السبت 12 شوّال 1445 هـ :: 20 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

08- تعامله ﷺ مع المنافقين 3


عناصر المادة
محاربة المنافقين للموارد المالية للدعوة الإسلامية
أذية المنافقين وتطاولهم على البيت النبوي  

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تحدثنا في سلسلة التعاملات النبوية مع أصناف الناس عن تعامل النبي ﷺ مع المنافقين.
وهذا التعامل مهم جدا لكثرتهم في هذا الزمان، ولوجودهم في كل زمان، فلا تخلو الأرض تقريبًا من المنافقين إلى قيام الساعة
وهذا الصنف من الناس الذين يوجدون عندما يكون للدين قوة، أما في مرحلة الاستضعاف فإن الكافر يعلن عن كفره لأنه لا يخشى شيئًا، لكن إذا وجد للدين قوة وانتشار، فإن أهل الكفر منهم مَن يجاهر، ومنهم مَن يستتر ليكون منافقًا، وذلك بحسب مصلحته، وخشيته، ومكانه، والسلطان الذي يعيش تحته، وما يخشى به من التهم، وما يخشى أن يُتهم به.
وقد تقدم أن النبي ﷺ كان يقبل اعتذارات المنافقين تأليفًا لقلوبهم.
وقال بعض العلماء: إن صفح النبي ﷺ عن عبد الله بن أُبي، وقبوله لأيمان المنافقين؛ رغم أنهم كاذبون فيها، إنما كان في مرحلة ما قبل نزول قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة : 73].
وأنه ﷺ بعد نزول الأمر بالإغلاظ على المنافقين كان الحال قد تغير.
على أية حال في العهد النبوي، وفي مدة طويلة منه كان النبي ﷺ يتألّف المنافقين.

محاربة المنافقين للموارد المالية للدعوة الإسلامية

00:01:58

ومن الأمثلة على هذا ما رواه زيد ، قال خرجنا مع رسول الله ﷺ في سفر أصاب الناسَ فيه شدةٌ، والذي عليه أهل المغازي أن هذا السفر كان غزوة بني المصطلق.
يقول زيد بن أرقم، وكان فتىً غلامًا يافعًا مؤمنًا: فسمعتُ عبد الله بن أُبي يقول: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[المنافقون : 7]، من حوله، فأطلق عبد الله بن أُبي توجيهًا للمنافقين، وتوصية، لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حوله.
وهذا معناه قطع الإمدادات المالية عن الدعوة، والنفقات اللازمة ليعيش أفرادها، وينتجوا، ويجاهدوا، ويقوموا بالواجب في نشر الدين.
هذا الكلام معناه عدم إيواء المهاجرين الذين جاءوا المدينة، وإخراج هؤلاء منها، هذا الكلام معناه إغلاق الشرايين التي تمد الدعوة بما تحتاجه من مال لنشرها، والمال، والمدد، والدعم، وتقديم المأوى، والنصرة من الأمور المهمة جداً في قيام عود الدعوة، وسريانها في الآفاق.
ولذلك فإن عبد الله بن أُبي ضرب على وترٍ حسّاس عندما قال: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[المنافقون : 7]، وقضية منع النفقة، ومنع المدد المالي للدعوة يعرفه كفار اليوم مثل كفار الأمس، ويعرفون مدى أهمية هذا العامل في تغذية وإمداد دعوة الرسل.
قال زيد بن أرقم: "فذكرتُ ذلك لعمي؛ أي: ذكر له العبارتين اللتين سمعهما من عبد الله بن أُبي، الأولى: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[المنافقون: 7]، والثانية: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ[المنافقون: 8].
يقول زيد بن أرقم : "فذكرتُ ذلك لعمي؛ وعمه المقصود هنا هو سعد بن عُبادة، وليس المقصود عمه أي أخا أبيه، وإنما المقصود بعمه سيد قومه، سيد الخزرج سعد بن عبادة، فيقول بن أرقم: فذكرتُ ذلك لعمي  فذكره للنبي ﷺ أن عبد الله بن أُبي قال: كذا، وكذا.


