الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد سبق ذكر أول الناس دخولاً إلى النار، وأن الكفار أول من يدخل النار، وأن بعض المرائين من عصاة الموحدين يدخلونها أيضاً أول من يدخلها من العصاة، وأن الكفار يتبعون معبوداتهم، ويتساقطون معها في جهنم.
وكذلك -ذكرنا- الصراط الذي يضرب على متن جهنم، وأن الماضين عليه على ثلاثة أصناف: ناج بلا خدوش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما، يصاب ثم ينجو.
وكل قسم منها ينقسم أقسامًا، كما ذكر الحافظ ابن أبي جمرة -رحمه الله- وقال: إن هذه الأقسام تعرف بقوله: بقدر أعمالهم [انظر: فتح الباري: 11/454].
ولا أحد يجوز الصراط إلا بنور يعطيه الله إياه، وأن خِدعة الله للمنافقين، ينتج عنها أن يقعوا في النار، ويهووا فيها، يتساقطون إلى الدرك الأسفل منها.
وأن قوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71]للعلماء فيه قولان: الورود: الدخول، والورود: المرور.
وهذا الأخير، هو قول عدد من المحققين، كالنووي -رحمه الله-، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن كثير، وشارح الطحاوية، وقال الإمام ابن جرير: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون، فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار، ووردهم هو ما تظاهر به الأخبار عن رسول الله ﷺ من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناج مسلم، ومكدوس فيها"[جامع البيان في تأويل القرآن: 18/234].
ثم تحدثنا عن أبواب النار، وأنها تفتح فجأة بمجرد وصول أصحابها إليها، لتعجل لهم العقوبة، وأن عددها سبعة، بنص كلام الله -تعالى- لما قال: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر: 44].
وأنها أطباق بعضها أسفل من بعض، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "كل باب أسفل من الآخر لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ من أتباع إبليس: جُزْءٌ مَّقْسُومٌ أي بحسب أعمالهم"[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص: 431].
وتحدثنا عن خزنة النار وزبانيته وصفاتهم، وكيف يتعاملون مع أهل النار، وأنهم قد خلقوا لهؤلاء، وأنهم يتولون تعذيبهم بالنكال وبالإخبار بالمكث الدائم في دار البوار، وكلما صاحوا واستغاثوا قرعوهم ووبخوهم.
فيها غلاظ شداد من ملائكة | قلوبهم شدة أقسى من الحجر |
لهم مقاميع للتعذيب مرصدة | وكل كسر لديهم غير منجبر |
وعدد خزنة النار وزبانيتها، هل هم كثير لا يعملهم إلا الله؟ أو أنهم تسعة عشر؟ وأن هذا الأخير هو الراجح.
وأن الواحد منهم يكفي لتعذيب أهل النار كلها، وأن أهل النار لو اجتمعوا لا يقدرون على ملك واحد، وأن الله يخلق في الملك من القوة ما لا يتصوره البشر، وأنه لا يشترط وجود عدد كبير من الملائكة للتعذيب، في النار، فإن العرش أعظم من جهنم، وقال تعالى عن حملته: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17].
وأن الله جعل التسعة عشر هؤلاء بالعدد فتنة لأهل النار وللكفار، وفتنة للمشركين، حتى يقولوا: فقط تسعة عشر نحن نقدر عليهم؟
وذكرنا: أننا لا نعرف من أسمائهم على وجه اليقين إلا واحدًا، وهو مالك، وأما الباقون، فلم تثبت تسميتهم، إلا أن الله -تعالى- وصفهم بالزبانية، في قوله: سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ[العلق: 18].
ما هي جهنم من الداخل؟
ذكر الله -تعالى- النار في كتابه ووصفها وأخبر بها على لسان نبيه ﷺ، وأوعد بها الكافرين، وخوف الطغاة، والمتمردين، والعصاة، من الموحدين، لينزجروا عما نهاهم ، ووصفها تعالى بأوصاف مخيفة.
فماذا يوجد داخل النار؟ ما الذي تحتويه؟ ما أسماؤها؟ ما أوصافها؟ ما نسبة نار الدنيا إليها؟
لو لم يكن في النار إلا الحر لكفى به واعظًا، فكيف إذا كان الأمر أنكى وأنكر؛ لأنها قعر مليئة بالخنادق المكفهرة، والجبال الحامية، وفيها حيات وعقارب، ومقامع، وأغلال، وأصفاد، وطعام مرير، وماء حار حميم، ذل ومهانة، وخزي وندامة، وحسرة، حتى أن الكافر يتمنى أن يكون ترابًا، وأنه لم يولد: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ [المعارج: 11 -14].
وخُذْ من تُقَى الرَّحمنِ أعظَمَ جُنَّةٍ | ليومٍ به تبدُو عيانًا جَهنَّمُ |
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجِسرُ من فَوقِ مَتْنِهَا | فهاوٍ ومخدوشٍ وناجٍ مُسلَّمُ |
نسبة نار الدنيا إلى نار الآخرة
أما نسبة نار الدنيا إلى نار الآخرة، ونار الآخرة إلى نار الدنيا، فإن النبي ﷺ أخبر أن نار جهنم ليست كنار الدنيا، بل سمى الله نار الآخرة النار الكبرى، فقال : الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى: 12].
قال الحسن: "الكبرى نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا"[الجامع لأحكام القرآن: 20/21].
وقال تعالى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّايعني مما في الدنيا: لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[التوبة: 81].
وقال النبي ﷺ: ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنمقيل: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال: فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها [رواه البخاري: 3265، ومسلم:7344].
زاد أحمد وابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة: وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد وهذا من حديث أبي هريرة[رواه أحمد: 7323، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3666].
فهذه نار الدنيا نار مخففة، ضربت بالبحر مرتين، ولولا ذاك ما انتفع بها أحد.
الله جعل نار الدنيا تذكرة وموعظة لنار الآخرة، فقال عن نار الدنيا: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ [الواقعة: 73]يعني للمسافرين.
تتذكرون بها النار، يعني نار جهنم، فتعتبرون، وتتعظون بها، تتذكرون بهذه النار التي في الدنيا نار الآخرة، النار الكبرى.
ومن شدة حرارة جهنم: أنها تؤثر على جو الأرض التي نعيش عليها الآن، وأن هذا الحر الشديد وإن كان له سبب ظاهر، وهو اقتراب الشمس من الأرض، لكن وراءه سبب آخر خفي، ولا يمنع أن يجتمع سببان، لشيء واحد ظاهر، والآخر خفي، ونحن لا نشعر بالخفي، وإنما نرى الظاهر، فالنبي ﷺ أخبر بقوله: اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربي أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير [رواه البخاري: 3260، ومسلم: 1432].
قال بعض أهل العلم: "هو على ظاهره، واشتكت النار حقيقة، وشدة الحر من وهجها وفيحها، وجعل الله فيها إدراكًا وتمييزًا، بحيث تكلمت بهذا" [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 5/120]وهذاهو الصحيح.
وقوله: فأشد ما تجدون من الحر يعني في فصل الصيف، يعني هذا من تنفس جهنم.
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "أحسن ما قيل في معنى هذا الحديث، ما روي عن الحسن البصري -رحمه الله- قال: "اشتكت النار إلى ربها، قالت: يا رب أكل بعضي بعضًا فخفف عني؟ قال: فخفف عنها، وجعل لها كل عام نفسين، فما كان من برد يهلك شيئًا فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك شيئًا، فهو من حرها"[فتح الباري: 3/71].
فإذًا، الحر المهلك، والبرد المهلك، هذا من جهنم.
وقد جعل الله -تعالى- ما في الدنيا من شدة الحر والبرد، مذكرًا بحر جهنم وبردها، ودليلاً على ذلك، وهذا، أي خروج هذا الفيح والزمهرير من النار مع اختلاف جوف الأرض، والفصول صيفًا وشتاء، في وقت واحد، في الأرض، الله على كل شيء قدير، وهذا الأخبار تؤخذ كما هي، والغيب لا يعلمه إلا الله، وإنما نحن نسلم: أن شدة الحر من فيح جهنم، وشدة البرد من نفس جهنم أيضاً، وأن جهنم فيها عذاب بهذا، وعذاب بهذا، وأغلب عذابها الحر الشديد، والنار المحرقة، وقد قال ﷺ: أبردوا بالصلاةيعني أخروها عن أول وقتها في الصيف في صلاة الظهر، حتى لا تذهب شدة الحر بالخشوع، فقال: أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم[رواه البخاري: 536، ومسلم:1428].
وقوله: من فيح جهنم يعني من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح، يعني متسع، وهذا دليل على شدة حرارتها.
الحمد لله الذي جعل لنا في الدنيا أشياء تذكرنا بالنار، نار الآخرة، فهذه حرارة الصيف المهلكة، وكذلك الحمى والسخونة التي تعتري المريض؛ لأن النبي ﷺ قال أيضاً في الحديث الصحيح: الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء[رواه البخاري: 3261، ومسلم: 5881].
قال أبو جمرة: "كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فقال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله ﷺ قال: الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء أو قال: بماء زمزم [رواه البخاري: 3261].
والمعنى: أن حر هذه الحمى يذكر بنار جهنم، وأنه هنالك اتصالاً، وإن لم نكن نعرف كنهه وحقيقته، قال كعب الأحبار: "والذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق والنار بالمغرب، ثم كشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها، يا قوم هل لكم بهذا قرار؟ أم لكم على هذا صبر؟ يا قوم طاعة الله أهون عليكم من هذا العذاب فأطيعوه"[التذكرة، للقرطبي، ص: 459].
الارتباط بين الحمى وحرارة الصيف وبين جهنم
وقوله ﷺ: الحمى من فيح جهنم يعني من شدة غليانها: فأبردوها بالماء.
وفي رواية: فأبردوها عنكم بالماءهذه العلاقة بين الحمى التي لها سبب عند الأطباء، وذكرنا بأنه يمكن أن يكون للشيء سبب ظاهر، وسبب خفي، الناس في الدنيا يدركون السبب الظاهر، ولا يدركون السبب الخفي، مثل شدة الحر في الصيف، نحن نعللها بقرب الشمس من الأرض، أو قرب الأرض من الشمس، ولكن لا يمنع أن يكون وراء ذلك أمر خفي، ذو صلة بين جهنم وحرارة الصيف في الدنيا، قال ابن القيم -رحمه الله-:"الحمى من فيح جهنم، وشدة لهبها وانتشارها، ونظيره قوله: شدة الحر من فيح جهنموفيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك أنموذجًا اشتق من جهنم، ليستدل بها العباد عليها، ويعتبروا بها، ثم إن الله -سبحانه- قدر ظهورها بأسباب تقتضيها، كما أن الروح والفرح والسرور واللذة من نعيم الجنة، أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة، وقدر ظهورها بأسباب توجبها" يعني بعض السلف يقول بعد عبادة كان فيها: "لو كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم إنهم لفي عيش طيب" فبعض الناس يرى في نفسه أحيانًا نوعًا من النعيم نتيجة العبادة، يذكره انشراح صدره ونفسه، بنعيم الجنة، ولكن هذا مجرد تذكير، وليس هو هو.
الثاني: أن يكون المراد التشبيه، فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم، وشبه شدة الحر به أيضاً تنبيهًا للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب من حرها" [زاد المعاد: 4/28].
والقول الأرجح هو القول الأول، وهو الظاهر، وأن هناك ارتباط بين الحمى وبين الحرارة في الصيف وبين جهنم، وإن كنا لا ندركه، وأن الله يجعل له سببًا ظاهرًا يعرفه الناس والأطباء، وإن كانوا لا يدركون السبب، أو الارتباط الخفي.
