الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
المقدمة
فسنتحدث -إن شاء الله- عن موضوع من موضوعات سيرة النبي ﷺ، وبعض ما يستفاد منه، وهو: "المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار" التي حصلت في المجتمع المدني، عند قدوم النبي ﷺ إلى المدينة.
نبذة تعريفية عن المدينة المنورة
أما المدينة، وكان اسمها القديم: "يثرب" فكانت واحة خصبة التربة، تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع، وأهمها: حرة واقم من الشرق، وحرة الوبرة في الغرب.
وكانت حرة واقم، أكثر خصوبة وعمراناً من حرة الوبرة.
ويقع جبل أحد شمال المدينة، وجبل عير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها: وادي بطحان ومذيميم ومأزور والعقيق، وهي تنحدر من الجنوب إلى الشمال، حيث تلتقي عند مجمع الأسيال من رومة.
هجرة اليهود من الشام إلى المدينة
واستوطن اليهود يثرب، وجاؤوا إلى الحجاز عامة، نازحين من الشام، في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، عندما هيمن الرومان على بلاد مصر والشام، فأدى ذلك باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب، ووصلوا إلى يثرب على مجموعات، واستقروا بها، ومنهم: يهود بني النضير، وبني قريظة كانوا في يثرب، واستقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واقم، وهي أخصب بقاع المدينة.
وكذلك جاء بنو قينقاع، الذين قال بعض المؤرخين: أنهم كانوا عرباً تهودوا.
وقال بعضهم: أنهم كانوا يهوداً أصليين.
وغير هؤلاء من اليهود، مثل بني عكرمة ومحمر وزعورة والشطيبة وجشم وبهدل وعوف، وغيرهم.
وكان عدد هؤلاء بالمئات، حتى إن المؤرخين ذكروا أن المقاتلين من بني قينقاع كانوا سبعمائة، ومثلهم تقريباً من بني النضير، وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة.
فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً عن الألفين.
وهناك أيضاً غيرهم ممن يسكنون في أماكن متناثرة من يثرب.
وقد خضع ذلك المجتمع لسيطرتهم، قبل أن يقوى كيان العرب في ذلك الوقت، ونقلوا من الشام أفكاراً؛ مثل بناء الآطام، وهي الحصون، حيث بلغ عددها في يثرب تسعة وخمسين حصناً.
وكذلك حملوا معهم بعض الخبرات الزراعية والصناعية من بلاد الشام، مما أدى إلى ازدهار البساتين في المدينة، وكذلك تربية الدواجن والماشية، وبعض الصناعات الأولية، كالنسيج والأواني.
وكان على رأس الأعمال الاقتصادية: التعامل بالربا، الذي يتقنه اليهود في كل مكان.
هجرة العرب إلى المدينة
وبالنسبة للعرب، فإنهم قد جاؤوا من اليمن، وسكنوا يثرب، وهم: الأوس والخزرج، وكانوا بعد اليهود؛ لأن اليهود قد سبقوهم إلى ذلك المكان، وتملكوا أخصب البقاع، وأعذب المياه، ولذلك اضطر الأوس والخزرج إلى سكن الأراضي المهجورة، وهم ينتمون إلى قبيلة الأزد اليمنية التي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة.
وبعض المؤرخين يقول: إن خروجهم كان بسبب انهيار سد مأرب، وحدوث سيل العرم، وهي عقوبة ذكرها الله ل "سبأ" بسبب إعراضهم عن الحق.
ولما هاجر هؤلاء الأزد، واستقروا ب "يثرب" إلى جانب اليهود، وكان هؤلاء قد أحكموا سيطرتهم عليها -كما قدمنا- ويمكن أن يقدر عدد الأوس والخزرج من المقاتلين الرجال بأربعة آلاف، وهو ما قدموه لجيش الفتح الإسلامي الذي فتح مكة.
بث اليهود للفتنة بين الأوس والأخزرج
وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم، بتفتيت وحدة العرب من الأوس والخزرج، ولذلك أذكوا بينهم نار العداوة والحروب، وكان آخر معركة قامت بينهم هي "يوم بعاث" قبل الهجرة بخمس سنوات، حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل.
ولجأت الأوس إلى محالفة بني النضير وبني قريظة، ولكن هؤلاء المتنافسين من قبائل العرب، فطنوا إلى خطورة الإجهاز على بعضهم البعض، فسعوا إلى المصالحة، حتى يكون هناك شيء من التوازن مع اليهود الذين يسكنون يثرب.
فاتفقوا على ترشيح رجل من الخزرج، وهو: عبد الله بن أبي بن سلول، ليكون ملكاً متوجاً على الجميع في يثرب.
ولا شك أن هذه الوقائع قد ولدت شعوراً بالمرارة عند الطرفين، وكان عبد الله بن أبي على وشك تولي هذا الملك على الجميع، بعد "وقعة بعاث"، التي قتل فيها أعداداً كثيرة من الأوس والخزرج.
وكانت هذه الموقعة تهيئة هيأها الله –تعالى- لنبيه قبل أن يأتي المدينة، ولذلك قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله ﷺ، فقدم رسول الله ﷺ، وقد افترق ملأهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله ﷺ في دخولهم الإسلام.
