الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تكلمنا عن موضوع عذاب النار -نسأل الله السلامة منها والعافية- عن أسمائها وأوصافها، وما جاء فيها، من اتساعها وعظمها، وأنها تتكلم وتبصر، وتنطق نطقًا حقيقيًا، وكذلك فإنها طبقات ودركات، وأن المنافقين في الدرك الأسفل منها، وأنها تقول يوم القيامة: هَلْ مِن مَّزِيدٍ[ق: 30]؟ وأن هذا السؤال على سبيل الطلب، هل من زيادة تزاد فيّ؟ كما ذكره عدد من المحققين من أهل العلم.
وصف النار من الداخل
فما هو وصف النار من الداخل؟
لأن المسلم إذا عرف ما أعد الله لأهل المعصية من العذاب والأهوال التي تكون فيها، فإنه يسعى لاجتنابها، واجتناب غضب الرب، وكل ما يؤدي للوقوع في النار.
إذا مد الصراط على جحيم | تصول على العصاة وتستطيل |
فقوم في الجحيم لهم ثبور | وقوم في الجنان لهم مقيل |
وبان الحق وانكشف الغطاء | وطال الويل واتصل العويل |
[بستان الواعظين ورياض السامعين، ص: 37].
سرادق النار
النار لها سرادق، قال الله -تعالى-: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا[الكهف: 29].
قال العلماء: السرادق، هو السور، وكل ما أحاط بشيء، فهو سرادق، ومنه قوله تعالى: أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
"السرادق، كل ما أحاط بالشيء" من حائط، أو مضرب، أو خباء، أو سور، "وهو كسرادق الفسطاط، وهو الحجرة التي تطوف بالفسطاط" [جامع البيان في تأويل القرآن: 18/10].
وروى الطبري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سرادقها" حائط من نار" [جامع البيان في تفسير القرآن: 15/246].
وساءت مرتفقًا" أي ساءت منزلاً ومقيلاً ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق[انظر: تفسير القرآن العظيم:5/156].
وهذا ولا شك ذم لحالة أهل النار، وحالة النار نفسها التي هي ساء ما يرتفق به، وساء ما يؤوى إليه، وساء ما يعاش فيه.
سواد النار
والنار، كما قال أهل العلم: سوداء مظلمة، شديدة السواد.
وقد جاء في ذلك حديث مرفوع، رواه الإمام الترمذي -رحمه الله-، ولكنه ضعيف، وقد صح بعضه، عن أبي هريرة موقوفًا.
فأما المرفوع، فلفظه: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة[رواه الترمذي: 2591، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي: 2591].
وفي رواية: فهي سوداء كالليل المظلمهذا مرفوع ضعيف[رواه ابن ماجه: 4320، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه: 4320].
وأما ما جاء عن أبي هريرة موقوفًا، وقد صح عنه، عند مالك -رحمه الله- قال: "أترونها حمراء كناركم هذه؟ لهي أسود من القار، والقار الزفت" وهذا إسناده صحيح على شرط الشيخين[رواه مالك في الموطأ: 1805، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3670].
سَوداءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إذا سُعِرَتْ | للظالمينَ فما تُبقي ولا تَذَرُ |
هذه النار، بعكس الجنة التي نور وضياء، فأما نار الدنيا، فإنها تضيء وتنير، ولكن نار الآخرة مظلمة، شديدة السواد، وقال الضحاك -رحمه الله-: "جهنم سوداء، ماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود"[الكشف والبيان عن تفسير القرآن6/167].
ودل على سواد أهلها قوله تعالى: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[يونس: 27].
وقال : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106].
قال أبو ظبيان -رحمه الله-: "النار سوداء مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها"[جامع البيان في تفسير القرآن: 16/ 498]؛ لأن اللهب والجمر في الدنيا إذا اشتعل يضيء، وأما جهنم، فإنها لا تضيء.
وقال قتادة -رحمه الله- في قوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم: 72] "إِنَّ النَّاسَ وَرَدُوا جَهَنَّمَ وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَضَاءَتْ لَهُمْ حَسَنَاتُهُمْ ، فَأُنْجُوْا مِنْهَا . وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ ، وَاحْتُبِسُوا بِذُنُوبِهِمْ"[جامع البيان في تفسير القرآن: 15/607].
سوداء مظلمة شعثاء موحشة | دهماء محرقة لواحة البشر |
شدة حرارة النار
لقد جاء وصفها في كتاب الله، بأنها شديدة الحرارة؛ كما قال تعالى: نَارٌ حَامِيَةٌ[القارعة: 11].شديدة الحر، قوية اللهيب[انظر: تفسير القرآن العظيم: 8/469].
وقال: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً[الغاشية: 4] شديد حرها.
وقال: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ[المسد: 3]ذات شرر، وإحراق شديد.
وقال ﷺ: ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم[رواه البخاري: 3265].
ولذلك كان بعض السلف، إذا أراد أن يحاسب نفسه، أو أن يوبخ نفسه، خوفها بنار الآخرة، وإذا دعته إلى الفاحشة، قال: إن صبرت على هذه النار أوردتك ما تريدين، لكن لا يصبر الأصبع على فتيلة المصباح، إذا أوقدت، فكيف بنار تحيط من جميع الجوانب؟
دخان النار
جهنم لها دخان، قال تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ[الرحمن: 35].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نحاس، يعني دخان النار"[جامع البيان في تفسير القرآن للطبري:22/224].
وكذلك قال في قوله تعالى: وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ [الواقعة: 43]قال: "ظل من دخان"[تفسير القرآن العظيم: 7/537].
وكذلك ورد عن مجاهد -رحمه الله-: مِّن يَحْمُومٍ"ظل من دخان جنهم، أَسود، وهو اليحموم" [تفسير مجاهد، ص: 429].وهو السموم.
وقال أبو مالك: "اليحموم، ظل من دخان".
وكذلك في قوله : انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ[المرسلات: 30].
قال مجاهد: "دخان جهنم" اللهب الأخضر والأسود والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت.
وقد جاء عن النبي ﷺ مرفوعًا من رواية الترمذي: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنموهو حديث صحيح[رواه الترمذي: 2311، والنسائي: 3108، وصححه الألباني لغيره كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1269].
فإذًا، أثبت لها دخانًا.