وهاتان العبارتان الخطيرتان نقلهما غلام مؤمن، مصدر الخبر هو فتى تربى في مجتمع النبوة، وصار عنده حساً مرهفاً نتيجة التربية، والتمييز العميق الذي يجعله يشعر أن هاتين الكلمتين لا بدّ من نلقهما وتبليغهما.
ولذلك فإن التربية على الولاء لأهل الإيمان تؤثر على الصغار كما تؤثر على الكبار، وتجعل عند الصغار ولاء للإيمان، ولأهله، يدفع الصغار إلى التبليغ عن مثل هذه المقولات لخطرها، وصار زيد عنده من الحس ما يجعله يهتم بنقل الكلام الذي فيه توعية للمسلمين بالخطة، والخطر الداهم، والمؤامرة التي حاكها الآن عبد الله بن أُبي مع أصحابه المنافقين.
إن نقل مثل هذه المعلومة إلى النبي ﷺ أمرٌ في غاية الأهمية، لكن العظمة هنا أن يوجد عند هذا الغلام المؤمن الدافع إلى الإبلاغ، وأن هذا الكلام المهم والخطير يُنقل، ونقله إلى سيد قومه سعد بن عبادة الذي نقله بدوره إلى النبي ﷺ، فليس العجيب أن ينقل سعد هذا الكلام للنبي ﷺ؛ لأن هذا الكلام يقدّر خطره الكبار، لكن العجب أن يميز هذا الغلام أهمية هذا الكلام، وأن ينقله بدوره إلى مَن ينقله للنبي ﷺ، لقد كانت قضية كشف مؤامرات المنافقين، والترصد لهم، والحذر منهم كما أمر الله: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ[المنافقون: 4]، والحذر معناها: التبصر بخططهم، وجمع المعلومات عن مكرهم، وما يحيكون، والتصدّي لما يحفرون له قبل أن يؤذي، ويعم شره.
ولذلك، فإن هذا الموقف من زيد بن أرقم فيه درس بليغ  لكل أم، ولكل أب، ولكل ولي على شاب، أو فتاة، غلام، أو جارية حديثة السن، أن ينشئ في نفسه هذا البعد الإيماني الذي يجعله مواليًا لأهل الإيمان، وحريصًا على حمايتهم، وسلامتهم، ونقل أي مؤامرة من عدوهم قبل أن يستفحل شرها، وينتشر هذا المكر منهم.


قال زيد بن أرقم: "فذكرتُ ذلك لعمي فذكره للنبي ﷺ، فدعاني، فحدثته.
نظرًا لخطورة الكلام النبي ﷺ أراد أن يسمع من زيد بن أرقم مباشرة، فاستدعى زيد بن أرقم، وسمع منه، وأيضاً فيها نوع من الدعم المعنوي لنفس هذا الغلام أن يسمع النبي ﷺ منه مباشرة فأرسل رسول الله ﷺ إلى عبد الله بن أُبي، الآن لما يعني صارت القضية بهذه الخطورة لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[المنافقون : 7]، قطع المدد والمأوى حتى ينفضوا، والدعوة هذه تنتهي وتسقط؛ لأن قطع المدد المالي والمأوى عنها هو سبب لسقوطها، كيف تسقط ؟ بالانفضاض؛ لأن هؤلاء إذا لم يجدوا مأوى، ولا وجدوا مَن يطعم، ولا وجدوا مالاً سيضطرون للبحث عن مكان آخر، وبالتالي تكون وجِهّت ضربة قوية للدعوة من ناحية الشرايين المالية والاقتصادية، والمأوى اللازم لها، لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون : 7]، من حوله، ويخلو الجو لهؤلاء المنافقين، ما هو الإجراء النبوي في هذه الحالة؟ مواجهة عبد الله بن أُبي.
ما دام أن المسألة قد وصلت إلى هذا الحد إذًا، لا بدّ من مواجهة الرجل بما قال، وإخباره أن القضية انكشفت، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عبد الله بن أُبي وأصحابه ليواجههم، ويقول لهم: أنت قلتم كذا وكذا؟ فحلفوا ما قالوا، وهؤلاء المنافقون لا يمكن أن يعترفوا بمثل هذا الكلام الخطير جداً، فما هو موقفهم المتوقع والمعتاد في مثل هذه الحالات؟ الحلِف، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً[المنافقون : 2]، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا[التوبة : 74].


فكذّبني رسول الله ﷺ، وصدّقه، ومعنى: كذّبني كما جاء في رواية مرسلة، قال: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شُبِّه عليكيعني الغلام في مثل سنه قد يخطئ في النقل، قد يتوهم أشياء، وهذا كلام خطير جداً، ويُحتمل أن يكون: فكذبني النبي ﷺ في الظاهر، وصدقه في الظاهر، أما في الباطن فيمكن أن يكون هناك شيء آخر، لكن الآن ما هو الموقف من عبد الله بن أُبي بعد أن حلف أنه ما قال؟ هل سيُقال له: أنت الكبير السيد في قومه: كذاب!، وهذا الغلام الصغير صادق!
هذه القضية قد لا تُقبل الآن على الأقل في أول الأمر، فالنبي ﷺ تأليفًا لقلب هذا المنافق صدّقه على يمينه، وهذا يعني ضمناً تكذيب زيد بن أرقم أنه لم يعتمد روايته، وقبل يمين المنافق.
وهذا لا شك أنه قد جعل زيد بن أرقم يعيش حالة نفسية صعبة، وهم، وغم، وشدّة، لماذا؟ يقول: "فأصابني همٌ لم يصبني مثله قط، فجلستُ في البيت من الغمّ".
وفي رواية: "فرجعتُ إلى المنزل، فنمتُ كئيبًا حزينًا، فقال لي عمي: "ما أردتَ إلى أن كذبك رسول الله ﷺ، ومقتك" ما قصدك؟ تنقل كلام خطير مثل هذا؟.
ولما يسأل الذي تكلم، أو نُسبت إليه الكلام ينكر، يعني هذه قضية كبيرة، ما هو مرادك من وراء يعني فقط لماذا نقلت كلام أصلا ليس حقيقياً؟ ماذا أردت بهذا لنقل؟ والرجل ينفي، ومن معه يحلفون أنه ما حصل، فقال لي عمي: "ما أردتَ إلى أن كذبك رسول الله ﷺ، ومقتك"


فوقع في نفسي مما قالوه شدّة، لكن إذا كان عبد الله بن أُبي كذاب، ومن معه كذبوا وأنكروا، فإن الله تعالى يسمع، لقد سمع الله قولهم، ولما كان الله مع المظلوم، ومع الذي في كُربة، وشدة، فإنه تعالى نصر المظلوم، ونصر صاحب الكربة، وكان مع هذا الغلام المؤمن في محنته، فأنزل الله سورة في نصرة زيد بن أرقم، واجب ألا ننسى هذه المواقف القرآنية في نصرة الصحابة المظلومين المضطهدين المغمومين.
فمثلا: خولة بنت ثعلبة، نزل فيها آيات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا[المجادلة: 1].
نزل القرآن كذلك في براءة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، في الغم والهم، ونزلت وسورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم، وإزالة كربته، وإعادة الاعتبار إليه، ورفع شأنه ، يقول: "فوقع في نفسي مما قالوه شدّة، حتى أنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون: 1 - 2]، إلى آخر السورة، وفيها: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون: 7].
وإذا ظنوا أن قطع المدد عن الدعوة والدعاة سيضر الدعوة؛ فالله عنده خزائن السماوات والأرض، وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ[المنافقون: 7]، يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا  الْأَذَلَّ [المنافقون : 8]، يعني تنزل الآيات تؤكد رواية زيد بن أرقم بالنص، الكلام الذي نقله زيد بن أرقم دقيق جداً، ونقل الكلام بحروفه، وسمع، وتثبّت، ووعى، وشهد، وبلّغ، وجاءت الآيات بتصديق زيد بن أرقم بالكلام الذي نقله بالنص، المنافقون لا يمكن أن يعترفوا أنهم قالوا، مَن الذي نقل الكلام؟ زيد.


