الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.
فأرحب بكم جميعًا أيها الإخوة والأخوات، وأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذه الليلة التي نتعرف فيها على مزيد من أحوال نبينا محمد بن عبد الله ﷺ، وكنا قد ذكرنا طرفًا من أخباره في ضحكه ﷺ، وكيف كان ضحكه له معاني، فكان ضحكه مداعبة، وكان ضحكه إيناس، وكان ضحكه تصديقًا، وكان ضحكه إقرارًا، وكان ضحكه تعجبًا ﷺ، وضحك النبي ﷺ أيضًا مع أناس تألفًا لهم.
ضحك النبي ﷺ اتقاء لفحش بعض الناس
فهل كان النبي ﷺ يضحك في وجه الناس دفعًا لشرهم كفًا لأذاهم مثلاً اتقاء لفحشهم؟
الجواب: نعم. فعل ذلك.
كيف؟ ومتى؟
قالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على النبي ﷺ فلما رآه قال -يعني ﷺ في بيته والرجل بره ما يسمع- قال ﷺ: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما دخل الرجل، فلما جلس تطلق النبي ﷺ في وجهه، وانبسط له، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، -يعني ومشى- قالت عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه". [رواه البخاري: 6032].
وفي رواية: قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله ﷺ معه، فلما خرج الرجل قلت: يا رسول الله! قلت فيه ما قلت ثم لم تنشب أن ضحكت معه؟
فقال رسول الله ﷺ: يا عائشة متى عهدتني فحاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه [رواه البخاري: 6131، ومالك في الموطأ: 1605].
وقال ابن عبد البر: "روي عن عائشة من وجوه صحاح كلها مسندة". [التمهيد: 24/260].
وهذا الضحك من النبي ﷺ مع هذا الشخص تأليفًا له، ودفعًا لشره، واستئلافًا لقلبه، واتقاء لمضرته.
قال النووي: "وإنما ألان له القول تألفًا له ولأمثاله على الإسلام". [شرح النووي على مسلم: 16/144].
وهذه هي المداراة تداري صاحب الشر بالكلام الطيب، بالملاطفة، بالملاينة، بالمسايسة حتى تكتفي شره، غير المداهنة التي تقول فيها باطلاً، أو ترفض فيها حقًا، هذه مرفوضة، أما الملاطفة، والملاينة، والممازحة هذه محمودة للاتقاء، والمداري لا يقول باطلاً، ولا يذم حقًا، ولا يضمر شرًا، ولا يسعى في أذية، لكن يظهر اللين، وحسن المعاملة، والابتسامة، والمضاحكة لتأليف قلب صاحب الخلق السيئ، وليدفع أذاه دون أن يوافقه على باطل، أو يعاونه عليه، هذا مهم جداً في الفهم، في فهم الفرق بين المداراة الشرعية والمداهنة الباطلة المحرمة.
وكذلك فقد بوب البخاري رحمه الله على هذا الحديث بابًا بعنوان: "باب المداراة مع الناس، قال: ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام" -يعني نبستم- "وإنا قلوبنا لتلعنهم". [صحيح البخاري: 5/2270].
الكشر: هو ظهور الأسنان، وأكثر ما يكون عند الضحك.
وكتب بعض أهل العلم مثل أبي الدنيا كتابا بعنوان مداراة الناس، وأسند فيه عن حميد بن هلال قال: "أدركت الناس يعدون المداراة صدقة تخرج فيما بينهم". [مداراة الناس لأبي الدنيا: 1/48].
وعن الحسن قال: "التودد إلى الناس نصف العقل". [مداراة الناس لأبي الدنيا: 1/50].
وقال أحمد رحمه الله: "والناس يحتاجون إلى مداراة، ورفق، وأمر بمعروف بلا غلظة، إلا رجل معلن بالفسق". [شرح حديث اختصام الملأ الأعلى: 1/28].
فقد وجب عليك نهيه، وإعلامه الآداب الشرعية، والمداهنة من الدهان، وهي الذي يظهر شيئًا ويستره باطنه، ففيها معاشرة الفساق، وإظهار الرضا بكلامهم من غير إنكار عليهم، أو المداراة رفق بالجاهل وبالفاسق، وترك الإغلاظ عليه، ومعاملته بلطف لاسيما إذا احتيج إلى تألفه.