لهب النار وشررها
كذلك، فإن لها شرر ولهب، فبالإضافة للحر الشديد، أو الإحراق واللهيب، وكذلك الدخان، وكذلك لها شرر، ولها لهب، قال في وصف شررها: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 32 - 33].
وهي السود التي تضرب إلى لون فيه صفرة.
وهذا يدل على أنها مظلمة، وأنها لهبها وجمرها وشررها أسود، كريه المرأى، شديد الحرارة، قال ابن كثير -رحمه الله-: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ "أي يتطاير شررها من لهبها كالقصر" الشرارة كالقصر، الشرارة الصغيرة جداً التي نراها في نار الدنيا، إذا تطاير الشرر، صغير، كالنقطة، لكنه في جهنم الشرارة كالقصر في الحجم، قال ابن مسعود: "كالحصون".
وقال ابن عباس: "كأصول الشجر"[تفسير القرآن العظيم: 8/299].
وجاء عنه في تفسيره أيضاً للقصر: "كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع، وفوق ذلك، فنرفعه للشتاء، فنسميه: القصر"كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ[المرسلات: 33]"حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال" [تفسير القرآن العظيم: 8/300، وهذا الأثر رواه البخاري في صحيحه، عن ابن عباس: 6/205، رقم: 4933].
وقال تعالى في لهبها: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: 3]أي ذات شرر ولهيب، وإحراق شديد.
لها شرر كالقصر فيها سلاسل | عظام وأغلال فغلوا وجرجروا |
عصاة وفجار وسبع طباقها | وسبعين عامًا عمقها قد تهور |
زمهرير النار وشدة بردها
من عذاب جهنم أيضاً -نسأل الله السلامة-: الزمهرير، شدة البرد، قال مرة بن عبد الله: "إنه لون من العذاب"[جامع البيان في تفسير القرآن للطبري: 23/552].
وقد بين تعالى: أنه نجا أهل الجنة من البرد الشديد، والحر الشديد، فقال ذاكرًا إنجاءه لأهل الجنة من الحر والبرد: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13].
وقد روى ابن أبي الدنيا من طريق الأعمش عن مجاهد قال: "إن في النار لزمهريرا يعذبون به، فيهربون منها إلى ذاك الزمهرير، فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى تسمع لها نقيضا"[صفة النار، لابن أبي الدنيا، ص: 111]لأن العظام إذا اصتكت من البرد سمع لها صوت.
وعن ليث عن مجاهد قال: "الزمهرير الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده"[جامع البيان فيتفسير القرآن: 24/30].
وعن ابن عباس قال: "يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة، يصدع العظام بردها،فيسألون الحر"[التخويف من النار، ص: 100].
وروى أبو نعيم بإسناد عن ابن عباس أن كعبًا قال: "إن في جهنم بردا هو الزمهرير، يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم" [التخويف من النار، ص: 100].
وجاء عن ابن مسعود أيضاً قال: "الزمهرير لون من العذاب"[جامع البيان في تأويل القرآن: 24/102].
قال عكرمة: "البرد الشديد"[الدر المنثور في التفسير بالماثور: 15/158].
قصة:
ومن القصص التي حدثت لبعض السلف، وهو زبيد اليامي -رحمه الله-، وكان من العباد: أنه قام ليلة يتهجد، فعمد إلى مطهرة له كان يتوضأ فيها، فغسل يده، ثم أدخلها في المطهرة، فوجد الماء الذي فيها باردًا شديدًا جداً، قد كاد يجمد، فذكر الزمهرير، ويده في المطهرة، فلم يخرج يده من المطهرة حتى أصبح، فجاءت الجارية، وهو على تلك الحال، فقالت: يا سيدي ما شأنك لم تصل الليل كما كنت تصلي؟ قال: ويحك إني أدخلت في هذه المطهرة، فاشتدت عليّ برد الماء، فذكرت به الزمهرير، فوالله ما شعرت بشدة برده، حتى وقفت عليّ، انظري لا تخبري بهذا أحدًا، ما دمتُ حيًا، فما علم بذلك أحد حتى مات -رحمه الله-"[انظر: لطائف المعارف، ص: 356].
تسجير النار وتسعيرها
جهنم تسجر وتسعر، فقد جاء في حديث سمرة عن النبي ﷺ: أن ملكين أتياه في المنام، وذكر الرؤيا الطويلة، وفيها: فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلا مرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق في آخر الحديث عرفاه إياه، فقالا: وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها، ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم والحديث رواه البخاري بتمامه، وخرج مسلم أوله[رواه البخاري: 7047، ومسلم: ].
ومعنى: يحشها.
وفي رواية: يوقدها[رواه البخاري: 1386]تُفسرها.
حششت النار، أحشها، أوقدتها، وحششت النار بالحطب، يعني ضممت ما تفرق من الحطب إلى النار.
وقال ابن العربي: "حش ناره، يعني حركها"[فتح الباري، لابن حجر: 12/443].
أوقات تسجير النار وتسعيرها
وجهنم تسجر أيضاً كل يوم في نصف النهار، هذا يبين لنا الوقت الذي تسعر فيه جهنم يوميًا، يوميًا يزاد في حرها، يوميًا تسجر وتوقد، يوميًا عند منتصف النهار، كما قال ﷺ في حديث عمرو بن عبسة الذي رواه مسلم: فإنها تطلعيعني الشمس حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم[رواه مسلم: 1967] فإذا صارت الشمس في وسط السماء ينهى عن الصلاة، هذا وقت إيقاد جهنم، الإيقاد على جهنم زيادة، يوميًا تسجر ويوقد عليها، متى؟ في وسط النهار، إذا الشمس في وسط السماء، وهو الوقت الذي ينهى فيه عن الصلاة؛ لأنها إذا زالت عن وسط السماء دخل وقت صلاة الظهر، ولذلك قال: فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة [رواه مسلم: 1967].
وفي رواية: أنه ﷺ قال: فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة، حتى تميل الشمس فإنها حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم رواه ابن حبان، وهو حديث صحيح[رواه ابن حبان في صحيحه: 1550، وأبو يعلى: 1275، وصححه الألباني لغيره، كما في السلسة الصحية: 1371].
وكذلك، فإنها تسجر أيضاً يوم القيامة، قال تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ[التكوير: 12].
قال قتادة: "أوقدت".
وقال السدي: "أحميت".
قال قتادة: "يسعرها غضب الله، وخطايا بني آدم" خرجه ابن أبي حاتم[تفسير القرآن العظيم8/335].