وروى أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ: أنه عاد مريضًا ومعه أبو هريرة من وعك كان به، فقال له رسول الله ﷺ: أبشر إن الله يقول ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرةوهو حديث صحيح[رواه ابن ماجه: 3470، وأحمد:9674، وقال محققو المسند: "إسناده جيد"].
إذًا، هذه عبرة ودلالة، وقد قال ﷺ: الحمى حظ المؤمن من النار حديث صحيح[رواه الطبراني في الأوسط: 7540، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3186].
فهكذا جعل الله -تعالى- في الدنيا مما يذكرنا بالآخرة، ألم يقل ﷺ: السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله [رواه البخاري:1804].
وقوله: قطعة من العذاب يعني من تعبه ومشقته والتألم فيه لشدة الحر والبرد، والمطر، ونحو ذلك، وقد قال الله -تعالى-: إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ [النساء: 102]هذا السفر يمنع النوم والطعام والشراب على الوجه المعتاد، ويمنع كمال اللذة، حتى لو كان الإنسان على الدرجة الأولى في الطائرة، لا بدّ أن يصيبه ما يصيبه من حصول ألم، أو فوات كمال لذة، كانت في وقت الحضر.
الشاهد: أن الله جعل في الدنيا من المنغصات ما يخفف تعلق الناس بها، بل جعل فيها من شدة الحر، أو الحمى في المرض، ما يذكره بنار الآخرة.
مجيء النار يوم القيامة وصفة ذلك
وقد سبق في مسألة: مجيء النار، أنه في ذلك اليوم الرهيب، والموقف العصيب، قال عن ذلك المجيء الرهيب: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر: 23].
قال عبد الله بن مسعود : "يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا"[الطبراني في الكبير: 9/39، ].
وقد قال ﷺ: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام[رواه مسلم: 7343].
قوله: يؤتى بجهنم من المكان الذي خلقها الله فيه، إلى أرض المحشر، ويدل على ذلك أنه قال: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ[الفجر: 23].
فمتى حصل الإتيان بجهنم؟ يَوْمَئِذٍ، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، من أين جيء بها؟
من المكان الذي خلقها الله فيه، جيء بها إلى ذلك المكان الذي اجتمع فيه البشر.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، قال النبي ﷺ: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها[رواه مسلم: 7343].
والزمام ما يشد به، وعند العرب ما يجعل في أنف البعير دقيقًا، وما يشد به رؤوسها من حبل، ونحوه.
ومعنى: يجرونها أي يسحبونها.
فيؤتى بها في الموقف ليراه الناس، ترهيبًا لهم.
وقال النبي ﷺ: يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب[رواه البخاري: 7439].
قال النووي: "أما السراب، فهو الذي يتراءى للناس في الأرض القفر، والقاع المستوي، وسط النهار في الحر الشديد لامعًا مثل الماء، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
فالكفار يؤتون جهنم، وهم عطاش، فيحسبونها ماءً، فيتساقطون فيها.
وقوله: يحطم بعضها بعضًا أي لشدة اتقادها، وتلاطم لهبها.
والحطم، الكسر والإهلاك.
والحطمة، اسم من أسماء النار، لكونها تحطم ما يلقى فيها[انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بنالحجاج:1/324].
ومن أوصاف إتيانها: أنها تأتي أهلها بغتة، فتبهتهم وترعبهم وتفزعهم، كما قال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ [الأنبياء: 39 - 40].
ومعنى الآية: أن هذه النار لا تأتي تلفح وجوه الكفار، حين تأتيهم عن علم منهم بوقتها، ولكنها تأتيهم مفاجأة، لا يشعرون بمجيئها فَتَبْهَتُهُمْوتغشاهم فجأة، وتلفح وجوههم معاينة، كالرجل يبهت الرجل في وجهه بالشيء، حتى يبقى المبهوت كالحيران منهفَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَايقول الله، أي فلا يطيقون حين تبغتهم دفعها عن أنفسهم: وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ فإذا لم يكونوا يطيقون دفعها عن أنفسهم، أفيؤخرون عن العذاب؟
كلا.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةًأي تأتيهم النار فجأة: فَتَبْهَتُهُمْأي تذعرهم فيستسلمون لها حائرين، لا يدرون ما يصنعون: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا، ليس لهم حيلة في ذلك: وَلَا هُمْ يُنظَرُونَلا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة[تفسير القرآن العظيم: 5/343].
كلام النار ورؤيتها لأهلها
هل جهنم تتكلم؟
نعم.
هل تبصر؟
نعم.
قال النبي ﷺ: تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إله آخر، وبالمصورين[رواه الترمذي:2574، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 2574].
قال الشنقيطي -رحمه الله-: "اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في قوله: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ[الفرقان: 12]. ورؤيتها إياهم من مكان بعيد، تدل على بصرها كما لا يخفى، كما أن النار تتكلم، كما صرح الله به في قوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ[ق: 30]والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة؛ كحديث محاجة النار مع الجنة، وكحديث اشتكائها إلى ربها، فأذن لها في نفسين، ونحو ذلك، ويكفي في ذلك أن الله -جل وعلا- صرح به -يعني بكلام النار- في هذه الآية: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12]يكفي في هذا أنها تراهم، وأن لها تغيظًا على الكفار، وأنها تقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ
ومن قال: إن النار لا تبصر ولا تتكلم ولا تغتاظ، وأن ذلك على سبيل المجاز، فإنه لم يقل الحق، ولم يوفق إلى الصواب، فإن الله على كل شيء قدير، ينطق ما يشاء من مخلوقاته، ولا يجوز صرف النصوص عن ظاهرها بلا دليل[انظر: أضواء البيان: 6/25].
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وأما قوله ﷺ: اشتكت النار إلى ربها فالمحققون من العلماء على أن الله أنطقها بذلك نطقًا حقيقيًا، كما ينطق الأيدي والأرجل والجلود يوم القيامة، وكما أنطق الجبال، وغيرها من الجمادات بالتسبيح والسلام"[فتح الباري: 3/70].
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ[سبأ: 10]فكانت تردد معه، وهي جبال، أنطق الحصى، وأنطق الطعام بين يدي النبي ﷺ، وسلم عليه الحجر بمكة، فالله ينطق الجماد، والأرض تتكلم، والسماء تتكلم: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت: 11].
إذًا، جهنم تتكلم بكلام حقيقي.
طبقات النار ودركاتها
ما طبقاتها؟ وما دركاتها؟
عن عكرمة في قوله تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ [الحجر: 44]قال لها: "سبعةأطباق"[الدر المنثور في التفسير بالماثور: 8/620].
وقال تعالى: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ[الزمر: 16].
الظلل، عبارة عن أطباق النار، أي لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ[الزمر: 16]أي أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظلالاً؛ لأنها تظل من تحتها من أهل النار؛ لأن طبقات النار صار في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار.
وهذه الآية، كقوله تعالى: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ[الأعراف: 41].
وقوله: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[العنكبوت: 55].
أيضاً بهذا المعنى.
وقال تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ[الرحمن: 44].
قال الشنقيطي -رحمه الله- في كتابه "أضواء البيان": "ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد، وتسلط عليها آلة حديد أيضاً أقوى منها، فتكسره"[أضواء البيان:8/231].
وقال تعالى: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِأي أطباق، سرادقات من النار ودخانها.
وقوله: وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ يعني فراش ومهاد من نار إلى أن ينتهي إلى القعر، وسمي الأسفل ظلاً؛ لأنها ظلل لمن تحتهم، نظيره قوله : لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41].
أما دركات النار، فالدرك أقصى قعر الشيء، فكما أن الجنة درجات، ومنازل عاليات، فإن النار دركات مختلفات أيضاً بحسب إجرام أهلها، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[النساء: 145].
فالمنافقون في الدرك الأسفل لغلظ إيذائهم للمؤمنين، وكفرهم الشديد، ومكرهم بعباد الله، قال ابن عباس: "فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في أسفل النار".
وقال غيره: "النار دركات، كما أن الجنة درجات"[تفسير القرآن العظيم: 2/441].
قال الراغب: "الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارًا بالصعود، والدرك اعتبارًا بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة، ودركات النار" [مفردات القرآن، ص: 311].
قال القرطبي: "ووقع في كتب الزهد والرقائق أسماء هذه الطبقات، وأسماء أهل الأديان، على ترتيب لم يرد به أثر صحيح" [التذكرة، للقرطبي، ص: 444].
من ذلك، ما قال الضحاك: "في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار، يعذبون بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون.
وفي الثانية: النصارى.
وفي الثالثة: اليهود.
وفي الرابعة: الصابئون.
وفي الخامسة: المجوس.
وفي السادسة: أهل الشرك.
وفي السابعة: المنافقون، فذلك قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ[النساء: 145].[معالم التنزيل، للبغوي: 3/59].
وهذا لم يرد به أثر صحيح، فلعل بعضهم رتبه مما فهمه.
وكذلك ورد: أن أسماء النار بحسب دركاتها، قال ابن جريج: "النار سبع دركات، أولها: جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية" [معالم التنزيل، للبغوي: 3/59].
قصة
ذكر صاحب كتاب: "التوابين" في قصة توبة مالك بن دينار، قال: "روي عن مالك بن دينار: أنه سئل عن سبب توبته، فقال: كنت شرطيًا، وكنت منهمكًا على شرب الخمر، ثم إنني اشتريت جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، فولدت لي بنتًا، فلما دبت على الأرض ازدادت في قلبي حبًا، وألفتني وألفتها، فكنت إذا وضعت المسكر بين يدي جاءت إليّ، وجاذبتني عليه، وهرقته في ثوبي، فلما تمت لها سنتان، ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كانت لليلة النصف من شعبان، وكانت ليلة الجمعة، بت ثملاً من الخمر، ولم أصل فيها عشاء الآخرة، فرأيت فيما يرى النائم، كأن القيامة قد قامت، ونفخ في الصور، وبعثرت القبور، وحشر الخلائق، وأنا معهم، فسمعت حسًا من ورائي، فالتفت فإذا أنا بتنين أعظم ما يكون أسود أزرق، قد فتح فاه مسرعًا نحوي، فمررت بين يديه هاربًا فزعًا مرعوبًا، فمررت في طريقي بشيخ نقي الثوب، طيب الرائحة، فسلمت عليه، فرد السلام، قلت: أيها الشيخ أجرني من هذا التنين أجارك الله؟ فبكى، وقال لي: أنا ضعيف، وهذا أقوى مني، وما أقدر عليه، ولكن مر وأسرع، فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه، فوليت هاربًا على وجهي، فصعدت على شرف من القيامة، فأشرفت على طبقات النار، فنظرت إلى أهوالها، وكدت أهوي فيها، من فزع التنين، فصاح بي صائح: ارجع، فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله ورجعتُ، ورجع التنين في طلبي، فأتيت الشيخ، فقلت: يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل؟ فبكى، وقال: أنا ضعيف، ولكن سر إلى الجبل فإن فيها ودائع المسلمين، فإن لك فيها وديعة، فستنصرك، قال: فنظرت إلى جبل مستدير من فضة، وفيه كوم مخرمة، وستور معلقة، على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر، مفصلة باليواقيت، مكوكبة بالدر، على كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل، وليت إليه هاربًا والتنين من ورائي، حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور، وافتحوا المصاريع، وأشرفوا، فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه، فإذا الستور قد رفعت، والمصاريع قد فتحت، فأشرف عليّ من تلك المخرمات أطفال بوجوه الأقمار، وقرب مني التنين، فتحيرت في أمره، فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم، فقد قرب منه عدوه، فأشرفوا فوجًا بعد فوج، وإذا بابنتي التي قد ماتت قد أشرفت معهم، فلما رأتني بكت، وقال: أبي والله، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم، حتى مثلت بين يدي، فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى، فتعلقت بها، ومدت يدها اليمنى إلى التنين، فولى هاربها، ثم أجلستني وقعدت في حجري، وضربت يدها اليمنى إلى لحيتي، وقالت: يا أبت أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فبكيت، وقلت: يا بنية وأنت تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم، قلت: فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني؟ قالت: ذلك عملك السوء، قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم، قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي؟ قالت: يا أبت ذاك عملك الصالح أضعفته، حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: يا بنية وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين، قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة، ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم، قال مالك يعني ابن دينار -رحمه الله-: فانتبهت فزعًا، وأصبحت فأرقت المسكر، وكسرت الآنية، وتبت إلى الله ، وكان هذا سبب توبتي"[انظر: كتاب التوابين، موفق الدين عبدالله بن قدامة، ص: 128- 130].
على أية حال: المنامات لا يؤخذ منها أحكام، ولا تثبت بها أخبار، ولكن يستأنس بها، منامات الصالحين، وبعضها فيه ما يشبه ما ورد في النصوص، لكن قد تكون هذه المنامات تذكرة من الله، يتوب بسببها بعض من رآها.
أسماء النار
ما هي أسماء النار؟
للنار أسماء كثيرة، يقول العلماء: إن كثرة أسماء الشيء تدل على عظمته.
أولاً من أسمائها: النار، وهو أعم الأسماء وأشملها، وقد جاء تسميتها بالنار في نصوص كثيرة، كما في قوله تعالى: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ[البقرة: 81]. وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131].ونحو ذلك من الأدلة.
وفي الأحاديث: تحاجت الجنة والنار [رواه البخاري: 4850، ومسلم: 7354]ونحو ذلك.
ومنها: "جهنم، كما في الصحاح: "جهنم من أسماء النار التي يعذب الله بها عباده"[الصحاح في اللغة،الجوهري: 1/107].
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ [فاطر: 36].
وقال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ: 21].
وفي الصحيحين: إذا اشتدت الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم[رواه البخاري: 534، ومسلم: 1433].
قال في اللسان:"الجهنام، القعر البعيد، وبئر جهنم، وجهنام، بكسر الجيم والهاء، بعيدة القعر، وبه سميت جهنم، لبعد قعرها"[لسان العرب، ابن منظور: 12/112].
قال بعض أهل اللغة: جهنم اسم عربي، سميت به نار الآخرة، لبعد قعرها، وإنما لم تجر لثقل التعريف،وثقل التأنيث.
وقيل: هو تعريب كهنام بالعبرانية.
وقال بعضهم: إنه اسم أعجمي، والاسم الأعجمي لا يصرف.
ما الذي منعه من الصرف؟
التعريف والعجمة.
فإذًا، بعضهم قال: إن جهنم اسم عربي، مأخوذ من جهنام، وهو في لغة العرب: البئر بعيدة القعر.
وقال بعضهم: هو اسم أعجمي.
واحتج بقول الأعشى:
دعوتُ خَليلي مِسْحَلاً ودَعَوْا لَهُ | جُهُنّامَ جَدْعًا لِلهَجينِ الْمُذمَّم |
[انظر: لسان العرب: 12/112]
من أسماء النار أيضاً: لظى، قال تعالى: كَلَّا إِنَّهَا لَظَى[المعارج: 15].
قال الفراء: "هو اسم من أسماء جهنم".
وقال غيره: معناه في اللغة: اللهب الخالص.
وقال ابن الأنباري: سميت لظى لشدة توقدها وتلهبها، يقال: هو يتلظى، يعني يتلهب ويتوقد، وكذلك: النار تتلظى، يراد بها هذا المعنى.
وأنشدوا:
جحيماً تَلَظَّى لا تُفَتِّرُ ساعة | ولا الحرُّ منها غابرَ الدهرِ يَبْرُدُ |
[انظر: الزاهر فى معانى كلمات الناس، أبو بكر الأنباري: 2/120].
وقال تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى[الليل: 14] فحذرتكم أيها الناس، وخوفتكم نارًا تتوهج، وهي نار جهنم.
وقرأ عمر بن عبد العزيز: ليلة في صلاته سورة: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى[الليل: 1]فلما بلغ قوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى[الليل: 14]بكى، فلم يستطع أن يجاوزها، ثم عاد فتلا السورة، حتى بلغ الآية، فلم يستطع أن يجاوزها مرتين، أو ثلاثًا، ثم قرأ سورة أخرى غيرها[التخويف من النار، لابن رجب، ص: 106].
فالذي أوقفه عن القراءة قوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى[الليل: 14]لما عاش مع معناها.
إنها لهب يشتد من توقدها.
ومن أسمائها: سقر، قال : سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 26] يعني سأدخله سقر.
وهو اسم من أسماء جهنم.
وسقر، مأخوذة في الأصل من كلمة: سقر، على وزن فقر، وتعني الذوبان والانصهار، من أثر حرارة الشمس.
وفي صحاح اللغة: سقرات الشمس، يعني شدة حرارتها، ويوم مسقر، يعني شديد الحرارة واللهب[الصحاح في اللغة:1/320].
وجاء في كتاب التحقيق في كلمات القرآن: أن هذه الكلمة تعني في الأساس الحرارة الشديدة التي تغير لون الأشياء، وصفات الأشياء، لشدة الحرارة تغير لون الأشياء، وصفات الأشياء، ولكنها اسم من أسماء النار، فهي الشديدة المحرقة التي تغير الجلود، وقد قال : يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ[القمر: 48] أي ذوقوا ألمً النار وغيظها ولهبها.
ومن أسماء النار: الحطمة،قال تعالى: كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ[الهمزة: 4]أي ليلقين هذا الذي جمع مالاً فعدده في الحطمة، وهي اسم من أسماء النار، وصفة لها؛ لأنها تحطم من فيها، ولهذا قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ[الهمزة: 5 - 7].
قال ثابت البناني: "تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، ثم يقول: لقد بلغهم منهم العذاب، ثم يبكي".
وقال محمد بن كعب -رحمه الله- في قوله تعالى: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ[الهمزة: 6- 7]تأكل كل شيء من جسده، حتى إذا بلغت فؤاده، حذو حلقه، ترجع على جسده"[تفسير القرآن العظيم: 8/481].
وسميت حطمة؛ لأنها تحطم العظام وتكسرها" [معالم التنزيل، البغوي: 8/530].
وقد جاء في الحديث الصحيح: فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار[رواه البخاري: 4581، ومسلم: 472].
الحطم هو الإهلاك والكسر، والحطمة لكونها تحطم ما يلقى فيها، وقد قال في الحديث: شر الرعاء الحطمة[رواه مسلم: 4838، وأحمد: 20656]أي العنيف في رعيته، لا يرفق بها في سوقها ومرعاها، بل يحطمها في ذلك، وفي سقيها، وغيره، ويزحم بعضها ببعض، بحيث يؤذيها ويحطمها.
من أسماء النار: الجحيم، قال تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ[التكوير: 12].
قال السدي: "أحميت".
وقال قتادة: "أوقدت، وإنما يسعرها غضب الله، وخطايا بني آدم"[تفسير القرآن العظيم، لابن كثير:8/335].
وقال تعالى: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ[الحاقة: 31].
وقال النبي ﷺ: أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم[رواه النسائي:2106، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 999، وأصله في الصحيحين].
والجحيم، من أسماء النار.
وأصل هذه الكلمة ما اشتد لهبه [فتح الباري: 1/96].
قال ابن منظور: والجحيم اسم من أسماء النار، وكل نار عظيمة في مهواة، فهي جحيم، من قوله: ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ[الصافات: 97].
قال ابن سيدة: "الجحيم، النار الشديدة التأجج، كما أججوا نار إبراهيم النبي -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-، ورأيت جحمة النار، أي توقدها، وكل نار توقد على نار، فهي جحيم، ونار جاحمة" [انظر:لسان العرب: 12/84].
وقد تكرر ذكر الجحيم في غير موضع في الحديث، وهو اسم من أسماء جهنم، وأصله ما اشتدت لهبه من النار".
من أسماء النار أيضاً: السعير، قال تعالى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[النساء: 10] أي عذابًا أليمًا حارًا لا يطاق في نار جهنم.
وقال:وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ[الملك: 5].
وكذلك في الحديث: رمضان شهر مبارك، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب السعير[رواه البيهقي في شعب الإيمان: 5/218، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5832].
قال ابن منظور: وسعر النار والحر، يسعرهما سعرًا، وأسعرهما، وسعرهما، أي أوقدهما وهيجهما.
والسعير والساعورة: النار.وقيل: لهبها[لسان العرب: 4/365].
من أسماء النار: الهاوية، قال تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ[القارعة: 9 - 11].
قال ابن جرير: "مأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم"[جامع البيان: 24/575].
قال ابن كثير: "وإنما قيل للهاوية: أمه؛ لأنه لا مأوى له غيرها".
قال ابن زيد: "الهاوية النار، هي أمه، ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها، وقرأ: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ[آل عمران: 151]. [تفسير القرآن العظيم: 8/468].
وقد فسرت الهاوية: بأنها أسفل دركات النار[أضواء البيان: 9/75].
وفي الحديث: إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي، راضية مرضيًا عنك إلى روح الله، وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضًاالملائكة تناول بعض روح المؤمن حتى يؤتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحًا به من أحدكم لغائبه يقدم عليهالآن هذا في عالم البرزخ، تتلاقى أرواح المؤمنين، مع روح أخيهم الحديث الموت، جاءهم حديثًا، فيفرحون به، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غم الدنيا، فبعضهم يسألونه، ثم يقولون: اصبروا عليه يرتاح، جاي من غم الدنيا، لا تكثروا عليه في الأسئلة، حتى يأتي السؤال عن شخص، هم يسألونه عنه، فيقول: أما أتاكم؟ فهو يظنه أنه معهم من المؤمنين، ولعله منافق، فهم لما يعلمون من هذا الميت حديثًا أن الذي يسألونه عنه مات، وليس في الدنيا، وليس عندهم، فأين هو؟ فيفهمون،فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية [الحديث رواه النسائي: 1833، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 491].
والشاهد في الحديث: قوله: الهاوية ذهب به إلى أمه الهاوية.
قال ابن منظور: "وهاوية، والهاوية اسم من أسماء جهنم... والهاوية كل مهواة، لا يدرك قعرها"[لسان العرب: 15/371].
فإذًا، الهاوية من أسمائها.
وكذلك: السموم، كما قال تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ[الطور: 27].
قال السعدي: "العذاب الحار الشديد حره"[تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص: 815].
وقال ابن عاشور: "السموم، بفتح السين، أصله اسم الريح التي تهب من جهة حارة جداً. الريح الحارة جداً، يقال عنها في اللغة: سموم، وهي معروفة في بلاد العرب، تهلك من يتنشقها[التحرير والتنوير: 27/69].
وفي الحديث: خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من نار السموم، وخلق آدم مما وقد وصف لكم[رواه البيهقي: وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 458].
السموم، كما قال الحسن -رحمه الله-: "اسم من أسماء النار، وطبقة من طبقات جهنم".
وقيل: هو النار، كما تقول جهنم.
وقيل: نار عذاب السموم[الجامع لأحكام القرآن: 17/70].
قال ابن منظور: والسموم الريح الحارة.
وقال ابن قتيبة: السموم حر النهار، والحرور حر الليل[انظر: لسان العرب: 12/302].
الترادف بين أسماء النار
هل هذه الأسماء التي مضت هي أسماء للنار مترادفة، أو هي أسماء دركات النار، أو هي أسماء أبواب النار؟
فذكر بعض العلماء: أن هذه أسماء للنار، لكل النار، النار، وجهنم والجحيم، وهكذا..
