الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
نتحدث في هذه الليلة بمشيئة الله عن تعامل النبي ﷺ مع صنف من أصناف الناس، وهم أهل النفاق.
معاناة النبي ﷺ من المنافقين
هؤلاء الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويدعون الإيمان كذبًا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الآخِرِ ومَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ[البقرة:8].
الذين يتصفون بصفة الخداع؛ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[البقرة : 9]، يسخرون من المؤمنين، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[البقرة : 14]، يعادون المؤمنين، ويتآمرون ضدهم، يتخذون بطانة من الكافرين، إذا خلوا عضوا على الأنامل غيضًا من المؤمنين.
هؤلاء إذا أصابت المؤمنين سيئة فرحوا، وإذا أصابت المؤمنين حسنة يحزنون لما يصيب المؤمنين من الخير، يتحاكمون إلى الطاغوت، ويتركون الشريعة، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ[النور : 48]، يستكبرون عن التوبة، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يفسدون في الأرض، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[البقرة : 11]، هدفهم القضاء على الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمنافقون ما زالوا، ولا يزالون إلى يوم القيامة" [مجموع الفتاوى: 7 / 212]. يعني من جهة الوجود، فلا يمكن أن يزول المنافقون من الأرض بالكلية، سيبقى المنافقون في الأرض ما بقي الناس فيها، إنهم صنف موجودون باستمرار.
وهكذا كان النبي ﷺ قد عانى منهم معاناة عظيمة؛ لأنهم يخالطون المؤمنين، يتظاهرون بأنهم منهم.
كان ﷺ يجري أحكامهم على الظاهر
والأصل في تعامل النبي ﷺ مع هؤلاء المنافقين أنه كان يجري أحكامهم على الظاهر، ما داموا يظهرون الإسلام فإن كفرهم أعظم من كفر الكفار الأصليين؛ لأن الكفار صرحاء، أمرهم معروف، وشرهم مكشوف، لكن هؤلاء متسترون، هؤلاء عدو خفي.
قال الشافعي رحمه الله: "من أظهر الإيمان بعد الكفر له حكم المسلمين من الموارثة، والمناكحة، وغير ذلك من أحكام المسلمين". [الأم: 6 / 157].
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة" [مجموع الفتاوى: 7/210].
هنالك أشخاص نعاملهم على ظاهرهم أنهم مسلمون، ويورّثوا من ميتهم إذا مات، المسلم يُصلّى خلفهم، تؤكل ذبائحهم، يزوّجون، أما ما انطوت عليه قلوبهم من الكفر فالله أعلم به.
ولذلك نحن لا يمكن أن نحكم على باطنها، نحكم على الظاهر، والأحكام المبنية على الإسلام الظاهر ليست هي التي عليها مدار السعادة في الآخرة؛ لأن مدار السعادة في الآخرة على الإيمان الباطن، لكن نحن كيف نعرف الباطن؟ فلا بد أن نتعامل على أساس، فما هو الأساس الذي نتعامل بناء عليه مع هذه الطبقة؟ بحسب ما يظهرون، فإذا كانوا في الظاهر من المسلمين، يصلون مع الناس، ويصومون، ويحجون، بل ويخرجون في الغزو، فإن المسلمين ينكاحونهم، ويوارثونهم، كما كان الأمر على عهد النبي ﷺ.
ولما مات عبد الله بن أُبي رأس النفاق ورّث النبي ﷺ ابنه عبد الله منه، وهكذا ورّث المؤمنون من كان على الظاهر من أهل الإسلام، وأما أمر الباطن فإلى الله .
وقد يكون هذا الذي نحكم بإسلامه في الظاهر، ونأكل ذبيحته، ونورّثه، وفي علاقة تناكح، قد يكون في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، والنبي ﷺ قد تأذّى من هؤلاء المنافقين جدًا، ومن مؤامرتهم، كيف تعامل معهم؟ كان عليه الصلاة والسلام يترفق مع رؤوس النفاق؛ لعله يتألفهم، ويستجلبهم إلى الإيمان الحقيقي الصادق، وأول موقف برزت فيه عداوة عبد الله بن أُبي للنبي ﷺ كان قبل غزوة بدر قبل أن يظهر عبد الله بن أُبي إسلامه؛ فعبد الله أول الأمر كان مجاهرًا بالكفر، مجاهرًا بالعداوة.
فعن عروة، أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي ﷺ ركب حمارًا عليه إكاف تحته قطيفة فدَكية، فأما الإكاف فهو ما يوضع على الدابة كالبردعة، وهو للحمار، والسرج للفرس، وأما القطيفة فهي كساء، وقوله: فدكية نسبة إلى فدك القرية المشهورة؛ لأنها كانت تصنع فيها، والحاصل أن الإكاف يلي الحمار، والقطيفة فوق الإكاف، والراكب فوق القطيفة، وأردف النبي ﷺ خلفه أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وذهب ﷺ ليعود مريضًا، وهو سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، يعني في منازل بني الحارث؛ وهم قوم سعد بن عبادة، وذلك قبل وقعة بدر.
وكان النبي ﷺ إذا سمع بمريض ذهب وزاره، وزيارته للمريض هي تأليف لقومه، واستجلاب لمحبتهم أيضاً، وتقوية العلاقات معهم.
فالنبي ﷺ إذا زار سيّد قوم؛ سعد بن عبادة معنى ذلك أنه قد أحسن إلى قومه جميعًا، وذاك قبل وقعة بدر، حتى مرّ النبي ﷺ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وذلك قبل أن يسلم عبد الله، يعني قبل أن يظهر الإسلام؛ لأن عبد الله بن أبي كان منافقًا ظاهر النفاق، وفي المجلس عبد الله بن رواحة أيضاً، وهو من الصحابة المعروفين، فلما غشيت المجلسَ عجاجة الدابة؛ والعجاجة ما ارتفع من الغبار نتيجة سير الدابة.
فلما غشيت المجلس الذي فيه هؤلاء الأخلاط عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أُبي أنفه بردائه، أي: غطاه، يظهر الاستياء من هذا القادم، ويظهر الكُره، خمّر عبد الله بن أبي أنفه، وقال: لا تغبّروا علينا، مَن الذي يغبر الآن؟، ومن الطبيعي الدابة إذا وصلت إلى المكان، ومشيها له أثر، قال: لا تغبروا علينا، فسلّم عليهم النبي ﷺ.
إذًا، يؤخذ منه أن المسلم إذا جاء إلى مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والكفار أنه يسلّم، ويقصد بقلبه المسلمين بهذا السلام، سلّم النبي ﷺ على هذا المجلس، ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أُبي متصديًا للدعوة: أيها المرء، لا أحسنَ من هذا، إن كان ما تقول حقًا فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمَن جاءك منا فاقصص عليه، أنت لا تأتنا إلى مكاننا، الذي يريدك يأتيك، واضح من هذا بغضه للدعوة، وكرهه لانتشار الدعوة، وأنه لا يريد أن النبي ﷺ يدعو الناس، ويأتيهم في أماكنهم لنشر الدعوة، ولكن يريد تحجيم القضية، ويريد أن تبقى محصورة في مكان معين، والذي يريدك يأتيك أنت لا تأتي.
إذًا، الداعية هو الذي يأتي الناس، وهو الذي يذهب لتبليغ الإسلام، وهو الذي يتكلف عناء المشوار؛ لأن التبليغ يقتضي هذا كثير من الناس لا يسمعون عن الدين، إذا لم تذهب إليهم لتبلغهم لن يسمعوا، وإذا ما تعبت لأجل إيصال الحق إليهم لن يتعبوا من أجل أن يصلوا هم، ولذلك الذهاب، والتطواف على المدعوين، ومن مجلس إلى مجلس هذا شأن الدعاة، وشأن النبي ﷺ، وهو إمام الدعاة.
الآن لما سمع عبد الله بن رواحة الصحابي الجليل هذا الكلام من عبد الله بن أُبي أخذته الحمية للدين، أخذته الغيرة من أجل النبي ﷺ فقال منتصرًا، وهذا ما يجب أن يكون عليه كل مؤمن عندما يؤذى داعية أن يقوم لينصره، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى[القصص: 20]، وقال مرة: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ[يس: 20]، ينصر الرسل، ومرة يقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّه[غافر: 28].
فإذًا، ينبغي لمن رأى أن المبلّغ، والداعية يؤذى أن يقوم لينصره؛ لما سمع عبد الله بن رواحة كلام عبد الله بن أُبي قال: اغشنا في مجالسنا، يعني يا رسول الله، فإنا نحب ذلك"، بل تعال إلينا، فاستبّ المسلمون، والمشركون، واليهود، يعني حصل التأجج الآن، وصار الصدام في الموقف، واختلاف المواقف حتى همّوا أن يتواثبوا يعني للقتال، يعني يستعملوا السلاح، وفي رواية متفق عليها "فلما أتاه النبي ﷺ يعني أتى عبد الله بن أُبي- قال عبد الله بن أُبي: إليك عني؛ ابتعد عني، والله لقد آذاني نتن حمارك.
فقال رجل من الأنصار منهم؛ من قوم عبد الله بن أُبي، بالرغم من أنه من قوم عبد الله بن أُبي لكنه لم يتعصب لعبد الله بن أُبي، بل تعصب للحق، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحاً منك، يعني يا أيها المنافق، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد، والأيدي، والنعال لكنها لم تصل إلى استعمال السلاح، فلم يزل النبي ﷺ يخفضهم يعني يسكنهم، ويسهل الأمر بينهم حتى هدأت الأمور، ثم ركب رسول الله ﷺ دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، وهذا هو المقصد الأصلي من خروجه ﷺ، يعني في عيادة الرجل فقال النبي ﷺ يشتكي؛ لأن سعد هو الزعيم: أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حُباب؟ هذه كنية عبد الله بن أُبي، قال: كذا، وكذا، يعني لا تغشانا، وآذاني نتن حمارك، وإليك عني.
لماذا كنّاه النبي ﷺ؛ مع أن التكنية تكريم، وهذا منافق؟ فالجواب: أن التكنية هنا تعريف وليست بتكريم، أراد أن يعرّف الشخص لسعد، يقول: أما سمعتَ ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أُبي، فإما أنه قالها للتعريف والتعيين، أو للتألّف.
فقال سعد: أعفُ عنه يا رسول الله واصفح، "فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك"، يعني من اجتماع الناس عليك، ومحبة أهل المدينة لك، "أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة، يعني في الوقت الذي كان أهل هذه البلد يثرب المدينة النبوية، وقيل: إن من أسمائها البحرة، قال سعد: البُحيرة، أهل هذه البحيرة أن يتوّجوه، فيعصبون بالعصابة، يعني: أنت جئتنا في وقت كان الناس قد اتفقوا على أن يجعلوا عبد الله بن أُبي ملكًا عليهم، وكان من عاداتهم إذا ملكوا إنسانًا أن يتوّجوه، يعني يضعوا عليه تاج أو عصابة تحيط برأسه، فأنت يا رسول الله، جئتنا والرجل على وشك أن يكون ملكًا، فالناس الآن انفضوا عنه، واجتمعوا عليك، يقول: هذا متوقع منه، فات عليه الملك، "فاصفح عنه يا رسول الله، اعفُ عنه، فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه" رد الله ملك ابن أُبي هذا بالحق الذي أعطاكه "شرق بذلك" غصّ، وحسد النبي ﷺ فذلك فعل به ما رأيت، هذا الذي حمله على اتخاذ هذه المواقف، فعفا عنه النبي ﷺ.
وكان النبي ﷺ، وأصحابه يعفون عن المشركين، يقول الراوي: "وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُو رِ[آل عمران: 186].
وكان النبي ﷺ يتأوّل العفو ما أمر الله به، حتى أذن الله فيهم، يعني بالجهاد. [رواه البخاري: 4566].
فعند ذلك ترك العفو، فهاتوا بعض الآيات من السور المكية التي تبين لنا أن النبي ﷺ كان في البداية قبل الجهاد مأمور بالعفو، مثلاً: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ[الزخرف : 89]، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة : 13] نحن نريد أن النبي ﷺ كان مأمورًا من ربه في أول الدعوة أن يعفو وأن يصفح، وأن يتغاضى عمّا يحدث من المشركين من الأذى، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ[البقرة : 109]، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 106] ، كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ[النساء : 77].
إذًا، كان هنالك توجيهات في البداية بأن لا يواجه المسلمون الكفار بالسلاح؛ حتى يقوى المسلمون، ويستطيعون المواجهة، فكان الأمر: اصْفَحْ،اعْفُو، وَقُلْ سَلَامٌ، كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، تَرَبَّصُوا، وانتظروا إنا معكم منتظرون، وهكذا.
ظهر حلم النبي ﷺ في هذه القصة، وفي غيرها، ولما أذن الله لنبيه بالقتال ترك العفو، قال ابن حجر رحمه الله: "وليس المراد أنه تركه أصلاً، وأنه لا يعفُ أبدًا، لا، بل بالنسبة إلى ترك القتال أولاً، ووقوعه آخرًا، وإلا فعفوه ﷺ عن كثير من المشركين، واليهود بالمن، والفداء، وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث، والسير" [فتح الباري: 8/233].
وظهر من سوء أدب عبد الله بن أُبي، واستخفافه في هذه القصة وفي غيرها ما يدل على نفاقه، أيها المرء لا أحسن مما تقول إن كان حقًا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، يعتبر أن الكلام بالحق هذا إيذاء.
والنبي ﷺ قابل ذلك بالحلم، وهذا يبين ما كان عليه النبي ﷺ من حسن الخلق، والصبر على الأذى في سبيل الله.
لما قويت شوكة المسلمين، وجاء الانتصار المفاجئ في بدر، كانت القضية مباغتة للعرب كلهم أن النبي ﷺ مع قلة عدد أصحابه، وقلة عُددهم ينتصرون في بدر! هذه المفاجأة أذهلت المنافقين في المدينة، وأذهلت اليهود، وكانت بجميع المقاييس صدمة لهؤلاء.
وفي العادة إذا حصلت مفاجأة، وصار حدث غير متوقع؛ كأن ينتصر المسلمون فجأة في معركة أو في مواجهة، فإن الأعداء يغيرون مواقفهم دائمًا، فعبد الله بن أُبي كان مظهرًا للعداء والشنآن والبغض، كان صريحًا في العداوة، لكن لما حصل انتصار بدر، هذا الانتصار المفاجئ الضخم، الذي هزّ الجزيرة، وهزّ العرب كلهم، عبد الله بن أُبي كان لا بدّ أن يفعل شيئًا، سياسة تغيير المواقف من المنافقين وأذناب الكفار معروفة؛ فعبد الله بن أُبي مباشرة غير الموجة، وركب قالبًا آخر؛ فعن أسامة بن زيد قال: "فلما غزا رسول الله ﷺ بدرًا، فقتل الله بها مَن قتل من صناديد الكفار، وسادة قريش، يعني أشهر الشخصيات في الكفار أبو جهل، وأُمية بن خلف، والوليد كلهم قتلوا، قتلت طبقة القادة الكبار في قريش قتلوا في بدر.
وهذا فيه إخافة عظيمة لأعداء الإسلام، لابد أن يغير مواقفه، "فقتل الله بها من قتل من صناديد الكفار، وسادة قريش" الصنديد الكبير في قومه، "فقفل رسول الله ﷺ، وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش، وهذا دليل الآن، يعني يا أيها المنافقون، إذا كنتم غير مصدقين أننا انتصرنا خذوا هؤلاء سادة قريش أمامكم مكبلون، ومقيدون، ومسلسلون ولأصفاد، وعندما يرى عبد الله بن أُبي وغيره سادة قريش مسلسلين بالأصفاد سيكون في هذا إخافة عظيمة وإرهاب عظيم له، وأن مصيره مصيرهم إذا عاند، هو يرى الآن الكفار الصرحاء كيف كان مصيرهم.
إذًا، هو ممكن أن يكون مثلهم في المصير، فلا بدّ أن يغير؛ لأن السياسة تقتضي أن يغير موقفه فغير.
قفل رسول الله ﷺ وأصحابه منصورين غانمين ومعهم أسارى من صناديد الكفار، وسادة قريش قال ابن أُبي بن سلول، ولو قال قائل: مَن أُبي؟، ومَن سلول؟ أُبي ذكر، وسلول أنثى، وهذا الرجل رأس النفاق عبد الله يُنسب إلى أبيه وأمه معًا، فعبد الله بن أُبي بن سلول، فسلول أمه، وأُبي أبوه، فنُسب إلى أبويه جميعًا، ووصف بهما هنا، قال ابن أُبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان لما رأوا الانتصار العظيم الباهر في بدر قالوا: هذا أمر قد توجّه، يعني ظهر وجهه، هذا أمرٌ قوي قام عوده، وصعبٌ استئصاله والتغلب عليه، تجذّر بعد انتصار بدر الإسلام في المدينة، ورأس الإسلام محمد ﷺ صاروا في عزّة عظيمة، فالانتصارات تفرض واقع معين في رضوخ الناس، واستتباب الأمر، وهدوء واستقرار الأوضاع على نمط معين.
قالوا: هذا أمرٌ قد توجه، فبايعوا الرسول ﷺ على الإسلام، وأسلموا".
إذًا، كانت ردة الفعل أن أعلنوا الدخول في الإسلام وغيروا الخطة من العداء الصريح وإظهار العداوة إلى الدخول في الإسلام، [رواه البخاري: 6254، ومسلم:4760].
وكان هذا الاعلان لخوفهم وجزعهم، وليس حبًا في الإسلام، ولا في نبي الإسلام، ودلّ هذا الحديث على أن المنافقين يختفون بشرهم عند ظهور قوة المسلمين، ويظهرون نفاقهم وشرهم، وأذاهم عند ضعف المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمهاجرون لم يكن فيهم منافق، وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار".
وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة، فلما أسلم أشرافهم؛ مثل سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ أشراف الأنصار أسلموا، وجمهورهم يعني أكثر الأنصار أسلموا، وعندنا بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وما حصل من إسلام أكثر الأنصار على يد عبد الله بن أم مكتوم، ومصعب بن عمير.
ولما جاء النبي ﷺ، ودعاهم أسلم أكثر الأنصار، وبقيت هذه البقية المندسّة في الأنصار بالنسب من الأوس والخزرج "لما أسلم أشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقًا لعز الإسلام وظهوره في قومهم" [مجموع الفتاوى: 35/63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفارًا، فلم يكن يظهر الإيمان إلا مَن هو مؤمن ظاهرًا وباطنًا" [مجموع الفتاوى: 35 / 63]، يعني كان الذي يظهر الإسلام في مكة هذا باطنه الإسلام في المدينة من الأوس والخزرج، مَن أظهر الإسلام وباطنه الكفر، وما زالوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، وينتهزون الفرص للانقضاض على أهل الإيمان.
دسائس المنافقون وتحالفهم مع أعداء الاسلام
وكان عبد الله بن أُبي ومن معه يحيكون المؤامرات، وانحازوا إلى جانب يهود بني قينقاع الذين نقضوا العهد مع النبي ﷺ؛ لأن النبي ﷺ لما دخل المدينة وادع اليهود، وعقد معاهدات بينه، وبينهم، واليهود قوم خونة، ومن أشهر صفات اليهود نقض العهود، لا تؤمِّل على أي اتفاقية تصير مع اليهود أبدًا.
ولذلك لما غدر يهود بني قينقاع بالمسلمين نقضوا العهد انضم إليهم المنافقون.
وعن ابن عباس قال: "لما أصاب رسول الله ﷺ قريشًا يوم بدر، وقدم المدينة جمع من اليهود في سوق بني قينقاع، فقال النبي ﷺ مرهباً لهم، كما قال الله: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ[الأنفال: 60]، وقد جمعهم النبي عليه الصلاة والسلام في السوق لإرهابهم، وقال لهم: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا، وفي رواية: فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال.