تبسم النبي ﷺ من قول الأنصار يوم العقبة
فماذا قال الأنصار: يوم العقبة عن ابن إسحاق قال: حدثني معبد بن كعب بن مالك: أن أخاه عبيد الله بن كعب وكان من أعلم الأنصار حدثه: أن أباه كعب بن مالك -وكان كعب ممن شهد العقبة- وبايع رسول الله ﷺ بها قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين -هذه القصة تروي أحداث بيعة العقبة- فخرجوا مع المشركين من الأوس والخزرج من المدينة من يثرب إلى مكة، وكان النبي ﷺ بمكة، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا" -يعني وصلنا الإسلام في المدينة، وأسلمنا، واندسينا، واختفينا، أو دخلنا مع قومنا من المشركين "ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، فلما توجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء إني قد رأيت والله رأيًا، وإني والله ما أدري أتوافقني عليه أم لا؟
قلنا له: وما ذاك؟
قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة، وأن أصلي إليها شوف البراء يعني سبحان الله! كيف يعني ألهم التوجه في الصلاة إلى الكعبة، مع أنه في ذلك الوقت كان التوجه إلى بيت المقدس.
فقلنا له: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه.
قال: إني أصلي إليها.
فقلنا له: لكنا لانفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة، وقد كنا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة عليه، فلما قدمنا مكة.
قال: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله ﷺ فسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله قد وقع نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه، فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ وكنا لا نعرفه" -إذًا هؤلاء القوم من الأنصار من المسلمين قلة، بلغهم الإسلام، وأسلموا، واندسوا مع قومهم المشركين، وجاؤوا إلى مكة، وما رأوا النبي ﷺ فيريدون أن يسألوه- "فلقينا رجل من أهل مكة فسألناه عن رسول الله ﷺ.
فقال: هل تعرفانه؟
قلنا: لا.
قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟
قلنا: نعم. وكنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا" -العباس في تجارته كان يمر على المدينة، فكان معروفًا لديهم- قال: "فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله ﷺ معه جالس، فسلمنا، ثم جلسنا إليه.
فقال رسول الله ﷺ للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟.
قال: نعم. هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك.
فقال النبي ﷺ: الشاعر.
يقول كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ: الشاعر.
يعني كيف عنده علم به، ولما جيء باسمه قال: الشاعر.
قال: نعم.
فقال البراء بن معرور: يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا وهداني الله للإسلام، ورأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟
قال: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها اصبر لماذا استعجلت. فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ معنا إلى الشام.
قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات. وليس ذلك كما قالوا ونحن أعلم به منهم، وخرجنا إلى الحج، فوعدنا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيام التشريق، وعدوه أين؟
العقبة أوسط أيام التشريق؛ لأن أيام التشريق ثلاثة فواعدوه، وأين الموضع؟ في العقبة، فإذا حججتم، ومررتم بالعقبة ثاني أيام التشريق، فتذكروا أن ذلك كان موعد رسول الله ﷺ مع هؤلاء الأنصار، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي وعدنا رسول الله ﷺ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من سادتنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وما أحد يعلم عنا، فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا" -شوف أسلوب الدعوة يريدون أن والد جابر ينضم معهم للدين، ثم دعوته إلى الإسلام- "وأخبرته بميعاد رسول الله ﷺ فأسلم، وشهد معنا العقبة، وكان نقيبًا، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع، فاجتمعنا بالشعب، ننتظر رسول الله ﷺ حتى جاءنا، ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب، وهو -يعني العباس- يومئذ على دين قومه، -يعني ما أسلم- لكن كان مع النبي ﷺ في الحماية، والنصرة إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه، ومنعة في بلده.
فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله ﷺ فتلا" -يعني القرآن- ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام.
قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فأخذ البراء بن معرور بيده.
ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر، فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله ﷺ".
من الذي اعترض القول؟
أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل. فقال: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال" -يعني يقصد اليهود في المدينة- "حبالاً يعني أحلافًا وعهودًا، وإنا قاطعوها إذا بايعنك" -سنقطع حبال اليهود- "فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا إذا انتصرت؟
فتبسم رسول الله ﷺ" -وهذا موضع الشاهد- ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم وقال رسول الله ﷺ: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا، يكونون على قومهم.