فجاء على قوم متفرقين يلملمون جراحاتهم، قد قتل معظم ساداتهم، ولذلك كان هذا الحدث مما سهل قدوم النبي ﷺ، وبروز المسلمين، واجتماع الكلمة عليهم.
ولو كانوا قوماً أقوياء متحالفين من الأصل، لربما كانوا دخول المسلمين بينهم صعباً، فكان يوم بعاث يوماً منّة من الله؛ قدمه لنبيه ﷺ.
هذه لمحة سريعة عن حال يثرب قبل قدوم النبي ﷺ.
بعض العقائد والعادات الشائعة بين سكان المدينة قبل الهجرة
ولا شك أن الشائع عندهم: عبادة الأصنام والأوثان، وكانت عندهم العادات القبلية، أو الجاهلية السيئة، وكذلك كان عندهم الظلم والبطش والبغي، ولا يوجد عندهم انضباط في أخلاق أو في عادات تهيمن عليهم، ولذلك كان الغالب عليهم الفوضى.
وكان كذلك من الأمور المتفشية: الربا وأكله، والخمر وشربه، وغير ذلك من العادات السيئة.
ولما حصلت الهجرة، وهو الحدث العظيم الذي أرخ المسلمون به تاريخهم، وجعله عمر جعل العام الهجري هو الأصل، أرخ المسلمون من الهجرة؛ لأنها كانت فعلاً البداية الحقيقية لظهور الإسلام؛ لأن الإسلام في مكة المسلمون كانوا مستضعفين مغلوبين مقهورين.
وكانت الهجرة هي الحدث الذي كان الانطلاقة القوية الحقيقية لانتصار الإسلام، وهيمنة المسلمين في ذلك الوقت.
أمر النبي ﷺ للصحابة بالهجرة إلى المدينة
وقد أمر النبي ﷺ أصحابه بالهجرة إلى المدينة بعدما صارت بيعة العقبة الأولى والثانية، وصار هناك قاعدة من الأنصار من أهل المدينة تنصر النبي ﷺ، فهب المسلمون متفانين بالهجرة، ضحوا بأوطانهم وأموالهم وأهاليهم؛ استجابة لنداء الله ورسوله.
حتى أن قريشاً لما اعترضت صهيب الرومي، بحجة أنه جمع أمواله من العمل في مكة، ولم يكن له مال قبل قدومه إلى مكة، فترك لهم أموالهم، وهاجر بنفسه، فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ قال: ربح صهيب [رواه ابن حبان في صحيحه: 7082، وقال شعيب الأرنؤوط: "رجاله ثقات رجال الشيخين وهو مرسل"].
ومنع المشركون أبا سلمة من الهجرة بزوجته وابنه، فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله في مكة، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي، حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها، ولحقت بزوجها.
وهكذا كانت الهجرة في ظروف صعبة، وكانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين، واختباراً لقوة عقيدتهم، واستعلاء إيمانهم، وقدم لنا أولئك المهاجرون درساً عظيماً، كيف يترك المسلم أعز ما عنده من أجل الله ورسوله؟ كيف يهجر المسلم بلده التي يحن إليها، والمكان الذي تربى فيه، وترعرع وشب؛ لله ورسوله؟
بل تركوا الأموال، وتركوا التجارات، وتركوا بيوتهم، بيوت الملك التي كانت لديهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، وبذلك كان المهاجرون فعلاً أعظم المؤمنين على الإطلاق في ذلك الوقت، وصاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض، بما جعلهم الله -تعالى- في الرتبة العالية.
اختار الله لنبيه المدينة للهجرة، وقد قال ﷺ: قد أريت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين [رواه البخاري: 2297].
فاللابتان هما الحرتان: الحرة الشرقية، والحرة الغربية. وبينهما الأرض ذات نخل.
وهاجر المسلمون، وتأخر النبي ﷺ مع أبي بكر الصديق، حتى أذن الله –تعالى- له بالهجرة.
وكان المشركون قد أحسوا بهجرة المسلمين، فغاظهم ذلك، فتعاقدوا على قتل النبي ﷺ، ولكن الله أعمى أبصارهم، فلم يروه، فخرج هو وصاحبه الصديق إلى المدينة، يقطعان الصحراء.
والنبي ﷺ كان في الثالثة والخمسين من العمر، والصديق في الحادية والخمسين، ومع ذلك، فإنهما خرجا إلى المدينة مهاجرين، ووصلا المدينة.
وقد جعل الله للمسلمين فرجاً ومخرجا مصداقاً لقوله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100].
ولذلك نعى الله ولام الذين قدروا على الهجرة، فلم يهاجروا، بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء: 97 - 99].
وعَسَى من الله موجبة، فإذا قال الله: عَسَى اللَّهُ يعني أن هذا هو ما سيحدث.
أهمية الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام
والهجرة بطبيعة الحال أمر مهم جداً؛ لأن المسلم إذا بقي بين الكفار، فإنه سيكون من المعينين لهم، يكثر سوادهم، وينتفع المشركون بطاقاته وإمكاناته، في الوقت الذي يحرم المسلمون من هذا الرجل المسلم، ومن طاقاته وإمكاناته، من صناعة وزراعة، وخبرة حربية، ونحو ذلك.
بالإضافة إلى أن المسلم إذا جلس بين الكفار، فإنه يتعرض للفتنة، وقد يجبرونه على الخروج معهم في الحروب، وتكثير سوادهم.
ولذلك قال ﷺ: من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله [رواه أبو داود: 2789، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: 2787].
وهذا يدل على وجوب الخروج من بين المشركين، إذا كان هناك مكان للمسلمين يأوي إليه الشخص آمنا مستقرا.
وفي حالة وجود بلد الإسلام الذي تطبق فيه شريعة الله -تعالى-، ويستقبل المسلمين لتكثير سوادهم، وانتفاع البلد بهم، فإنه تجب الهجرة من بلاد الكفار إليه.
وبعض المسلمين تأخروا عن الهجرة، تحت ضغوط الأزواج والأولاد، فلما هاجروا بعد فترة، ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين، وقد تفقهوا في الدين، هموا بمعاقبة زوجاتهم وأولادهم، وكان ذلك سبب نزول الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14].
ثم أمر الله -تعالى- بالصفح والعفو.
وهذا يدل على أن الزوجة والأولاد قد يكونون من العوائق التي تعيق تقدم الشخص في الدين، وتفقهه فيه، ولذلك يقول ﷺ: إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة [رواه الحاكم في المستدرك: 5284، والطبراني في الكبير: 20081، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته: 3753].
مجبنة أي: يريد الأب أن يجاهد في سبيل الله، فيتذكر الولد، وأنه يحتاج إليه، ونحو ذلك، فيقعد، يريد الأب أن ينفق في سبيل الله، فيتذكر الأولاد، يقول: أولادي أحوج فلا ينفق، يريد أن يذهب لطلب العلم فيشغله أولاده عن طلب العلم، فيبقى في جهل.
محزنة أي أن الولد يمرض -مثلاً- فيحزن الأب، ويصيبه الكرب، وإذا كان الولد عاقاً، فإن ذلك يكون الهم اللازم والمصيبة الكبيرة والحزن العظيم في نفس الأب.
ولذلك حذرنا الله من الركون إلى فتنة الزوجة والأولاد، وأمر بمجاهدتهم في الله ، وأن نحملهم على طاعة الله -تعالى-: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم: 6].
واستمرت الهجرة من مكة، ومن غير مكة إلى المدينة، حتى إن المدينة ضاقت بسكانها المتزايدين، وما يحتاجونه من القوت، وخصوصاً بعد الخندق، فلما صارت وقعة الخندق، وبانت قدرة المسلمين على الدفاع عن كيانهم أمام الأحزاب مجتمعين، ولم تعد المدينة بحاجة إلى مهاجرين جدد، نظراً؛ لأنه قد صار فيها القوة الأساسية التي يمكن الدفاع بها عن البلد ككل، وحصل نوع من الازدحام في المدينة، وصار هناك شيء من الشح في القوت والمسكن، طلب النبي ﷺ من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم، قائلاً لهم: هجرتكم في رحالكم[السيرة النبوية الصحيحة ص 273].
لأنه لم تعد هناك ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة، بل صارت المصلحة أن يقيموا في أماكنهم، وقبائلهم وأحيائهم، في الدعوة إلى الله خارج المدينة، لتوسيع رقعة الإسلام.
ولكن ذلك لم يكن إيقافاً للهجرة؛ لأن الهجرة من مكة لم تتوقف إلا بعد الفتح، بقوله ﷺ: لا هجرة بعد الفتح [رواه البخاري: 2783، ومسلم: 4938].
أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فلأي شيء يهاجر منها؟! فانقطعت الهجرة وما عاد هناك أجر للهجرة من مكة إلى المدينة؛ وبذلك سقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية.
سبب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وأهميتها
وأدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين، والمنافقين، واليهود.
لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة، كان لا بد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي، وهو: المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10].
وأوجب عليهم: الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم
وذهب بعض المؤرخين: إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: "آخى النبي ﷺ بين الزبير وابن مسعود" [معرفة الصحابة: 3/240، رقم: 1402، والمعجم الكبير للطبراني:12645].
ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير: إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، وإنما كانت بالمدينة، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي ﷺ وعلي؛ ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي ﷺ لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري.
وابن حجر -رحمه الله- ذهب إلى أن النص إذا جاء، فإنه لا بد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة، وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخى بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة، فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.
المؤاخاة الحقيقة بين المهاجرين والأنصار
والمؤاخاة الأساسية كانت بين المهاجرين والأنصار.
وكانت المدينة بطبيعة الحال فيها الزراعة والصناعة التي لم يكن المهاجرون قد تمرسوا بشيء منها؛ لأن وظيفة المهاجرين الأساسية في مكة كانت التجارة؛ لأن مكة لم تكن بلداً ذات زرع.
ثم إن هؤلاء المهاجرين لما قدموا إلى المدينة لم يستطيعوا ممارسة التجارة؛ لأن التجارة تحتاج إلى رأس مال، ولذلك لم يتمكنوا من شق طريقهم بأنفسهم في المجتمع الجديد، وكانت حياتهم في المدينة حياة صعبة، وكان الحنين إلى مكة شديداً، وأصابت المهاجرين حمى يثرب، وهي وباء كان فيها، فالنبي ﷺ دعا الله أن تنتقل الحمى إلى الجحفة، ورفعت الحمى من المدينة، ونزلت في الجحفة، فهي المرأة السوداء التي رآها ﷺ في المدينة في منامه.
ودعا النبي ﷺ الله أن يحبب المدينة إليهم كحبهم مكة أو أشد، وبالفعل صارت محبة المهاجرين للمدينة شديدة، حتى إنهم بعد فتح مكة ما جلسوا في مكة، وإنما رجعوا إلى المدينة، ورجع النبي ﷺ إلى المدينة، مع أنها فتحت مكة، ورجعت إليهم بيوتهم ودورهم وأموالهم، ولكن مع ذلك بقيت محبة المدينة هي الأساس، فرجع النبي ﷺ وأصحابه المهاجرون جميعاً إلى المدينة.
دور المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في التكافل الاجتماعي
الذي حصل: أن العلاج السريع الذي كان يتطلبه الموقف في قضية الفقر الذي كان عند المهاجرين، ومشكلة النازحين إلى المدينة، كانت تتطلب حلاً جذرياً وسريعاً، ولذلك شرعت المؤاخاة، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون، بل مدوا أيديهم لإخوانهم، وضربوا الأمثلة الرائعة في التضحية والإيثار، كما قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9].
وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً، حيث اقترحوا على النبي ﷺ أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين، إلى هذه الدرجة؟! يعني يشاطره في ماله، نصفه لأخيه ونصفه يبقى له!.
ولكن المهاجرين ما كان عندهم علم بكيفية رعاية النخل؛ لأنهم ما كانوا أصحاب زرع في مكة، ولذلك خشي ﷺ أن لو انتقل إليهم النخيل تموت عندهم، لا يعرفون إدارتها، ولذلك أبقى النخيل للأنصار، ولكنَّ المهاجرين يشاركونهم في الثمرة.
وبذلك صار هناك مورد طعام -لأن التمر طعام- للمهاجرين من خلال هذه المشاركة، وبدأ المهاجرون يتعلمون الزراعة والاهتمام بها، وجاء في الحديث أن عمر وصاحبه الأنصاري كانا يتعاونان في طلب العلم والقيام على الزرع، فعمر ينزل يوماً وصاحبه يعمل، واليوم الذي بعده ينزل صاحبه وعمر يعمل، وهكذا صار هناك بداية لاستيعاب القيام بالنخل، وما تحتاج إليه، وصار للزبير وغيره نخل، تعلموا وتدرجوا في التدريب على رعايتها.
وابتنى النبي ﷺ لأصحابه دوراً في أراضٍ وهبتها لهم الأنصار، وأراضٍ ليست ملكاً لأحد، ومع أن الأنصار، قالوا: إن شئت فخذ منا منازلنا، فقال لهم ﷺ خيراً.
ولما جاء هؤلاء المهاجرون ووجدوا هذه الرعاية الكريمة، قالوا: "يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ -أي: مؤنة النخل- وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَا -الثمرة والنتيجة- لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، قال ﷺ: أَمَّا مَا دَعَوْتُمْ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ مُكَافَأَةٌ، أَوْ شِبْهُ الْمُكَافَأَةِ [رواه البيهقي في شعب الإيمان: 8685].
فلو أن إنساناً صنع لك معروفاً، فأثنيت عليه، ودعوت الله له، فإنه يبقى لك نصيب من الأجر، ولذلك من المحاسن في الدين الإسلامي: أن الإنسان إذا صنع له أخوه المسلم معروفاً أن يقول له: "جزاك الله خيراً" ويدعو له بخير.
ورغم بذل الأنصار وكرمهم، فإن الحاجة كانت لا تزال إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة، خاصة أن المهاجرين لا يريدون أن يشعروا أنهم عالة على الأنصار، فجاء نظام المؤاخاة في السنة الأولى الهجرية.
قيل: بعد بناء المسجد، أو أثناء بناء المسجد.
أي بعد هجرة النبي ﷺ بأشهر، حيث عقد النبي ﷺ عقد المؤاخاة بين الطرفين: المهاجرين والأنصار، فآخى بين كل مهاجري وأنصاري، مع أن الأنصار تبرعوا وأعطوا، لكن الأعداد زيادة على التبرعات، فحلت القضية بما يلي: كل أنصاري معه مهاجري، لا يوجد مهاجري ما عنده مكان ما عنده بيت ما عنده مال، إلا ويوجد أنصاري يقوم بالتآخي معه، وشملت المؤاخاة تسعين رجلاً، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخى النبي ﷺ بينه وبين أنصاري.
وترتب على هذا التشريع حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة، والمواساة، هي: تقديم جميع أوجه العون، سواء كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاوراً أو محبة، وحتى التوارث، كان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجري، وإذا مات المهاجري يرثه الأنصاري، يرثه بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله -تعالى-: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75].
فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وكان مشروعاً يرثه تماماً إذا مات، وكان مشروعاً يرثه تماماً، إذا مات يرثه.
المؤاخاة بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع
وهنا طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم من عون، ووصل الأمر لدرجة أن سعد بن الربيع الأنصاري يقول لعبد الرحمن بن عوف المهاجري: "إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها، فتزوجها" [رواه البخاري: 3780].
إننا يسهل علينا: أن نتصور أن يتنازل الواحد عن نصف ماله للآخر، لكن لا يسهل علينا على الإطلاق أن نتصور أن رجلاً يتنازل عن زوجة لآخر، ويطلقها من أجل الآخر؛ لأن العلاقة الزوجية قوية، وليس من السهل على الإنسان أن يتنازل عن زوجته، ولكن لما صار الإيمان قوياً في قلوبهم، قال: "ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك" -قبل فرض الحجاب-.
وليس الزوج هو الذي ينتقي إحدى زوجاته، أو يترك أقلهما تعلقاً بها، وأقلهما محبة، وإنما المهاجري هو الذي ينتقي، يقول: "فسمها لي، أطلقها" اختر أيهما تريد أطلقها لك.
ولا شك أن ذلك كان آية من الآيات الدالة على تعمق الإيمان، وترسخ قواعد الأخوة في نفوسهم؛ لأن مثل هذا العمل لا يمكن أن يقوم به الشخص في الأحوال العادية، إلا إذا صار عنده إيمان ودين فعلاً. فإذا قارنت الآن بين هذا وبين ما يحدث الآن بين عامة المسلمين من أنواع الإيذاء، وأكل الحقوق الواضحة للغاية، وهضم الحقوق المالية، والاستيلاء عليها، والإيذاء بين الجيران والإخوان، والأشياء التي توجد فيها الأنانية، والحسد، والبغض، وسطو هذا على مال هذا، وإذا وجد هذا فرصة لأكل حق الآخر أكله دون أن يقصر، والأذية الموجودة، لنعلم ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة.
عبد الرحمن بن عوف، لما عرض عليه هذا العرض المغري، لم يكن بالذي يوافق عليه، ويقول: طلق فلانة، أو هات نصف المال، وإنما كان عفيفاً، والعفة مهمة.
عفة النفس، أي: أن الإنسان لا يقبل بأعطيات الآخرين، إذا لم يكن هناك ضرورة أو حاجة ماسة، ولذلك قال عبد الرحمن ل سعد: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطا وسمنا [رواه البخاري: 2049].
ذهب إلى السوق، وهو رجل يحسن التجارة، فباع واشترى، وباع واشترى، ورجع بفائض من سمن وأقط.
ورأى النبي ﷺ عليه أثر صفرة بعد فترة عليه، فقال: مهيم؟ -ما الخبر؟- عليك أثر صفرة الزعفران، هذا ليس من شئون الرجال، بل هو من شئون النساء؟!
فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار -هذا من نتائج احتكاكه بزوجته- فقال ﷺ: أولم ولو بشاة [رواه البخاري: 2049].
أمره أن يولم ولو بشاة.
وتزوج عبد الرحمن بن عوف، وكان المهر نواة من ذهب أصدقها لتلك المرأة، ونمت ثروته بعد ذلك ليصبح من كبار أغنياء المسلمين.
وهذا فيه درس: أن الإنسان إذا كان صاحب خبرة وقدرة، فلا يصلح أن يكون عالة على الآخرين، حتى لو تبرع له الآخرون، وحتى لو أعطوه، وعرضوا عليه، تبقى عزة النفس عند الإنسان، صاحب القدرة بالذات، أما غير صاحب القدرة، وغير المتمكن، فيُعذر، لكن المتمكن يبقى الأفضل له أن يكون عصامياً بنفسه، وأن يكسب كسبه بيده، وهذا الذي فعله عبد الرحمن بن عوف -وهو التاجر الماهر- من الذهاب إلى السوق، والكسب الحلال، وما فتح الله عليه أفضل من أن يكون عالة، أو عبئاً على أخيه الأنصاري.
نسخ التوارث بين المتآخيين وبقاء التعاون والتناصر
بعد معركة بدر، وزعت الغنائم، وصار هناك شيء من الاكتفاء بالغنائم عند المهاجرين؛ لأن كثيراً من الذين خرجوا فيها من المهاجرين، وصار هناك شيء من الاكتفاء، فأُبطل نظام التوارث بين المتآخيين، بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ لكن نسخ هذه الآية، ليس نسخاً للمؤاخاة، وإنما نسخ للتوارث فقط، فقد بقيت المؤاخاة بالنصرة، والرفادة، والنصيحة، وبقيت العلاقة موجودة بينهم.
ولذلك، فإن التعاون والتناصح مستمر.
المؤاخاة بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما-
ووردت أخبار تفيد التآخي بين أبي الدرداء، وسلمان الفارسي -رضي الله عنهما-، مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق، ومع ذلك المؤاخاة استمرت بدون توارث.
وكان سلمان له ملاحظات على أبي الدرداء صائبة، أسداها له، وكان فيها خير عظيم على أم الدرداء، وعلى بيت أبي الدرداء، وعلى أبي الدرداء.
وهذه لما بين له حقوق الضيف، وحقوق النفس، وحقوق الزوجة.
وكان هذا التآخي ينبع منه تقديم النصيحة.
وهذه مسألة في غاية الأهمية: أن التآخي بين المسلمين ليس كلمة، وإنما هو شيء له واجبات ومتطلبات، ومنها: بذل النصيحة، وتسديد وإصلاح شأن أخيه وحاله.
رسوخ عقيدة الولاء والبراء بين الصحابة
وكذلك، فإن العقيدة هي الآصرة التي كانت تربط بين هؤلاء، وهذه القضية في غاية الأهمية، وهذا التآخي معبر عن اللحمة التي كانت هي نسيج المجتمع المسلم، وهي رابطة العقيدة، وأنها أقوى من رابطة القربى والدم والانتماء إلى أصل عرقي، أو قبيلة من القبائل، ولذلك، فإن المجتمع كله قد انصهر في هذه البوتقة -بوتقة العقيدة-، وحصل نسيج واحد، فيه تآلف وانسجام، وكان سبباً وعاملاً مهماً من عوامل النصر على الكفار.
أبو عبيدة، لما رأى أباه يقاتل في صف المشركين في بدر قصده فقتله، ورأى أبو حذيفة أباه المشرك، وهو يسحب ليرمى في القليب ببدر، دون أن ينكر قلبه ذلك.
وأما مصعب بن عمير، فإنه رأى أخاه أبا عزيز بن عمير ، وكان أبو عزيز مشركاً خرج مع المشركين وأسر في المعركة، فمصعب يقول للأنصاري الذي أسر أبا عزيز بن عمير: "اشدد يدك عليه، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك".
أي: إن له أماً تدفع، وهذا مع أنها أمه، وهذا المأسور أخوه، ولكنه مع ذلك يقول لأخيه الأنصاري المسلم: "اشدد يدك عليه" واطلب الفدية العالية، فإن له أماً تدفع.
وأبو عزيز، كان صاحب لواء المشركين ببدر، فمصعب يقول هذا الكلام، فقال له أبو عزيز: يا أخي! أهذه وصايتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك.
الأنصاري أخي دونك، أنت ليس بيني وبينك صلة.
ولذلك، فإن المنافقين حاولوا بشتى الوسائل أن يفصموا هذه العرى التي حصلت بين المهاجرين والأنصار، ولذلك كانت خطوة عبد الله بن أبي المنافق خبيثة للغاية جداً، حيث إنه لما سمع أن النزاع حصل بين المهاجرين والأنصار استغل الفرصة مباشرة، وقال: لقد كاثرونا في الأموال، وفعلوا، وفعلوا، إنما مثلنا ومثلهم كمثل القائل الأول لما قال: "سمن كلبك يأكلك".
صرفنا عليهم، فلما تقووا قاموا يتحدوننا.
وأوشك بسببه أن تحدث فتنة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الله سلَّم.
وولد عبد الله بن أبي اسمه عبد الله أيضاً، وهو الذي بلغت به العزة الإسلامية أن يقف على باب المدينة، ويمنع أباه من الدخول، قائلاً له: "والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله ﷺ العزيز؛ لأن عبد الله بن أبي بن سلول هذا المنافق، قال:لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] وولده مسلم سمع الكلام فسبقه إلى المدينة، ووقف على الباب ومنع أباه من الدخول، حتى يعترف أنه هو الذليل، والنبي ﷺ هو العزيز.
وهذا واضح جداً في الدلالة على قوة العقيدة، وأن الإنسان كان يفاصل أباه وأخاه وأهله وعشيرته في سبيل الدين، ما انتصروا إلا بذلك، لم يكن هناك مجاملات على حساب العقيدة.
نوح لما نادى ربه، قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45]، فقال الله: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: 46].
فالاعتبار برابطة العقيدة، وليس بالأبوة، ولا بالقبيلة، ما انتصر المسلمون الأوائل إلا بعدما تخلصوا من هذه الأشياء، من الرواسب الجاهلية، أو التعصب للقبيلة، أو التعصب للبلد، والعلاقة العائلية.
فكان تعصبهم لله ورسوله، وقطعت الوشائج والعلاقات، ولم يبق إلا علاقة الدين، ورابطة العقيدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 23-24].
وقد فارق الصحابة الأهل والأموال والمساكن، وهاجروا إلى الله ورسوله، فقام المجتمع قياماً صحيحاً مبنياً على العقيدة والولاء لله والرسول، والعلاقات أخوة بين المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. وكانت المحبة هي أساس هذه الأخوة.
وتمثل في ذلك المجتمع، حديث النبي ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر [رواه مسلم:6751]. لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [رواه البخاري: 13، ومسلم: 180].
ولذلك، لم يكن يبيت الواحد شبعان وأخوه المسلم جائع، لم يحصل ذلك، ولذلك كانوا يؤثرون على أنفسهم، ويعطي الواحد منهم أخاه عشاءه، وعشاء أولاده، ويبقى هو وزوجته وأولاده جياعاً، بهذه الصورة قام المجتمع الإسلامي.
بذل الصحابة أحب أموالهم في سبيل الله
وكان أبو طلحة الأنصاري، أكثر أهل المدينة نخلاً، وأحب أمواله إليه بير حاء، وكانت أمام المسجد، والنبي ﷺ كان يدخلها ليشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] تفاعلت نفس الصحابي معها مباشرة، فجاء أبو طلحة إلى النبي ﷺ يقول: "يا رسول الله! إن الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء -هذه أنفس شيء عندي-، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله ﷺ: ذاك مال رائح [رواه البخاري: 2318] أي: أجرها يروح ويغدو عليك.
وفي رواية: هذا مال رابح [رواه البخاري: 1461، ومسلم: 2362] ربح هذا الاستثمار.
وأشار عليه ﷺ أن يقسمها بين الأقربين.
وقام بعد ذلك المهاجرون الذين اغتنوا بتوزيع الصدقات، وكفالة المحتاجين، فقام عثمان بالتصدق بقافلة ضخمة، وأيضا جهز جيش العسرة.
وفي عهد الصديق حصل شيء من الضائقة بالمدينة، والناس ينتظرون المؤن، حتى التجار ليس عندهم سلع، فقدمت قافلة ضخمة لعثمان، توافق قدومها مع وقت الضائقة، وهي ألف بعير محملة بالبر والزيت والزبيب، فتوافد التجار على عثمان كل منهم يعرض عليه، الواحد باثنين، والواحد بثلاثة، والواحد بخمسة، وهو يقول: أعطيت أكثر من ذلك، أعطيت أكثر من ذلك، أعطيت أكثر من ذلك، فقالوا: ومن الذي أعطاك، وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟! قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها، ثم قسمها بين فقراء المسلمين كلها، مع أنه كان مستطيعاً أن يبيعها في وقت الحاجة، والسوق يتطلب، بأضعاف مضاعفة، ومع ذلك جاد بها لله -جل وعلا-.
عندما يحس الشخص في المجتمع أن عنده مسئولية تجاه جميع أفراد المجتمع، لدرجة أنه يمكن أن يفوته مكسب عظيم جداً من أجل إخوانه المسلمين في البلد، ويتصدق على كل الفقراء بقافلة هي ألف بعير، معناها أن مجتمعاً مثل هذا المجتمع لا يمكن أن ينهزم، ولذلك فتحوا الروم والفرس، وفتحوا أقوى بلاد العالم، وسقطت أقوى دولتين في العالم: الفرس والروم، بأيدي هؤلاء القوم، ولذلك نصرهم الله .
تكافل الصحابة مع أهل الصفة
وكان من ضمن الأشياء التي حصلت في التكافل في المدينة: أهل الصفة، فإن هؤلاء داخلون في عملية التكافل والأخوة، لكن دخولاً من نوع آخر، فقد قدم بعض المهاجرين، وتكاثر قدومهم، وكثير منهم كانوا فقراء؛ مثل قوم أبي هريرة، وغيرهم، جاؤوا فقراء محتاجين، كانوا يأتون أحياناً من قحط وشدة وجهد، وكان ﷺ يرتب حلولاً لذلك، هذه هي الصعوبة، ترتيب الحلول لهؤلاء المحتاجين، ثم ليسوا واحداً أو اثنين، هم عشرات ومئات يأتون ولا بد من إيجاد حلول، ولذلك خرجت فكرة الصفة.
لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهراً من الهجرة، بقي حائط القبلة الأولى في مؤخرة المسجد النبوي، فأمر النبي ﷺ به فظلل، حائط القبلة القديمة كان جهة بيت المقدس، فظلل أو سقف وأطلق عليه الصفة أو الظلة.
وهذا الصُفة صارت مخصصة للضيوف القادمين الذين لا مأوى لهم، وكانت تتسع لعدد لا بأس به، حتى إنه حضرها مرة ثلاثمائة شخص في وليمة، وأول من نزل الصفة هم المهاجرون، ولذلك نسبت إليهم، فقيل: صفة المهاجرين، وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود الذين كانوا يقدمون على النبي ﷺ معلنين إسلامهم وطاعتهم، وكان إذا جاء الواحد ولم يجد أحداً ينزل عنده ينزل مع أصحاب الصفة، وكان من ضمن أصحاب الصفة أبو هريرة .
فأولاً نزل المهاجرون والغرباء، وكان بعض الأنصار بالرغم من أن لهم بيوتاً -مثل كعب بن مالك الأنصاري- يتركون بيوتهم وأهليهم ويبيتون مع أهل الصفة من باب المشاركة الوجدانية والشعور والإحساس، فهو يترك بيته وينزل بينهم.
وكان يؤتى بالقنو من التمر يعلق على حبل في المسجد لأهل الصفة، كل واحد عنده طعام زائد يأتي به إلى أهل الصفة، وكل واحد عنده تمر أو رطب أو شيء يأتي به إلى أهل الصفة، كانوا أخلاطاً من القبائل، وكانوا يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة، وكان ربما يصل عددهم إلى سبعين أو ثمانين أكثر أو أقل، وهكذا.
وكان هؤلاء عندهم فرصة للتفرغ للعلم والعبادة، حيث إن معيشتهم في المسجد، وكانوا في خلوتهم يصلون ويقرؤون القرآن، ويتدارسون آيات الله -تعالى-، ويتعلم بعضهم الكتابة.
واشتهر بعضهم بالعلم؛ مثل أبي هريرة ، فأبو هريرة هو ناتج من نتاج الصفة؛ لأنه ما كان عنده أهل، أو أولاد، أو بيت، أو شغل أبداً، نازل في الصفة، يصحب النبي ﷺ على شبع بطنه فقط، ولكن همته ونهمته سماع الأحاديث، ولذلك صار أكثر صحابي روى أحاديث، مع أنه جاء في العام الثامن للهجرة، ومع ذلك له مرويات تقدر بخمسة آلاف حديث.
بعض مناقب أهل الصفة
ومن أهل الصُفة من كانوا رؤوس المجاهدين، ومنهم الشهداء، مثل خريم بن فاتك الأسدي، وصفوان بن بيضاء، وحارثة بن النعمان الأنصاري، ومنهم من استشهد بأحد؛ مثل حنظلة الغسيل، ومنهم من استشهد بالحديبية، مثل أبي سريحة الغفاري، ومنهم من استشهد بتبوك؛ مثل ذي البجادين، ومنهم من استشهد باليمامة بعد ذلك؛ مثل سالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن الخطاب، فهؤلاء كانوا رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار، وهؤلاء كانوا فقراء، وليس عندهم أردية، وربما لا يكون لأحدهم ثوبٌ تام، فيربطون في أعناقهم الأكسية أو البرد، ويأتزرون بالأزر أو الكساء، فمنهم من يبلغ إزاره نصف الساق، وأحياناً قد لا يبلغ الركبتين، ولذلك كانوا يخجلون الظهور بملابسهم أحياناً، وتتسخ ملابسهم، ويتعرضون للغبار، ومع ذلك يصبرون لله -تعالى-.
مواساة النبي ﷺ لأهل الصفة
وكان جل طعام أهل الصفة من التمر، حتى إنهم ربما اشتكوا أنه أحرق بطونهم، ولكن النبي ﷺ لم يكن ليستطيع أن يوفر لهم أكثر من ذلك، فصبرهم وواساهم، وكان كثيراً ما يدعوهم إلى طعام في بيته، إذا جاءه طعام دعا أهل الصفة.
وقد جيء النبي ﷺ مرة بإناء من لبن، فقال لأبي هريرة: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي [رواه البخاري: 6452].
فشربوا منه كلهم بمعجزة عجيبة حصلت للنبي ﷺ، وكان يطعمهم مما يأتيه، فمرة "حيس" وهو الطعام المطبوخ من التمر والدقيق والسمن، وجاءه مرة طعام مصنوع من شعير، وجاءه مرة شيء من اللحم، فكان يعطيهم، ويقول لهم: ما أمسى عند آل محمد ﷺ صاع بر ، ولا صاع حب [رواه البخاري: 2069].
وكان أبو هريرة يصاب بالجوع الشديد، حتى إنه ربما كان يخر في الصلاة، ويغشى عليه، من الجوع، حتى يقول بعض الأعراب: إن هذا مجنون، وكان يصرع بين المنبر وحجرة عائشة لما به من الجوع، والناس يظنون أن به جناً، ولكن قلة الطعام هو السبب في خروره، والغشيان عليه.
وكان ربما لا يأكل الواحد منهم إلا التمرة أو التمرتين، ومع ذلك قنعوا بالقليل من الطعام، والخشن من الثياب، وعافت نفوسهم النعيم، لأجل الزهد والعبادة، وطلب العلم، ونصرة الله ورسوله، والخروج في جيوش الفتوح، والجهاد في سبيل الله -تعالى-.
زيارة النبي ﷺ لأهل الصفة ومجالسته لهم
وكان ﷺ يقدر لهم هذه المواقف، فكان يزورهم، ويتفقد أحوالهم، ويكثر من مجالستهم،، ويرشدهم، ويوجههم إلى قراءة القرآن ومدارسته، وإذا جاءته صدقة سارع بإرسالها إليهم.
وكذلك، فإنه ﷺ جاءته فاطمة، فطلبته خادماً، فزار علياً وفاطمة في بيتهما، فوجدهما قد اضطجعا على فراشهما، فجلس بينهما، وقال: ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني؟ قالا: بلى يا رسول الله! فقال: إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين وتسبحا ثلاثا وثلاثين وتحمدا ثلاثة وثلاثين فهو خير لكما من خادم [رواه البخاري:3113، ومسلم: 7090].
وقال لصهره وبنته: لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم [رواه أحمد: 838، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
حث النبي ﷺ الصحابة على الاهتمام بأهل الصفة
وكان ﷺ يحث الصحابة على الاعتناء بهم، فكان يقول: من كان له طعام اثنين فليذهب بثالث -أي: من أهل الصفة- وإن أربع فخامس، أو سادس [رواه البخاري:602].
فيمر أي صحابي عنده طعام فيأخذ واحداً من أهل الصفة يتعشى عنده، وآخر يمر ويأخذ واحداً آخر، وهكذا..
وكانوا يجيئون لهم بالماء يضعونه لهم بالمسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة، ولذلك بعض الصحابة من الأنصار ما عندهم مال، كان يذهب يحتطب، ويبيع الحطب، ويعطي لأهل الصفة.
واقترح محمد بن مسلمة الأنصاري: أن يخرج كل واحد من أصحاب البساتين، حين ينضج التمر، يخرج قنو العذق بما فيه من الرطب، ويضعه لهم في المسجد. وكان معاذ يحرس هذه الأقناء.