت، يعني أعتقها، فقالت: أمضى الله صفقتك، وبلغك أضعاف أملك، وتزهدت. [التذكرة، ص: 46].
انقطعت للعبادة هذه الأمة التي صارت حرة، قال: فبغضت إليّ الدنيا ونعيمها، يعني هذه القصة السبب الذي من أجلها هذا الرجل انقطع فجأة عن حياة الدعة والترف، وانصرف للعبادة.
ويقال: إن ملكًا من ملوك اليونان استعمل على ملبسه أمة أدبها بعض الحكماء، هي مسؤولة اللباس، فألبسته يومًا ثيابه، وأرته المرآة، فرأى في وجهه شعرة بيضاء، فاستدعى بالمقراض وقصها، فأخذتها الأمة فقبلتها، ووضعت على كفها، وأصغت بأذنها إليها، فقال لها الملك: إلى أي شيء تصغين؟ فقالت: إنني أسمع هذه المبتلاة بفقد كرامة قرب الملك، شوف الأسلوب لأنه قصها وأبعدها عنه، أسمعها تقول قولاً عجيبًا؟ قال: وما هو؟ قالت: لا يجترئ لساني على النطق به، قال قولي وأنت آمنة؟ قالت: إنها تقول: أيها الملك المسلط إلى أمد قريب، إني خفت بطشك بي، فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذني بثأري، الشعرة تقول، طبعًا هذا الكلام للموعظة، يعني لسان الحال، إني خفت بطشك بي قبل أن أظهر، فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذن بثأري، وكأنك بهن قد خرجن عليك، على وشك، فإما أن يعجلن الفتك بك، وإما أن ينقصن شهوتك وقوتك وصحتك، حتى تعد الموت غنمًا، تتمناه، قال: اكتبي كلامك، فكتبته، ثم نبذ ملكه، وراح، تزهد.
وزائرة للشيب لاحت بمفرقي | فبادرتها خوفًا من الحتف بالنتف |
[التذكرة، ص: 46].
بعض الناس أول ما تظهر فيه شيبة كأنه لا يريد أن يرى هذا المذكِر، هو لماذا سيخرج عما قريب أضعافًا مضاعفة؟
وبعضهم يصر على صبغه بالسواد، مع النهي عن الصبغ بالسواد، لكن لا يريد أي تذكير بالموت، ولا أن الأجل قريب، ولا أن ظهور الشيب هذا له في النفس هذه المعاني.
وزائرة للشيب لاحت بمفرقي | فبادرتها خوفًا من الحتف بالنتف |
فقالت على ضعفي استطعت ووحدتي | رويدك حتى يلحق الجيش من خلفي |
[التذكرة، ص: 46].
سيأتي الكل.
ذهاب الأقران
ومن نذر الموت: ذهاب الأقران، كان محمد بن واسع رحمه الله يمر على رباع إخوانه، وعلى بيوتهم، ممتلكاتهم الذين ماتوا، بعد موتهم، فيناديهم: يا فلان، يا فلان، ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: ماتوا والله وبادوا. إن نعلاً فقدت أختها لسريعة اللحاق بصاحبتها. يعني يذكر نفسه.
ما ينبغي للحاضرين تجاه المحتضر
ماذا ينبغي للحاضرين فعله عند حضور الميت قبل أن يموت وهو في الاحتضار وفي سياق الموت؟
تلقين الميت .. حكمه وآدابه وأحكامه
تلقين الميت، التلقين هو التعليم والتفهيم، والمراد بتلقين الميت أن يكون عنده من يذكره بلا إله إلا الله، كما لو يعلم صبيًا ويلقنه، فأنت إذا حضر عندك صبي تلقنه، فأنت تعيد عليه وتكرر، حتى يحفظ ويفهم.
تلقين الميت أن يذكره ويعيد عليه هذه الكلمة، وإنما استحب تلقين الميت كلمة الإخلاص في هذه الحال لأجل أن يختم له بها، وتكون آخر ما ينطق به، ولهذا أمر النبي ﷺ به، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله[رواه مسلم: 2162].
قال النووي رحمه الله: معناه من حضره الموت، والمراد ذكروه لا إله إلا الله، لتكون آخر كلامه، كما في الحديث: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة[رواه أبو داود: 3118، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1621]، والأمر بالتلقين هذا أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين [ينظر: المنهاج: 6/219].
وعن معاذ بن جبل قال في مرضه: قد سمعت رسول الله ﷺ سمعت منه شيئًا كنت أكتمكموه لئلا يتواكلوا عليه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة [رواه أحمد: 22087، وهو حديث صحيح، قال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن"].
قصة في الثبات عند الممات
ومن القصص العظيمة في هذا: قصة الحافظ المحدث العالم الناقد البصير، من المجددين في هذا العلم، علم الحديث والجرح والتعديل، إنه أبو زرعة الرازي -رحمه الله-، فله قصة عظيمة، قال أبو جعفر محمد بن علي وراق أبي زرعة: حضرنا أبا زرعة بماشهران، اسم موضع، وهو في السوق، يعني عند موته، وعنده أبو حاتم وابن وارة، والمنذر بن شاذان، وغيرهم، هؤلاء كبار طلابه ورؤوسهم، فذكروا حديث التلقين: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله بينهم يتهامسون، واستحيوا من أبي زرعة، أن يلقنوه، هذا شيخهم، وكيف يقول للشيخ قل، فصعب ذلك عليهم، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث، طبعًا أهل الحديث أهل أسانيد ومتون، فقال ابن وارة تلميذه الأول: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح ابن أبي... وسكت، فقال أبو حاتم حدثنا بندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح ... وسكت، فقال أبو زرعة، حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد الحميد، عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ومات [ينظر: سير أعلام النبلاء: 13/76، وصفة الصفوة: 4/89].
ذكّروا الشيخ بالأسانيد التي علمهم إياها لهذا الحديث تحديدًا، ففطن الشيخ وهو على فراش الموت، والتذكر هذا ليس سهلاً؛ لأننا تكلمنا عن الغشي، وما يصيب الإنسان عند الموت من شيء مستحكم ينزل عليه، فلا يمكنه أحيانًا لا من النطق ولا الصراخ ولا الاستنجاد، إلا من ثبت الله عقله في تلك اللحظة، وثبت عليه الدين والإيمان، فينطق بها عند الموت.
وعن يحيى بن طلحة عن أمه سعدة المرية قالت: مر عمر بطلحة بعد وفاة رسول الله ﷺ فقال: مالك كئيبًا؟ عمر رأى طلحة في شكل غريب، قال: مالك كئيبًا أساءتك إمرة ابن عمك؟ ساءك أن يكون أبو بكر الصديق خليفة؟ قال: لا، ولكن سمعت رسول الله ﷺ يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها أحد عند موته إلا كانت نورًا لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها روحًا عند الموت، فلم أسأله حتى توفي طلحة تذكر أنه سمع الحديث، وما سمع تكملته، وما عرف ما هي الكلمة، ولذلك جلس كئيبًا لما فاته من علم هذا الحديث، ما هي هذه الكلمة؟ وطلحة الآن يتقدم به السن، فهو يفكر إذا نزل به الموت سمع الحديث: إني لأعلم كلمة لا يقولها أحد عند موته إلا كانت نورًا لصحيفته، وأن جسده وروحه ليجدان لها روحًا عند الموت فمات النبي ﷺ وما سألته عنها؟ قال عمر: أنا أعلمها هي التي أراد عمه عليها، ولو علم أن شيئًا أنجا له منها لأمره، لا إله إلا الله. [رواه أحمد: 1386، وابن ماجه: 3795، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 3062].
وقال ﷺ: إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حرم على النارحقًا من قلبه، فقال له عمر بن الخطاب: أنا أحدثك ما هي؟ الذي يتكلم عثمان، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إني لأعلم كلمة عمر تدخل، قال: أنا أحدثك ما هي، هي كلمة الإخلاص التي أعز الله -تبارك وتعالى- بها محمدًا ﷺ وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي ألاص عليها نبي الله ﷺ عمه أبا طالب، يعني راوده من أجلها، وحاول عمه أبا طالب عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله [رواه أحمد: 447، وقال محققو المسند: "إسناده قوي"].
وعن أنس: أن رسول الله ﷺ عاد رجلاً من الأنصار، فقال: يا خال قل: لا إله إلا الله؟ قال: خال أم عم؟ قال: بل خال قال: وخير لي أن أقولها؟ قال: نعم. [رواه أحمد: 13853، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم"].
وقال أنس بن سيرين: شهدت أنس بن مالك وحضره الموت فجعل يقول: لقنوني لا إله إلا الله، فلم يزل يقولها حتى قبض . [الثبات عند الممات، لابن الجوزي، ص: 133].
لكن هل معنى هذا التلقين أن يزعج بها المحتضر، وأن يقولها كل الذين عنده، وأن يصبح هناك ضجة وإلحاح، وربما هذا الإلحاح يتبرم منه المحتضر، ويكثرون عليه، ويضيق صدره، وهو في حال الاحتضار، والوضع صعب وشديد عليه، وهم فوق رأسه، كل واحد: قل: لا إله إلا الله، قل.. قل.. قل.. فربما الواحد يعني لماذا قالوا: إن سريع الغضب إذا اشتد غضبه لا يقال له: اذكر الله؛ وإلا صل على النبي؛ لأنه ربما يسب، يقال: تعوذ من الشيطان، لو سب الشيطان، الشيطان يستاهل.
هل يكثر عليه؟
ثم في قضية أخرى الآن يسأل عنها الأطباء، يقولون: نحن الآن في أقسام الطوارئ وفي المستشفى نواجه حالات الاحتضار، ونحن لا نعلم هل هذا الآن يموت، فينبغي أن نلقنه، وإلا يعيش، يعني هذه حالة حرجة، ثم تعدي بسلام، ولو قلنا له قل: لا إله إلا الله، مثلاً، ثم شفاه الله يرفع دعوى علينا ، ويقول: موتوني قبل الموت، وتصير مشكلة، ولذلك ينبغي أن نعتني بكلام أهل العلم في هذا الحال، فقالوا، قال النووي رحمه الله: "وكرهوا الإكثار عليه" يعني على المحتضر "والموالاة" يعني يتابع وراء بعض، وراء بعض "لئلا يضجر بضيق حاله، وشدة كربه، فيكره ذلك بقلبه، ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا قاله مرة" يعني إذا المحتضر قال مرة: لا إله إلا الله "لا يكرر عليه" خلاص قالها، انتهى، تذكره مرة ثانيه؟ وثالثة؟ وقالها؟ "إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر، فيعاد عليه" بأسلوب لطيف، قال: "فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه" [المنهاج: 6/219].