وتسجر على أهلها بعد دخولهم فيها أيضاً.
فإذًا، كل يوم تسجر عند منتصف النهار، وإذا صار يوم القيامة سعرت أيضاً، وإذا أدخلوا فيها، قال تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا[الإسراء: 97].
قال ابن عباس: "كلما طفئت أوقدت" خبت النار إذا سكن لهبها، زدناهم سعيرًا يتلهب[انظر: التخويف من النار، ص: 106].
حجارة النار وما هيتها
النار أيضاً من العذاب مما فيها: حجارة، قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]. وقال تعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة: 24].
الناس، هم الذين يزيدونها اشتعالاً، هم وقود النار، فسبحان من جعل الذي يحترق بالنار في الدنيا، إذا احترق في الآخرة، زادها اشتعالاً فزادته عذابًا، وهم الكفار والعصاة الذين أراد الله أن يعاقبهم فيها.
والوقود ما يلقى في النار لإضرامها، كالحطب، ونحوه، كما قال : وَأَمَّا الْقَاسِطُونَيعني الجائرون: فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15].
فإذا قال لك: هذا جائر، ظالم، لا يعدل بين زوجاته، ولا بين أولاده، ولا بين الرعية؟ هؤلاء القاسطون كانوا: لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.
والذين يعبدون الأوثان من دون الله، تصبح أوثانهم حطبًا تحرقهم في النار، قال : إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ[الأنبياء: 98].
وقد جمع الله -تعالى- بين الناس والحجارة في هذه الصورة المفزعة المرعبة، وبين كيف يتحداهم أن يخرجوا منها، وكيف يكون عذابهم بهذه الحجارة.
لكن هذه الحجارة التي في النار ما نوعها؟
ورد في نوع هذه الحجارة، حديث صحيح موقوف، عن ابن مسعود ، وهذا له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال بالرأي، قال عبد الله في قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[البقرة: 24] "هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين" [رواه ابن جرير: 506، وابن أبي حاتم: 244، والحاكم في مستدركه: 3034، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، والطبراني فيالكبير:8931،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:3675].
وقال مجاهد: "حجارة من كبريت، أنتن من الجيفة".
وقال ابن جريج: "حجارة من كبريت أسود في النار"[تفسير القرآن العظيم: 1/201].
هكذا إذًا الحجارة، حجارة من كبريت، وحجارة الكبريت أشد الحجارة اشتعالاً وحرارة.
تغيظ النار وزفيرها
جهنم أيضاً لها -والعياذ بالله- تغيظ وزفير، قال : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء: 101 - 102]. وقال : إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12]. وقال : إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ[الملك: 7 - 8].الشهيق الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة، قالوا: كصوت الحمار.
وهذا بالنسبة لشهيق جهنم، في تقريبه.
وقال الربيع بن أنس: "الشهيق في الصدر"[تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 4/351].
وقال ابن عباس: "إن العبد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف"[تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/96].
وفي قوله : تَفُورُقال مجاهد: "تغلي بهم كما يغلي القدر".
وفي قوله : تَمَيَّزُقال ابن عباس: "تفرق، يكاد يفارق بعضها بعضًا، وتتفطر" [التخويف من النار، ص: 108] يكاد بعضها أن يقطع بعضًا.
كذلك النار لها زفير، هذا الزفير شديد جداً، وقد جاء عن الضحاك قال: "إن لجهنم زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا خر ساجدا، يقول: رب نفسي نفسي"[التخويف من النار، ص: 108].
وقال عبيد بن عمير: "تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه، يقول: رب نفسي نفسي"[التخويف من النار، ص: 108].
وقد جاء في حديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- لكنه ضعيف، وهو موقوف: أنها تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا ندرت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها، وتقطع اللهوات والحناجر.
هذا في قوله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12].
ولما قال: "تقطع اللهوات والحناجر" قال وهي قوله: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ[الأحزاب: 10].
خوف السلف من النار وبعض القصص في ذلك
من خوف السلف من النار وزفيرها، كانت لهم مواقف، فكان بعضهم يذكر بعضًا بزفير النار، كان بعضهم يطرق مليًا حينما يسمع ذلك، كان بعضهم إذا سمع ذلك يكاد ينشق قلبه وينصدع، يقول سعيد الجرمي -رحمه الله- في موعظة إذا وصف الخائفين من الله: "كأن زفير النار في آذانهم"[التخويف من النار، ص: 108].
وقال الحسن في وصفهم: "إذا مروا بآية فيها ذكر الجنة بكوا شوقا و إذا مر بآية فيها ذكر النار ضجوا صراخا كأن زفير جهنم عند أصول آذانهم"[التخويف من النار، ص: 108]يعني من قوة استشعارهم لما وصفه الله، كأن الزفير في الآذان، مع أنهم الآن لا يسمعونه، هم في الدنيا، وهذا غيب، ونحن لا نسمع الآن، ولكن لها زفير، لها تغيظ.
وكانوا إذا مروا على منظر يحرك في أذهانهم صور ومشاهد عذاب النار.
صحيح أننا لا نستطيع أن نتخيلها، مهما تخيلنا، ما يمكن نتخيل؛ لأن هذا غيب، ولا يخطر بالبال، لكن مشاهد في الدنيا تقرب وتذكر.
وجاء في رواية عن مسمع بن عاصم قال: "بت أنا وعبد العزيز بن سليمان، وكلاب بن الجري، وسلمان الأعرج، على ساحل من بعض السواحل، فبكى كلاب، حتى خشيت أن يموت، ثم بكى عبد العزيز لبكائه، ثم بكى سلمان لبكائهما، وبكيت -والله- لبكائهم، لا أدري ما أبكاهم، فلما كان بعد سألت عبد العزيز، فقلت: يا أبا محمد ما الذي أبكاك ليلتئذ؟ قال: إنني والله نظرت إلى أمواج البحر تموج، فذكرت أطباق النيران وزفراتها، فذاك الذي أبكاني، ثم سألت كلابًا أيضًا نحوًا مما سألت عبد العزيز، فوالله كأنما سمعت قصته، فقال لي مثل ذلك، ثم سألت الأعرج نحوًا مما سألتهما، فقالا: ما كان في القوم شر مني، ما كان بكائي إلا لبكائهم رحمة الله مما كانوا يصنعون بأنفسهم -رحمهم الله تعالى-[انظر: التخويف من النار، ص: 108].
هكذا كانت قلوبهم حية، إذا رأى فرنًا، أو حطبًا يشتعل، أو أمواج البحر، تذكرهم عذاب النار.
حيات النار وعقاربها
النار فيها حيات وعقارب، شديدة اللسع، وقد جاء مرفوعًا عن النبي ﷺ: إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد حموتها أربعين خريفًا ألم السم في جسدها يسري أربعين خريفًا، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة تلسع إحداهن اللسعة، فيجد حموتها أربعين سنة [رواهأحمد: 17749، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3676].
وقوله: البختية الأنثى من الجمال البخت، والذكر: بختي، جمال طوال الأعناق.
هذا العقرب، والحية، بهذا العظم، مثل البعير، ومثل البغل، حية كالبعير طويل العنق، وعقرب كالبغل، اللسعة يجد ألمها أربعين سنة.
وعن ابن مسعود في قوله تعالى: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ[النحل: 88] قال: "زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال" [رواه أبو يعلى: 2659، والحاكم موقوفا: 3357، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3678].وابن مسعود لا يقول هذا من رأيه.
العقارب أنيابها كالنخل الطوال.
وَحَيَّاتُها كَالبُخْتِ فِيْهَا عَقَارِبٌ | بِغَالٌ وضَرْبٌ وَالزَّبَانِيُ يَنْهَرُ |
غَلِيْظٌ شَدِيْدٌ في يَدَيْهِ مَقَامِعٌ | إِذَا ضَرَب الصُّمَّ الجِبَالَ تَكَسَّرُ |
يقول عبيد بن عمير: إن في النار لجبابًا -الجب معروف، البئر- فيها حيات أمثال البخت، والعقارب أمثال البغال الدهم، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها، فأخذت بشفافهم وأبشارهم وأشعارهم، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم، فإذا وجدت حر النار رجعت[انظر: التخويف من النار،ص: 122]. نسأل الله العافية.
قال ابن المبارك: "أنبأنا عوف عن أبي المنهال الرياحي: أنه بلغه أن في النار أودية في ضحضاح من نار في تلك الأودية حيات أمثال أجواز الإبل، وعقارب كالبغال الحبش، فإذا سقطت إليهن شيء من أهل النار، أنشئن به لسعًا ونشطًا، حتى يستغيثوا بالنار، فرارًا منهن، وهربًا منهن" أخرجه ابن أبي الدنيا[انظر:التخويف من النار، ص: 122].
الضحضاح، ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، هذا أهون شيء، الذي في ضحضاح من نار.
وخرج الجوزجاني من راوية الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال: "إن لجهنم جبًا فيها هوام، فيها حيات أمثال البخت، وعقارب أمثال البغال الدهم، يستغيث أهل النار إلى تلك الجباب، أو الساحل، فتثب إليهم، فتأخذهم بأشعارهم وشفافهم، فتكشطهم، حتى تبلغ أقدامهم، فيستغيثون بالرجوع إلى النار، فيقولون: النار النار، وتتبعهم حتى تجد حرها، فترجع وهي في أسراب"[التخويف من النار، ص: 122].
هكذا تخرج من جحورها، وهكذا تلسع، وهكذا تعود.
أودية النار وجبالها
جهنم فيها أودية، وفيها جبال، وفيها آبار، وعيون، وأنهار، لكن أي من شيء؟
جاء عن عدد من السلف تفسير: الويل: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ[المطففين: 1].، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4- 5]. وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [الهمزة: 1].
ورد عن عدد من المفسرين تفسير الويل: بأنه واد في جهنم، ولم يثبت ذلك مرفوعًا، وقد جاء فيه حديث، لكنها روايات عن السلف في تفسير الويل: أنه واد في جهنم، ينصب فيه صديد أهل النار، أو لو سيرت في الجبال لماعت من حره، أو فيه ألوان العذاب، أو صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديد أهل النار، أو نهر في جهنم، أو واد في جهنم، كما ورد عن عدد من السلف في تفسير كلمة: وَيْلٌفي القرآن الكريم[انظر: التخويف من النار، ص: 117].
وقال خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه: "إن في جهنم لآبارًا، يقول: من ألقي فيها تردى سبعين عامًا، ثم ينزع بهذه الآية: الْيَوْمَ نَنسَاكُمْأي نترككم فيها: كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا[الجاثية: 34]. [انظر: التخويف من للنار، ص: 119].
وقد ورد في الحديث الصحيح: "أن في جهنم سجن" يعني هي سجن، ومؤصدة عليهم، ومع ذلك فيها سجن، هذا سجن عجيب، قال ﷺ في وصفه: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر النمل، في صور الرجال، ولكن حجم النمل، قال: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال[رواه الترمذي: 2492، وأحمد: 6677، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2911].
والذر صغار النمل.
وقيل: ما يرى من الهباءة في شعاع الشمس الداخل من النافذة.
قيود النار وسلاسلها وأغلالها ومقامعها
ومن عذاب أهل النار: القيود والسلاسل والأغلال والأنكال، والحجارة والرصاص، والمطارق، التي يعاقب بها أهلها، فقال تعالى عن مكذبي الرسل: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ[غافر: 70 - 71].، وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا[الإنسان: 4].، وقال تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا [المزمل: 12].
قال الحسن ومجاهد: "الأنكال، القيود"[جامع البيان: 23/690].
وقال في منكري البعث: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ[الرعد: 5].
فذكر من جزاء الكافرين بالبعث في الآخرة: السحب في النار، بواسطة تلك الأغلال المربوطة في الأعناق.
والأغلال، جمع غل، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق.
فيغلون بها يوم القيامة. ما الذي غلهم؟
أعمالهم السيئة.
وممن يعذب في النار، ويربط في عنقه بالأغلال: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سبأ: 33].
ورقبة، هذه حساسة جداً، وماذا تتحمل؟ وإذا جعل فيها غل من نار فماذا يفعل في الجلد؟
وأخبر تعالى عن حال الأشقياء الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ[الحاقة: 30 - 32]لماذا؟ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 33 - 34].
لماذا؟ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر: 43]. وهكذا..
هذا حال المجرمين يوم القيامة في السلاسل، قال : وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ[إبراهيم: 49]يقادون إلى العذاب في أذل صورة وأشنعها وأبشعها.
قيل عن الأصفاد، هي: الأغلال.
