الحمد لله رب العالمين الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحييون بكتاب الله -تعالى- الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
أما بعد:
منزلة العلم وفضله
فإن دين الإسلام دين علم وتعلم وهداية وإرشاد، ونور وبرهان.
إنه مفتاح الرسالة، فأول نور هبط على قلب محمد ﷺ: اقرأ.
إنه نذير بأفول الظُلمة، وزوال الضلالة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[العلق: 1 - 5].
دين عنوانه القراءة، ودستوره القرآن، وروحه العلم، وآلته القلم، وآفته الجهل.
أقسم الله بالقلم إعلاءً لشأنه؛ لأنه طريق العلم والتعلم، فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ[القلم: 1 - 2].
ومن صفاته تعالى: العليم، وهو وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة: 29]، إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[البقرة: 115]، إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32].
العلم أجل الفضائل، وأشرف المزايا، وأعز ما يتحلى به الإنسان، مصدر المجد، وعنوان الحضارة، وتفوق الحياة.
ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس.
العلم كما قالت أم عطاء لعطاء: "يا بني إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم".
العلم أبين من أن يبين، لوضوحه وعسره، وتوضيح الواضحات من الفاضحات، قال ابن القيم -رحمه الله-: "العلم تركة الأنبياء وتراثهم، وأهل عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، لذة الأرواح وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، وهو الميزان التي توزن الأقوال به، والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال، به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه تعالى الواصلون، به تعرف شعائر الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام، وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب، هو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف في الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكهف الذي لا ضيع على من أوى إلى حرزه، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، مدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم من الحاجة إلى الشراب والطعام" [مدارج السالكين: 2/439 - 440].
ضابط العلم النافع
ما هو العلم النافع، وهل كل علم نافع؟
العلم الذي مدحه الله في كتابه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الزمر: 9]، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة: 11]، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر: 28].
كل الآيات والأحاديث التي تمدح العلم المقصود بها علم الكتاب والسنة، وإلا فمن علماء الفلك كفرة لم يعرفوا الله، ومن علماء الحيوان والنبات ضلال، لم يعبدوا الله.
فما هو العلم النافع الممدوح، الذي نص على مدحه ربنا ونبينا؟
إنه علم الكتاب والسنة.
العلوم النافعة الأخرى ممدوحة، وهي من سبل القوة، وهذه الأمة مطلوب منها أن تأخذ بأسباب القوة، والعلم الدنيوي من أسباب القوة، علم الذرة، وغير ذلك، لكن هذه العلوم الدنيوية، منها ما يكون سبب للطغيان.
أما علوم الكتاب والسنة؛ فإنها تقود إلى توحيد الديان، ومعرفة الرحمان، وعبادة رب العالمين، والتواضع له .
علم الكتاب والسنة الذي يحقق للإنسان السلامة والسعادة.
علمنا مقيد بالكتاب والسنة، الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله ﷺ.
لقد كان النبي ﷺ سأل الله العلم النافع، وأمر بالتعوذ من علم ما لا ينفع، فكان ﷺ يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: اللهم إني أسألك علما نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملا متقبلاً[رواه أحمد: 26521، وابن ماجه: 925، وصححه الألباني].
وعن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: سلو الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع[رواه ابن ماجه: 3843، وحسنه الألباني].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لكن جماع الخير أن يستعين بالله -سبحانه- في تلقي العلم الموروث عن النبي ﷺ، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علماً فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً وإن سمي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون من ميراث محمد ﷺ[مجموع الفتاوى: 10/664].
فلو قال واحد: علوم الطب والفيزياء، الطبيعة والكيمياء، وغير ذلك أليست علوماً نافعة؟ نقول: نعم، ولذلك لا بد أن تجد في الكتاب والسنة ما يدل عليها، فمثلاً علوم الطيران، وغير ذلك، من العلوم التي تنفع المسلمين داخلة في قوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، وهذه العلوم من أسباب القوة.
لكن بعض الناس يظنون أشياء من الفلسفة علم الكلام وغيرها علوماً، بل بعضهم يتعلم السحر، والتنجيم، والعرافة، ويسمونها: علوماً.
فنقول: ليست علوماً وإن سماها الناس علوماً، ولو فرضنا أنها علوم فإنها ليست بنافعة، بل بعضها ضار يقود إلى الشرك والمعصية، ولا يوجد علم نافع إلا وهو داخل في ميراث محمد ﷺ، ولو وجدت خارج القرآن والسنة علماً نافعاً فلا بد أن يوجد في الكتاب والسنة ما يغني عنه؛ لأن الله ما فرط في كتابه من شيء، في اللوح المحفوظ ما فرط، وفي القرآن الكريم دلنا على كل خير، وما ترك النبي ﷺ علماً مفيداً إلا دلنا عليه، قال شيخ الإسلام: "ولتكن همته فهم مقاصد الرسول ﷺ في أمره ونهيه، وسائر كلامه، فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول ﷺ فلا يعدل عنه" [مجموع الفتاوى: 10/664].
قال ابن رجب -رحمه الله-: "فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها" [فضل علم السلف، ص: 6] يعني علم النحو، علم الأصول، علم المصطلح، علوم البلاغة، علوم آلة تفيد في ضبط نصوص القرآن والسنة، وفهم معانيها، لكن إدراك معاني القرآن والسنة في النهاية هو العلم الأساسي، فإذا قال واحد: ما هو العلم، العلم الحقيقي؟
نقول: أن تفهم مراد الله من كتابه ومراد رسول الله ﷺ من حديثه، هذا هو العلم، فإذا حزت كل يوم معنى آية، على فهم السلف، ومعنى حديث من أحاديث النبي ﷺ على فهم السلف، فقد حزت خيراً عظيماً، هذا هو المكسب، وهذه هي الثروة، التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه، ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمها ثانياً.
إذاً، إذا عرفنا الحديث الصحيح، فإننا لا بد أن نعرف معناه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر: 28].
قال ابن مسعود وغيره: "كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً" [مصنف ابن أبي شيبة: 7/104].
وقال بعض السلف: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية" [موطأ مالك: 1/258].
وقال بعضهم: "من خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل" [فضل علم السلف، ص: 7].
وكلامهم في هذا المعنى كثير جداً، ولابن رجب رسالة لطيفة بعنوان: "فضل علم السلف على علم الخلف".
بعدما عرفنا العلم، وعرفنا ما هو العلم النافع، وكنه هذا العلم النافع، فلا بد أن نأتي على أهله، وهم العلماء.
العلماء ورثة الأنبياء، وخزانة العلم، ودعاة الحق، وأنصار الدين، يهدون الناس إلى معرفة الله وطاعته، ويوجهونهم إلى الخير والصلاح.
تضافرت الأدلة على تكريمهم، والإشادة بمقامهم: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة: 11]، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول ﷺ لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول اللهﷺ ما جئت لحاجة؟ قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات الملائكة وغيرهم ومن في الأرض من البشر الإنس والجن قال: والحيتان في جوف الماء كل أنواع البهائم والدواب التي خلقها الله البرية والبحرية والجوية، قال: وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولذلك تركة النبي ﷺ أخذت إلى بيت المال على تواضعها وقلتها إلى بيت المال، لا نورث ما تركنا صدقة [رواه البخاري: 3093، ومسلم: 1759]، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر[رواه أبو داود: 3641، والترمذي: 2682، وهو حديث صحيح]، ولذلك قال الصحابي: "هلموا إلى قسمة تركة محمد بن عبد اللهﷺ"، تعالوا نقسمها في المسجد، هنا قسمة ميراث محمد بن عبد الله ﷺ.
ولا غرابة في أن يحظى العلماء بهذه الخصائص الجليلة، والمزايا الغر، فهم حماة الدين، وأعلام الإسلام، وحفظة آثاره الخالدة، وتراثه المدخور، يحملونه للناس عبر القرون يعلمونه.
إنهم حفاظ السنة وحملة الشريعة، إنهم أعظم الناس خشية للعلام، وأكثرهم بركة على أهل الإسلام، قد عنوا بضبط الحلال والحرام، هم في الأرض كالنجوم في السماء، وكالدواء للداء، وكالضياء في الظلماء، نقلهم ظاهر، وسلطانهم قاهر، ودليلهم باهر، يدعون من ضل إلى الهدى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، كم من تائه قد هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، ينفون عنه آثار أهل الغلو، وانتحال المبطلين، الذين يزيفون على الناس ويدلسون، وتأويل الجاهلين، تفسيرات الجهلة للنصوص الشرعية، ينفون هذا كله، يبينون زيفه، هم سرج الأمة، إنهم أرحم بأمة محمد ﷺ من آبائهم وأمهاتهم؛ لأن الآباء والأمهات، إنما يحفظون أولادهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة.
إذا كان هذا أبو النطف، فهذا العالم أبو الروح.
إنهم ورثة الأنبياء، فيا لله ما أعظم الميراث، وما أسعد الوارث.