وجاءت الآيات موافقة لما نقله زيد حرفًا حرفًا، إذا كان الجواب عن الخطة الأولى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، هو قوله: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ[المنافقون : 7]، فإن الجواب على قولهم: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، هو قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[المنافقون : 8].
ما هو أول شيء فعله النبي ﷺ بعد نزول الآيات؟ استدعى عبد الله بن أُبي؟ لا،  استدعى زيد بن أرقم "فأرسل إليّ رسول الله ﷺ، فقرأها عليّ أول ما نزلت، ثم قال: إن الله قد صدّقك يا زيد.
ولا شك أن أثر الآيات في نفس زيد، وكلمة النبي ﷺ: إن الله قد صدقك يا زيد أنه سيكون له أثرًا عظيمًا، وفي رواية صحيحة: "فبينما أنا أسير مع رسول الله ﷺ قد خفقتُ برأسي من الهم، أي: صار رأسه نازلاً من الهم الذي أصابه؛ "أتاني النبي ﷺ لما نزلت عليه السورة، فعرك بأذني"، وهذه مداعبة نبوية تدل على محبة وقرب، وضحك في وجهي.
وهذا إيناس، وإشعار بمجيء الفرج، "فما كان يسرّني أن لي بها الخلد في الدنيا" لو أُعطيتُ مقابل أن أبيع هذه الابتسامة، والضحك في وجهي، وأنه أخذ بأذني، الخلودَ في الدنيا ما بعت، "فما يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا".
وهذه الأدوار التعزيزية للكبار مع الصغار مهمة جداً من الناحية التربوية، ثم إن أبا بكر لحقني، فقال: "ما قال لك رسول الله ﷺ؟ قلتُ: "ما قال لي شيئًا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي" فقال: أبشر.
ثم لحقني عمر، هذه كبيرة في نفس زيد، وآثار مضاعفة الآن لرفع المعنويات، وإعادة الاعتبار لهذا الغلام المؤمن، ثم لحقني عُمر، فقلت لهُ مثل قولي لأبي بكر.


فلما أصبحنا قرأ رسول الله ﷺ يعني في صلاة الفجر سورة المنافقين، ثم دعاهم النبي ﷺ ليستغفر لهم، وتأليفًا لقلوبهم أيضاً، يعني يقول لهم: ما دم وأنكم أذنبتم، وثبتت الجريمة عليكم، تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ[المنافقون : 5]، قال لهم بعض قومهم: ما دام أن الفضيحة حصلت وعُرفت، خلاص، تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ[المنافقون : 5]، هذا هو النفاق الأكبر، فرصة عظيمة أن يستغفر لكم رسول الله، مثل هذه لا تُفوّت، لكن المنافق كافر، فلذلك رفضوا، قال: لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ [رواه البخاري: 4520، ومسلم: 7200 والترمذي: 3313].
إذًا، كانت السياسة العامة مع المنافقين بالتغاضي عن الجرائم الكبار، وليس الأخطاء الصغيرة فقط، لأن المنافقين كان لهم في قومهم نوع سيادة، عبد الله بن أُبي هذا ليس مثل أي شخص آخر، فالتغاضي عن مصائبه فيه تأليف لقومه؛ لأن النبي ﷺ لو أخذه مباشرة، وقطع رأسه كانت ربما ستكون هناك مضاعفات، واقتصر النبي ﷺ على معاتبتهم بعد ثبوت الجرائم عليهم، وقبل أن تثبت عليهم، كان يقبل أيمانهم، وحلِفهم، ويصدق في الظاهر، وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك في الباطن، لكن مصلحة التأنيس والتأليف.


لأنه قد يقول قائل: لماذا يعني لماذا يسكت عن هذه الجرائم لماذا يتقاضى عنها؟ الجواب: أن التغاضي عن هذه الأشياء الكبيرة قد يكون هو الموقف الصحيح، وفي هذا في هذه الظرف تحديدًا كان الموقف يقتضي العفو والصفح، والتجاوز، والإغضاء، وتهدئة الأمور، حتى لا تحدث مفاسد أكبر، أحد الناس عمل جريمة وأنكر، فإن مواجهته نوع من معالجة الموضوع.
وكذلك يؤخذ من القصة أن من سمع كلامًا خطيرًا ضرره متعدٍ، فإن نقله للكلام لمن يعالج الأمر من أولي الأمر ليس نميمة؛ لأنك لو طبّقت كلام زيد بن أرقم على الأصل، فإن هذا النقل نميمة، لكن لم يكن للإفساد، وإنما لأجل تلافي المفسدة، ولمصلحة المسلمين.
ولذلك لو سمع أحد الناس بعض المجرمين يخططون لجريمة، فهل يقول: لا ننقل كلامهم للجهة المعنية، هذه نميمة، لا، لأنه لو لم ينقل الكلام لحصلت الجريمة، ولذلك إذا صارت القضية فلا بدّ من التبليغ، هذا يرى أصحاب مخدرات، أو أناس يريدون ارتكاب جريمة قتل، أو من أهل الإجرام، بلغه مكالمة بالخطأ، وهم لم ينتبهوا، سمع كلامهم، هذا لا بدّ أن يُنقل لتلافي حصول الجريمة قبل وقوعها وقبل فوات الأوان، فهنا سيكون التبليغ صحيحًا بخلاف ما فيه اتهام لأبرياء، وفيه نميمة، بل بهتان؛ لأن بعض الموظفين قد يبلغ المدير كلامًا عن موظف، والموظف بريء، وما قال، ولا شيء، لكن يفعل ذلك افتراء عليه وبهتًا له.
كان النبي ﷺ يقرأ سورة المنافقون في يوم الجمعة، لماذا؟ لأن المنافقون يصلون معه الجمعة، تخيل الآن هذا الموقف؛ عبد الله بن أُبي والذين معه لا يستطيعون التخلف عن صلاة الجمعة؛ لأن صلاة الجمعة هذه في المسجد النبوي يأتي فيها كل أهل البلد، فلا يستطيع عبد الله بن أُبي أن يتخلّف، فهل تتخيل أو تتصور أو تعيش الحدث هذا أن هؤلاء المنافقون يأتون للمسجد، ويحضرون خطبة الجمع، ويسمعون الكلام، ثم تبدأ الصلاة، وإذا بالنبي ﷺ يقرأ عليهم سورة المنافقون، وعبد الله يسمعها، أكثر من عشر خطب في عدة خطب في صلوات الجمعة، عدة صلوات جمعة، يسمع نفس الكلام، يقولون: هو الذي قال ومن معه.
فعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ "كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر، وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون". [رواه أبو داود: 1075، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1029].


ومعناه في صحيح مسلم، قال النووي: "قال العلماء: والحكمة في قراءة الجمعة اشتمالها على وجوب الجمعة، وغير ذلك من أحكامها، كتحريم البيع بعد النداء الثاني مثلاً، وغير ذلك مما فيها من القواعد، والحث على التوكل، والذكر، وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم من المنافقين، وتنبيههم على التوبة، وغير ذلك مما فيها من القواعد.
لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها. [شرح النووي على مسلم: 6/166].
يعني: في الجمعة مع عفو النبي ﷺ عن عبد الله بن أبي، وصفحه عنه، وترفقه به، ومن أجل ولده المسلم الذي كان معه أيضاً، ومن أجل قومه، ومن أجل هو شخصيًا.

أذية المنافقين وتطاولهم على البيت النبوي  

00:25:56

إلا أن عبد الله بن أبي لما بلغ أذاه البيت النبوي في العمق بزوجة النبي ﷺ، فإن النبي ﷺ طلب من قوم عبد الله بن أُبي أن يكفوا صاحبهم؛ لأنه كما عرفنا في غزوة بني المصطلق، حاك عبد الله بن أبي المؤامرة، وقال عدة تصريحات خطيرة لمن معه.
ومنها أيضاً نسج قصة الإفك، وكذَب وافترى على عائشة، كلها في غزوة بني المصطلق بعد أن فشلت المحاولة الأولى في إثارة النعرة الجاهلية، وقد فعلوها؟، وسمّن كلبك يأكلك، لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ[المنافقون : 7]،
لما فشلت هذه المحاولة اخترع عبد الله بن أبي قضية الإفك، وانتهز أن مجيئ صفوان بعائشة رضي الله عنها، عندما تاهت و ضاعت عن الجيش لما ذهبت تبحث عن عقد لها، أو لما ذهبت تقضي حاجتها، فإن ابن سلول بمجرد أن رأى صفوان جاء بعائشة، قال مباشرة: هذا كان مع هذه هكذا.
هذا شخص حاقد، يعني أن المؤامرة الأولى فشلت بإثارة النعرات بين المهاجرين والأنصار، انتقل إلى الطعن في البيت النبوي في أحبِّ الناس إلى النبي ﷺ، وهي عائشة، وليقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام تحته امرأة كذا، وفيها كذا، وهذا إيذاء بالغ جداً.


ثم إيذاء النبي ﷺ يعني بهذه الطريقة الدنيئة، هذا إيذاء لكل المجتمع الإسلامي؛ لأن نبيهم تحت امرأة فيها كذا، وكذا، هذا واضح جداً فيه اللؤم والخبث بجميع صوره.
تولّى عبد الله بن أُبي الإفك، وقال الله تعالى في سورة النور: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ[النور : 11]، مِنْكُمْ يعني مدسوسين فيكم، الذي اخترعها وابتكرها، وكذبها، وافتراها، هذا أكثر جرماً، والذي نشرها، والذي تحدث بها في مجلس ومجلسين، وثلاثة، وتكلم فيها خمسة وعشرة، كل واحد، لِكُلِّ امٍْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، والذي أخرجها في قناة، وقناتين، وثلاث، ووكالة، ووكالتين، موقع إنترنت، كل على حسبه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ[النور : 11]، هذه خاصة بالذي تزعّم القضية، وبدأها له عذاب عظيم، هذا بدأ بالكلام في الإفك، وصال، وجال فيه.
وكان يجمع الناس في بيته، ومَن هم على شاكلته في الخبث والنفاق، ويذيع هذا عليهم، ويردده بينهم، ويأمرهم بنشره، ويتناقلونه، وهؤلاء الناس لهم أقارب من المؤمنين، فينقلون الكلام إليهم.
وصارت المسألة منتشرة في المدينة، وعائشة ما كانت تعلم عن شيء، ولما تفجرت القضية، وبلغ الضيق مبلغه من النبي ﷺ، والحرج، وطعن في  العرض، وفي البيت وفي أهله، فإنه ﷺ قام خطيبًا في النهاية، وتكلم، تقول عائشة رضي الله عنها: "فقام رسول الله ﷺ خطيبًا، فتشهّد، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: مَن يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي  يعني مَن يكفه عني، ويخلصني من شره، مَن يقيم عذره لو عاقبته، لو فعلتُ به ما فعلتُ، مَن يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلاً وهو صفوان بن المعطل، واتهموه مع أهله، ما علمتُ عليه إلا خيرًا إنسان نزيه عفيف، كان عنده مرض النوم الثقيل، وتأخر، وكان ما أصابه نافعًا لعائشة، فلو أن صفوان ما كان مصاب بالنوم الثقيل مَن كان سينقذ عائشة؟ قال عليه الصلاة والسلام: وقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.

إذًا، معنى: من يعذرني يعني من ينصرني؟، أو معناه: من يقيم عذري إذا عاقبتُ هذا الآدمي الذي فعل ما فعل،  أو مَن ينتقم لي منه، فقام سعد بن معاذ، فقال: "يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس، وهم قبيلة سعد بن معاذ، ضربنا عنقه، لا نتركه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك"
يعني إذا كان من جماعتنا نحن نتصرف مباشرة نصفّيه، وإذا كان من الخزرج ننتظر أمرك.
وموقف سعد بن معاذ هذا جميل جداً، وجيد للغاية، لكن حصل أن سيّد الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج ما كان في الجاهلية، لم ترُق له هذه الكلمة، فاحتملته الحمية، وقال: "كذبت، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك" يعني لو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل؛ لأنه من رهطي أنا صارت القضية كذا، وقام رجل آخر، وقال: كذبت، ولعمر الله لنقتلنه، وردّ على سيد الخزرج، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، وتصعّد الموقف، وكادت أن تحدث فتنة بين المسلمين بسبب عبد الله بن أُبي، فثار الحيّان: الأوس، والخزرج، نهضوا من الغضب حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله ﷺ على المنبر، فنزل، فخفضهم حتى سكتوا وسكت" رواه البخاري.
وهذا الموقف من عند عبد الله بن أُبي بلغ به غاية المُنى، هو مرتاح جداً أن القضية وصلت إلى هذه المرحلة.


ونلاحظ أن النبي ﷺ سكّن ثائرة الفتنة، وسدّ الذريعة، وتحمّل أخف الضررين بزوال أغلظهما، واحتمل الأذى في مقابل تسكين الفتنة بين الأوس والخزرج، وفيه الحمية للنبي ﷺ، ولأهله.
تكملة الموقف النبوي مع المنافقين، وكيف واجه النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء المنافقين سيكون في درسنا القادم بمشيئة الله تعالى.
نسأل الله أن يعصمنا من النفاق، وأن يطهر قلوبنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد