الثلاثاء 8 شوّال 1445 هـ :: 16 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

30- الشفاعة 2


عناصر المادة
تابع أنواع الشفاعة
الرد على من أنكر استحباب طلب الشفاعة
الشفعاء يوم القيامة
شفاعة الشهداء
أسباب نيل الشفاعة
ما هي هذه الشفاعة؟
المشرك لا تنفعه الشفاعة
الفرق التي خالفت في موضوع الشفاعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فلا زال الحديث عن شفاعة النبي ﷺ وذلك المقام العظيم يوم الحشر، وقد تقدم الحديث عن ذلك.

تابع أنواع الشفاعة

00:00:23

والشفاعة السادسة: هي شفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر من أمته، الذين دخلوا النار ليخرجوا منها، وهذا من أصول الاعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو متواتر عند أهل العلم.
ويقرر هذا الأصل العام ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، وغيرهما، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ:  شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، حديث صحيح. [ رواه أبو داود: 4739، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 3649].
ومعنى: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يعني: أن يعفو الله عنهم، وأما الشفاعة لرفع الدرجات فهي لأتقياء والأولياء، أما هذه فلأهل الكبائر.
وقال الطيبي -رحمه الله: "أي: شفاعتي التي تُنجي الهالكين مختصة بأهل الكبائر". [عون المعبود: 13/52].
والمعنى على ذلك أن أهل الكبائر الذين تُرجى لهم الشفاعة هم من كان من أمة محمد ﷺ الذين ماتوا على التوحيد.
وأما ما وقعوا فيه من الكبائر، فليس سبباً لحرمانهم من شفاعة النبي ﷺ، أما أهل البدعة من الخوارج والمعتزلة فهم الذين يقولون إن صاحب الكبيرة في النار مخلد، ولا تنفعه شفاعة، وليس له نصيب من الشفاعة أصلاً.
ولا يعني هذا الحديث أن أهل الصغائر من أمة محمد ﷺ محرومون من شفاعته، بل إذا كان أهل الكبائر تنالهم شفاعته، فمن باب أولى أن أهل الصغائر تنالهم شفاعته؛ لأنهم من الموحدين أصلاً، لكن ورطة أهل الكبائر أشد، وحاجتهم للشفاعة أشد، ولذلك جاء تخصيصهم في الحديث بالذكر، فإذاً قوله: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، يتناول أيضاً أهل الصغائر بطبيعة الحال.


قال ابن أبي العز -رحمه الله-: "وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث، وخفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك جهلاً منهم بصحة الأحاديث، وعناداً مما علم ذلك واستمر على بدعته". [شرح الطحاوية: 1/206].
وهذه الشفاعة وهي الشفاعة لأهل الكبائر وللعصاة عموماً.
هل يشارك النبي ﷺ فيها أحد آخر أما لا؟
الجواب: يشاركه في ذلك النبيون والملائكة والمؤمنون أيضاً، وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن هذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي ﷺ الشفاعة في أهل الكبائر والعصاة"، وقد ثبت في السنة أن أهل الكبائر يخرجون من النار بعدما دخلوها، بعد المدة التي يشاء الله -تعالى- أن يعذبهم فيها، ثم يخرجون بشفاعة النبي ﷺ أو بشفاعة الشافعين الذين يأذن لهم ربنا .
وقد أخرج البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ قال: يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ﷺ فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين[رواه البخاري: 6566].
وجاء في المسند عن أنس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويكتب بين أعينهم هؤلاء عتقاء الله من النار، هؤلاء عتقاء الله ، فيُذهب بهم فيدخلون الجنة، فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون فيقول الجبار: بل هؤلاء عتقاء الجبار  [رواه أحمد: 12491]، قال الألباني: صحيح لغيره. [تخريج السنة: 844].
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وفي حديث حذيفة عند البيهقي في البعث من رواية حماد بن أبي سليمان عن ربعي عنه يقال لهم الجهنميين: فذكر لي أنهم استعفوا الله من ذلك الاسم فأعفاهم". [فتح الباري: 11/430].
على أية حال اسم الجهنميين ليس تنقيصاً لهم، بل هو تذكير بعفو الله لهم أن كانوا في جهنم فأُخرجوا منها.


وفي صحيح البخاري عن أنس - أن النبي ﷺ قال: يُحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يُهموا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم، الحديث، وفيه: فيقول: ارفع محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع، وسل تُعطى، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثانية فاستأذن على ربي ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج فأخرجهم من النار، ثم أدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي: وجب عليه الخلود ثم تلا هذه الآية: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء: 79]" [رواه البخاري: 7439].
وفي البخاري أيضاً من حديث أنس ثم أرجع فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود، قال النبي ﷺ: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة [رواه البخاري: 7410].

الرد على من أنكر استحباب طلب الشفاعة

00:06:38

نبه النووي -رحمه الله- في كتابه الأذكار "باب في ألفاظ حُكي عن جماعة من العلماء كراهته وليست بمكروهة" فذكر جملة منها، ومنها: "ما جاء عن بعضهم من أهل الفقه والأدب أنه قال: لا يقل اللهم ارزقنا شفاعة النبي ﷺ فإنما يشفع لمن استوجب النار" إذاً هذا لاحظ ملاحظة، وليست صحيحة، لكن مما خطر بباله قال: أن الشفاعة بما أنها لأهل الكبار، يعني نحن إذا قلنا اللهم ارزقنا شفاعة نبيك يعني كأننا ندعو على أنفسنا أننا من أهل الكبائر، وهذا الكلام غير صحيح لأسباب.
قال النووي -رحمه الله-: "هذا خطأ فاحش، وجهالة بينة، ولولا خوف الاغترار بهذا الغلط وكونه قد ذُكر في كتب مصنفه تمشي بين الناس لما تجاسرت على حكايته، فكم من حديث في الصحيح جاء في ترغيب المؤمنين الكاملين بوعدهم شفاعة النبي ﷺ". [الأذكار النووية: 1/488].
الآن مثلاً الذي يقول الذكر الذي بعد الأذان، أليس من أسباب أن يزرق شفاعة محمد ﷺ، فلو قيل له الكلام هذا، خلاص يزهد الناس أي شيء؟ في الشفاعة، يقول: لا نحن لا نريد الشفاعة، معنى ذلك أننا حكمنا على أنفسنا أننا من أهل الكبائر، ومن أهل النار، لكن الحقيقة ليست كذلك.
وقد أحسن الإمام الحافظ الفقيه أبو الفضل عياض -رحمه الله- في رده على هذا الكلام فقال: "وقد عُرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح شفاعة نبينا ﷺ ورغبتهم فيها، قال: وعلى هذا لا يُلتفت إلى كراهة من كره ذلك: لكونها لا تكون إلا للمذنبين". [شرح النووي على مسلم: 3/36].