إنهم أنس المجالس، وبهجة المجالس، ما ظنك بقوم استشهد الله بهم على أعظم مشهود، فقال : شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18].
وجدوا أنسهم وسعادتهم في تنقيح العلم، وتأمل المسائل، فهم منار سبيل الجنان، وأقرب الناس إلى الديان، وأعدى أعداء الشيطان؛ لأن الشيطان لا يستطيع أن يلبس عليهم.
هم في الخير قادة، وفي الهدى سادة، يقتدى بأفعالهم وأقوالهم، وتقص آثارهم، وترغب الملائكة في حلقهم، وبأجنحتها تحفهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم، فكفى بذلك شرفاً وفخراً.
وأهل العلم وجوههم مشرقة، نظرة، لدعاء النبي ﷺ، فهو قال: نضر الله امرئ سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه[رواه ابن ماجه بسند صحيح: 230، ]، فهم أنظر الناس وجوهاً، وأشرفهم مقاماً.
الحاجة إلى معرفة العلماء وأبرز صفاتهم وعلاماتهم
من هو العالم؟
لقد عرفنا شرفهم وفضلهم، فمن هو العالم؟
إن حاجة الناس إلى معرفة العلماء من الأهمية بمكان؛ لأنهم إذا جهلوا من هو العالم، تخلل الصفوف من ليس منهم، ووقعت الفوضى التي نتجرع الآن غصصها، ونشهد مآسيها، في كثير من القنوات والمجلات والمجالس، من يستحق أن يطلق عليه لفظ العالم، له صفات، ولذلك يجب أن نتحرى لأن هذا العلم دين: "فانظروا عمن تأخذون دينكم"[مقدمة صحيح مسلم: 1/14].
أنت تأخذ من العالم الفتوى والجواب والشرح للكتاب والسنة طريق إلى الجنة، ونجاة من النار، ولذلك يجب أن تعرفه، لتسأله، وتقعد إليه، وتسمع منه، وتأخذ عنه، وتفهم منه.
ليس العالم من كان فصيحاً بليغاً، ذا صوت جهوري، وشعر شجي، ليس العالم من ألف كتاباً، أو نشر مقالة، أو حقق مخطوطة، ليس العالم من أخذ شهادة، أو تبوأ منصباً.
قد يكون من العلماء من ألف وكتب وانتصب للناس مفتياً وكاتباً، وأخذ شهادة، وقد لا يكون، فليس بالضرورة أن يكون العالم على هذه الاشياء المتقدمة قد حازها.
بعض الناس لا يفرق بين من لا يتكلم في الشرع من الذي علم الشرع ومن لا يعلمه، فعنده أن كل ما قيل في المحراب فهو صواب، فلا يعرف قدر العلم ولا حق العلماء، ويظن أن العلم كثرة الكلام، يظن أن العالم مثلاً الذي يبكي الناس، يظن أن العالم فقط الذي عنده جرأة أدبية ولا يبالي بأحد، وليس كذلك. نعم، إن العالم يقول الحق ولا يبالي، لا يبالي في الله لومة لائم، لكن ليس كل جريء صاحب لسان مفوه عالم.
نعم، إن العالم يرقق قلوب الناس بآيات الله، لكن ليس كل من وعظ وأبكى الناس فهو عالم.
في هذا الزمن غاب الفرق بين طالب العلم والعالم، بل غاب الفرق بين العالم والجاهل، ولذلك ترى بعض الناس يسأل من طالت لحيته، أو يسأل كل من تزيا بزي طلبة العلم، قال ابن رجب -رحمه الله-، وقد ابتلينا بجهلة من الناس، يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنهم أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم، لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين... وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله[فضل علم السلف، ص: 5].
إذاً، بعض الناس يقول: هذا عالم كبير، لماذا؟
يقول: هذا ألف مجلدات.
-طيب- اجمع لي كلام أبي بكر الصديق، كم يكون؟ كم مجلد؟ عشرين، ثلاثين، خمسين، لا، قد لا يبلغ كراساً، لكن أبا بكر أعلم.
اجمع علم ابن مسعود كم يكون؟ ثلاثين مجلداً، لا، يبلغ، ومع ذلك ابن مسعود أعلم، وهكذا..
فليس العلم إذاً بكثرة الكلام، ثم ذكر أثر ابن مسعود وقال: "إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه" هذا زمن الصحابة، "وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه، فمن كثر علمه، وقل قوله، فهو الممدوح، ومن كان بالعكس، فهو مذموم" [فضل علم السلف، ص: 5].
العالم -أيها الإخوة والأخوات- من تولع بالعلم الشرعي، وألمَّ بمجمل أحكام الكتاب والسنة، عارف للناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمفسر، والمفسر أيضاً قد اطلع على أقاويل السلف، وما أجمعوا عليه، واختلفوا فيه، يعرف ما هي المسألة التي أجمعوا عليها حتى لا يخالف، وما الذي اختلفوا فيه، فيسعه النظر والترجيح، إن كان من أهل الترجيح، ولذلك عقد الإمام بن عبد البر -رحمه الله- في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" باباً فيمن يستحق أن يسمى فقيهاً أو عالماً.
هذا لا شك أنه أنفق وقتاً طويلاً في التعلم ثنى الركب عند العلم، له شيوخ، راسخ، قارئ، ناظر، صاحب عقل، بصيرة، حكمة، ليس بالمغفل، لا تنطلي عليه الأباطيل، ولذلك نريد أن نعرف ما هي صفات العلماء، ما الذي ذكره الله عن صفاتهم؟
مثلاً: يعرفون رد المتشابه إلى المحكم، إذا جاء نص شرعي فيه إشكال، يعرف كيف يرده إلى النص المحكم، ويأتي لك بفهمه الصحيح، لو قال واحد مثلاً: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ[الحديد: 4] يعني بذاته معنا، فيها إشكال، نقول: خذ المحكمات، ردها إلى المحكم: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طـه: 5].
إذاً ذاته ليست مخالطة لذواتنا، منفصله عنها إنه بذاته، قد استوى على عرشه سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طـه: 5] فهو معنا بماذا؟ بعلمه كما ختم الآية.
لو واحد قال: أن قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق: 16] مشكلة عليه، كيف أقرب إليه من حبل الوريد؟ يعني الله أقرب إلينا من حبال حبل الوريد؟
نقول: رده إلى المحكم، فهو بعلمه معنا أينما كنا، وبملائكته، وجنوده كذلك.
فإذاً، العالم يستطيع أن يرد المتشابه إلى المحكم، وكثير من الناس تشكل عليهم نصوصاً لا يعرفون كيف يفسرونها، بسبب قلة العلم، هذا طبيعي هذا متوقع، والله -تعالى- قال: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِهذه المرجع، قال: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ هناك آيات متشابهات، تشكل على بعض الناس، قال: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أصحاب البدع أصحاب الهوى، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ نأخذ المتشابه ويقول هذا هو دليل، ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على أحد الوجوه في التفسير الله يعلم والراسخون في العلم يعلمونه، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].
ثانياً: من صفاتهم: الخشوع والخضوع لأمر الله، قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا[الإسراء: 107].
إذاً، انتبه صفة مهمة جداً من صفات أهل العلم: إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[الإسراء: 107 - 109].
إذاً، هذا القرآن يزيد أهل العلم خشوعاً، فإذا لم يزدد الواحد خشوعاً فليس من أهل العلم كذلك هم أهل خشية يخشون الله أهل العلم فإذا الواحد ما يخاف الله فليس من أهل العلم، قال الله -تعالى-: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر: 28] يخشى العلماء ربهم.
قال ابن مسعود: "ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية" [جامع بيان العلم وفضله: 1/758].
وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال متواضعاً رحمه الله: إنما العالم من يخشى الله.
قال سفيان: كان يقال: اتقوا فتنة العابد الجاهل، والعالم الفاجر، يعني في واحد عنده علم ويستعمله بشيطنة، فاجر، ليلبس على الناس.
هناك ناس الآن متخصصين في البحث عن نصوص لأهل العلم، يلبسون بها على الناس، ويأتون بأحاديث يفسرونها على هواهم، يلبسون على الناس، والناس يرون آيات وأحاديث وكلام معزو للكتب، "اتقوا فتنة العابد الجاهل، والعالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل صاحب هوى، العلم ليس بكثرة الرواية، ولكنه نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الاتباع، والفرار من الهوى والابتداع، كما يقول الذهبي -رحمه الله- [سير أعلام النبلاء: 13/323].
من صفاتهم أيضاً: أن علمهم في صدورهم آيات بينات، فهم على بصيرة، قال الله -تبارك وتعالى-: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] القرآن هذا محفوظ في صدور الذين أوتوا العلم.
إنهم يرون الحق من خلاله، إنهم يهتدون به، قال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[سبأ: 6] فهم لا يتبعون الآراء، وإنما يتبعون الكتاب. الاتباع أن تقف عند الآية عند الحديث ولا تخالف، إذا تبينت واستيقنت فكيف تتجاوز الحد.
كذلك من صفات أهل العلم في القرآن الكريم: أنهم يعقلون الأمثال ويفهمونها؛ كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت: 43].
ومن علاماتهم أيضاً: أنهم لا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقاما، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على الخلق، وأهل العلم النافع كلما زادوا علماً ازدادوا تواضعاً لله، وخشية وانكساراً وذلاً.
ومن علاماتهم: الهروب من الدنيا، وأول ما يهربون منه الرياسة والشهرة والمدح، لا يتسابقون على العدسات، ولا يتسابقون إلى الشاشات، ولا يتسابقون إلى المكبرات، إذا دعوا أجابوا بالحق، لكن ليس القصد الشهرة: لماذا لم تضعوا قبل اسمي فضيلة الشيخ؟ أنا لا أجيب هذه الدعوة، ما كتبتم فيها مدحاً، لا ينظرون إلى هذا، لا ينظرون إلى المناصب، لا ينظرون إلى الإغراءات المالية، تعطونني مالاً أشرح لكم، لا تعطونني مالاً، ابحثوا عن غيري، أعلمكم بفلوس، ما في فلوس ما في تعليم، يبذلون العلم لله، ويختارون من يعلمونه، وربما لا يعلمون بعض المسائل بعض الناس لكي لا تكون فتنة لهم، أو يستعملها هؤلاء في الباطل، فالتباعد عن الشهرة والرياسة والمدح من علاماتهم، وهذه علامة مهمة جداً لابد من الأخذ بها في هذا الزمن، لكثرة المتنافسين عن الشهرة، وعلى الدنيا، وهذه من أكبر العلامات الفاصلة في هذا الزمن التي تستطيع أن تميز بها العلم الحقيقي من المزيف.
فإن قال القائل: إن العالم يشتهر حتى أحمد وأبو حنيفة والشافعي اشتهروا، فهل هذا يجعل المشهور ليس بعالم؟
فنقول: لا، لكن الشهرة حصلت له بغير قصد منه، هذا الفرق، المزيف يتقصد الشهرة، ويسابق إلى مواضع الاشتهار.
أما الذي اشتهر من غير قصد منه، عرفه الناس فجاؤوا يسألونه، عرفه الناس فحضروا مجلسه، اشتهر أمره دون دعايات.
الآن بعضهم يريد عمل دعايات، يقول: اعملوا لي دعايات في القنوات؟ اعملوا لي دعايات في المجلات؟ ليش الإعلان صغير؟ الإعلان هذا ما هو ملون، لا لن أقيم محاضرة. يبحثون عن الشهرة.
كان أحمد -رحمه الله- يخاف اشتهار اسمه، ويقول الشافعي: وددت أن الناس تعلموا مني، وددت أن هذا العلم الذي عندي يتعلمه الناس مني ولا ينسبون إلي منه حرفاً، يأخذ العلم، ولا يقول: قال الشافعي.
ومن علاماتهم أيضاً: أنهم لا يدعون العلم فلا يفخرون على أحد، ولا ينسبون غيرهم إلى الجهل، إلا من خالف السنة، ولو تكلموا في شخص يتكلمون غضباً لله، وليس لأنفسهم.
ومن علاماتهم: أنهم يسيئون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بالآخرين، وبمن سلف من العلماء.
من علامات العلماء: أن يقروا بالفضل للعلماء المتقدمين، ويقولون: علمنا شيوخنا كذا، هذه المسألة تعلمتها من شيخي، شيخي فلان دلني على هذا، وجدت هذه الكلمة في كتاب لفلان من العلماء، أنقل لكم من فلان فهو يحسن الظن بمن سلف، ويقر له بالفضل، كان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف، يقول:
لا تعرضن بذكرانا في ذكرهم | ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد |
ومن الناس من يظن أن العلم بمجرد كبر السن، لكن كبر السن بدون رسوخ في العلم ليس صاحبه بعالم، نعم، كبر السن له تأثير كبير، إنه طريق للرسوخ، ولذلك فإن من الخطورة الأخذ من الصغار غير الناضجين، وهنا نأتي على موضع الحديث المشهور: إن من أشراط الساعة: أن يلتمس العلم عند الأصاغر [رواه الطبراني: 908، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 695].
ما معنى: أن يلتمس العلم عند الأصاغر؟ ومن هؤلاء الأصاغر؟
قال ابن مسعود : "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعن علمائهم"، فإذا أخذوا من صغارهم وأشرارهم هلكوا.
وروى الخطيب في كتابه: نصيحة أهل الحديث بسنده إلى ابن قتيبة أنه سئل عن معنى هذا، فقال: يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث؛ لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب، وحدته وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستنزله الشيطان، لا يستزله استزلال الحدث، ومع السن والوقار والجلال والهيبة، فهذا يرجى منه أكثر ممن يرجى من الحدث.
وبعض الناس فسر الحديث: الأصاغر بأهل البدع، فسئل عبد الله بن المبارك: من الأصاغر؟ قال: الذين يقولون برأيهم، فأما صغير يروي عن كبير فليس بصغير[الاعتصام، ص: 134].
لاحظ المأخذ هذا مهم جداً، يقول: المذموم الذي يأخذ عن الصغار، أما الآخذ إذا كان يأخذ عن الكبار، ولو كان صغيراً فليس بمذموم، إذا كنت تأخذ عن الكبار الأكابر، فلا يضر كم سنك، وقال الشاطبي، تعليقاً على كلام ابن المبارك: "وهو موافق لأن أهل البدع أصاغر في العلم، ولأجل ذلك صاروا أهل بدع" [الاعتصام، ص: 682].
وكذلك من صفات أهل العلم: أنهم أئمة صابرون: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة: 24].
إذاً، الصبر من شعارهم، الصبر من أخلاقهم، بماذا صاروا أئمة؟ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة: 24].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعليقاً على الآية: جعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة: 24].
وقال رحمه الله: وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبينها، وذب عنها وبين حال مخالفيها، وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها، لما ظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك" يعني أحمد -رحمه الله- قرنت باسمه من الإمامة في السنة، ما اشتهر به وصار متبوعاً لمن بعده، كما كان تابعاً لمن قبله، صار الإمام أحمد إمام أهل السنة؛ لأنه اتبع من قبله اتبع الصحابة والتابعين وتابعيهم فصار إماماً، قال: "وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله ﷺ، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة" [مجموع الفتاوى: 3/358].
تخصصات العلماء
هل للعلماء تخصصات؟
الجواب: نعم، منهم حفاظ الحديث، وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام، وزوامل الإسلام الذين قال فيهم الإمام أحمد: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى" [الرد على الجهمية والزنادقة، ص: 55] إلى آخر كلامه.
القسم الثاني: فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من الحاجة الشراب والطعام، وطاعتهم فرض بنص الكتاب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ[النساء: 59].
فإذاً، العلماء والأمراء الذين يأتمرون بهدي العلماء، ويأمرون الناس به يجب طاعتهم.
حقوق العلماء
ما هي حقوق العلماء؟
إن حقوقهم عظيمة، بغض النظر عن أصولهم هل أصله عربي، أصله أعجمي هل هو غني هل هو فقير هل هو صاحب نسب؟ هل هو ليس بذاك النسب؟ العالم سواء كان في منصب أو في غير منصب صاحب شهادة دكتوراة، أو لم يأخذ هذه الشهادة، سواء كان إماماً وخطيباً، أو لم يكن إماماً وخطيباً، هؤلاء الذين عرفنا صفتهم ما هي حقوقهم؟
أولاً: إحسان الظن بهم، فإذا كان واجب المسلم أن يحسن الظن بأخيه المسلم عموماً فإحسان الظن بالعالم أوجب، وأن يحمل كلام العالم على أحسن المحامل، قال عمر: "لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً" [شعب الإيمان: 10/559].
وقال جعفر بن محمد: "إذا بلغك عن أخيك شيء تنكره، فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبت، وجدت له عذر، وإلا قل لعل له عذراً لا أعرفه" [شعب الإيمان: 10/559].
العلماء أولى بأن يعذروا.
ثانياً: ومن حقهم: اتهام المرء نفسه أمام فهمهم، وتقواهم وورعهم، فلا يرى نفسه أفضل منهم، ولا يرى لفهمه ميزة على فهمهم.
وترى الواحد اليوم مما يحصل من الاغترار بشهادته الجامعية مثلاً قد يكون عنده دكتوراة في الفلك، أو في علوم الطبيعة، فيقول: ذهبت للشيخ فلان أسأله عن مسألة يقول لي: أعد، يعني يري نفسه أنه أفهم من العالم، وأن العالم يقول له: أعد.
العالم يريد أن يتثبت، وكلمة: أعد من العالم ليست عيباً، أحياناً الذي عنده قدرة على الفتيا ربما ينشغل ذهنه بشيء، فيقول للسائل: أعد، ربما يكون مهموماً بأمر فيقول للسائل: أعد، ثلاث مرات، وربما يريد التأمل والتدبر في السؤال فيقول: أعد.