فلو قيل: اذكر الله، واحد قال أمامه: لا إله إلا الله، ما يقول: قل .. قل .. قل، هو يقول: لا إله إلا الله، أمام المريض، أمام هذا المحتضر، فالمحتضر يتذكر، يعني مجرد سماع الكلمة يتذكر؛ لأنه مع الكرب، ومع شدة الموت، يحتاج إلى تذكير، فيكفي أن تمر على سمعه الكلمة، أن يسمعها أمامه، في المجلس، أن يسمع هذه الكلمة، مع الشدة الواحد يحتاج إلى تذكير، مع شدة الموقف يحتاج إلى تذكير، ولذلك فإن إمرار الكلمة على مسامعه يكفي، وإذا قالها مرة لا يؤمر بها مرة أخرى إلا إذا قال كلامًا آخر، فإنه يعاد تذكيره بها، لكي يعيد قولها حتى ينطبق عليه الحديث: من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة.
قال الإمام الترمذي رحمه الله في سننه قال بعض أهل العلم: إذا قال ذلك مرة، فما لم يتكلم بعد ذلك، فلا ينبغي أن يلقن، ولا يكثر عليه في هذا، بل قد حصلت للإمام عبد الله بن المبارك قصة عجيبة تدل على ثبات قلب هذا الرجل عند الموت، واستمراره في تعليم الناس بالرغم من الاحتضار، لما احتضر ابن المبارك جعل رجل يلقنه، يقول: قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، فأكثر عليه، فقال له، عبد الله بن المبارك الآن وهو يموت، قال: لست تحسن، يقول لهذا المذكر: لست تحسن وأخاف أن تؤذي مسلما بعدي، إذا لقنتني فقل: لا إله إلا الله، ثم لم أحدث كلامًا بعدها فدعني، فإن أحدثت كلامًا فلقني حتى تكون آخر كلامي [سنن الترمذي: 977].
طبعًا الذي يستحضر هذا التعليم عند الموت هذا تثبيت عجيب.
تلقين الكافر
ويستحب هذا التلقين، ولو كان الميت كافرًا لأنه لو قالها قبل النزع نفعه قولها، ولو عذب ما عذب بذنوبه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يومًا من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه [رواه ابن حبان في صحيحه: 3004، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 5150].
ومما يدل على أن الأمر بالتلقين يعم الكافر، فعل النبي ﷺ مع عمه أبي طالب، ومع الغلام اليهودي الذي كان يخدمه، فروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله ﷺ فقال: قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله [رواه البخاري: 6681].
وفي لفظ مسلم: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فوجد عنده رفقاء السوء، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله ﷺ: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ تموت على غير دين أبيك؟ أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه، ويعيدها له تلك المقالة، ولم تزل شلة السوء طبعًا تعيد عليه، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب -والعياذ بالله-، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله ﷺ: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك؟ فأنزل الله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113]، وأنزل الله في أبي طالب أيضًا قوله تعالى لنبيه ﷺ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56]. [رواه البخاري: 4772، ومسلم: 141].
فإذًا، في وفاة أبي طالب نزلت أكثر من آية، في آية سبب نزولها هذا، وآية أخرى سبب نزولها هذا، فهذا يدل على أن الكافر يحضر، ويلقن هذه الكلمة، أنت لو ذهبت مريت للمستشفى، لو حضرت في أي حادثة وفيها كافر، وهو يحتضر مره بهذه الكلمة.
وعن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض فأتاه النبي ﷺ يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم؟ فنظر إلى أبيه وهو عنده، الأب يهودي والغلام يهودي، الغلام نظر إلى أبيه، يعني كأنه يستأذنه ويستفهم منه ما هو الموقف الآن من هذا الذي يقول لي أسلم؟ فأدركت الشفقة على الولد الأب اليهودي، وهم يعرفون الحق سبحان الله العظيم، فقال له: أطع أبا القاسم ﷺ؟ فأسلم، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار[رواه البخاري:1356].
وعند أحمد: أن غلامًا يهوديًا كان يضع للنبي ﷺ وضوءه، يعني خادم، ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي ﷺ، فدخل عليه، وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي ﷺ: يا فلان قل: لا إله إلا الله؟ فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي ﷺفنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم؟ فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار [رواه أحمد: 12815، وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف"].
قال الحافظ رحمه الله: فيه جواز استخدام المشرك وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، واستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي، ولولا صحته منه" يعني من الصبي "ما عرضه عليه" [فتح الباري: 3/221].
وفي قوله: أنقذه بي من النار دليل على صحة إسلامه، يعني لو جاءك صبي الآن عمره عشر سنوات، سبع سنوات، ثمان سنوات، وأسلم، هل يحكم بإسلامه؟ هل يصح إسلامه؟ هذه تنبني عليها أحكام، هل يصح إسلامه؟ إذا صح إسلامه ينبني عليها أحكام؟ فما هو الجواب؟
يصح.
لقد جاءت قصة في حديث الغلام اليهودي، رواية عند أحمد عن أبي صخر العقيلي قال: حدثني رجل من الأعراب، قال: جلبت جلوبة، يعني شيء من السلع أو البضاعة إلى المدينة ليباع، جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله ﷺ، فلما فرغت من بيعتي، قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعنه منه، والأعراب سمعوا أشياء عن هذا الذي خرج بالمدينة، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، يعني النبي ﷺ بينهما، فتبعتهم في أقفائهم، حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرأها، يعزي بها نفسه، عن ابن له في الموت، كأحسن الفتيان وأجملهم، فقال رسول الله ﷺ: أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه: هكذا، يعني لا، فقال ابنه وهو سياق الموت: أي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي ﷺ: أقيموا اليهود عن أخيكم خلاص الآن صار منا، ومات على الإسلام: أقيموا اليهود عن أخيكم ثم ولي كفنه، وحنطه، وصلى عليه. [رواه أحمد: 23539، قال ابن كثير: "حديث جيد قوي وله شاهد في الصحيح"، كما في تفسير القرآن العظيم: 3/483، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة: 3269، وفي صحيح السيرة، ص: 73].
فوائد في قضية التلقين
كيفية تلقين المحتضر
أولاً: هل يكون التلقين بلفظ الأمر؟ بمعنى أن يؤمر المحتضر، ويقال له: قل لا إله إلا الله؟ أو يتلفظ بها أمامه يسمعه إياها تعريضًا، بحيث يذكره فقط؟ المهم التذكير؟
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإذا كان المريض قويًا يتحمل أو كان كافرًا، فإنه يؤمر، فيقال قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك ب لا إله إلا الله، وما أشبه ذلك، وإن كان مسلمًا ضعيفًا"، يعني أنت رأيت أن سياق الموت اشتدت على الشخص، "فإنه لا يؤمر، وإنما يذكر الله عنده، حتى يسمع فيتذكر، وهذا التفصيل مأخوذ من الأثر والنظر، أما الأثر فلأن النبي ﷺ أمر عمه أبا طالب عند وفاته أن يقول: لا إله إلا الله، قال: يا عم قل لا إله إلا الله، وأما النظر فلأنه إن قالها فهو خير، وإن لم يقلها فهو كافر"، يعني التشديد عليه، ما فيه خسارة إذا رفض هو أصلا كافر، وإذا أطاع الحمد لله، "فلو فرض أنه ضاق صدره بهذا الأمر ولم يقلها فهو باق على حاله لم يؤثر عليه شيئًا، وكذا إذا كان مسلمًا وهو مما يتحمل، فإن أمرناه بها لا يؤثر عليه، وإن كان ضعيفًا، فإن أمرناه بها ربما يحصل به رد فعل بحيث يضيق صدره، فيغضب وينكر، وهو في حال فراق الدنيا، فبعض الناس في حال الصحة إذا قلت له قل: لا إله إلا الله، قال: لن أقول لا إله إلا الله، فعند الغضب يغضب بعض الناس حتى ينسى، فيقول: لا أقول: لا إله إلا الله، فما بالك بهذه الحالة؟ [ينظر: مجموع فتاوى العثيمين].
تلقين الميت لا إله إلا الله فقط
ثانيًا: تلقينه لا إله إلا الله، ولم نقل محمدًا رسول الله؛ لأن هذا هو الذي ورد في الحديث: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، والحديث: من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة، فكلمة التوحيد، مفتاح الإسلام، وما يأتي بعدها فهو من مكملاتها وفروعها، ولو جمع بين الشهادتين، فقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، هذا لا يخالف أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله؛ لأن كلمة محمد رسول الله تبع لها، ومتممة لها.
حكم إخبار المريض بقرب أجله
ومما يستأنس به إذا كان الإنسان في سياق الموت قوي العقل، ما حصل من دخول الطبيب على عمر بن الخطاب بعدما طعن، والناس لا يدرون هل يسلم أو يموت، فالطبيب سقاه لبنًا، فخرج اللبن من الطعنة صلدًا أبيض، فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين اعهد؟ معناها إنك مفارق، يعني هذه الطعنة خرج اللبن من الطعنة معناه من الداخل انتهى، فقال عمر: صدقني، ولو قلت غير ذلك كذبتك؟ لأن عمر كان يحس أن هذه أجله، فبكى عليه القوم حين سمعوا ذلك، فقال: لا تبكوا علينا، من كان بكيًا فليخرج، ألم تسمعوا ما قال رسول الله ﷺ: يعذب الميت ببكاء أهله عليه [رواه أحمد:294، قال أحمد شاكر: "إسناده صحيح"].
إذًا، لو سأل طبيب سؤالًا فقال: الناس الذين نكتشف عندهم سرطانات وأمراض خطيرة، والمرض في مرحلة متقدمة، والحال عندنا ميئوس منها نخبره أو لا؟ وهذا السؤال يطرح كثيرًا، وأبناء المريض يقولون: نخبره أو لا؟
إذا كان هناك مصلحة من الإخبار -مثلاً- ديون لا بدّ أن يوصي بقضائها، أشياء ما لها إثبات إلا الآن، في أمور من مصلحته، يعني الآن لو قيل له: إن الوضع فيه خطورة، وأن الأطباء يقولون: هذه الحالة ما تعيش أكثر من شهر، مثلاً، طيب يستعد، صحيح أن فيها كرب وشدة، وفيها إزعاج نفسي رهيب، لكن ما في مانع أن يجمع بين الأمل وبيان الحقيقية الطبية، فيقال لهذا الشخص مثلاً: كل شيء بأمر الله، والأمل موجود، والأطباء قد يصيبون وقد يخطؤون، فهم يقولون: إن هذه الحالة ما تعيش أكثر من شهر، إن كان عندك شيء توصي، تثبت، تذكر، افعل، إن عشت ما ضرتك، وإن مت قضيت أمرك، وبغيتك، والحمد لله، يعني يؤتى بكلام يوصل فيه المقصود، مع عدم إغلاق باب الأمل، فربما يعيش.
إذًا، الذي يقول لا تخبروه أبدًا، طيب قد يكون عند أشياء مثلاً يريد التوبة منها، يريد الوصية بها، ديون إثبتات أشياء لأناس، من المصلحة أن يقال له يعني: احتاط لأمرك، اقترب الأجل في تقدير البشر.
الدعاء للمحتضر بالخير
والدعاء له بخير أيضاً مما ينبغي أن يفعل عند حضور المحتضر، لما روى مسلم رحمه الله في صحيحه عند أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون فلما مات أبو سلمة أتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات؟ قال قولي: اللهم اغفر لي وله وأعقبني مني عقبى حسنة فقلت، فأعقبني الله من هو خير منه محمدا ﷺ. [رواه مسلم: 2168].
استحباب إغماض عيني الميت
ودخل رسول الله ﷺ على أبي سلمة، وقد انشق بصره، فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله. [رواه مسلم: 2169].
وفي رواية لمسلم وأبي داود عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله ﷺ على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفغ درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه [رواه مسلم: 2169، وأبو داود: 3120].
وهذا يدل على استحباب إغماض عيني الميت لئلا يقبح بمنظره لو ترك إغماضه، وربما أخاف من نظر إليه؛ لأن منظر العينين إذا شخصت إلى الأعلى متابعة لاتجاه خروج الروح، ربما كان هذا المنظر لا يسر، فلذلك تغمض عيناه.
متى تغمض عيني الميت
وينبغي ألا يتعجل في تغميض الميت حتى يعلم أنه قد مات؛ لأن ذلك يؤذي المحتضر، قال أبو داود بعد رواية هذا الحديث: "وتغميض الميت بعد خروج الروح، سمعت محمد بن محمد بن النعمان المقري قال: سمعت أبا ميسرة رجلاً عابدًا، يقول: غمضت جعفرًا المعلم، وكان رجلاً عابدًا في حالة الموت، فرأيته في منامي ليلة مات، يقول: أعظم ما كان عليّ تغميضك لي قبل أن أموت. [سنن أبي داود: 3/159]. يعني: أن هذا آذاه، إغماض المحتضر قبل أن يموت.
إذًا، متى يغمض؟
إذا جزمنا بموته، أما إذا شكينا تركناه.
الدعاء للميت
وهذا الدعاء الذي قاله النبي ﷺ مما ينبغي أن يقال عند حضور أي إنسان يموت، فإذا مات يقولون كلامًا طيبًا ودعاءً حسنًا: اللهم اغفر لأبي سلمة والدعاء له ولأهله؛ لأن هناك أهل حاضرون، والأخذ بما يدخل أيضاً على نفوسهم شيئًا من الأمور الطيبة، بالكلمات الطيبة أيضاً ينبغي أن يكون في تلك الحال، ولذلك كان الدعاء له ولأهله وذريته: واخلفه في عقبه في الغابرينيعني إذا قام مقام غيره بعده في رعاية أمره، وحفظ مصالحه، فكن خلفًا أو خليفة له، وعقبه من يتأخر بعد وفاته من ولده وغيره، في الغابرين الباقين في أحياء الناس، وافسح له في قبره، ونور له فيه، والفسح ينافي الضغط، ضغط القبر.
قوله: فقولوا خيرًا يعني ادعوا بالخير لا بالشر، قولوا شيئًا ينفع الميت وينفعكم,
وهذا الآن في الناس عجيب، وهذا -يا إخوان- بعضهم من تأثير الأفلام، وهذه المسرحيات، فإنهم هؤلاء الممثلين والممثلات إذا مات خلاص علموا الناس والمشاهدين: يا خرابي! ويا لهوي! ويا ثبوراه! ويا ويلاه! ونحو ذلك، واللطم وشد الشعر، وشق الثياب، قال: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرًا فإن الملائكة ملك الميت وأعوانه أو غيرهم يؤمنون على ما تقولون [رواه مسلم: 2168]، فهذا ما ينبغي أن يفعل عند موته أيضًا.
وعن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون له، ويثنون، ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل آخذ بمنكبي، فإذا علي بن أبي طالب يقول: رحمك الله، يقول لعمر بعد الموت، رحمك الله، يدعو له، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما [رواه مسلم: 3677].
تكنفه الناس، أحاطوا بالنعش وسرير الجنازة، وجاء علي ، وقال هذا الكلام، وهذه شهادة عظيمة من علي لعمر رضي الله عنهما.
تغطية الميت إذا مات
طيب: ماذا ينبغي أيضًا أن يفعل؟
تغطية الميت إذا مات، فإن عائشة -رضي الله عنها- أخبرت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ حين توفي سجي ببرد حبرة [رواه مسلم: 5814] غطي جميع بدنه، والوجه والرأس كله يغطى، ببرد.