لأنه ثبت في الأحاديث في صحيح مسلم وغيره إثبات الشفاعة في دخولهم الجنة بغير حساب، إثبات الشفاعة لأقوام في دخولهم الجنة بغير حساب، فأنت لما تسأل تقول: اللهم ارزقني شفاعة نبيك ﷺ ما تسأل فقط على الشفاعة لأهل الكبائر؛ لأن شفاعته منها ما يدخل أقوام الجنة بغير حساب، وهذا الأولياء يحتاجونه، ولقوم في زيادة درجاتهم في الجنة أيضاً يحتاجه حتى الأولياء.
قال: "ثم كل عاقل معترف بالتقصير يحتاج إلى العفو" ومن الذي يضمن لنفسه أنه لا يكون من أهل الصغائر المحتاجين، ولا يكون من أهل الكبائر المحتاجين، الإصرار على الصغيرة كبيرة، وكثير من الناس يظن أن بعض الأشياء صغيرة، وهي في الحقيقة كبيرة.
فعلى هذا أبسط شيء عند النساء النمص مثلاً هي شعرات فيها لعن، ومن تعريف الكبيرة أنه ورد عليها لعن، لعن الله النامصات والمتنمصات  [رواه مسلم: 2125] ، وغير هذا من الأشياء التي يظنها بعض الناس صغائر وهي كبائر.
قد يفعلون صغائر ويصرون عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، فمن الذي يستطيع أن يزكي نفسه؟ ويقول: أنا ما عندي كبائر، وما عندي صغائر، وما أحتاج للشفاعة.
يعني: هذا في الحقيقة اغترار بالنفس عظيم، كبر، قال: "ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو، غير معتد بعمله، مُشفق من أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب، وهذا كله خلاف ما عُرف من دعاء السلف والخلف". [شرح النووي على مسلم: 3/36].
بل الصحابة -رضوان الله عليهم- ثبت أنهم طلبوا الشفاعة من النبي ﷺ وروى الإمام أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي: "أنه كان مع النبي ﷺ في سفر، فسار بهم يومهم أجمع لا يحل لهم عقدة وليلته جمعاء، لا يحل عقدة إلا لصلاة"، طبعاً هذا سير متواصل، ليس من عادته عليه الصلاة والسلام، "حتى نزلوا أوسط الليل، قال: فرقب رجل رسول الله ﷺ حين وضع رحله، قال: فانتهيت إليه فنظرت فلم أرى أحداً إلا نائماً، ولا بعيراً إلا واضعاً جرانه نائماً، حتى الدواب تعبت، فقال: فتطاولت فنظرت حيث وضع رسول الله ﷺ رحله فلم أره في مكانه، فخرجت أتخطى الرحال حتى خرجت إلى الناس، ثم مضيت على وجهي في سواد الليل فسمعت جرساً، فانتهيت إليه فإذا أنا بمعاذ بن جبل والأشعري، فانتهيت إليهما فقلت: أين رسول الله ﷺ؟ فإذا هزيز كهزيز الرحى، فقلت: كأن رسول الله ﷺ عند هذا الصوت، قالا: أقعد أسكت، فمضى قليلاً فأقبل حتى انتهى إلينا، فقمنا إليه، فقلنا: يا رسول الله فزعنا إذا لم نرك واتبعناك أثرك"، الصحابة -رضوان الله عليهم- حريصين على النبي ﷺ ولذلك حتى لو نزل الناس للراحة، والنوم فهم يتفقدونه هل هو موجود، هل أحد تعرض له بشيء، يحرسونه وينتبهون له الحرص عليه، ولذلك ما ناموا هؤلاء مع الناس وحتى عثروا على النبي ﷺ، "قالوا: فزعنا إذ لم نرك واتبعنا أثرك، فقال: إنه آتاني آت من ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، فقلنا: نذكرك الله والصحبة إلا جعلتنا من أهل شفاعتك، قال: أنتم منهم، ثم مضينا فيجيء الرجل والرجلان فيخبرهم بالذي أخبرنا به فيذكرونه الله والصحبة إلا جعلهم من أهل شفاعته فيقول: فإنكم منهم، حتى انتهى الناس، فأضبوا عليه، وقالوا: أجعلنا منهم؟ فقال: إني أشهدكم أنها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ، حديث صحيح [رواه أحمد: 24023، وقال المحققون: "حديث صحيح].

الشفعاء يوم القيامة

00:13:24

من هم الشفعاء يوم القيامة؟ وقبل هذا قد يقول بعض الناس: الحمد لله إذاً نحن مرتاحين، وما دام الشفاعة آتية كل واحد من الموحدين، ونحن من الموحدين، فالحمد لله نحن بخير، ويوم القيامة أكيد أنه ما علينا شيء، فنقول: كيف هذا؟ الآن من شفاعته لأهل الكبائر أنهم يخرجهم من النار، وقد احترقوا، وقد مضى عليهم ما شاء الله من العذاب، ومن مستعد أن يقول: وحتى لو كنا من أهل الكبائر فسنخرج.
طيب أنت تصبر على لذعة نار مستعد أن تدخل جنهم على كبائر يوم ويومين، وسنة وسنتين حتى تدرك الشفاعة، فما هذا الاغترار!
من هم الشفعاء؟ مر بنا أن النبي ﷺ له شفاعات خاصة، وله شفاعة يشترك فيها معه المؤمنون والملائكة والأنبياء، والله -تعالى- جعل صفوة من عباده الأخيار شفعاء يشفعون في رفع درجات المؤمنين، أو في إخراجهم من النار، ومقام الشفاعة في الحقيقة هو مقام تكريم.
يعني: الله إذا أذن لشخص أن يشفع معناه أنه كرمه جداً، أنه جعله بمنزلة من يُقبل طلبه في ذلك اليوم الذي لا يشفع فيه أحد إلا بإذن الرحمن ورضي له قولاً، يعني: أن الله راضي له ورضي عن قوله، وأن له منزلة عند الله، وأنه صاحب دين متين ولذلك صار مؤهلاً أن تقبل شفاعته، إنها إظهار لمكانة الشفيع وعلو منزلته عند الله، ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله-:

فلذا أقام الشافعين كرامة لهم ورحمة صاحب العصيان

[متن القصيدة النونية: 2/296].