ولقد حضرت حلقة لشيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في المسجد الحرام قبل أكثر من عشرين سنة، وسئل سؤالاً في صحن الحرم، يقول للسائل: أعد أكثر من مرة، ثم قال: لا أدري، المسألة ملتبسة علي، هذا العالم، لا يرى عيباً أن يقول: لا أدري.
هؤلاء الذين يدعون العلم في الفضائيات بعضهم أهل علم حقيقة، وكثير منهم جهلة، يدعون العلم، بعض هؤلاء ما عنده لا أدري، عمرك سمعت شيخاً على الفضائيات يقول: لا أدري، لا يوجد لا أدري، يدرون عن كل شيء، هذه مصيبة، كارثة، لا أدري نصف العلم، لم يستح مالك أن يرد السائل عن أكثر مسائله التي جاء بها من مسافة بعيدة يقول: قل لهم يقول مالك: لا أدري.
ثالثاً: ومن حقهم: أن يحترم اجتهادهم حتى لو ظهر خطأه فإنه لا يخلو عن الأجر، حال العلماء في اجتهادهم دائر بين الأجر والأجرين.
أما الجاهل إذا تكلم يأثم، حتى لو صابت؛ لأن كثيراً من المسائل جوابها يجوز أو لا يجوز، فإذا جاء واحد وضربها، وطلعت صح، خمسون في المائة يجوز وخمسون في المائة لا يجوز فإنه آثم، ولا يقال: أصبت الحق لك أجران، كلا، عليه إثم؛ لأنه تكلم فيما لا يعلمه.
رابعاً: ومن حقهم: أن يتأمل قولهم واجتهادهم ولا يتهجم عليه، فكم من قول لعالم انتقده بعض الناس وآفته فهمه السقيم؛ كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحاً | وآفته من الفهم السقيم |
خامساً: ومن حقهم: أن لا ينسب إليهم القصور في جوانب من العلم الدنيوي؛ كأن يقال: انظر إلى هذا العالم لا يفهم شيئاً في الفلك، هذا العالم لا يعرف شيئاً في الطب، ومن قال إن العالم بالشريعة يجب أن يفهم الفلك والطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا؟ ليس واجباً عليه ذلك.
سادساً: ومن حقهم: لزومهم، والالتفاف حولهم، والأخذ عنهم، أما الابتعاد عن العلماء فهو جفاء وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية [رواه أبو داود: 547، والنسائي: 847، وأحمد: 27514، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 556].
سابعاً: حرمة الوقوع فيهم وفي أعراضهم، فإن: كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه[رواه مسلم: 2564] فكيف وهم رؤساء الناس؟
معاذ بن جبل يوم القيامة يتقدم العلماء برتوة، رمية حجر.
ثامناً: ومن حقهم: أن لا يفتات عليهم، ولا يتقدم بين أيديهم، بل يرجع إليهم عند نزول النازلة، ليستنبط حكمها من الشرع، العالم، فنحن نذهب إليهم ونستفتيهم، تنفيذاً لقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء: 83].
وليس من الأدب أن تقول للعالم: ما حكم كذا؟ فتقول: هذا كان رأيي من أول، وما قيمة رأيك، وهل تريد أن تقول له إنني عرفت الجواب قبلك، أو ماذا؟
تاسعاً: ومن حقهم: ترك التعصب لقولهم من دون دليل، فإن هناك فرقاً بين تعظيم العالم وتوقيره ومعرفة الحق، وبين التعصب لقوله وإن خالف الدليل، فإن التعصب مذموم وهو من الجهل وتوقير العالم واحترامه من فضل العلم، وترك التعصب لأقوال العلماء هذا من تجريد المتابعة للمعصوم ﷺ. إذاً قد يتبين لك الحق من قول عالم آخر غير العالم الذي سمعت منه أولاً، فتتبع الثاني، وإلا تقول: الأول هذا جارنا، ومن بلدنا، وأبي يعرفه، لا، أنت تتبع العالم الذي تبين لك الحق من خلال كلامه، قال الشافعي -رحمه الله-: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد" [إعلام الموقعين: 2/201].
هناك -أيها الإخوة- في هذا الزمن الآن مشكلة حقيقة في التعرف على العالم من هو العالم، واحد يقول: أنا عامي إذا كنتم تقولون إنه لا يشترط أن يكون من حملة الشهادات، ولا من أرباب المناصب، ولا من كذا، فكيف أعرفه؟
هناك من العلماء من هو بعيد عن الشهرة غير معروف، ولذلك فإن من وظيفة طلبة العلم أن يدلوا العامة على العلماء، أن يعطوا هواتف العلماء للناس ليسألوا أهل العلم، من وظيفة الدعاة وأئمة المساجد والخطباء والقائمين على المواقع الإسلامية الدعوية في شبكة نسيج العنكبوت، وغيرها، أن يدلوا الناس على العلماء.
من وظيفة الوعاظ إذا استشهدوا بشيء من كلام العلماء ليعرفوا الناس بهم، من وظيفة المعروفين المشهورين أن يقولوا للناس: هذا عالم، هذا من العلماء اتبعوه، ولو كنت أنا أشهر منه، فإنه شيخي، هو العالم.
إذاً أحياناً العامي لا يستطيع الوصول للعالم أو معرفة من هو العالم؛ لأن العامي إذا سمع كلاماً كثيراً من شخص قد يظنه عالماً، وإذا سمع شخصاً آخر أجاب بكلمة قال: هذا ما عنده إلا هذه الكلمة، وقد يكون هذا هو العالم.
إذاً لا بد للناس العامة من جسور.
كذلك جرى الحال الآن أن يكون في العلم الشرعي تخصصات، تخصص في التفسير، تخصص في الحديث، تخصص في الفقه، تخصص في أصول الفقه، تخصص...، بل علوم الآلة يعني فيه عالم باللغة العربية، عالم بالمصطلح، عالم بالبلاغة، تخصصات، ومن العلماء من جمع من هذه العلوم ما جمع، وفتح الله عليه ، العلم فتوحات، رزقه الله حافظة وفهماً، ألم بأشياء كثيرة، فإذا لم تجد ذلك العالم الموسوعي، فإذا كانت المسألة في الحديث سألت محدثاً، إذا كانت المسألة في التفسير سألت مفسراً، إذا كانت المسألة في الفقه سألت فقيهاً، مثلاً حكم المساهمة في كذا، هذه تحتاج إلى فقيه.
بل إننا نقول -أيها الإخوة- إن الفقه الآن صار تخصصات، فيه بعض أهل العلم تخصص في العبادات، وبعض أهل العلم تخصص في المعاملات، وتأتيك مسألة أحياناً في المساهمات المالية والأوراق المالية وبطاقات الائتمان، وغير ذلك، أشياء شائكة جداً، تحتاج إلى متخصصين فقهيين في هذا الجانب، عطاء -رحمه الله- كان متخصصاً في الحج، هو عالم في التفسير والحديث والفقه، لكن عطاء كان يفتي الناس في الحج ولا يكاد يجرؤ على الفتيا في أماكن إلا هو، رأس الناس في الحج.
إذاً، العلوم الشرعية صارت تخصصات، بفعل الجامعات الشرعية تخصصات، العالم الموسوعي قل جداً في هذا الزمان، الذي يعلم بالتفسير وفي الفقه وفي الحديث وفي الأصول وفي البلاغة وفي المصطلح وفي اللغة والنحو والصرف، هذا صار قليلاً جداً، وصار العلم الشرعي تخصصات، ولذلك أحياناً قد نصل إلى مرحلة نضطر إلى سؤال كل صاحب تخصص في تخصصه، وفي بعض المسائل لا بد من وجود أكثر من متخصص يفتي فيها، وفي بعض الأحيان لا يمكن التوصل إلى فتوى ناضجة إلا عن طريق مجمع فقهي يجمع علماء من أصقاع الأرض لكي ينظروا في مسألة ليفتوا فيها، وربما يحتاج هؤلاء العلماء الشرعيين، أو الفقهاء إلى استدعاء أطباء مثلاً، أو مهندسين أو علماء في الطبيعة، ليشرحوا أشياء معينة، هل يمكن مثلاً يفتي واحد في الاستنساخ وهو لا يعرف ما هو الاستنساخ؟ ومن الذي سيدله على الاستنساخ؟ أليس صاحب تخصص في الاستنساخ؟ وهكذا.. هذا الآن كثير، يعني لا بد أن ندرك أن هناك فرقاً بين زمننا وزمان السلف، الآن الزمن هذا تعقدت فيه الأمور جداً، وصار هناك تفصيلات كثيرة، الآن في عالم الأسهم، كم نوع في بيع الأسهم؟ أنواع معقدة جداً، فتحتاج إلى خبير أسهم تجاري، يشرح للعالم ما وضع سوق الأسهم، أو ما هو حال المساهمات الفلانية، وما هي أنواع بيع الأسهم مثلاً في الأسواق العالمية، حتى يستطيع العالم أن يأتي بالفتوى الصحيحة.