وقال بعضهم: هذه أسماء طبقات النار، ودركات النار.
وقال بعضهم: أبواب النار.
وقد قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[النساء: 145].
وقال أحمد -رحمه الله-: "وأما قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ؛ لأن جهنم لها سبعة أبواب، وجهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية، وهم في أسفل درك فيه" [الرد على الزنادقة، لأحمد، ص: 15].
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ[الحجر: 44]قال: "جهنم، والسعير، ولظى، والحطمة، وسقر، والجحيم، والهاوية، وهي أسفلها"[تفسير ابن أبي حاتم: 13244].
فإذًا، منهم من يقول: إنها أسماء الأبواب.
وكذلك، جاء عن ابن جريج: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍقال: "أولها: جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية"[جامع البيان: 17/107].
وقال بعض أهل العلم: جهنم، اسم لجميع الدركات، وذكر معهن: الحريق.
ونقل القرطبي عن بعض أهل العلم في قوله: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر: 44] ذكر أن هذه أسماء الأبواب، وقال: فالباب الأول، يسمى: جهنم؛ لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء، فيأكل لحومهم، وهو أهون عذابًا من غيره.
والباب الثاني: يقال له: لظى، نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى[المعارج: 16]يقول: أكلة اليدان والرجلان:تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ[المعارج: 17]عن التوحيد: وَتَوَلَّى[المعارج: 17]عما جاء به محمد ﷺ.
والباب الثالث، يقال له: سقر، وإنما سمي: سقر؛ لأنه يأكل اللحم دون العظم.
والباب الرابع: يقال لها: الحطمة، فقال الله -تعالى-: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة: 5 - 6]تحطم العظام، وتحرق الأفئدة.
وقال تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ[الهمزة: 7]تأخذه النار من قدميه، وتطلع على فؤاده، وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 32- 33]يعني سودًا، فيطلع الشرر إلى السماء، ثم ينزل فتحرق وجوههم وأيديهم وأبدانهم، فيبكون الدمع، حتى ينفد، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح، حتى يفند القيح، حتى لو أن السفن أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت.
والباب الخامس: يقال له: الجحيم، وإنما سمي جحيمًا؛ لأنه عظيم الجمرة، الجمرة الواحدة أعظم من الدنيا.
والباب السادس: يقال له: السعير، وإنما سمي السعير؛ لأنه يسعر بهم، وفيه الحيات والعقارب والقيود والسلاسل والأغلال، وفيه جب الحزن.
والباب السابع: يقال له: الهاوية، من وقع فيه لم يخرج منه أبدًا.
وذلك قوله تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97].
وفيه الذي قال الله -تعالى-: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر: 17] هو جبل من نار يوضع أعداء الله على وجوههم على ذلك الجبل المغلولة أيديهم إلى أعناقهم، مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم، والزبانية يطوفون على رؤوسهم بأيديهم مقامع من حديد، إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان" [انظر:التذكرة، للقرطبي: 2/ 2- 3] بتصرف.
نقول مرة أخرى: نحن لا نثبت من أمور الغيب، إلا ما ثبت في النص الصحيح.
وبعض العلماء نقل أشياء، منها من آثار أهل الكتاب، ومنها من أفهام فهموها، فليس بحجة إلا ما ثبت له دليل صحيح من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة التي لا يمكن أن تقال من قبل الرأي، هذه الحجة، عداه، الله أعلم بصحته.
على أية حال: بعضهم قال: إن هذه الأسماء السبعة، هي أسماء لكل النار.
وبعضهم قال: أسماء دركات.
وبعضهم قال: أسماء الأبواب.
بُعد قعر النار
وأما بعد قعرها عن شفيرها، فقد قال أبو هريرة : كنا مع النبي ﷺ إذ سمع وجبة، يعني سقطة، صوت شيء سقط، ضجة، فقال النبي ﷺ: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفًا، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها[رواه مسلم: 7346].
وعن معاذ بن جبل : أنه كان يخبر أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده إن بعد ما بين شفير النار إلى أن يبلغ قعرها لصخرة زنة سبع خلفات، وهي النوق الحاملات بشحومهن ولحومهن وأولادهن، تهوي فيما بين شفير النار إلى أن تبلغ قعرها سبعين خريفًا [رواه الطبراني في الكبير:16774، وقال الألباني: "صحيح لغيره"كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3674].يعني هذا الصخرة الكبيرة جداً، إذا هوت تصل بعد سبعين سنة.
وقال أبو هريرة : "والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفًا"[رواه مسلم: 503].
سعة النار وعظم أجساد أهلها
أما ما يدل على سعتها، وعلى عظم أحجام أبدان الذين سيدخلونها، فإنه عجب، فقد جاء عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع [رواه البخاري:6551، ومسلم: 7365].
إذًا، نحن الآن نعتبر ونتفكر في عظم خلق أهل النار، وأن أجسامهم تتضخم جداً، ليعظم العذاب، تكبر مساحة الجسم ليعظم العذاب، فبين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع، والمنكب مجتمع العضد والكتف.
وجاء في حديث أبي سعيد عند الحاكم: أن رسول الله ﷺ قال: مقعد الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام هذا المكان الذي يقعد فيه وكل ضرس مثل أحد كل ضرس من أضراسه مثل جبل أحد وفخذه مثل ورقان حجم الفخذ، هو الآن يشبه لهم بجبال يعرفونها وجلده سوى لحمه وعظامه الجلد فقط أربعون ذراعًا[رواه أحمد: 11250، والحاكم: 8771،وحسنه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3683].
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وأما سعة جهنم طولاً وعرضًا، فروى مجاهد عن ابن عباس قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: أجل والله ما تدرون أن بين شحمة أذن أحدهم وأنفه مسيرة سبعين خريفًا، تجري فيه أودية القيح والدم، قلنا: أنهار؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر: 67]فأين الناس يومئذ؟ عائشة سألت النبي ﷺ إذا الله قبض الأرض والسموات، الأرض والسموات قبضهن بيده، فأين الناس يومئذ؟ أين يكونون؟ أين مكانهم؟ قال ﷺ: على جسر جهنموهو حديث صحيح[رواه أحمد: 24900، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة: 561].
كل الناس.
وقد سبق بيان أن هؤلاء عند الجسر، المنطقة التي فيها الناس في الظلمة دون الجسر، وهذا في سلسلة دروس اليوم الآخر، سبق بيان أين يكون الناس إذا قبض الله السموات والأرضين يوم القيامة.
ومما يدل على سعة جهنم: أن النبي ﷺ قال: الشمس والقمر يكوران يوم القيامة[رواه البخاري: ].
فكيف يكون جسر يكفي لحمل الخلائق كلهم؟ فكيف بجهنم نفسها؟
وقد جاء في حديث عائشة: فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم[رواه الترمذي: 3241،وأحمد: 24900، وصححه الترمذي في صحيح الترمذي: 2589].
إذًا، الشمس والقمر بضخامتهما سيجعلان في النار، في عذاب من كان يعبدهما في الدنيا، فكم حجم هذه النار؟ وسعة هذه النار؟
وإذا كان يوم القيامة يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، على كل زمام سبعون ألف ملك[انظر الحديث في مسلم: 7343]فكيف حجم هذه النار؟
ومما يدل على عظمها: أنها تسع كل المجرمين والكفار.
وقد بينا أن: الواحد منهم مقعده في النار مسيرة ثلاثة أيام، فكم يكون سعة هذه النار؟ تتسع للمجرمين والعصاة، ولذلك إنه لمشهد تنكسر له النفوس، ويبعث على الخوف والرعب.
ومما يدل على هذا: أنها تطالب بالمزيد، فتقول: هل من مزيد؟ قال تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ[ق: 30]قال بعضهم: إن قولها: هَلْ مِن مَّزِيدٍالاستفهام إنكاري، يعني لا محل للزيادة، لشدة الامتلاء.
ولكن الراجح والصحيح: أنها تقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ، يعني طلب للزيادة، وأنه لا يزال فيها متسع، بعد إلقاء أهلها فيها، فلذلك تسأل وتطلب، وتقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتنطبق على أهلها، وتقول: قط، قط[الحديث رواه البخاري:7384، ومسلم: 7358] أو قطني، قطني، يعني كفاني كفاني، امتلأت.
وفي حديث أبي هريرة تصريح بهذا، فقد قال النبي ﷺ: يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين، فيقول: ألا يتبع كل إنسان ما كانوا يعبدونه جاء في الحديث: ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوج، ثم يقال: هل امتلأت؟ فتقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ ثم يطرح فيها فوج، فيقال هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ حتى إذا أوعبوا فيها، وضع الرحمن قدمه فيها، وأزوى بعضها إلى بعض، ثم قال: قط، قالت: قط، قط [رواه الترمذي: 2557، وأحمد: 8803، وصححه الألبانيفي صحيح الجامع الصغير وزيادته: 13985].
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قد قيل: إنها تقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ أي ليس فيّ محتمل للزيادة.
والصحيح: أنها تقول: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ على سبيل الطلب، أي هل من زيادة تزاد فيّ، والمزيد ما يزيده الله فيها من الجن والإنس، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه [رواه البخاري: 6661، ومسلم: 7358].
وفي رواية: عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط، قط[رواه مسلم: 7384] فإذا قالت: حسبي، حسبي، كانت قد اكتفت بما ألقي فيها، ولم تقول بعد ذلك: هَلْ مِن مَّزِيدٍ؟ بل تمتلأ بما فيها لانزواء بعضها إلى بعض، فإن الله يضيقها على من فيها لسعتها، فإنه قد وعد ليملأنها[مجموع الفتاوى: 16/46].
فإذًا، تضيق على أهلها، ولا يبقى فيها مكان، قد امتلأت كلها.
ومع ضخامة جهنم، وضخامة أهل النار، وأنها كبيرة ومهولة، يجتمع عليهم بعد هذا الانزواء من الضيق والحبس والضيق في جهنم من أنواع العذاب؛ لأننا ذكرنا من أنواع العذاب: الحر الشديد، والبرد الشديد، وأنه يهوي، هذا الهوي وحده عذاب، يهوي، ومقامع الحديد.
ضيق النار على أهلها
ومن عذابها: الضيق الشديد، فهو أحد وسائل العذاب، وهو معروف في الدنيا، يجعلونه في زنزانات ضيقة، لكن ضيق جهنم غير، فالضيق يشمل الباطن والظاهر؛ لأن قلبه ونفسه تضيق، وكذلك المكان ضيق عليه، فيصيبهم من الهم والغم والحسرة في العذاب والنكال ما لا يوصف، حر، وحميم، وسموم، ويحموم، وسلاسل، وأصفاد، وظلمة، وسواد، وضرب بالمقامع، اجتمعت عليهم أنواع العذاب، وأشكاله، فنفوسهم ضيقة ضنكة، وهم محشورون في أضيق الأماكن، أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا[الفرقان: 13]. كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: 7]. قال أبو عبيدة: "أي لفي حبس وضيق شديد"[الجامع لأحكام القرآن: 19/ 258].
فارحم نفسك -يا عبد الله- قبل فوات الأوان، فأنت تحسب ألف حساب في حياتك، حتى لا ترتكب ما يدخلك السجن في الدنيا، وقد تضطر إلى أن تتجاوز عن حقك مقابل النجاة منه، أفلا يكون احتياطك من سجن جهنم أولى؟ أو قادر أنت على سجنها المظلم؟ أو يتحمل جسمك الضعيف؟ أو جلدك الرقيق، حر النار ولهيبها، وثقل الأغلال، وضيق المكان؟.
نسأل الله أن يعافينا من عذاب النار، وأن ينجينا من عذاب النار، وأن يرزقنا جنته، ومغفرته، ورضاه، ورحمته، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.