وقيل هي: القيود، واحدها صفد، يقال: صفدته بالحديد، وفي الحديد[لسان العرب: 3/256].
والصفاد ما يوثق به الأسير من قد وقيد وغل، كما قال الجوهري[انظر: الصحاح في اللغة: 1/389].
وعند دخول أصحاب النار النار، يضاعف العذاب، وتضيق عليهم: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13].
وعندما يرد المجرمون بالكلام تعرفهم الملائكة بعلامات: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ[الرحمن: 41]. فيلقون في النار، قال تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن: 41].فيلقون فيها.
وللكفار في دار البوار مقامع، يضربون بها الناس، كما قال تعالى: وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحـج:21].
ولذلك لما نسمع الآن كيف يعذبون المؤمنين؟
الذين يعذبون المؤمنين بالسياط، أو يغرقونهم بالمياه، أو يحرقونهم ويلسعونهم بالنار، ويطفئون فيهم السجاير، ويغتصبونهم، يفعلون بهم الفاحشة بالسجون، ويفعلون بزوجته وابنته أمامه، وهكذا.. هؤلاء ما هو العذاب الذي سيتعرضون له؟؛ لأن بعض الناس إذا سمع ما يفعل هؤلاء الكفرة الفجرة بالمؤمنين في السجون، وفي غيرها، يقول: ماذا سيكافئ هؤلاء من هذه الشناعات؟
فنقول: إن عند الله عذابًا أليمًا: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا[المزمل :12 - 13].
هناك أنكال، وهذه كلها موعدهم معها يوم القيامة، فأما ما يحدث في الدنيا فسينتهي، يموت المعذب والمبتلى، والمظلوم والظالم الذي عذب، عذابه مستمر، وأين هذا من هذا؟؛ لأنه لا يُعذب مثل عذاب الله أحد، لا يستطيع أن يعذب أحد مثل عذاب الله، فلو قال لك واحد: هذا الذي أمسكنا به من الكفرة الفجرة الذين يعذبون الناس، نعذبه؟
نقول: عجل به، فإذا سارعت بقتله، فما عند الله من التعذيب أشد مما عندك.
ولذلك، فإن من تأمل الآيات التي فيها شدة التعذيب لهؤلاء، يشفى صدره، مهما سمع من ألوان التعذيب في الدنيا، التي تعمل للمسلمين، وللدعاة، وللموحدين، ولأهل السنة.
فنقول: المشركون الذين يعذبونهم، واليهود والصليبيون الذين يعذبونهم، موعدهم عند الله يوم القيامة، بهذا العذاب، قال : وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحـج: 21].
مَّقَامِعُ مطارق، يضربون بها من حديد، فإذا ضرب الضربة، فماذا سيحدث له من أثرها؟
لقد جاء في رؤيا ابن عمر وصف المقامع والأغلال، ابن عمر رأى رؤيا، كما في البخاري، قال: فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك، بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين[رواه البخاري: 7028].
قال الحافظ في إحدى روايات البخاري: "لها وقرون البئر جوانبها التي تبنى من حجارة توضع عليها الخشبة التي تعلق فيها البكرة، والعادة أن لكل بئر قرنين" [فتح الباري: 12/419].
وفي رواية البخاري: فإذا هي مطوية كطي البئر [رواه البخاري: 3738، ومسلم: 6525].
وفي رواية للبخاري أيضاً: فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان[رواه البخاري: 1121، ومسلم:1121].
قال ابن حجر: "فإذا هي مطوية، أي مبنية، والبئر قبل أن تبنى تسمى: قليبًا"[فتح الباري: 3/7].
والمقمعة جمعها مقامع، وهي كالسياط من حديد، رؤوسها معوجة.
قال بعض أهل اللغة: المقمعة كالمحجن، ذات الرأس المعكوف[انظر: فتح الباري: 12/418].
النار التي رآها ابن عمر في المنام كانت تشبه البئر مبنية، وعلى جانبيها عمودان، أو قرنان، كما يكون على البئر، ويوضع عليها خشبة تعلق فيها البكرة[قصة رؤيا ابن عمر، أخرجها البخاري: 7028].
وصف العذاب الجسدي لأهل النار
لقد جاء وصف العذاب الجسدي لأهل النار بشيء تقشعر منه الجلود، وتدمع منه العيون، تخشع له البصيرة، فإن الله -تعالى- ذكر عظم أجساد أهل النار، وكبر حجمهم، ليتسع مكان الإحراق، ويعظم الألم.
إنما عظم خلق الكافر في النار، ليعظم عذابه، ويضاعف ألمه، كما قال القرطبي في المفهم[فتح الباري:11/423].
وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها.
فإذًا، الآن لاحظ أن الكافر في النار جلده غليظ جداً، وكبير جداً، ومع ذلك يحترق، فيبدل جلدًا غيره باستمرار، هذا الجلد السميك جداً يحترق، ما يتحمل، فيبدل جلدًا غيره، قال الله -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا[النساء: 56].
حجم بعض أعضاء الكفار في النار
الضرس، ضرس الكافر، كم حجمه؟
قال زيد بن أرقم: "إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد" [رواهأحمد: 19285، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2508].
قال نبينا ﷺ مبينًا عظم أجساد الكفار في النار: ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع والمنكب مجتمع العضد والكتف[رواه البخاري: 6551، ومسلم: 7365].
فما بين المنكبين مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع، والضرس مثل أحد.
وقال ﷺ: ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث -أيام-[رواه مسلم: 7364].
وقال ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: إن غلظ جلد الكافر اثنين وأربعون ذراعًا، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة[رواه الترمذي:2577، وصححه الألباني في المشكاة: 5675، والصحيحة: 1105 ، والظلال: 610 ].
هذا حجم المجلس، كم المسافة بين مكة والمدينة؟
وهذه أحجام، الأعضاء، قال ﷺ: ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحدوعرض جلده سبعون ذراعًافي رواية أخرى: وفخذه مثل ورقان وهو جبل أسود بالحجاز، على يمين المار من المدينة إلى مكة، قال: ومقعده من النار مثل ما بيني وبين الربذة موضع بينه وبين المدينة ثلاث مراحل[رواه أحمد: 8327، وإسناده حسن، والحاكم: 8761، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3682].
قال أبو هريرة: وكان يقال: بطنه مثل بطن إضم" [رواه الحاكم: 8761، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3682] هذا موقوف على أبي هريرة.