إذاً، صرنا في وضع نحتاج فيه إلى اجتماع أهل الاختصاص، وأيضاً أحياناً ضم أصحاب اختصاصات دنيوية إلى أصحاب الاختصاصات الشرعية، لنصل إلى نتيجة، هذا لا بد أن يكون واضحاً.
من الحقوق للعلماء: توقيرهم واحترامهم ومحبتهم، فليسوا كسائر الناس؛ لأنهم وراث النبوة، ولأنهم وراث النبي ﷺ، فلا بد أن يكون لهم من القدر اللائق بهم والاعتبار والمكانة، وقد قال تعالى: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [الشعراء: 183]،قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الزمر: 9].
وقال النبيﷺ: ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه حديث حسن.
وكان النبيﷺ مع أصحابه إذا تحدث كأنما على رؤوسهم الطير.
وكان كثير من السلف يقول: ما صليت إلا ودعيت لوالدي ومشايخي جمعياً.
وقال شيخ الإسلام: "وإذا كان الرجل قد علمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره" [مجموع الفتاوى: 28/17]، فلا يجتمع التعلم مع الكبر، ولا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ق: 37] ومعنى: كونه ذا قلب أن يكون قابلاً للعلم والفهم، ثم يلقي السمع وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر القلب ليصغي ليفهم، ويتضرع إلى الله ليعلمه ويفهمه.
وبلغ من احترام الربيع بن سليمان للشافعي أنه قال: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له"[طبقات الشافعيين، ص: 46].
وقال أحمد: "لزمت هشيم بن بشير أربع سنين، ما سألته عن شيء إلا مرتين، هيبة له".
وكان الشافعي يقول: "إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث كأني رأيت واحداً من أصحاب رسول الله ﷺ"[سير أعلام النبلاء: 10/69].
العلم ميراث النبي كما أتى | في النص والعلماء هم وراثه |
ما خلف المختار غير حديثه | فينا فذاك متاعه وأثاثه |
قال يحيى بن معاذ: "العلماء أرحم بأمة محمد ﷺ من آبائهم وأمهاتهم" [إحياء علوم الدين: 1/11].
يقول أبو داود الطيالسي: "لولا هذه العصابة- يعني العلماء المجموعة- لندرس الإسلام" [ترتيب الأمالي الخميسية للشجري: 1/28] أي لذهب.
العلماء سراج الأزمنة، فكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره، فكن سراج زمانك، بل وسراج بيتك، وسراج نفسك.
قال الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبة له لئلا يسمع وقعها".
إن المعلم والطبيب كليهما | لا ينصحان إذا هما لم يكرما |
-طبعاً- العالم المخلص لا يبالي، ولكن قد يربي بعض الناس بكلمات أو مواقف شديدة، قال ابن الصلاح: ينبغي للمستفتي أن يحفظ الأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وسؤاله.
وقال ابن سيرين: "رأيت ابن أبي ليلى وأصحابه يعظمونه ويسودونه ويشرفونه مثل الأمير".
وكان ابن عباس مع جلالته يأخذ بركاب زيد بن ثابت، ويقول: "هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا".
وكان الليث بن سعد فقيه مصر ومحدثها ورئيسها ومن يفتخر الإقليم بوجوده، بحيث أن متولي مصر وقاضيها وناضرها من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته.
وقال عبد الله بن أحمد قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بني كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما من عوض؟
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم، ومعدود في زمرتهم؟" [هداية الحيارى: 2/460].
وقد عوتب الشافعي -رحمه الله- على تواضعه للعلماء وقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونها | ولن تكرم النفس التي لا تهينها |
وقال أحمد: أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه، فحق حال العالم علينا أن نتواضع له وأن نجله ونقدره، وأن نحترمه.
والعلماء أنفسهم يتواضعون لبعضهم، لما حضر الشيخ الألباني -رحمه الله- مرة في الحجاز، فأراد أن يزور الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- في بيته، وسمع الشيخ عبد العزيز أن الشيخ الألباني قد حضر فأراد أن يزوره في مكانه، فأمر الشيخ عبد العزيز أن يتجهز للذهاب، فأسرع الشيخ الألباني بالمجيء والشيخ عبدالعزيز يوشك على المغادرة، وكل منهما يرى للآخر الحق في الإتيان إليه، فلما التقيا وكان بينهما ما يكون من أهل العلم من المحادثة المفيدة، والنقاش، استأذن الشيخ الألباني في الذهاب، فقال قبل أن يقوم: يا شيخ عبدالعزيز: أوصني؟ هذا دأب أهل العلم يتواصون فيما بينهم، فقال الشيخ عبد العزيز: أوصيك ونفسي بتقوى الله، وكذا.. وكذا، فلما أراد الشيخ ناصر أن يقوم أمسك بيده الشيخ عبد العزيز بن باز فأجلسه، وقال: وأنت أوصني؟ فقال: أوصيك ونفسي بتقوى الله، واتباع السنة، وكذا.. وكذا، هؤلاء العلماء مدرسة في التواضع والإكرام، والتعليم لغيرهم.
من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، هذا العالم الذي يتعلم منه، من الدين، التقرب إلى الله بمحبته، قال علي بن أبي طالب: محبة العلماء دين يدان به، وليس العالم فقط الذي يحترم، ويحب الحي، بل الذين ماتوا، بعض علمائنا حج عن ابن عبد البر لكثرة ما استفاد منه، ولا ينسون الدعاء لهم.
إن طاعتهم واجبة، وهذا من أعظم حقوقهم، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59] فالعلماء يطاعون لأنهم يدلون على الكتاب والسنة، والأمراء يأمرون بمقتضى العلم، ولذلك فيطاعون أيضاً.
والرجوع إلى العلماء والصدور عن رأيهم هذا من الواجبات، الصدور عن رأيهم عصمة من الفتن، وما أكثر الفتن في هذه الأيام، قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أو غيرهم: أن يرجعوا إلى العلماء المعتبرين، ويسألوهم عنه، ليبينوا لهم جلية أمرهم، ويوقفوهم على حقيقته، ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبهة.
العلماء يحكمون في الأموال، حقوق الشركاء، حقوق الورثة، قسمة التركات، العلماء الذين يرشدونك في وقت الفتن، أهل الفهم والاستنباط هؤلاء يستنبطون كما قال الله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء: 83] عندهم قدرة على استخراج الحكم من الدليل، بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم، الاستنباط كما قال ابن القيم: "استخراج الشيء الثابت الخفي الذي لا يعثر عليه كل أحد، ومنه استنباط الماء، واستخراجه من موضعه".
ما معنى: يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ"يستخرجون حقيقته، وتدبيره بفطنتهم، وذكائهم، وإيمانهم" [مفتاح دار السعادة: 2/103].
إذاً، هنا يظهر العلم، القدرة على استنباط الحكم، على معرفة الحكم، على أخذ الحكم من الدليل، والناس في الفتن يحتاجون للعلماء جداً؛ لأن العلماء يعرفون الأدلة، نصوص الكتاب والسنة، ويعرفون مقاصد الشريعة، ويعرفون قواعد المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وهذا مهم جداً أيضاً يعرفون الأدلة التفصيلية، ثم يخرجون لك النتيجة، فترى كلامهم مألوفاً لطلبة العلم، لا يستنكره أهل العلم، فإذا رأيت واحداً في فضائيات في جرائد في مجالس في كتاب في شريط، قال كلاماً استنكره أهل العلم عليه، فارم به، فإما أن يكون الذي تكلم ليس بعالم أو يكون عالماً لكنه أتى بشيء شاذ، وبما أننا نتبع الحق وليس فلاناً وفلاناً فإن ما عرفناه من الحق ملزم لنا.
أيها الإخوة: إن العامة من الناس لا بد أن يكون لهم من يدلهم على أهل العلم، وإن الواجب التثبت وعدم التسرع، وإن أهل الثبات والنصح في الدين أيام المحن والفتن عصمة للناس، وهم يساعدون في توحيد الصف، وشحذ الهمة، انظر مثلاً إلى مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما جاء التتر، بعض الناس انخدعوا بهم؛ لأن هذا التتري جاء ومعه فيما يزعم قاض وشيخ ومؤذن وإمام، ولكن عنده من الكفر في هذا الياسق الذي كتب له، مجمع من أديان متعددة، جعلوه هو الدستور.
كذلك بعض الناس لما جاء هؤلاء التتر، قالوا: هؤلاء لا طاقة لنا بهم، فيقول شيخ الإسلام الذي ثبت أهل الشام عند مجيء التتر بالكتاب والسنة وآثار العلماء قال: "وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي للمسلمين على غزو التتر، وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر وغيرها، واستدعائي للعسكر المصري إلى الشام، وتثبيت -العسكر- الشامي فيه، وقد جرت في ذلك فصول متعددة" [مجموع الفتاوى: 27/505].
وكذلك كان موقف العز بن عبد السلام -رحمه الله- عندما جاء التتر فقال للمظفر سيف الدين أخرج وأنا أضمن لك على الله النصر يعني بمشيئة الله؛ لأنه قد تبين له الحق في هؤلاء، وماذا يجب على المسلمين أن يفعلوه.
موقف العلماء في الفتن
ما هو موقف العلماء في الفتن؟
يرشدون الناس إلى الصواب.
الفتنة إذا نزلت تعمي، فلا يبصرها إلا أهل العلم، ويبصر الموقف الصحيح منها، فمثلاً حدثت في عهود المسلمين السابقة فتن كان في عهد عثمان فتنة، جاءت فتن بعضها أيضاً، كذلك يقول ابن عمر لعثمان : لا تخلع نفسك، فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه" [تاريخ خليفة بن خياط، ص: 170].
وقال كعب بن مالك يحث المسلمين على نصرة عثمان: يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان فوقفوا ببابه، لكنه هو الذي كفهم عن القتال.
وعثمان بعلمه حقن دماء المسلمين، وحافظ على وصية رسول الله ﷺ.
وعلي كان موقفه في فتنة عثمان واضحاً، قال: "اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان" [فضائل الصحابة: 1/452].
ولما قيل لأنس بن مالك: "إن حب علي وعثمان لا يجتمعان" من الفتن الذي أثارها عبد الله بن سبأ، صار بعض الناس يعتقد أنه لا يمكن الجمع بين حب علي وعثمان ، فقال أنس بن مالك: "كذبوا لقد اجتمع حبهما قلوبنا" [المجالسة وجواهر العلم: 7/66].
قال شيخ الإسلام: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، السفهاء والغوغاء يطيرون، ويكاد يكون لهم الهيمنة على الأوضاع، وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً[الأنفال: 25]. وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله" [منهاج السنة: 4/343].
العلماء يميزون الفتن قبل وقوعها، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن هذه الفتنة إذا أقبلت بأولها عرفها كل عالم" ينظر إليها، ويعرف أن هذه فتنة لا يجوز الاشتراك فيها، ويجب الابتعاد عن كذا وكذا، ويقدر مآلات الأمور، "وإذا أدبرت" وانتهت الفتنة بعدما حصدت من حصدت، وفتكت بمن فتكت، وأهلكت من أهلكت، "عرفها كل جاهل" [الطبقات الكبرى: 7/122]، لكن بعد فوات الأوان، قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص: 79] حلل، مراكب، خدم، عبيد، موكب قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا العوام يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[القصص: 79] هذا هو المغبوط فعلاً، هذا العز، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ[القصص: 80] هذا لما خرج عليهم بزينته، أحياناً تكون الفتنة بمال، أحياناً تكون الفتنة بشيء من الدنيا، فيروج على الناس، الناس يقولون: يا سلام! ما أعظم هذا! ما أحسن هذا! أما أهل العلم يقولون: هذا ليس بشيء، لا تغتروا به، قارون عنده مفاتيح خزائن ينوء بها الرجال، العصبة أولو القوة، ماذا حصل بعد ذلك؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81]، ولما خسف به وبداره ماذا قال العامة؟ يعني اكتشفوا الحال لكن بعد ماذا، فأهل العلم يعرفونه من أوله، لا ينطلي عليهم؛ لأن أهل العلم يعرفون أن متاع الدنيا قليل، وأن متاع الدنيا زائل، وأن ما عند الله خير وأبقى، وأن هذا فتنة، إلى آخره.
أما العامة يفتنون، قالوا أراد واحد من الدعاة أن يلقن بعض العامة درساً فدعا بهم مرة، يعني عندهم تطلع للدنيا، كلنا عندنا تطلع للدنيا، فقال في دعاء وهم يؤمنون، وتحمس في الدعاء ثم قال: اللهم آتنا أموالاً كثيرة، قالوا: آمين، قال: ثم ارزقنا التصدق بها، قالوا: آمين.
يقول يزيد الفقير فيما رواه مسلم -رحمه الله-: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد، نريد أن نحج"، فتنة الخوارج -طبعاً- خوارج من أكبر علاماتهم: أنهم يكفرون مرتكب الكبيرة، ويقولون: إن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار لا يخرج منها أبداً، وخرجوا على علي ، واستباحوا دماء المسلمين، وقتلوا صحابة، وبكل بساطة، يجتمع ثلاثة من الخوارج في الحج قالوا: سبب مشكلة المسلمين ثلاثة: علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ماذا ترون؟ قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين منهم، يقتلون ثلاثة من الصحابة، الجهل ماذا يفعل بأصحابه، اجتمعوا وقرروا، وفعلاً أحدهم نجح في قتل علي بسيف كان يسقيه السم شهراً، ومعاوية مرض فوكل رجلاً يؤم بالناس بدلاً منه، فطعن هذا الرجل، وعمرو بن العاص جاءت الطعنة في جنبه فكوي منها فبرئ، ماذا سيكون بعدها؟ وأيش التبعات؟ ما في تفكير، خلاص بس نقتلهم وخلاص انتهى نريح المسلمين منهم، جهل على تسرع، يقول يزيد الفقير: "كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد، نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس"، أول الحج، لازم قبل ما نخرج على الناس، قبل ما نفتح النار على الناس، نحج أولاً، قال: "فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث القوم عن رسول الله ﷺ، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين"، من هم الجهنميون؟ الذين يدخلون النار من أهل التوحيد بمعاصيهم، ويحترقون ما شاء الله ثم يخرجون منها ويدخلون الجنة؛ لأن هناك من أهل المعاصي من يغفر الله لهم بمشيئته، لا يدخلهم النار أصلاً، ومنهم من يدخلهم النار، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، ولذلك -يا إخوان- ما نتدخل في قضية إطلاق الأحكام الجنة والنار على الناس إلا من شهد له الشرع بذلك، هذا شأن رب العالمين، يحدث جابر عن الجهنميين - حديث الجهنميين هذا لا يوافق رأي من الخوارج، الخوارج يقولون أهل المعاصي والذنوب، وأهل الكبائر يدخلون النار، ويخلدون فيها، ولا يخرجون منها، فلا يفرقون بين المسلم صاحب الكبيرة وبين الكافر- يقول يزيد الفقير الذي كان متأثراً برأي الخوارج، فقلت له: "يا صاحب رسول الله ﷺ ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ[آل عمران: 192]" الذي يعتقد يعني رأيا ضالاً عنده أدلة، يعني تجد مع المعتزلة تقول: من أين أتيتم؟ يقولون: إبراهيم أبو المعتزلة، لماذا؟ قال إبراهيم قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ[مريم: 48] قالوا: إبراهيم من المعتزلة، تخيل معنا، أصلاً ما نشأت الفرقة إلا بعد ما مات النبي ﷺ، وبعد الصحابة، خرج هؤلاء، المهم هذا متأثر برأي الخوارج، الذين يقولون بتكفير مرتكب الكبيرة أنه خالد في النار، فيقول: ما هذا؟ والله يقول: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ[آل عمران: 192]، و كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا[الحـج: 22].
وممكن يستدل أيضاً بقوله تعالى: وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ[الحجر: 48] فما هذا الذي تقولون؟ فقال: أتقرأ القرآن؟ تحفظ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد ﷺ المحمود الذي يخرج الله به من يخرج، يعني النبي ﷺ له شفاعة، ومن شفاعاته ﷺ: أنه يشفع في ناس دخلوا النار أن يخرجوا منها، لكن هؤلاء كلهم من الموحدين، ثم نعت وضع الصراط، ومر الناس عليه، غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، فيدخلون نهر من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنهم القراطيس [رواه مسلم: 191].
فإذاً، هؤلاء الذين دخلوا النار على معاصي، كبائر، ثم أخرجوا منها بشفاعة النبي ﷺ، وشفاعة المؤمنين، وقبضة رب العالمين، يأخذ قبضة من النار فيخرجهم، بعد ما يشفع النبيون ويشفع الشافعون، والصالحون، بفضله ورحمته يخرج قوماً آخر دفعة من الذي بقي في قلبه أدنى شيء من الإيمان، يخرجهم فيلقون بنهر بباب الجنة: نهر الحياة، أو الحيوان، فإذا ألقوا فيه خرجوا على أحسن صورة يدخلون الجنة عليها.
فمعنى ذلك: أن مرتكب الكبيرة، والعصاة، لا يخلدون في النار، هذه الأدلة، يقول يزيد الفقير: فرجعنا يعني بعد هذا الشرح، قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله ﷺ؟ هل ممكن يكذب هذا على النبي ﷺ؟ لا يمكن، قال: فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد [الحديث في صحيح مسلم: 191].
إذاً، تابوا من بدعتهم، وتابوا من رأيهم، وما هي إلا واحد فقط الذي زل.
إذاً، الرجوع إلى أهل العلم ماذا أنتج؟ رجوع الناس عن بدعة، رجوع هؤلاء عن ضلال، انزياح الشبهات، اتضاح الحق، قال عبد الرحمن بن أبزى: قلت لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر ما المخرج؟ الآن جاء وضع عثمان، الوضع مضطرب جداً، هؤلاء عبدالله بن سبأ ومن معه أثاروا الأمة، وهناك غليان، وجاءت هذه الجيوش، وحاصرت المدينة، وحاصروا قصر عثمان يريدون قتل عثمان، والصحابة يريدون الدفاع عن عثمان، الأمور مضطربة، وبعد عثمان انفتح على المسلمين من الفتن ما انفتح، لما وقع الناس في أمر عثمان جاء عبد الرحمن بن أبزى إلى أبي بن كعب فقال: أبا المنذر ما المخرج؟ ما المخرج؟ الآن فتن الوضع يغلي، قال: كتاب الله، ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه [مصنف ابن أبي شيبة: 7/518].
وقال أيوب السختياني قال لي الحسن: ألا تعجب من سعيد بن جبير، دخل علي فسألني عن قتال الحجاج، ومعه بعض الرؤساء يعني أصحاب ابن الأشعث؟ قال سليمان بن علي الربعي: لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على حسن فقالوا: يا أبا سعيد -الحسن البصري- ما تقول في قتال هذا الطاغية؟ [ينظر: الطبقات الكبرى: 7/120] يعني أفعاله معروفة، أراد بعض الناس الخروج عن الحجاج، الحجاج يستاهل نزعه بالتأكيد، يعني ظالم مبير، لكن هل بالناس القدرة على الخروج عليه؟ أهل العلم قالوا: لا، والخروج غلط، ما في إمكانية، يعني أنت الآن لو جئت أتيت بألف من الشجعان، ومقابلهم خمسمائة ألف، لو كل واحد من هؤلاء الشجعان قتل عشرة، خلاص الألف يقتلون عشرة ألاف، ينتهون الألف كلهم، وما انتهى أولئك، فبعض الناس ما عنده حكمة، خلاص يقول: هناك منكرات لا بد أن نخرج، لا بد أن نستعمل السلاح، لا بد أن...، هذا صاحب منكر، لا بد أن نقتله، هذا إنسان أتى بالشر للمسلمين، لا بد من القضاء عليه، -طيب- ماذا سيحدث بعد ذلك؟ وإذا خرج هؤلاء وماذا ستكون النتيجة بعد ذلك؟ مشكلة كثير من المتعجلين يفكرون كيف يفعلون؟ وكيف يصلون إلى الفكرة؟ ولا يفكرون ما بعدها.
تكلم الناس كثيراً في أحداث 11 سبتمبر، وقالوا: وضرب البرجين وكذا، ماذا بعد ذلك؟ الآن عند حساب الأمور والنظرة الشرعية، ما هي النتائج المتوقعة بعد ذلك؟ ما هي المفاسد التي يمكن أن تترتب على ذلك؟ هذه من أكبر المشكلات، فكل من يجد عنده جرأة وقوة، اقتحم واشتغل.
ماذا بعد ذلك؟
ولذلك قضايا الأمة الكبار، قضايا الجهاد، واستعمال القوة، استعمال السلاح، لا يمكن يحكم فيها أفراد، هذه مزلة عظيمة، وليس معنى هذا أن الأمة ما تدافع عن نفسها أبداً ولا تجاهد عدواً، لا، هذا كلام أهل التخذيل، الذين يقولون: ما في جهاد في الإسلام ولا شيء، إلا إذا جاء العدو وداهم بلدنا ندافع ونقوم ونجاهد لله، طبعاً، يدافع الإنسان عن دينه وعن ماله وعن نفسه وعن أهله، وعن عرضه، وإلا ما فينا خير، لكن متى؟ في كل حال فيها استعمال القوة يجب أن يكون العلم والفقه حاضراً موجوداً، قضايا كبار، يحتاج لها أهل علم، أهل فقه، أهل سياسة، أهل بصيرة، ولذلك لما جاءوا للحسن قالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الحجاج، الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل.. وفعل، يؤخر الصلاة عن وقتها ، وذكروا من أفعال الحجاج، فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء، يعني أنتم على معروف وعلى دين الله ابتلاكم، وليس عاقبكم، ابتلاكم، فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟ شوف قالوا عن الحسن البصري، نطيع هذا العلج، وخرجوا مع ابن الأشعث، فقتلوا جميعاً [ينظر: الطبقات الكبرى: 7/120].
حركة ابن الأشعث التي كانت ضد الحجاج، فشلت، مع وجود الأخيار والصالحين فيها، واستأصلهم الحجاج وتطلبهم واحداً واحداً، وقطع رقابهم، وصار الوضع بعدهم يعني بعد حركة الأشعث أسوأ بكثير مما كان قبله، وقال كثيرون: يا ليتنا ما خرجنا، فمن الذي كان يدرك أبعاد الأمور؟
وروى مسلم في صحيحه عن عثمان الشحام، قال: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه، فقلنا: هل سمعت أباك يحدث في الفتن شيئاً؟ قال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله ﷺ: إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها[رواه مسلم: 2887].
بعض الناس أدعى المهدوية، خرج عدد في تاريخ الإسلام، كل واحد يقول: أنا المهدي، الحقوا بي، اتبعوني، بايعوني، كثير، يعني ما يكاد يوجد قرن إلا ويدعي المهدية عدد من الناس، عن حفص بن غياث قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ قال - نحن نعرف من النصوص أن المهدي خارج وأنه منصور وأنه سيملأ الأرض عدلاً- يقول سفيان، سفيان من الراسخين: "إن مر على بابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع عليه الناس" [حلية الأولياء: 7/31]، إذا اجتمعت عليه الأمة استتب الأمر، اذهب، المشكلة كل ما قام واحد قال: بايعوني، وذهبوا وراءه، هذه مصيبة.
وعن بشير بن عمر قال: شيعنا ابن مسعود حين خرج، فنزل في طريق القادسية فدخل بستاناً فقضى حاجته ثم توضأ، ومسح على جوربيه، ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء، فقلنا له: اعهد إلينا، فإن الناس قد وقعوا في الفتن، ولا ندري هل نلقاك أم لا؟ قال: اتقوا الله واصبروا، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة.
أبو موسى الأشعري صحابي جليل دخل مسجداً ووجد حلقاً، وعلى كل حلقة قائد، يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، كبروا مائة، فيكبرون مائة، وبين القوم حصى، يأخذون يعدون بالحصى، أبو موسى استغرب، لكن ما تعجل بشيء، ذهب إلى بيت عبد الله بن مسعود، أرسخ منه علماً، أقدم منه، أعلم منه، انتظر حتى خرج قال: يا أبا عبد الرحمن إني وجدت في المسجد شيئاً وجدت كذا وكذا، قال: ما قلت لهم؟ بماذا أمرتهم؟ قال: ما قلت لهم شيء انتظار أمرك، أنا أنتظر منك، ماذا أنكر ، أنتظر أمرك، يرجع إلى أهل العلم، مع أن أبا موسى عنده علم بالتأكيد، لكن رجع إلى لأعلم، فقال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم غطى وجهه ذهب إلى المسجد وكشف وجهه، قال: أنا أبو عبد الرحمن، عبد الله بن مسعود، صاحب رسول الله ﷺ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هذه آنية نبيكم لم تكسر، وثيابه لم تبلى، مات قريباً، محمد ﷺ بسرعة ابتدعتم؟ يعني لو كان هذا خيراً لفعله النبي ﷺ، كان بعد الصلاة قال: يا أيها الناس سبحوا مائة، كبروا مائة، كل واحد يقول أذكار الصلاة وحده، لو كان هذا أفضل لقاله ﷺ، وأمر به، ما أسرع هلكتكم [ينظر: تاريخ وسط، ص: 199] رجع إلى أهل العلم، ولذلك فإن الصدور عنهم، والرجوع إليهم، وممكن أحياناً تحتاج إلى أكثر من واحد من أهل العلم، يعني إذا كان عمر في القضية الواحدة يجمع لها في مجلسه كبار، وبعضهم قال: المسألة تأتي الواحد منكم يتكلم فيها لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، أهل بدر ليس أي صحابة أهل بدر حتى يتكلموا فيها.
إذاً، فيه أشياء ما تتبين إلا بفتوى جماعة من العلماء، وكان تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- يرجعون إليه في الفتن واختلاط الأمور، فيعطيهم الرأي السديد، ولذلك فإن هؤلاء العلماء الوصول إليهم مطلوب، والذب عن أعراضهم واجب، ومن وقع في العلماء فلحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب عاقبه الله قبل موته بموت القلب: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النــور: 63].
موت العالم من أكبر المصائب
وموت العالم من أكبر المصائب، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، فسرها ابن مسعود وغيره بموت علماء هذا الزمن، فلا يأتي في الزمن الذي بعده مثلهم، يعني بعض العلماء إذا ذهبوا خسارة، لا تعوض. الأمة فيها خير، ويخلف الله بعدهم من طلابهم، قل لي الآن مثلاً: بعد ما ذهب الشيخ ابن باز وابن عثيمين والألباني مثلاً كبار هؤلاء، من خلفهم مثلهم، أنت لا تستطيع أن تقول كل الأمة جهال، لكن فقد العالم مصيبة، ولذلك أحياناً ما يسد فراغ العالم إلا مجموعة، ومن العلماء ومن طلبة العلم، وأنت أحياناً إذا أردت أن تصل إلى نتيجة في مسألة تسمعها من عالم بالمشرق من عالم بالمغرب وطالب علم هنا وطالب علم هنا، يتواترون على جواب واحد، أحياناً ما يتبن لك الحق في مسألة إلا إذا تواترت إجابات أهل العلم على جواب واحد، ولذلك جمع إجابات هؤلاء مهم جداً في مسائل أحياناً تقول هذا ليس بأهل لها، وهذا تنقصه الخبرة، وهذا ينقصه الإحاطة بالأمر في الواقع، وهذا أحياناً بعض الوقائع ما تعرف حكمها إلا بجمع أقوال أهل العلم فيها، الناس يقولون: أيش حكم المساهمة في البنك الفلاني؟ ثم يأتي واحد يقول: يجوز، ما يجوز ...، انظر أقوال أهل العلم، غالبهم، طلبة العلم وأهل العلم المعروفين ما هو معروف بالتساهل طبعاً، وليس معروفاً أنه يبيع نفسه، أو أنه إنسان همه الشهرة، وهمه الدنيا، لا، ويغير مواقف ويبدل، لا، هو إنسان على الكتاب والسنة، ما هو كل يوم يظهر بشيء، وتراجعات وتساهلات، لا، على الكتاب والسنة، هو هو، إذا عرف الحق رجع إليه، وفرق بين الرجوع للحق وبين ترك الحق، بعضهم يترك الحق ويقول: تبين لي الحق، هو ما تبين، هو ترك الحق، فتن أمام المغريات وأمام أشياء كثيرة، جبن ضعف ترك الحق.
أيها الإخوة: إن موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، فيقيض الله بعده، قد يكون بعده بمدة من هو مثله، أو من هو أعظم منه، ولذلك طلاب العلماء من المهم جداً سؤالهم، ومن الأمور المهمة جداً أن العلماء لا تذهب صلاحية فتاويهم بموتهم، العالم فتواه علمه ليس مثل مرطبات، مواد غذائية، لها مدة انتهاء صلاحية، وإذا مات العالم فإن فتاواه انتهت صلاحيتها، لا، وبعضهم يريد أن يفعل هذا اليوم، فإذا قيل له: الشيخ العالم فلان أفتى يقول لك: العالم فلان مات، يعني أيش ويعني خلاص انتهينا: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ [البقرة: 141] سبحان الله طيب ولا زال العلماء يأخذون عن الصحابة، والصحابة ماتوا، ويأخذون عن أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وماتوا، ويأخذون عن ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن كثير وابن عبد الوهاب وغيرهم وماتوا، العالم الذي مات تأخذ منه، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لم استهدى أدلاء |
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه | والجاهلون لأهل العلم أعداء |
فداحة الوقوع في أعراض العلماء
أعراض العلماء على حفرة من حفر النار: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب[رواه البخاري: 6502] إن لم يكن الفقهاء أولياء لله فليس لله ولي، هذا كلام بعض أهل العلم.
وفرق بين الوقوع في العلماء وبين اكتشاف خطأ العالم من كلام العلماء الآخرين، تكتشف خطأ العالم أحياناً، وكذلك ففرق بين تنبيهه وبين إساءة الأدب معه.
وكذلك فإن الحذر يجب أن يكون قائماً من أهل البدع، فإنه مهما عظمت فصاحتهم لا يجوز الأخذ منهم، ولا استماع كلامهم، ولا أحاديثهم، ولا النظر إليهم، والذهاب إليهم، إلا لمن يرد عليهم.
أبرز صفات المفتي
أيها الإخوة: الناس يحتاجون اليوم إلى مفتين، كثرت القضايا، قضايا اجتماعية، قضايا اقتصادية، أسئلة كثيرة، يحتاج الناس إلى من يفتيهم، من هو المفتي؟
أن يكون عالماً بالحكم، قادراً على استنباطه.
أن تكون المسألة قد وقعت وإلا فلا يلزمه الجواب.
أن لا يترتب على الفتوى مفسدة.
أن يكون المستفتي طالباً للحق حتى يجب عليه أن يجيبه.
فيأتيك بعض الناس أحياناً وهو يستطيع أن يصل إلى من هو أعلم ويقول: أنت كتمت الحق أنت في النار، يلجمك الله بلجام من نار؛ لأنك ما جاوبت على سؤالي.
يا أخي أولاً قد يكون سؤالك مما لا تجب الإجابة عليه شرعاً، وقد يكون هناك من هو أعلم وأنت تستطيع الوصول إليه، وليس الحق في هذه المسألة العلم محتكر فيها عند واحد حتى يأثم إذا ما أجاب، ولذلك بعض الناس يسارعون بتأثيم العلماء وطلبة العلم يقول: أنت تلجم يوم القيامة بلجام من نار، أنت ما أجبتني.
أنا قد يكون ما عندي علم، مثلا، قد يكون هناك من هو أعلم مني فيجب أن تذهب إليه، ولذلك فإنه ينبغي على السائل أن يقدر هذه الأمور، والمفتي يوقع عن الله ورسوله، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ومنصب الإفتاء منصب خطير، لا يجوز لأي أحد أن يتبوأه، وأن يتكلم في المسائل، ومن عرف بتساهله لا يجوز استفتاؤه، ومن عرف بمخالفته للعلماء الثقات لا يجوز استفتاؤه، يعني ما خالف في مسألة أو في مسألتين، دائماً يخالف، ترى كلام طلبة العلم أهل العلم في جهة، وكلامه هو يجنح شاذ، ما يجوز استفتاؤه.
وكذلك فإن من عرف بجهله انكشف جهله لا يمكن استفتاؤه، واحد جاءه مفتي في بعض البلدان الشيوعية سابقاً، جاء واحد مسلم معه امرأة نصرانية، قال: أنا أريد أن أعقد عليها، قال: لا يجوز، عندك حلان، ما هما؟ قال: إما أن تسلم هي، وإما أن تتنصر أنت، اختر أنت، ثم نعقد، بعضهم يفتي بالإسقاط، أيش الإسقاط؟ قال: إسقاط الصلوات مقابل فدية مالية، مثل أنت ما هو على بالك تصلي الأسبوع هذا، تدفع مبلغاً معيناً تسقط الصلوات، ذهب بعضهم يلقي كلمة في تلك المساجد، البلدان الأقليات الإسلامية، وهو يتكلم، جاءت امرأة تلبس شورت جاءت إلى الإمام كلمته ثم انصرفت، فذهل أيش هذا؟ كيف تدخل هذه المسجد؟ فقالوا: ودخولها هذه لا يجوز، وكذا وكذا، ثم قال المترجم: لماذا؟ قال: هذه زوجة الإمام.
فلما يصل الجهل بالمسلمين إلى هذه الحال كارثة.
والآن بعضهم يقول من باب المساواة بين الجنسين والتمييز ضد المرأة، الرجال والنساء في المسجد سواء، ما نضع النساء وراء، لا، بجانب الرجال.
وفي بعض الجاليات في الخارج تخطب الجمعة مرة امرأة، ومرة رجل، حتى ما يصير تمييز ضد المرأة، ونتفشل، أمام الغرب، واحد يقول: أيش هذا أنتم المسلمين ما عندكم ديموقراطية أنا جيت حضرت في مسجد في خطبة ما في إلا واحد يتكلم؟
أنا أبغى أتكلم وأبغى أعترض وأبغى أغير رأيي، أين الديموقراطية؟
هذه نماذج، المشكلة أننا أحياناً نضحك ، ثم تجد بعض المسلمين فعلاً عندهم هذه التصورات، ولذلك نريد أن نجدد الأحكام، ولا يجوز استفتاء من عرف بالتشهي وموافقة غرض السائل، الذي يميل إليه كما قال بعضهم لشخص سأله كان له مكانة عنده، قال: والله نحن نقول لغيرك، لا، لكن أنت لا بأس، ولذلك فإن مثل هؤلاء محتقرين حتى عند غير المتدينين، ولذلك قال بعضهم: هذا إذا عطيته فرختين، يفتي لك على كيفك، أعطه فرختين، ولذلك فإن منصب الفتيا منصب مهم، إنه عنوان أهل الإسلام، ولا يجوز التلاعب بالفتاوى، ولا يجوز المحاباة فيها، والمجاملات.
أيها الإخوة: نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يتوب علينا، إنه هو السميع العليم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.