ففيه استحباب تغطية الميت، ويلف طرف الثوب المسجى به تحت رأسه، وطرفه الآخر تحت رجليه، لئلا ينكشف عنه، فهذا يدل على أنه لا يشرع كشف وجوه الأموات، وإبقاءها مكشوفة، وإذا حضر واحد وأراد أن يقبل الميت بين عينيه، كما فعل الصديق، يكشف الثوب، ويقبل ويعيد تغطيته.
فإذًا، إبقاء وجه الميت مكشوفًا بعد الموت، ليس من السنة، وأثناء حمله كذلك، وأثناء وضعه في الثلاجة كذلك، وأثناء وضعه في القبر كذلك، ليس من السنة كشف وجه الميت، فبعض الناس يقولون: نشاهد في القنوات الفضائية، والأخبار، أثناء القتلى، وإذا حملوا، خصوصًا إذا كانوا قتلوا ظلمًا، وهؤلاء الذين يقتلهم اليهود وغيرهم أنهم يكشفون الوجه؟
فيقال: هذا خاص بمن مات محرمًا، أما بقية الموتى، فلا يعلم دليل على استحباب كشف وجوههم، ولذلك السنة: تغطيته.
وكشفه للكاميرات، ليس له فائدة واضحة، ومن إكرام الميت: ستر بدنه كله.
قراءة يس عند الاحتضار
قراءة يس عند الاحتضار، قد ورد في ذلك حديث صفوان: كان المشيخة يفعلونه.
وصفوان تابعي، والمشيخة هؤلاء يمكن أن يكونوا من الصحابة، بل قد روى عن غضيف بن الحارث الثمالي: أنه لما احتضر طلب قارئًا يقرأ سورة يس". [مسند أحمد: 17010].
قال ابن كثير رحمه الله يعلق أن من استحب ذلك: "وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة، وليسهل عليه خروج الروح". [تفسير القرآن العظيم: 6/562].
هذا متى؟ عند الاحتضار.
لكن بعد الموت لا يسن قراءة سورة يس على الميت أبدًا.
وما ورد من ذلك: اقرؤوا يس على موتاكم ضعيف جدًا. [رواه أبو داود: 3123، وأحمد: 20316، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود: 683].
وهناك أحاديث مكذوبة وموضوعة في قراءة يس على الميت.
وبعض الناس إذا مات الميت، قالوا يس أربعين مرة، وزعوا المصاحف، يا الله، أربعين مصحف على الحاضرين، وإذا كانوا الحاضرين أقل من أربعين، قال: من يقرأها مرتين؟ من يقرأها ثلاث؟ هذا لا أصل له، ولا دليل عليه، ومن البدع: التقرب إلى الله بأشياء لم تثبت؛ لأنهم يفعلونها عن نية عبادة وطاعة.
فإذًا، لا نفعل شيئًا لم يثبت، ثبت عن بعض السلف قراءتها عند الاحتضار، قالوا: تسهل خروج الروح، أما بعد الموت لا يشرع قراءة يس، ولا غير يس.
وأيضًا فإن من البدعة وضع المصحف عند رأس المحتضر، ومن البدعة: تلقين الميت الإقرار بالنبي وأئمة أهل البيت.
توجيه المحتضر نحو القبلة
وأما توجيه المحتضر نحو القبلة، فقد ورد عن بعض السلف التوجيه، وورد عن بعضهم عدم التوجيه، وأن سعيد بن المسيب أنكر على من فعل هذا، على من وجهه، ولذلك يمكن أن يقال كخلاصة: إن توجيه المحتضر إلى القبلة لا هو من السنة ولا من البدعة.
نقول ليس من السنة؛ لأنه لم يثبت شيء عن النبي ﷺ في هذا، وأنكره بعض السلف.
ونقول ليس من البدعة؛ لأنه قد ورد عن بعض السلف.
بعض ما ينبغي على المحتضر عند قرب أجله
ماذا ينبغي للمحتضر نفسه؟
أولاً: الهدوء والسكينة.
ثانيًا: النطق بالشهادة، لما تقدم: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة [رواه أبو داود: 3118، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1621].
ثالثًا: حسن الظن بالله، وهو مستحب في هذا الوقت استحبابًا عظيمًا، فقال أبو النضر: دخلت على واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه وجلس، فقال له واثلة: كيف ظنك بربك؟ أنت الآن في سياق الموت، قال أبو الأسود وأشار برأسه، يعني: ظن حسن، قال واثلة: أبشر إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء حديث صحيح. [رواه أحمد: 16059، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1663].
وقال حكيم بن حزام ، حكيم بن حزام أسلم في فتح مكة، وكان من العقلاء والحكماء الكبار، عاش ستين سنة قبل الإسلام في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، معمر، قال حكيم بن حزام عند الموت: "لا إله إلا الله اللهم إني كنت أخشاك، فأنا اليوم أرجوك" [سير أعلام النبلاء: 3/51].
ولأجل هذه القضية، حسن الظن بالله، مما ينبغي على من حضر الميت وهو يحتضر تحديثه بأحاديث الرجاء، ومحاسن أعماله، حتى يموت وهو يحسن الظن بربه.
قال أبو حفص الصيرفي: بلغني أن عمر بن ذر رحمه الله كان إذا تلا: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ [النحل: 38]، يقول هو: ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، أتراك تجمع بين القسمين في دار واحدة؟ [سير أعلام النبلاء: 6/387].
يعني: من حسن ظنه بالله، يقول الكفار يقولون قال الله عنهم: وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ [النحل: 38]، ونحن نقول: نقسم بالله جهد أيماننا: ليبعثن الله من يموت، أتراك تجمع بين القسمين في دار واحدة؟ فلا يجتمع صاحب القسم الكافر مع صاحب القسم المؤمن الذي يقول بعكسه في دار واحد.
وقال عمر بن ذر: "إن لي في ربي جل وعز أملين: أملاً ألا يعذبني بالنار، فإن عذبني لم يخلدني فيها، مع من أشرك به" [سير أعلام النبلاء: 6/387].
وقال النبي ﷺ لما رأى امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، قال: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدهامتفق عليه. [رواه البخاري: 5999، ومسلم:7154 ].
ودخل النبي ﷺ على شاب في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله ﷺ: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف [رواه الترمذي: 983، وابن ماجه: 4261، وحسنه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز: 2].
إن هذه القضية اتبعها عبد الله بن عباس مع عمر وعائشة، وهكذا السلف إذا حضر أحدهم ميتًا يحتضر، فإنه يذكره بهذه القضية، قال عمرة بن ميمون عن عمر: لما طعن، فاحتمل إلى بيته، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يثنون عليه، وجاءه رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله ﷺ، وقدم في الإسلام، ثم وليت فعدلت ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي. [انظر: البخاري: 3700].
أنا أرجو أخرج لا علي ولا لي، والقدم السبق، والمغيرة أثنى عليه، وقال: هنيئًا لك الجنة؛ لأن النبي ﷺ بشر عمر بالجنة، ومع ذلك عمر ما اغتر لما بشر، ولا عند الموت، ودخل عليه الصحابة، ثم أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فكلما دخل عليه قوم بكوا، وأثنوا عليه.
وفي رواية قال ابن عباس: أليس قد دعا رسول الله ﷺ أن يعز الله بك الدين والمسلمين إذ يخافون بمكة؟ فلما أسلمت كان إسلامك عزًا، وظهر بك الإسلام، وهاجرت فكانت هجرتك فتحًا، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله ﷺ من قتال المشركين، ثم قبض وهو عنك راض، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي ﷺ فضربت من أدبر بمن أقبل، ضربت من أدبر عن الإسلام بمن أقبل على الإسلام، ثم قبض الخليفة وهو عنك راض، ثم وليت بخير ما ولى الناس، مصر الله بك الأمصار، وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل بك على أهل بيت من سيوسعهم في دينهم وأرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئًا لك، فقال عمر: والله إن المغرور من تغرونه، ثم قال يعني لابن عباس، وابن عباس من آل البيت، وابن عم النبي ﷺ: يا عبد الله أتشهد لي عند الله يوم القيامة؟ يعني هذا الكلام تقوله مجاملة، وإلا أنت مستعد يوم القيامة يوم يقوم الأِشهاد أن تشهد بهذا؟ قال: نعم، قال: اللهم لك الحمد. [المعجم الأوسط للطبراني: 1/181، رقم: 579].
ابن عباس مع عائشة رضي الله عنها أيضاً قام بهذا الدور، فجاء يستأذن على عائشة وهي في الموت، ذكوان مولى عائشة جاء إلى عائشة يقول: ابن عباس يستأذن؟ قالت: دعني من ابن عباس لا حاجة لي به ولا بتزكيته، فقال عبد الله: يا أمه إن ابن عباس من صالحي بنيك يودعك ويسلم عليك؟ قالت: فأذن له إن شئت؟ فجاء ابن عباس فلما قعد قال: أبشري فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب وتلقي محمدًا ﷺ والأحبة إلا أن تفارق روحك جسدك، قالت: إيه يا ابن عباس، إليك عني؟ قال: كنت أجب نساء رسول الله ﷺ يعني إليه، ولم يكن يحب إلا طيبًا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله ﷺ ليلقطها، يبحث عنها، وأخر الجيش كله، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله: فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة: 6].
فكان ذلك يعني رخصة التيمم من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة، ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجد من المساجد يذكر فيه الله إلا براءتك تتلى فيه آناء الليل والنهار، قالت: دعني منك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسيًا منسيًا [ينظر: مسند أحمد: 2496، ومسند أبي يعلي: 5/56، وسير أعلام النبلاء: 2/180، والبداية والنهاية: 8/101].
الأشياء التي لا تنفع عند الموت
ما هي الأشياء التي لا تنفع عند الموت؟
إن الإنسان إذا بلغ -يا إخواني- حالة النزع وبلغت روحه الحلقوم، لم ينفعه تقديم شيء من العمل الصالح، فلا ينفع كافرًا أن يؤمن، ولا مفرطا أن يستدرك، ولا مذنبًا أن يتوب، قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ مقدمات العذاب، ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم الْمَلآئِكَةُ لقبض أرواحهم، فإذا وصلوا إلى تلك الحال لم ينفعهم الإيمان، ولا صالح الأعمال". [تيسير الكريم الرحمن، ص: 281]، فهذا يدل على أن الملائكة إذا جاءت لقبض الروح لم ينفع شيئًا.
وقال في شأن فرعون -لعنه الله-: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 90- 91]، هذا إيمان المضطرين، والمضطر لا يقبل إيمانه، هذا إيمان اضطراري؛ لأن الموت نزل ورأى ملائكة العذاب، الآن ماله لا يؤمن؟ سيؤمن رغمًا عنه، لما نزل العذاب الآن ينطق الشهادة، لما أغرق الله فرعون يقول النبي ﷺ قال: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ جبريل حضر موقعة إغراق فرعون، يقول للنبي ﷺ بعد آلاف السنين: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة؟[رواه الترمذي: 3107، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2015].
فيقول جبريل للنبي ﷺ لما أدرك فرعون الموت، وغرق، جعل يقول: لا إله إلا الله، قال: وأنا آخذ من حال البحر، يعني من طين البحر الأسود من تحت، وأدسه في فيه، أدخله في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة؛ لأن رحمة الله واسعة، خشيت أن يقول: لا إله إلا الله، فتناله الرحمة.
مما لا ينفع أيضًا: التوبة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ[النساء: 17].
ما معنى: مِن قَرِيبٍ؟
قبل الموت: فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 17- 18]، أي: توبة قبل الغرغرة، قبل وصول الروح إلى الحلقوم تقبل، وأما إذا خرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وغرغرت النفس، وبلغت الحلقوم، وسمعت الشخير، وهي صاعدة في الغلاصم، فلا توبة مقبولة، ولات حين مناص. إذا رأى ملك الموت ما عد ينفع، إذا رأى الملائكة أمامه نزلت الملائكة لقبض الروح ما عد ينفع، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر [رواه الترمذي: 3537، وهو حديث حسن، حسنه الألباني في صحيح الترمذي: 2802].
متى يغرغر؟
إذا بلغت الروح الحلقوم، يتيقن الموت، وعند ذلك لا تنفع التوبة، ولا ينفع الندم، ولا الإيمان، إلا إذا كان آمن وتاب من قبل، قال عبد الرحمن بن الديلماني: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله ﷺ فقال أحدهم: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم فقال الثاني: أأنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم فقال الثالث: أأنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قال وأنا سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة؟ قال الرابع: أأنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر بنفسه [رواه أحمد: 15538، والحاكم: 7661، وصححه الألباني: ].
قال أبو حازم: "نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب ونحن لا نتوب حتى نموت". [تاريخ الإسلام: 8/441].
ومن الأِشياء التي لا تنفع: الأماني الباطلة: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ [الحديد: 14]، يعني الأباطيل، يعني طول الأمل، يعني خداع الشيطان، حتى جاءكم: أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت: وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 14]. يعني: الشيطان، ولذلك فإن النبي ﷺ قد أخبر بأن طلب الرجعة هنا لا يجاب، لما جاء في كتاب الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99- 100] فمتى يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ ؟ ما ينفع طلب الرجعة الآن، حتى يعاين الموت، قال قتادة: "والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة" ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات "ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله " فرحم الله امرئً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب من النار. كلا لا رجعة ولا إمهال، نزل الموت، قال العلاء بن زياد: "لينزل أحدكم نفسه أن لو قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله "[ تفسير القرآن العظيم: 5/494].
افرض نفسك سألت الرجعة ورجعت ماذا ستفعل حينها؟ افرض أنك حضرك الموت، وسألت الرجعة ورجعت، ماذا ستفعل؟ طاعة الله، افعل ذلك الآن.
من الأِشياء التي لا تنفع عند الموت: الصدقة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9 - 11].
النبي ﷺ قال لما سئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان[رواه البخاري: 1419، ومسلم: 2429].
صحيح حريص، في حال الصحة الشيطان يزين لك طول العمر الآن الصدقة عظيمة، لكن إذا بلغت الروح الحلقوم، وصارت الغرغرة، أعطوا فلانًا، وأعطوا فلانًا، ووزعوا على فلان، وتصدقوا، قال: وقد كان لفلان فمن هو فلان الأول والثاني والثالث؟ قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان، فلان الأول والثاني الموصى لهما، وفلان الثالث الوارث، خلاص صارت للورثة الآن، الآن ما عد ينفع.
قيل لحاتم الأصم وكان من الزهاد: "علام بنيتَ أمرَكَ هذا في التوكل علي الله؟"، قال: "علي خصالِ أربع: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمتُ أن عملي لا يعملهُ غيري، فأنا مشغول به، وعلمتُ أن الموت يأتيني بغتةً، فأنا أبادره، وعلمتُ أني لا أخلو من عين الله حيث كنتُ، فأنا مستحٍ منه".[سير أعلام النبلاء: 11/485، وصفة الصفوة: 4/161].
ونختم بهذا الحديث، عن بسر بن جحاش القرشي: أن النبي ﷺ بصق يومًا في كفه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: قال الله : يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ نطفة حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق وأنى أوان الصدقة؟ [رواه أحمد: 17876، وهو حديث صحيح].
اللهم ثبتنا عند الممات، وارزقنا التوبة قبل الممات، اللهم ثبتنا على الإيمان حتى نلقاك، يا سميع الدعاء. وصلى الله على نبينا محمد.