ما معنى الدم الدم؟
يعني تطلب بدمي، وأطلب بدمك.
وما معنى الهدم الهدم؟
يعني ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم، فالهدم الحرمة، "فأخرجوا منه اثني عشر نقيبًا: منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وكان أول من ضرب على يد رسول الله ﷺ يعني مبايعًا البراء بن معرور، ثم تتابع القوم" -فإذًا البراء بن معرور له مناقب- "فلما بايعنا رسول الله ﷺ صرخ الشيطان من رأس العقبة، بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب: هل لكم في مذمم والصباة معهم قد أجمعوا على حربكم.
فقال رسول الله ﷺ: هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع أي عدو الله! أما والله لأفرغن لك، ثم قال رسول الله ﷺ: ارفعوا إلى رحالكم.
يعني انسحبوا وعودا؛ لأن القضية انكشفت.
من الذي كشفها؟
الشيطان، هذا اسم شيطان كان بالعقبة.
فقال ﷺ: هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع أي عدو والله أما والله لأفرغن لك ثم قال رسول الله ﷺ: ارفعوا إلى رحالكم.
طيب قوله: "يا أهل الجباجب" ما هي الجباجب؟
مفردها جبجبة، جمع جبجبة، هذا شيء يحدث في منى، له علاقة بشيء يحدث في منى، يعني شوف النحر على الأضاحي ماشيين يعني كذا، الجباجب جمع جبجبة، والجبجبة هي الكرش، وسمي أهل منى أهل الجباجب من كثر كروش الأضاحي التي تلقى فيها، أو الهدي يعني الهدي، والجبجبة هي الكرش مع اللحم يتزود في السفر، فالشيطان قال: "يا أهل الجباجب" ينادي أهل مكة، "هل لكم في مذمم" -شوف: يسب النبي ﷺ والصباة معه قد أجمعوا على حربكم".
النبي ﷺ لما رأى هذا قال: ارفعوا إلى رحالكم.
فقال له العباس بن عباد بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا.
فقال رسول الله ﷺ: لم أؤمر بذلك، فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة من قريش على مكان الأوس والخزرج حتى جاؤوا في منازلنا. فقالوا: يا معشر الخزرج: إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم، قال: فانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه -وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا- فبعضنا ينظر إلى بعض، وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان.
فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: ما تستطيع يا أبا جابر -وأنت سيد من سادتنا- أن تتأخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ يعني هذه تغطية، فهذا المسلم يقول: يا أبا جابر ما تتخذ لك نعلين مثل نعلي هذا القرشي اللي قائم هذا اللي يكلمنا، فسمعها الحارث فخلعهما، ثم رمى بهما إليه، وقال: والله لتنتعلهما.
قال أبو جابر: أحفظت والله الفتى فارددت عليه نعليه" -تغير الموضوع-. "فقلت: والله لا أردهما فأل والله صالح" -يعني إذا أخذنا نعالهم نأخذ البقية- "والله لئن صدق الفأل لأسلبنه". [رواه أحمد: 15798، وصححه الألباني في فقه السيرة: 1/146].
فإذًا هذا تبسم النبي ﷺ لما سمع مقالة أبي الهيثم كأنه يقول: يعني تضحون كل هذه التضحية ثم أتخلى عنكم وأترككم، لا يمكن.
كان من تبسمه ﷺ تبسم المغضب
فعبد الله بن كعب قد روى عن أبيه كعب بن مالك حديثه حين تخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، قال: "وصبح" -يعني نزل صباحًا- "رسول الله ﷺ قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا" -يعني بدؤوا وشرعوا- "يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعًا وثمانين رجلاً، فقبل رسول الله ﷺ علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله ، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب" -إذًا هذا نوع من التبسم نوع آخر- "ثم قال: تعال فجئت حتى جلست بين يديه.
فقال لي: ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك اشتريت مركبًا وراحلة. [رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769].
فتبسم النبي ﷺ هنا ليس تبسم سرور وفرح، وإنما تبسم المغضب المعاتب لصاحبه على خطئه، وعدم الراضي بصنيعه، وفيها القصة فيها عجب العجاب، حتى النبي ﷺ تبسمه تربية، ونظراته تربيه، وإعراضه تربيه، وإقباله تربيه، يعني حتى كعب قال في القصة "قال: كنت أصلي معه لما أمر بمقاطعتهم، فإذا نظرت إليه بعد الصلاة أعرض عني، وإذا أزحت وجهي نظر إليّ -إذا كان أخر وجهه النبي ﷺ ينظر إليه، وإذا كعب نظر إليه النبي ﷺ يؤخر وجهه، يعني فيها معاني عظيمة.
تبسم النبي ﷺ إيناسًا لأبي هريرة
كما جاء في حديث أبي هريرة قال: "والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع" -طيب ما فائدة شدة الحجر على البطن له فائدتان: الجائع يشد الحجر على بطنه -طبعًا يختارون حجارة معينة مسطحة- المهم أنهم يشدون الحجر في حال الجوع، ما فائدة شد الحجر على البطن خلنا نقول: فيها ثلاثة فوائد: حتى لا يسقط الإزار، طيب يضيق حجم المعدة حتى لا يحس بالجوع، يقوي عضلات البطن، يمنع المعدة من الحركة، يذهب حرارة الجوع، يملأ الفراغ، -الصبر- يشعر بالشبع، يخفف من الجوع:
أولاً: ليساعد على انتصاب الظهر؛ لأن الجوع يسبب الميل إلى الإمام للجائع.
ثانيًا: يبرد حرارة الجوع؛ لأن الجوع له حرارة في البطن والحجر له برودة، فيبرده.
ثلاثة: يمنع كثرة تحلل الغذاء؛ لأنه إذا ضغط على الداخل لا تحلل المعدة الغذاء كما تحلله وهي مرتخية.
وفي رواية: "لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشيًا عليّ، فجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون، وما بي إلا الجوع" -يعني يظنونه وقع مصروعًا، صرعه الجن، فكأنه يريد استخراج الجني منه- "ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل" -يعني لم يتفطن لما في نفسي- "ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ودخل داره، فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله ﷺ قائم على رأسي، فتبسم حين رآني، فأخذ بيدي فأقامني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر .
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: الحق. ومضى، فتبعته، فدخل منزله، فاستأذنت فأذن لي، فوجد قدحًا من لبن، فقال: من أين هذا اللبن؟.
قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة.
قال:أبا هر.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي -وهؤلاء يقلون ويكثرون بحسب يموت، يسافر، ويتزوج- "وهم قريب من مائة" وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها" -يعني لما- قال: ادع أهل الصفة "ساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وأنا رسوله إليهم، فسيأمرني أن أديره عليهم" -في تكملة مهمة- "فما عسى أن يصيبني منه، وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ بد، فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي ﷺ وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم" -هذه ابتسامة لها معنى آخر مثل الابتسامة الأولى تدور في فلك واحد- "فقال: أبا هر.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: بقيت أنا وأنت.
قلت: صدقت يا رسول الله.
قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت.
قال: اشرب. فشربت.
فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا.
قال: فأرني فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة، فلقيت عمر، وذكرت له الذي كان من أمري، وقلت له، فولى الله ذلك من كان أحق به منك يا عمر، والله لقد استقرأتك الآية ولأنا أقرأ لها منك، قال عمر: والله لأن أكون أدخلتك أحب إليّ من أن يكون لي مثل حمر النعم". [رواه البخاري: 5375، و6452، والترمذي: 2477، وصححه الألباني صحيح وضعيف سنن الترمذي: 5/477، رقم: 2477]. والسياق من الحديثين.
قال ابن حجر: استدل أبو هريرة بتبسم النبي ﷺ على أنه عرف ما به؛ لأن التبسم تارة يكون لما يعجب، وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه، ولم تكن تلك الحالة معجبة، فقوي الحمل على الثاني". [فتح الباري: 11/285]. يعني للإيناس.
وقوله" فرفع رأسه، فتبسم كأنه ﷺ تفرس في أبي هريرة ما كان وقع في توهمه ألا يفضل له من اللبن شيء، يعني لما أتى اللبن بعدما شربوا لما نظر إليه تبسم، معناها كنت يا أبا هريرة تظنه ما راح يبقى شيء. هذه معناها.
وفي الحديث: أن القوم إذا دار عليهم بما يشربون يتناول كل واحد فيدفعه هو الذي يليه، ولا يدع الرجل يناول رفيقه، يعني إن المضيف الجيد يناول واحد، ويأخذ منه، ويعطي الثاني، ويأخذ منه، ويعطي الثالث، ولا يدعهم يناول بعضهم بعضًا.
وكذلك في الحديث: جواز الشبع ولو بلغ أقصى غايته؛ لكن هذا يحمل على النادر من الأحوال، وخصوصُا إذا كان بعد شدة جوع.
وفيه: كتمان الحاجة، وعدم التصريح بها لكن التلويح.
وفيه: ما كان عليه الصحابة من ضيق الحال، والتعفف عن السؤال، وتقديم طاعة النبي ﷺ على حظوظ أنفسهم.
كان عليه الصلاة والسلام يضحك مداعبة للصغار
فعن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله ﷺ، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق" -فكأنه وقف عندهم للتفرج، أو يلعب معهم- "فإذا رسول الله ﷺ قد قبض بقفاي من ورائي مسكه، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس أذهبت حيث أمرتك.
قلت: نعم أذهب أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين، ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا". [رواه مسلم: 2310].
وكان أنس صبيًا غير مكلف إذاك، ولهذا أخذ بقفاه، وداعبه، وهو يضحك، ولم يعاقبه مع أنه صرح بالرفض، ومع ذلك لم يعاقبه.
كان النبي ﷺ يتبسم تفاؤلاً
كما في قصة هوازن، فقد جاء في حديث سهل بن الحنظلية: "أنهم ساروا مع رسول الله ﷺ يوم حنين فأطلبوا السير -بالغوا- حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة عند رسول الله ﷺ، فجاء رجل فارس، فقال: يا رسول الله! إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبائهم" -يعني جاؤوا جميعًا لم يتخلف منهم أحد- "قال: بضعنهم، ونعمهم، وشائهم اجتمعوا إلى حنين" -الضعن: النساء، والنعم: الإبل، والشاء- "فتبسم رسول الله ﷺ وقال: تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله ما دام جمعوا كل هذا الجمع، نتفاءل أن هذه غنيمة المسلمين، النساء سبي، والشاء والإبل هذه غنيمة- "ثم قال: من يحرسنا الليلة؟.
فقال أنس بن مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله.
قال: فاركب فركب فرسًا له، فجاء إلى رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة -يعني لا يأتينا العدو على حين غفلة منك- "فلما أصبحنا خرج رسول الله ﷺ إلى مصلاه، فصلى ركعتين، ثم قال: هل أحسستم فارسكم؟.
قالوا" يا رسول الله! ما أحسسناه، فوثب بالصلاة، فجعل رسول الله ﷺ يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته وسلم، قال: أبشروا، فقد جاء فارسكم فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ﷺ، فسلم، قال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله ﷺ، فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدًا.
فقال له رسول الله ﷺ: هل نزلت الليلة؟.
قال: إلا مصليًا، أو قاضيًا حاجة.
فقال رسول الله ﷺ: قد أوجبت فلا عليك أن تعمل بعده [رواه أبو داود: 2503، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 378].
يعني عملت عملاً يوجب لك الجنة فلا ضرر لو ما عملت شيئًا بعد ذلك، وتبسم رسول الله ﷺ هنا من حسن صنيعه، وتفاؤلاً بغنيمة يسوقها الله إلى المسلمين من هذه الجماعة.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن الله لما منع الجيش غنائم مكة، ولم يغنموا منها ذهبًا، ولا فضة، ولا متاعًا، ولا سبيًا، ولا أرضًا, فعوضهم غنيمة هوازن؛ الذين أخرجوا أموالهم، ونعمهم، وشاءهم، وسبيهم، وهكذا كانت لجند الإسلام". [زاد المعاد: 3/418].
نختم بهذا السؤال: لعل وعسى البراء بن معرور له مناقب، ذكر بعض أهل العلم للبراء بن معرور عدة مناقب، فنريد منها ثلاثة، ونريد أن نعرف متى مات؟
أول من بايع النبي ﷺ، وأول من صلى جهة الكعبة، البراء بن معرور أول من بايع، وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله، ومات قبل الهجرة، وقيل أن النبي ﷺ لما هاجر أتى قبره، فكبر عليه أربعًا.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، وصلى الله على نبينا محمد.