فالشفاعة هي كرامة للشافع ورحمة للمشفوع له، ولأجل أنه مقام تكريم لا يؤذن به إلا لعباد لله من المكرمين من أنبياءه ورسله وأولياءه وصالح المؤمنين والشهداء والصديقين، وقد ثبتت الإشارة على شفاعة الأنبياء والمؤمنين في حديث واحد في صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: فيقول الله : شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقى إلا أرحم الراحمين[مسلم:183]، وفي المسند من حديث أبي سعيد مرفوعاً: ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً، فيخرجونهم منها، قال: ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبداً في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها [رواه أحمد: 11096].
قال الشيخ مقبل: "الحديث بهذا السند حسن" [الشفاعة للوادعي: 1/119].
إن شفاعة المؤمنين لإخوانهم يوم القيامة من الأدلة العظيمة على الولاء بين المؤمنين، الأخوة الإيمانية، الصحبة الطيبة ماذا تنتج؛ لأن من كان له صحبة طيبة ينفعونه الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
ولذلك تأمل -يا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة- كم يكون لك المنفعة بمرافقة الأخيار والحرص على مجالسة الأبرار، وأن هؤلاء يوم القيامة ينفعونك، بينما الأشرار والفجار يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، بل قال الله -تعالى-: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ [فصلت: 29].


ولنتأمل أن كيف هؤلاء المحبين والأخلاء الصادقين يناشدون ربهم، ويشفعون لإخوانهم، ويحرصون عليهم، ويسألونه سؤال المُلحف، روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري في حديث المرور على الصراط، قال في الناس الذين سقطوا في النار من الموحدين، ثم يُشفق المؤمنون على إخوانهم هؤلاء الذين في النار، وسقطوا فيذهبون لمناشدة الله، قال ﷺ: فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق، قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار، إذا رأوا أنهم قد نجوا [رواه البخاري: 7439، ومسلم: 183].
المؤمنون الكبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يعني: ما منكم من أحد يناشد الله -تعالى- في الدنيا في استيفاء حقه، أو استقصائه، وتحصيله من خصمه، والمتعدي عليه بأشد من مناشدة المؤمنين لله -تعالى- في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة.
خُذ أكثر واحد يناشد الآن في الدنيا ويُلح، المؤمنون يوم القيامة يناشدون الله أشد منه، لمصلحة إخوانهم الذين سقطوا في النار بسبب المعاصي والكبائر والذنوب، فيلحون على الله من أجل إخوانهم، ماذا يقولون؟ جاء في الحديث الصحيح: يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار [رواه البخاري: 7439، ومسلم: 183].
فإذاً الوجوه تبقى محفوظة، وإلا إذا احترقت تشوهت، وذهبت المعالم كيف سيعرفونهم، فالله -تعالى- يُحرم الصورة على النار حتى يعرف المؤمنون الشافعون إخوانهم الذين يُعذبون لكي يخرجوهم، قال: فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40].


قال: فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتحشوا [رواه البخاري: 7439، ومسلم: 183].
احترقوا، ماتوا صاروا فحماً، لو كانوا من المخلدين من المشركين الكفار ما يموتون،لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36].
لكن هؤلاء ناس احترقوا وماتوا في النار امتحشوا تفحموا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون كما تنبت البذرة، ويدخلون الجنة، وليست شفاعة الشفعاء من المؤمنين يوم القيامة على درجة واحدة بطبيعة الحال، بل يتفاوتون بحسب منزلتهم عند الله.
روى الإمام أحمد -رحمه الله-، انظر فضل الله العظيم على بعض الناس وكيف أهمية الأولياء أولياء الله، يعني: عندما يكون هناك في الأمة أولياء لله كيف تكون منفعتهم عظيمة يوم الدين، ليس فقط في الدنيا يحفظ الله بهم جيرانهم وأهاليهم والبلد، يوم القيامة أيضاً يكون لهم نفع عظيم جداً جداً، وما هم أنبياء هؤلاء ليسوا أنبياء، قال ﷺ: ليدخلن الجنة بشفاعة الرجل الواحد ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومُضر [رواه أحمد: 22269، وحسنه الألباني السلسلة الصحيحة: 2178].
قبيلة ربيعة وقبيلة مُضر كم عددهم؟ هذا واحد من المؤمنين يدخل الجنة بشفاعته عدد قبيلتي ربيعة ومُضر، من أكبر قبائل العرب، رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيحه وفي تحقيق المسند صحيح بطرقه. [مسند أحمد: 5/257].
وكذلك روى الإمام الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: إن من أمتي من يشفع للفئام من الناس، ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخل الجنة [رواه الترمذي:2440، وضعفه الألباني ضعيف الجامع الصغير: 2002].


وهذا الحديث فيه ضعف ولكن معناه في الجملة صحيح، أن الشفاعين يتفاوتون، ومعنى: يشفع للفئام الجماعة من الناس، والعصبة، سنعيد الحديث أو سنعيد هذه النقطة وهي: شفاعة الصالحين، سنعيد الأحاديث التي فيها، والعصبة ما بين العشرة إلى الأربعين، مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، العصبة: من العشرة إلى الأربعين من الرجال.
وكذلك روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن أبي الجدعاء أنه سمع النبي ﷺ يقول: ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم، كم عدد بني تميم؟ "فقالوا: يا رسول الله سواك؟ يعني: ظنوا أنه هو الذي غيرك يعني واحد غيرك، قال: سواي سواي[رواه الترمذي: 2438، وأحمد: 15895، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 3646].
لتأكيد على أن هذا الرجل غير النبي ﷺ، بشفاعة رجل من أمتي رجل من بني تميم، من هو؟ قيل أبو بكر الصديق، قيل: عثمان بن عفان، قيل: أويس القرني، لا نستطيع أن نُعينه بدون دليل صحيح لكن لا شك أنه من كبار أولياء الله، فواحد يدخل الجنة بسببه أكثر من بني تميم، واحد ستكون شفاعته إلى هذه الدرجة.

شفاعة الشهداء

00:25:34

ماذا عن شفاعة الشهداء؟ روى والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد كرب قال: قال رسول الله ﷺ: للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له في أول دفعة، يعني: من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوته منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفع في سبعين من أقاربه [رواه الترمذي: 1663]، وفي رواية: كلهم قد وجبت لهم النار، كلهم استحقوا دخول النار. [رواه ابن ماجه: 2799، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 1375] ، تقبل شفاعة الشهيد في هذا.
أيضاً من الناس الذين تؤثر شفاعتهم بعض الأبناء لبعض الآباء، وبعض الآباء لبعض الأبناء، لا سيما الأطفال الصغار الذين يموتون في حياة آبائهم ويصبر آبائهم على فقدهم.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي حسان قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان فما أنت مُحدثي عن رسول الله ﷺ بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟" هذا الطلب جميل يعني يطلب من أبي هريرة، يقول: مات لي ابنان لو تحدثني بحديث تسري عني، "قال: نعم، صغارهم دَعَامِيصُ الجنة، يتلقى أحدهم أباه أو، قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى أو قال، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة [رواه مسلم: 2635].
إذاً الصغار الذين ماتوا قبل البلوغ قال: دعاميص الجنة، جمع دعموص والدعموص أصلاً في اللغة دويبة في الماء لا تفارقه، والمقصود بها هنا أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها.
فإذاً الدعاميص هؤلاء دعاميص الجنة يأخذ الواحد بيد أبيه وأمه ويدخل بهما الجنة، وصنفة الثوب طرفه، وقوله: لا يتناهى حتى يدخله الجنة، يعني: لا يتركه حتى يدخله الجنة، وفي المسند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله، وإياهم بفضل رحمته الجنة، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يجيء أبوانا، قال: ثلاث مرات، فيقولون: مثل ذلك فيقال لهم ادخلوا الجنة أنت وأبواكم حديث صحيح. [رواه أحمد: 10630، وصححه الألباني صحيح الجامع: 5780].


وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب، أنى لي هذا، يعني: أنا أعرف عملي ما يوصلني لهذه الدرجة، فمن أين، قال: فيقول باستغفار ولدك لك [رواه ابن ماجه: 3660، وأحمد: 10618]. وحسنه الألباني. [السلسلة الصحيحة: 1598].
قال السندي -رحمه الله-: "فينبغي للولد أن يستغفر للوالدين". [حاشية السندي على ابن ماجه: 7/66] ؛ لأن كثرة الاستغفار للوالدين ستنفعهما يوم الدين، أما شفاعة أرحم الراحمين فإنه يشفع، فإن قال قائل: كيف يشفع ولمن يشفع؟ هو يُشفع عنده؟
فالجواب: يشفع إلى نفسه حيث وقفت أقدام الخلق، وانقطعت شفاعتهم، ولا يستطيع أحد أبعد من ذلك، فهنا يشفع رب العالمين إلى نفسه بإخراج هؤلاء، وفي صحيح مسلم من حديث أبو سعيد الطويل في الشفاعة: فيقول الله : شفعت الملائكة، وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبقى إلا أرحم الراحمين [رواه مسلم: 183].
وفي رواية البخاري: فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة [رواه البخاري: 7439، ومسلم: 183].
ومن هنا تظهر بعض آثار أسماء الرب وصفاته، وكيف أن رحمته سبقت غضبه، وأن عفوه سبق عقابه، ولأجل ذلك كانت شفاعته إلى نفسه في شأن خلقه من أعظم ما ينجي أهل العذاب من العذاب، بل لولا سبق رحمته وعظيم بره ما كان قبل شفاعة شافع، ولا أقال عثرة عاثر، فسبحانه من رحمن رحيم يُحب العذر، ويقيل العثرات، ونظير هذا والله أعلم قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 50].


وقد روى مسلم -رحمه الله- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: فقدت رسول الله ﷺ ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك [رواه مسلم: 486].
فكل أحد إذا خفته تفر منه إلا الله فإنك إذا خفته هربت إليه، وإلى أين المهرب من الله؟ والحاصل أن مقام شفاعة الله إلى نفسه لرحمة خلقه وإخراجهم من النار تظهر فيها منة المنان، قال رسول الله ﷺ: ليتحمدن الله يوم القيامة على أُناس ما عملوا من خير قط، وفي رواية وفي بعض النسخ: ليتمجدنهفيخرجهم من النار بعدما احترقوا، فيدخلهم الجنة برحمته بعد شفاعة من يشفع [رواه أحمد: 9190، وقال المحققون: حسن لغيره ].
ومعنى التحمد والتمجد هنا إظهار منته عليهم، ومجده وكرمه، ولا شفاعة أصلاً في كل الأحوال السابقة إلا بإذن الرحمن ، وقد قال في أعظم آية في القرآن:  مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:  255]، وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى[النجم: 26].


يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]، فإذاً من عظمته أنه لا يتجاسر أحد أن يطلب الشفاعة إلا أن يأذن الله له، فأعلمنا في كتابه أن الملائكة مع كثرة عبادتهم وكرامتهم عند ربهم لا يشفعون إلا بإذن من الله، ولذلك لا يمكن أن يشفع الكفار ولا تقبل الشفاعة في الكافر، وصدق الله إذا قال: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15].
روى مسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده، متاع أثاث يزين البيت من فُرش ونمارق وستور، فلما أن كان ذات ليله قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه، فكأنه أبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله ﷺ: لا يكون اللَّعَّانُونَ شهداء يوم القيامة [رواه مسلم: 2598].
قال العظيم آبادي في عون المعبود: "معناه لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، ولا شهداء". [عون المعبود: 5/182].
هؤلاء الذين يكثرون اللعن يحرمون من أن يكونوا شهداء يوم القيامة، المكثرون من اللعن والمكثرات من اللعن والذي على لسانه اللعن باستمرار، لا يكونون شهداء في ذلك ثلاثة أقوال:
قال النووي: "أصحها وأشهرها لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ الرسل إليهم الرسالات، وهذا قد مضى شرحه، كيف تكون هذه الأمة تشهد لكل نبي أنه بلغ قومه.
والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا أي لا تُقبل شهادتهم بفسقهم، اللعان لا تقبل شهادته، والثالث: لا يُزرقون الشهادة في سبيل الله، فيحرمون بسبب كثرة لعنهم من أن يقتلوا في سبيل الله شهداء". [شرح النووي على مسلم: 16/149].

أسباب نيل الشفاعة

00:35:55

الأسباب التي تنال بها الشفاعة ينبغي علينا معرفتها حتى نستكثر منها لكي ندخل في هذه المسألة العظيمة؛ لأننا نحتاج للشفاعة يوم القيامة، يعني: هذه الشفاعة التي لها عدة أنواع.
يوم تجثو كل أمة في دياجير مدلهمة.
وتكون الخطوب والكروب، ولذلك فإن سعي العبد لإدخال نفسه في الشفاعة بوسيلة من الوسائل أمر مهم، ولنستعرض بعض أسباب الشفاعة لأهمية ذلك:
أولاً: الإخلاص: وعدم الشرك بالله -تعالى-، وهذا الشرط الذي لا تقبل الشفاعة لأحد من دونه، قال ﷺ: لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً[رواه البخاري: 6304].
إذاً تنقية النفس من الشرك، البُعد عن الشرك، البعد عن الاستغاثة بغير الله والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والحلف بغير الله، الشرك بجميع أنواعه وبجميع درجاته وصوره وأشكاله، وحتى على جهة الألفاظ هذه التي يتسأل فيها الناس: لولا الله وفلان، ما شاء الله وشئت.
ولذلك فإن النبي ﷺ: "لما سأل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال للسائل وهو أبو هريرة: يا أبا هريرة لا يسألني لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه. [رواه البخاري: 99].
قال ابن حجر -رحمه الله-: "من قال لا إله إلا الله احتراز من المشرك، والمراد بقوله: لا إله إلا الله، يعني: ومحمد رسول الله أيضاً"، فاكتفى بالجزء الأول بذكره عن الجزء الثاني وإلا المراد الأمران معاً، ومعنى خالصاً: هذا فيه احتراز من المنافقين.


قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، إذاً: خرج المشركون والكفار، طيب وخالصاً من قلبه خرج المنافقون، أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة هؤلاء، فالمؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإن قيل: والكفار يعني ينالهم شيء؟
نقول: نعم، الشفاعة لأهل الموقف أن ينفض الموقف ويبدأ الحساب ما يستفيد منها الكفار، أبو طالب في النار ما يستفيد من الشفاعة وهو خالد في النار، وأهل الكبائر والعصاة الذين في النار يستفيدون بالخروج، لكن من أسعد الناس بالشفاعة؟ من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص، خالصاً من قلبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون دون أهل الشرك"، أي: شفاعة هذه؟ ما يتعلق بدخول الجنة، والخروج من النار، أما في الموقف حتى الكفار يستفيدون، ينتهي هذا لكن طبعاً سيساقون إلى ما هو أشد عذاب النار أشد من كربات الموقف، ولو كان المشرك محباً له معظماً له لم تنقذه شفاعته من النار، وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به، ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه، ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لا يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها.
فهذا فيه رد على من قال: أنا مجرد حبي القلبي للنبي يكفيني في النجاة، نقول: لا، ما يكفيك، أبو طالب كان يحب النبي ﷺ وما نجا، ولذلك لو كان المشرك محباً له معظماً؛ لأن بعض غلاة الصوفية الذين يصلون للشرك وفعلاً إذا قال لك: أنا أحب النبي لا يكذب، هو فعلاً يحبه هو لا يكذب، لكن ما تنفعه حتى تكون المحبة شرعية، ما هو مجرد ميل القلب لازم يكون شرعية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[آل عمران: 31].


ولا بد أن يكون موحداً، فإذا قد يوجد من المشركين من يحب محمداً ﷺ ولكن هذا لا ينفعه حتى يكون مؤمناً بالله موحداً خالصاً في توحيده.
قراءة القرآن وحفظ القرآن: من الأسباب العظيمة الجالبة للشفاعة، روى مسلم عن أبي أُمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهم، فقوله ﷺ: اقرءوا الزهراوين، طبعاً سميتا بذلك لنورهما وعظيم أجرهما، الغمامة والغياية كل ما أظل الإنسان من سحابة وغير ذلك، ومعنى ذلك أن ثواب القراءة، أو فعل العبد بالتلاوة نفسها يأتي غمامة، والله يجعل المعنويات حسيات؛ لأنه على كل شيء قدير، فتلاوتك يا مسلم تأتي يوم القيامة تُظلك تكون سحابة غمامة، وورد أيضاً عن النبي ﷺ أنه قال في القرآن: القرآن شافع مُشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، [رواه الطبراني في الكبير: 8655]، وصححه الألباني [السلسلة الصحيحة: 2019].
ومعنى ماحل؟ يعني: الذي يسعى في أمر من الأمور ويجد في ذلك، والمعنى بالنسبة للقرآن من اتبعه وعمل بما فيه فالقرآن يكون شافعاً له، وتكون شفاعة القرآن مقبولة، وأما من ترك العمل به فإنه يشهد عليه بالتقصير والتضييع.


ثالثاً: من أسباب الشفاعة: تلاوة القرآن في الليل والتهجد به والصيام، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات في النهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشفعان [رواه أحمد: 6626، وصححه الألباني صحيح الترغيب: 1429] حديث صحيح.
وهذا أيضاً من أمور الغيب وفعل العبد من التلاوة والصيام يوم القيامة تأتي وتشفع.
رابعاً: طلب الوسيلة للنبي ﷺ بعد الأذان: روى البخاري عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آتي محمد الوسيلة، هذه الوسيلة درجة عظيمة في الجنة منزلة علية لا تنبغي إلا للنبي ﷺ، آت محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، ماذا يكون لمن قال هذا الكلام؟
قال: حلت له شفاعتي يوم القيامة[رواه البخاري: 4719].
الوسيلة أصلاً ما يُتقرب به إلى الكبير، وتطلق على المنزلة العلية أيضاً، وقد فسرها النبي ﷺ في صحيح مسلم بقوله: فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وإني لأرجو أن أكون أنا هو [رواه مسلم: 384].
والفضيلة مرتبة زائدة على سائر الخلائق، ومقام محمود والمقام المحمود هو الذي يحمده عليه الخلائق، والذي وعدته جاء في القرآن: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء: 79].
فوعده الله -تعالى- بذلك، من قال هذا حلت له استحقت ووجبت ونزلت عليه شفاعتي يوم القيامة.
خامساً: سكنى المدينة النبوية والصبر على لأوائها وحرها وشدتها: روى مسلم عن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً، أو شهيداً يوم القيامة [رواه مسلم: 1363].
إذاً الشاهد: إلا كنت له شفيعاً، نقل القاضي عياض عن بعض شيوخه أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي بإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته ﷺ يوم القيامة.

ما هي هذه الشفاعة؟

00:46:57

قال: "وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش، أو كونهم في روح على المنابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من الكرامات". [إكمال المعلم: 4/250].

المشرك لا تنفعه الشفاعة

00:47:22

ما حال المشركين في الشفاعة؟ الشفاعة فضل وكرم من الله ولا يُقدم عليها إلا من أذن له الله، والله لا يمكن أن يأذن في الشفاعة لمشرك، وقد قال إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ[الزمر: 7].
دين الله لا يرضى عنه الكافرون، والله لا يرضى عنهم: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 96].
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم: 45]، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7]، ولذلك كانت الشفاعة خاصة بالمؤمنين.
طبعاً أي شفاعة نتكلم عنها الآن شفاعة الخروج من النار، الشفاعة في إدخال الجنة هذه لا يمكن أن ينالها الكفار، الكفار يستفيدون من شفاعة المقام المحمود تبعاً لغيرهم من الناس، أن يُفرج عنهم بعد المدة الطويلة ولكن ماذا سيستفيدون إذا كانوا سيذهبون إلى النار في الحقيقة، لكن شفاعة في الخروج من النار، شفاعة في دخول الجنة، هذه لا ينالها الكفار أبداً، قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر: 48].
بل إنهم يقولون متندمين يوم القيامة في النار: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ۝ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ۝ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 100- 102].
وقال النبي ﷺ: فأنا أشهدكم أن شفاعتي لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمتي[رواه أحمد: 24048، وقال المحققون: إسناده صحيح مسند أحمد: 6/29].


فهذا الحديث الصحيح والآخر: فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً [رواه مسلم: 199]، يدل على أن المشرك لا تناله هذه الشفاعة، وتُحمل جميع الآيات التي تنفع الشفاعة يوم القيامة، أو تكون فيها نافعة على هذا المعنى.
فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ[البقرة: 254].
أخبر -تعالى- أنه سيأتي اليوم الذي لا تنفع فيه الشفاعة للكفار، ولا يشفع بعضهم لبعض، ولا يشفع لهم غيرهم، لا يشفع فيهم غيرهم، والكافرون هم الظالمون.
أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 48]، أنها النفس الكفارة، وليس كل نفس كما قال القرطبي -رحمه الله- [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/379].
إذاً يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، وقوله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 48]، ما هو المقصود بالنفي هنا؟ الشفاعة للكفار أو في الكفار، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 51]، اليهود والنصارى لما زعموا أن أباهما يشفع لهما لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباءه، أعلمهم أن الشفاعة لا تكون لهم، وقوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ[البقرة: 48].
قال ابن كثير: "يعني من الكافرين". [تفسير ابن كثير: 1/301].


كما قال: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر: 48]، وكما قال عن أهل النار:  فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وكما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91].
هذا معنى ولا يؤخذ منها عدل لا يؤخذ منها فك رقبة، لا يؤخذ منها شيء يعتقها، لا يؤخذ منها مقابل ينجيها، الإنسان في الدنيا إذا وصل على مكان ضيق شدة أحياناً يدفع رشوة، يدفع شيء يخلص نفسه من سجن من تعذيب يخلص نفسه، يوم القيامة ما في، تنبيه ورد في حق أبي طالب عم النبي ﷺ ما رواه البخاري ومسلم: "أن العباس ابن عبد المطلب قال -العباس أخو أبو طالب كلاهما عم النبيﷺ العباس يقول للنبي ﷺ: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟
العباس قلق على مصير أخيه، "فيقول العباس للنبي ﷺ: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟! قال:هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار [رواه البخاري: 6208].
وفي رواية في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه[رواه البخاري: 3885، ومسلم:210].
فقوله: "ما أغنيت عن عمك؟" يعني أبا طالب، "كان يحوطك" من الإحاطة وهي المراعاة وكان أبو طالب عضداً وناصراً يدافع عن النبي ﷺ ومنعه لو كان أبو طالب تخلى عنه لنالوه بأشياء عظيمه، ولذلك لما هلك أبو طالب نالت قريش من النبي ﷺ ما لم تكن تستطيع أن تناله وأبو طالب على قيد الحياة.
حتى يُروى أن سفيهاً من سفهاء قريش اعترض النبي ﷺ ووضع التراب فوق رأسه، فيقول العباس: "كان يحوطك" يعني أبو طالب ويغضب لك، يرد عنك الأذى، قال: هو في ضحضاح، الضحضاح من الماء هو ما يبلغ الكعب، والمعنى خُفف عنه العذاب بسببي، هو رفض أن يقول كلمة التوحيد، ورفض أن يُسلم.
يعني: مُشرك مات على الكفر، يعني مُخلد في النار، وعذاب المشرك في النار في سواء الجحيم، لكن بسبب النبي ﷺ خُفف عن أبي طالب، لكن الشفاعة ما تنفع المشرك في الخروج من النار، لكن حالة خاصة لأبي طالب بشفاعة محمد ﷺ.
فتبين أن النبي ﷺ نفع عمه بتقليل العذاب لكن لأن الله حكم على المشركين أنهم لا يخرجون من النار أبداً.
فلا بد أن يبقى فيها، قال ابن حجر -رحمه الله-: "واستشكل قوله: تنفعه شفاعتي، مع قوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48].
وأجيب: بأن هذا خُص به النبي ﷺ وعدوه في خصائصه، ويقال أيضاً: المنفعة المنفية فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر: 48]، يعني: في الخروج من النار، والمنفعة التي حصلت هي منفعة تخفيف، وليست منفعة خروج". [فتح الباري: 11/431].


فإذاً الشفاعة التي لا نصيب للكفار فيها شفاعة الخروج من النار، قال تعالى:  يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة: 37]، دائم ومستمر وكذلك الشفاعة في دخول الجنة لا تنالها نفس مشركة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الأحاديث المستفيضة عن النبي ﷺ في الشفاعة فيها استشفاع أهل الموقف ليُقضى بينهم وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه نوع شفاعة للكفار" -وسبق أن ذكرنا ذلك- ثم قال: فهذا نص صحيح صريح لشفاعته في بعض الكفار أن يُخفف عنه العذاب" -يعني في قصة أبي طالب- "بل في أن يُجعل أهون أهل النار عذاب كما في الصحيح أيضاً عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه [رواه مسلم: 212]،" [مجموع الفتاوى: 1/117].
إذاً: أهون أهل النار عذاباً أهون واحد من يُلبس نعلين من نار يغلي منهما دماغه، وإنه ليظن أنه أشدهم عذاباً وإنه لأهونهم، ولو قال قائل: هذا يعني أبو طالب أهون من العصاة؟ فالظاهر والله أعلم أن المقصود أهون المشركين عذاباً.
تنبيه آخر: قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في سؤال العباس عن حال أبي طالب: هذا يدل على ضعف رواية جاءت أن العباس دخل على أبي طالب، وقبل أن يموت، يعني: قبل أن تنزع عنه الروح مباشرة، وهو يُحرك شفتيه فأصغى إليه، ثم قال للنبي ﷺ: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي يعني أبو طالب الكلمة التي أمرته أن يقولها". [السيرة النبوية لابن إسحاق: 1/85].


فهذا حديث ضعيف ولا يصح وكل الأحاديث الصحيحة تناقضه، وفي هذا الشأن ولذلك فإن ضعفه معلوم بالأحاديث الأخرى ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود من حديث علي قال: "لما مات أبو طالب"، أبو طالب هو أبو علي، وعلي يعني: ابن عم الرسول ﷺ عزيز على نفس النبي ﷺ وأول واحد أسلم معه من الصبيان، "لما مات أبو طالب، -يقول علي : جئت للنبي ﷺ قلت: يا رسول الله! إن عمك الشيخ الضال قد مات، جاءه بالخبر"، انظر التربية على الإيمان والبراءة من الشرك وأهله.
الآن علي يتكلم عن أبيه، يصف أباه، يقول للنبي ﷺ: إن عمك وهو أبوه، "إن عمك الشيخ الضال قد مات"، يعني: أن الآن ماذا أفعل به، يعني: علي من صغره وهو يعرف البراءة من المشركين، ويسأل الآن ماذا سيفعل مع جثة أبيه، "إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواريه، قلت: إنه مات مشركاً، قال: اذهب فواريه [رواه أبو داود: 3214، والنسائي في الكبرى: 2133].
فالنبي ﷺ أمره بدفنه وعلي مصر هو مات مشرك، قال: اذهب فواريه، وصححه الألباني في إرواء الغليل [3/170].
معناها أن الكافر يُدفن لكن لا يُغسل، ولا يُصلى عليه، ولا يُدعى له بالرحمة لكن يدفن، النبي -عليه الصلاة والسلام- دفن قتلى بدر من المشركين.
قال الحافظ -رحمه الله-: "ووقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولا يثبت في ذلك شيء". [فتح الباري: 7/194].

الفرق التي خالفت في موضوع الشفاعة

00:59:58

موضوع الشفاعة -أيها الإخوة والأخوات- ظل فيه أُناس ثلاث فرق رئيسة ظلت في الشفاعة:
الفرقة الأولى: علقوا آمالهم في الشفاعة على غير الله، واتخذوا من دون الله شفعاء وجعلوهم له شركاء في العبادة، تعالى الله عما يقول هؤلاء الظالمون علواً كبيرا، قال أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ۝ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر: 44].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "ينكر تعالى على من اتخذ من دونه شفعاء يتعلق بهم ويسألهم ويعبدهم، قل لهم مبيناً جهلهم أولو كانوا، يعني: المتخذين لا يملكون شيئاً لا مثقال ذرة ولا أدنى من ذلك في السموات، ولا في الأرض، بل ليست لهم عقول". [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 1/726].
لأن الكفار يتخذون هُبل شفيعاً واللات والعزى شفعاء، جمادات أشجار أحجار يتخذونها شفعاء، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا، أمر الشفاعة كله لله، ولا يقدر أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه، وله ملك السموات والأرض، فإذا كانت الأولياء القريبين من الله الملائكة لا تقبل لهم شفاعة إلا بإذن رب العالمين، فكيف بهذه الأحجار والأشجار؟ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26].
وهذا توبيخ من الله لعبدة الأوثان في الحقيقة، ولكفار قريش والعرب والمشركين الذين كانوا يصرون على أن يعبدوا الأصنام، ويقولون يقربونا إلى الله زلفى ويشفعون لنا عند رب العالمين.


فيقول الله: ما قبلت شفاعة ملائكتي إلا بإذني فكيف أُشفع هذه الجمادات، ولذلك الله يوبخ المشركين يوم القيامة على هذا الضلال ويقول لهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94]، أين الشفعاء؟ ليسوا معكم الآن، وقال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم: 13].
وقال تعالى: قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ، فهذه الفرقة التي ظلت في موضوع الشفاعة.
الفرقة الثانية: قوم قالوا بالشفاعة ولكن تواكلوا عليها، وزعموا أنهم لابد وسينالونها وحكموا لأنفسهم بما أنهم داخلين في الشفاعة وأن الشفاعة لهم، فهؤلاء من العصاة الذين يقولون: نحن أصلاً ستنالنا الشفاعة، وسنكون بخير يوم القيامة، قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:  99]، وقال أحدهم يُعبر عن هذا بشعره:

يقولون لي لما ركبت بطالتي ركوب فتى جم الغواية معتدي
أعندك ما ترجوا الخلاص به غداً فقلت نعم عندي شفاعة أحمد

[نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: 5/74].
يعني: صرت بطال ما في طاعات ولاهي وفي المعاصي، الغواية والاعتداء، يعني: شوف هذا الضال معتد بنفسه الآن وهو مستمر في الغواية وسادر في الضلالة وفي المعاصي ويقول عندي شفاعة أحمد، فهؤلاء الناس الذين ضلوا في هذا المقام في التواكل عليها، وسول لبعضهم الشيطان أنه بمجرد زيارة قبر النبي كله ممسوح، فيقول قائلهم:

وجبت شفاعته لزائر قبره وكذا الحديث وفي الحديث شفاء

ويقول الآخر:

من زاره وجبت شفاعته له فنجى من الزقوم والقطران

 

طيب ما هو معتمدهم؟ قالوا: حديث، هاتوا الحديث، قالوا الحديث: من زار قبري وجبت له شفاعتي [سنن الدارقطني: 2726، وقال الألباني: موضوع صحيح الجامع: 5607]، والحديث موضوع، مكذوب، وهذا من تعلقهم بالقبور.
قال: تزور القبر حلت الشفاعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما قوله: من زار قبري وجبت له شفاعتي، وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره ﷺ فليس منها شيء صحيح، ولم يروي أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئاً" [مجموع الفتاوى: 27/29].
وهؤلاء يسألون النبي ﷺ في الدنيا بعد موته أن يشفع لهم، وهذا شرك لا ريب فيه"، لأن الدعاء هو العبادة، يعني: بدل ما يسأل الله يقول: اللهم ارزقنا شفاعة نبينا، يذهب للقبر ويقول يا رسول الله اشفع لي، يا أخي مات، لا يعقلون شيئاً ولا يفهمون، والذين عبدوا من دون الله أولياء أو ملائكة أو صالحين ليشفعوا لهم سيحرمون من شفاعتهم يوم القيامة؛ لأنه لا يمكن للأنبياء والصالحين والملائكة أن يشفعوا للمشركين، لا يمكن أن تشفع لمشرك، فهم يظنون أنفسهم سيستفيدون من شفاعة هؤلاء، فينذرون لهم ويسألونهم في القبور، ويطوفون بقبورهم ويعبدونهم ويقولون يقربون زلفى عند الله، يشفعون لنا يوم القيامة، يوم القيامة سيتبرءون منكم قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء: 57].
قال طائفة من السلف: "أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا" [تفسير ابن تيمية:  3/249].


أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني الذين يدعونهم الكفار من دون الله، كالمسيح وعزير والملائكة هم يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ "، هم يعبدون الله، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، فأنتم الآن دعوتم أشخاص موحدين لله، تشركون بالله ، تشركون فيهم مع الله، ثم تقولون: يشفعون لنا يوم القيامة، هؤلاء الذين عبدتموهم وأشركتم بهم هم موحدين، ولن يشفعوا لكم يوم القيامة.
قال: "فبين أن هؤلاء المزعومين الذين يدعونهم من دون الله كانوا يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، ويتقربون إليه بالأعمال الصالحة كسائر عباده المؤمنين، وقد قال وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80].
وللناس في الشفاعة أنواع من الضلال فمنهم من يظن أن الشفاعة بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له، ومنهم من يقول: من أكثر على النبي ﷺ الصلاة من كان أكثر صلاة كان أحق بالشفاعة من غيره، وكذلك من كان أحسن ظناً بشخص وأكثر تعظيماً له كان أحق بشفاعته.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذا غلط بل هذا هو قول المشركين، الذين قالوا نتولى الملائكة ليشفعوا لنا، يظنون أن من أحب عبداً من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه كان ذلك سبباً لشفاعته له، وليس الأمر كذلك" [الحسنة والسيئة: 2/165].
ماذا يقصد شيخ الإسلام؟ يقصد الاقتصار على محبته مع الوقوع في الشرك، وإلا محبة النبي والولي والملك عبادة نحن نحب الأنبياء والملائكة والأولياء نحبهم ويجب أن نحبهم، لكن يقول: بعض الناس يظنون مجرد محبة الولي تجعلك من أهل شفاعته يوم القيامة، حتى لو كنت مشركاً، ولا ما تصلي.
فيقول شيخ الإسلام: "ليس الأمر كذلك بل الشفاعة سببها توحيد الله وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها" [الحسنة والسيئة: 2/165].


يعني: سبحان الله، انظر الآن الملك أو النبي أو الولي يوم القيامة سيشفع عند من؟ عند الله، فهؤلاء العجيب يعني يتركون الله يتركون توحيده ويشتغلون بمراعاة النبي والولي، الآن أنت تراعي النبي والولي وتترك الله، صحح علاقتك مع الله أولاً، ثم التفت إلى عباده، فيأتي هؤلاء ويشركون مع الله في الأولياء والأنبياء ويتركون العلاقة مع الله ولا يصححونها، ثم يقولون: سننال شفاعة الشافعين، فأحق الناس برحمة الله وأحق الناس بالشفاعة هم أهل التوحيد والإخلاص.
الفرقة الثالثة: الذين ظلوا في الشفاعة أنكروها كالخوارج والمعتزلة بناءً على أصلهم الفاسد كما تقدم، فأهل السنة أجمعوا عليها والخوارج والمعتزلة منعوها، وقالوا: أهل الكبائر مخلدين في النار، وما تنفعهم شفاعة، فليس هناك شفاعة أنكروها، بعض المعاصرين ممن يسمون بالمتنورين وأنا أقول: التنوريين نسبة للتنور المحرق، هؤلاء بعضهم سوى بين الشفاعة عند الله والشفاعة التي تحدث من الرعية للحكام، وقاسوا هذه على هذه، فيقول أحدهم ممن له برامج تلفزيونية وغير ذلك، يقول: فالمخلوق أحياناً يقبل الشفاعة، إلزاماً إما لوجود مصلحة تسعى إليها قرابته، أو إلزاماً من حزبه لتبقى عليه سيادته، أو لفضل من المملوك على المالك، أو قدرته على زوال أوصاف أذن بزوالها الخالق، أو التحكم في نقاط ضعفه بإذاعة أخباره، وكشف ما هو مستور من سوء أسراره، فيضطر الحاكم، أو المالك إلى قبول الشفاعة من المحكوم، والتغاضي عن العدل أو إنصافه المظلوم مجبراً مكرهاً لا مُخيراً، وهذه الفوضى والمحسوبية هو يقيس فيها يقول يعني إن الله يقبل الشفاعة، يقول إذا كان المخلوق يُحرج ويقبل كيف يعني.
فالله كيف يقيس الله على المخلوق؟! وهل الله يُحرج من أحد؟! وهل الله يحتاج إلى أحد؟! نعم المخلوق ممكن خوفاً أو سبب يمشي شفاعات ويقبل، لكن الله ما يمشي عنده هذا الكلام، ولذلك فإن من أعظم الضلال قياس الله على خلقه، وهذا يقول ويدعي أن الشفاعة التي وردت في الآيات تخالف ما جاءت في الأحاديث من كلمات، وخلط ما جاء في أهل الشرك وما جاء في حق عصاة المؤمنين.
على أية حال الشفاعة منزلة عظيمة ولها أسباب وقد عرفنا بعض الأعمال التي يُزرق أصحابها الشفاعة بسببها، نسأل الله أن يرزقنا شفاعة نبيه ﷺ، وأن يجعلنا من الناجين يوم الدين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.