وإضم، موضع بين ذي خشب وبين المروة، وبينه وبين المدينة ثلاثة برد ، مسافة البريد هكذا إذًا الأحجام والمسافات والمساحات -نسأل الله السلامة والعافية-.
ونلاحظ أنه قد جاءت الأحاديث بمقادير مختلفة، ففي الجلد -مثلاً- رواية: اثنان وأربعون ذراعًاوأخرى: ثلاث ليال، وأخرى: سبعون ذراعًا فكيف يكون الجمع؟
قال ابن حجر -رحمه الله-: "اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار" [فتح الباري: 11/423].
ولا شك أنهم يتفاوتون في الإجرام والأعمال.
قال عمرو بن ميمون -وهو من كبار التابعين، من تلاميذ ابن مسعود : "إنه ليسمع بين جلد والكافر ولحمه جلبة الدود كجلبة الوحش"[التخويف من النار، ص: 169]بين الجلد واللحم ضوضاء، ضجة، جلبة، دود، كجلبة الوحش.
وعن مجاهد قال: قال ابن عباس: أتدري ما سعة جهنم؟ قال: قلت: لا، يقول مجاهد، قال: أجل والله ما تدري أن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفًا، تجري فيها أودية القيح والدم، قلت: أنهارًا؟ قال: لا، بل أودية" [رواه أحمد: 24900، والحاكم: 3630، وقال: "صحيح الإسناد" وصححه الألباني، موقوفًا في صحيح الترغيب والترهيب: 3684].
أعمار أهل النار
أما أعمار أهل النار، عمر الذي يدخل في النار، فقد جاء حديث عام، رواه الطبراني عن المقداد بن معد يكرب: أن رسول الله ﷺ قال: ما بين أحد يموت سقطًا ولا هرمًا، وإنما الناس فيما بين ذلك إلا بعث ابن ثلاثين سنة، فمن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم، وصورة يوسف، وقلب أيوب، ومن كان من أهل النار عظموا وفخموا كالجبال[رواه الطبراني: 17053، قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "حسن لغيره": 3701].
طعام أهل النار:
زقوم أهل النار
أما طعامهم، فقد ورد أنه الزقوم، وورد كذلك الحميم.
وقال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ[الصافات: 62 - 63].
لأنهم سيقولون: شجرة ما تحترق؟
قال تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ[الصافات: 64- 68].
إذا شكلها مخيف: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ.
فكيف بها هي؟
جاء عن الحسن: "أن أصلها في قعر جهنم، وأغصان شجرة الزقوم ترتفع إلى دركاتها"[التخويف من النار، ص: 145].
ومعنى الآية: أنهم يأكلون من الزقوم، ثم يردون الحميم، وهو الماء المتناهي في الحرارة، كما ترد الإبل الماء إذا عطشت".
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 43- 44].
فيترددون بين جهنم والحميم فمرة إلى هذا، ومرة إلى هذا قاله قتادة وابن جريج .
عجب في هذه النار التي لا تأكل الشجرة التي فيها، والله على كل شيء قدير، فهو يعذب الجن المخلوقين من نار بالنار، إذا كفروا وعصوا، وكذلك يخرج في أصل الجحيم هذه الشجرة.
لما ذكر شجرة الزقوم افتتن الظلمة، كما قال قتادة -رحمه الله-: "فقالوا: ينبئكم صاحبكم هذا أن في الشجرة، والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله ما تسمعون: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ[الصافات: 64] قال قتادة: "غذيت بالنار ومنها خلقت" [انظر: جامع البيان: 21/52].
مهل أهل النار
وقوله : إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43- 46].
قال ابن هشام: "المهل كل شيء أذبته من نحاس، أو رصاص، أو ما أشبه ذلك".
وقال سعيد بن جبير: "إذا جاع أهل النار استغاثوا من الجوع، فأغيثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فانسلخت وجوههم، حتى لو أن مارًا مر عليهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فاستغاثوا من العطش فأغيثوا بماء كالمهل.
والمهل الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم أنضح حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط على كل عضو على حياله، يدعون بالثبور" [التخويف من النار، ص: 145].
يعني بالهلاك، لكن لن يموتوا.
قال أبو جهل بن هشام: "يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد"تأمل الذي يريد أن يستهزئ ماذا يلقنه شيطانه؟يقول: هذا الزقوم، هذه عجوة يثرب، هذا تمر، تمر يثرب هذا، عجوة يثرب بالزبد، هذا الزقوم، هذا كلام أبي جهل، يقول: "والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما ، فأنزل الله -تعالى- فيه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ[الدخان: 43 - 44]أبو جهل هذا كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ[الدخان: 45 - 46]أي ليس كما يقول، وإنما هذا مثله، ليس كالزبد مع التمر، وإنما: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ[والحديث رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبري، وصححه ابن كثير في تفسيره، وحسنه الألباني، وانظر أيضا التخويف من النار، ص: 145].
وقال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ[الواقعة:51 - 55].
يأكلون حتى تمتلئ بطونهم منه، فتغلي كغلي الحميم، وهو الماء الذي انتهى حره، وبعد ذلك سيضطرون لشرب حميم الماء المغلي، مثل الإبل العطاش، يشربونه، شرب الهيم، كما قال ابن عباس: "الهيم، الإبل العطاش"[جامع البيان: 23/135].
وقال السدي: "الهيم، داء يأخذ الإبل فلا تَرْوَى أبدًا حتى تموت، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدًا" [تفسير القرآن العظيم: 7/538].
وعن مجاهد نحوه.
وقال ابن عباس: "يخلط طعامهم ويشاب بالحميم"[الدر المنثور: 12/419].
وقال ابن جرير: "وأما الهيم جمع أهيم، والهيم الإبل التي يصيبها داء، فلا تروى من الماء.
ويقال: إن الهيم الرمل.
يعني أن أهل النار يشربون الحميم، شرب الرمل للماء، كيف يشرب الماء الرمل؟
هكذا يشربون الحميم [انظر: جامع البيان: 23/134- 135].
غسلين أهل النار
أما الغسلين، فقد قال : فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ[الحاقة:35 - 37].
قال الطبري: "هو ما يسيل من صديد أهل النار"[جامع البيان: 23/591].
قال كعب: "لو دلي من غسلين دلو واحد في مطلع الشمس، لغلت منه جماجم قوم في مغربها".
غصة طعام أهل النار
أيضاً من طعامهم، قال تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا[المزمل:12- 13].
قال الطبري: "يغص به آكله، فلا هو نازل عن حلقه، ولا هو خارج منه"ونقل عن ابن عباس: "شوك يأخذ بالحلق، فلا يدخل ولا يخرج" [جامع البيان: 23/691].
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍلا يدخل ولا يخرج، يعلق في الحلق، قيل: هو من شجر الزقوم.
ضريع أهل النار
من الطعام أيضًا الذي في النار: الضريع: لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ[الغاشية: 6 - 7].
الضريع، قيل: السم.
وقيل: الحجارة.
وقيل: شوك النخل.
وقال الطبري: "الضريع عند العرب: نبت، يقال له: الشبرق، وتسميه أهل الحجاز: الضريع إذا يبس، وهو سمٌ"[انظر: جامع البيان: 24/385- 384].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[النساء: 10].
حين يأكلون أموال اليتامى، فإنهم في الحقيقة أكلوا ما يفضي بهم إلى عذاب جهنم.
شراب أهل النار
وأما الشراب، فإن الله -تعالى- بينه: الحميم والغساق والمهل، وأنه يغلي، وأنهم يغاثون به عندما يستغيثون، وأنه يشوي الوجوه، فقال تعالى: وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[الكهف: 29].
حار لا يروي من عطش، بل يزيدهم عطشًا على ما بهم من عطش.
حميم أهل النار
وقد ورد في كتاب الله -تعالى- ذكر أربعة أنواع من شراب أهل النار: الحميم: لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ [يونس: 4].
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ[الواقعة: 54] وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا[محمد: 15]الحار الذي يحرق.
قال ابن وهب عن ابن زيد: "الحميم دموع أعينهم في النار، يجتمع في حياض النار، فيسقونه"[جامع البيان: 21/226].
وقال ابن كثير: حَمِيمٍ آنٍ[الرحمن: 44]"قد انتهى غليه، واشتد حره".
وقال قتادة: "قد آن طبخه، منذ خلق الله السموات والأرض"[انظر: تفسير القرآن العظيم: 7/500].
والحميم الآن، يعني الحار.
وقيل: آنٍيعني حاضر.
وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ[الغاشية: 5] يعني شديدة الحر، لا تستطاع.
فالحميم الآن، الحار جداً، كانت العرب تقول لشيء إذا انتهى حره، حتى لا يكون هناك شيء أحر منه: قد آن حره، فقال الله -تعالى-: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 5] كما في سورة الغاشية.
هذا الحميم: يصب من فوقهم رؤوسهم أيضاً، وليس فقط يشربونه، قال تعالى: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ[الحـج: 19].
وقد جاء عند الترمذي مرفوعًا إلى النبي ﷺ: إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان[رواه الترمذي: 2582، وأحمد: 8851، والحاكم في المستدرك: 3458، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3679].
غساق أهل النار
أما الغساق، فقد قال في شرابهم: لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا[النبأ : 24- 25].
الغساق، قالوا: المنتن" [تفسر القرآن العظيم: /533].
وقالوا: "ما سال من صديد أهل النار"
قال عطية بن سعد: "الذي يسيل من جلود أهل جهنم".
وقال عكرمة: "ما يخرج من أبصارهم من القيح والدم"وقال أبو رزين: "غسالة أهل النار، وما يسيل من صديدهم".
وقال قتادة: "كنا نحدث أن الغساق ما يسيل من بين جلده ولحمه"
وعن سفيان: "أنه قال: بلغني أنه ما يسيل من دموعهم"[انظر: جامع البيان: 24/164 - 165].
القول الثاني: الغساق، الزمهرير، لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
واستدلوا بقوله تعالى: لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا[النبأ : 24- 25].
فاستثنى من البرد: الغساق، ومن الشراب: الحميم.
ويمكن أن يقال: إن الغساق جامع لكل الأوصاف، المنتن، الصديد، والقيح المتناهي في البرودة، أو في الحرارة.
صديد أهل النار
لكن قد جاء النص على الصديد أنه من شرابهم أيضاً، كما قال تعالى: مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ[إبراهيم: 16 - 17].
وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍيعني القيح والدم[تفسير القرآن العظيم: 4/485].
قال قتادة: "ما يسيل من بين لحمه وجلده"[جامع البيان: 16/548].
وجاء في صحيح مسلم: أن النبي ﷺ قال: إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار[رواه مسلم: 5335].
هذه العصارة والعرق، سيشربه شارب الخمر، متعاطي المسكرات.
وجاء عند الترمذي: أنه ﷺ قال: من نهر الخبال قيل: يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النارحديث صحيح[رواه الترمذي: 1862، وأحمد: 4917،وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: : 2383].
يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ[إبراهيم: 17]كان يمكن أن يعبد الله في الدنيا ويتخلص من هذا العذاب، لكن ما فعل.
مهل أهل النار
والماء الذي كالمهل من شرابهم أيضًا، قال تعالى: وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[الكهف: 29].
قالوا: "أسود كمهل الزيت" كما قال ابن عباس[جامع البيان: 22/44].
قال الضحاك: "أذاب عبد الله بن مسعود فضة، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى المهل فلينظر إلى هذا"[جامع البيان: 22/45].
وقال مجاهد: "بماء كالمهل مثل القيح والدم أسود كعكر الزيت"[الدر المنثور: 9/532]
هل رأيتم عكر الزيت؟
هذا المهل.
قال ابن كثير: "وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار" [تفسير القرآن العظيم: 5/155].
ولهذا قال: يَشْوِي الْوُجُوهَأي من حره.
فإذا قربه الكافر سقط فروة وجهه في الإناء، من شدة الحر.
شرابُ ذَوي الإِجرامِ فيها حميمُهَا | وَزقُّومُها مَطعومهُم حينَ يَأكلُوا |
حميمٌ وغساقٌ وآخرُ مثلهِ | من المهلِ يَغلِي في البُطُونِ ويُشغلُ |
لباس أهل النار
ما هو لباسهم؟
ليس يقيهم الحر، لكن لزيادة العذاب، قال تعالى عن لباس الدنيا: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ[النحل: 81]لكن ثياب أهل النار تزيدهم حرارة، قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ [الحـج: 19].
قال الطبري: "يقطع له قميص من نحاس من نار" كما قال سعيد بن جبير[جامع البيان: 18/590].
قال ابن كثير: "أي فصلت لهم مقطعات من نار"[تفسير القرآن العظيم: 5/406].
قال ابن جبير: "من نحاس، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي"[تفسير القرآن العظيم: 5/406].
النحاس موصل جيد.
وقيل: المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة، كقوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا[النبأ: 10].
وكان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول: "سبحان من خلق من النار ثيابًا!"[التخويف من النار، ص: 163].
وقال وهب بن منبه: "كسي أهل النار، والعري كان خيرًا لهم، وأعطوا الحياة، والموت كان خيرًا لهم"[الدر المنثور: 10/426].
قال : وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم: 49 - 50]. السرابيل، القمص، مفردها سربال مِّن قَطِرَانٍالزفت، أرأيت ما تطلى به الإبل؟
القطران.
لماذا؟
أبلغ في الاشتعال.
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍمن الزفت الأسود، وهذه السرابيل لتزيدهم عذابًا.
فتصور الآن واحد عليه ثياب من نار، ويشرب من نار، ويأكل من نار، والنار في جوفه، وبينه وبين جلده وعظمه، وتحيط به من جميع الجوانب، تحيط بهم، كيف يعيش هذا؟ كيف عيشته؟
النائحات، المرأة التي لا تصبر عند المصيبة تصيح وتنوح وتدعو بالويل والثبور، والخراب، جازعة متسخطة على القضاء والقدر، قال عليه الصلاة والسلام: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب[رواه مسلم: 2203].
تحشر، تقام على تلك الحال بين أهل النار، جزاءً على قيامها في النياحة.
هذا القطران سريع الإحراق، النار تسرع إليه.
أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، أبو طالب من المخلدين، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه فقط، يغلي منه دماغه[رواه البخاري: 6564، ومسلم: 535].
غليان الدماغ من نعال من نار، ضحضاح من نار، هذا النعل والشراك من نار، سبب غليان الدماغ!.
هل لهم حلي؟
نعم.
فرش وحصير أهل النار
لهم فرش من النار أيضاً، كما قال تعالى: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف: 41].
الفراش من نار، واللحاف من نار، تحت نار، وتغطيهم، غطاؤهم كاللحاف.
لهم تحتَهُم منها مهادٌ وفوقَهم | غواشٍ ومِنْ يحمومٍ ساء ظلالُها |
لهم حصير من نار: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[الإسراء: 8].
الحصير، المحبس، والسجن، من الحصر، وهو الحبس، يضيق عليهم فيه.
وقيل: الحصير الفراش، والمهاد من الحصير الذي يفرش، والعرب تسمي البساط حصيرًا.
لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ[الأعراف: 41].
تأمل كيف ألبسهم الله ثيابًا مقطعة من نار حامية؟
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَاباً مِنَ التُّقَى | تَقَلَّبَ عُرْيَاناً وَإِنْ كَانَ كَاسِياً |
وَخَيرُ لِبَاسِ المَرءِ طَاعَةُ رَبِّهِ | وَلا خَيرَ فِيمَنْ كَانَ اللَّهِ عَاصِياً |
أنشد الفرزدق على قبر زوجته بحضور الحسن البصري:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني | أشد من القبر التهابا وأضيقا |
إذا قادني يوم القيامة قائد | عنيف وسواق يسوق الفرزدقا |
لقد خاب من أولاد آدم من مشى | إلى النار مغلول القلادة أزرقا |
يساق إلى نار الجحيم مسربلا | سرابيل قطران لبوسا محرقا |
إذا شربوا فيها الحميم رأيتهم | يذوبون من حر الجحيم تمزقا |
فبكى الحسن -رحمه الله-
[العاقبة في ذكر الموت، الإشبيلي، ص:200]
كلمات جامعة في وصف عذاب النار
وصف الله عذاب النار: أنه لا يخفف: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا[فاطر: 36].
وصفه أنه باق لا ينقطع: لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ[البقرة: 162].
وصفه : بأنه باق: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طـه: 127].
وصفه بأنه أليم شديد: وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 177].
وصفه سبحانه: بأنه مهين: وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ[النساء: 14].
وصفه بأنه عظيم: وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ[البقرة: 7].
وصفه بأنه غليظ: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24].
وصفه بأنه: كبير: وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا[الفرقان: 19].
وصفه بأنه: ملازم: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان: 65]لازمًا دائمًا.
وصفه بأنه شديد الإحراق: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحـج: 22].
وصفه بالسعير: وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ[الشورى: 7].
وصفه بأنه يصهر ويذيب: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ[الحـج: 20].
إنه عذاب ينضج الجلود، ويلفح الوجوه، ويشويها، قال تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون: 104].
اللفح هذا لا يكفون النار عن وجوههم، في سحب: وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ[غافر: 71].
والزبانية تسحبهم على وجوههم، والوهج يصل إلى الأفئدة، يصل إلى الداخل، وهو محيط بهم: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 54].
وهو يضاعف، كما قال الله: فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ[الأعراف: 38].
هذا عذاب بئيس، لا يكاد يوصف.
والنار مثوى لأهل الكفر كلهم | طياقيا سبعة مسودة الحفر |
فيها غلاظ شداد من ملائكة | قلوبهم شدة أقوى من الحجر |
لهم مقامع للتعذيب مرصدة | وكل كسر لديهم غير منجبر |
سوداء مظلمة شعثاء موحشة | دهماء مخرفة لواحة البشر |
فيها الجحيم مذيب الوجوه مع | الأمعاء مر شدة الإحراق والشرر |
فيها الغساق الشديد البرة يقطعهم | إذا استغاثوا بحر ثم مستعر |
فيها السلاسل والأغلال تجمعهم | مع الشياطين قسرا جمع منقهر |
فيها العقارب والحياة قد جعلت | جلودهم كالبغال الدهم والحمر |
لها إذا ما علت فور يقلبهم | ما بين مرتفع منها ومنحدر |
جمع النواصي مع الإقدام صيرهم | كالقوس محنية من شدة الوتر |
لهم طعام من الزقوم يعلق في | حلوقهم شوكة كالصاب والصبر |
يا ولهم عضت النيران أعظمهم | بالموت شهوتهم من شدة الضجر |
اللهم أعذنا من عذاب النار، وقنا عذاب جهنم، واصرف عنا عذابك، يوم تبعث عبادك.
وصلى الله على نبينا محمد.