وكأنهم هم الأبطال!، ولا شك أن القرشيين كانوا أشجع من اليهود، ومع ذلك فإن اليهود يدعون الشجاعة، ودائمًا هم جبناء، فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفسًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لن تلقَ مثلنا، الأغمار جمع غمر، وهو الجاهل الغِر الذي لم يجرب الأمور، فأنزل الله في ذلك: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[آل عمران : 12].
وهذا الحديث رواه أبو داود، وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر رحمه الله، وصححه أحمد شاكر في عمدة التفسير.
وهنالك سبب آخر ذكره ابن هشام بسند مرسل؛ أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها -يعني بسوق بني قينقاع- فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، أنظر هذه المسلمة ليس عندها في كشف الوجه مساومة، وليس كما هو الآن هذه أرادوها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت، يعني من الخلف، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، وقامت الحرب بينهم وبين بني قينقاع، هذا مشهور في السيرة، لكن سنده مرسل، لكن يهود بلا شك فعلوا شيئًا يستوجب ضرب الخناق والحصار عليهم.
وقد روى ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، "فحاصرهم رسول الله ﷺ، حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أُبي بن سلول بعد أن رأى التغلب على بني قينقاع، مَن الذي دافع عنهم؟ أولياءهم، قال ابن سلول: يا محمد، أحسن في مواليَ، وكانوا حلفاء الخزرج فأبطأ عليه رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد، أحسِن في مواليَ، فأعرض عنه رسول الله ﷺ، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: أرسلني، وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا في وجهه ظُللاً، يعني تغير عن الإشراق والإنارة المعروفة في وجه النبي ﷺ لما غضب ذهب ذلك الإشراق المعروف في وجهه ﷺ، رأوا ظُللاً في وجهه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ، يعني هؤلاء اليهود أربعمائة واحد ما عليه درع ولا شيء، أُخذوا الآن وقُبض عليهم مستسلمين، وثلاثمائة دارع -عليهم دروع- قد منعوني من الأحمر والأسود، يقول عبد الله: هؤلاء كان ولاءهم لي، وكانوا يحمونني، أربعمائة حاسرين، وثلاثمائة دارع تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر، يعني متعلق بالنبي ﷺ، ولا بدّ أن يحصل منه على عفو.
فقال رسول الله ﷺ: هم لك ثم أمرهم النبي ﷺ يعني بني قينقاع أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوره بها، فنزلت:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني أهل النفاق يُسَارِعُونَ فِيهِمْ طالبين الشفاعة، والعفو، يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ أي هؤلاء المنافقون عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ الحديث هذا حديث مرسل حسن الإسناد.
فالرسول ﷺ عامل عبد الله بن أُبي على رغم ما كاده وآذاه، لكن لم يخفر ذمته، وأعطاه ما يريد، وكل ذلك رجاء أن تنصلح نفس عبد الله بن أبي، ولعله يسلم حقيقة، ولعل العداء الذي في نفسه يزول، لكن منافق ليست هناك فائدة، لكن النبي ﷺ لا يعلم الغيب، يحاول مرة، واثنتين، وثلاثة، وأربعة، ومواقف، ولعل عبد الله بن أُبي هذا يلين، ولعله يرجع.
يعني إذا عدى هذا الوضع اكتفى المسلمون شرًا كثيرًا، فكان النبي ﷺ يحاول بمواقف متعددة أن يكسب عبد الله بن أُبي هذه من ضمن المحاولات.
سنرى إن شاء الله في الدرس القادم مزيدًا من التعامل النبوي مع المنافقين، ورؤوس النفاق، وكيف كان ﷺ يسايسهم، وكيف كان يعظهم، يقول لهم: فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا[النساء : 63].
كيف كان يكشف أحوالهم، ويصرّح لهم بأشياء أحياناً، وسنرى بمشيئة الله مزيدًا من المواقف النبوية تجاه هذا الصنف من أصناف الناس، وهم المنافقون، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد