إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد تحدثنا في الموضوع الأول عن اليوم الآخر، ونبدأ هذا الموضوع ببداية اليوم الآخر وهو النفخ في الصور.
أدلة النفخ في الصور
دل القرآن الكريم في كثير من آياته على إثبات النفخ في الصور لبعث الخلائق يوم القيامة، ولا شبهة عند أهل الإسلام أن الله خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة، وهذا القرن يسمى بالصور، على ما ذكر الله -تعالى- في كتابه في مواضع، وجعل الله نفخ الملك في الصور علامة على انتهاء حياة الناس في أرضهم التي يعمرونها، وبدأ ذلك اليوم الرهيب والعصيب وهو يوم القيامة، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20].
فاليوم هو اليوم الآخر يوم تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [البقرة: 281]، ويوفي الله المؤمنين بوعده لهم بالجنة، والكفار يأتيهم وعيدهم بالعذاب، يجمع الله الناس فيه جمعاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 99]، فيترك الله الخلائق يوم القيامة يختلط بعضهم ببعض.
وكلمة الموج هنا يموج بعضهم في بعض تدل على الحيرة والتردد الحاصل للخلق في ذلك المشهد العظيم، وقيل: المراد يأجوج ومأجوج إذا خرجوا، وانفتح السد يختلط بعضهم ببعض، ويضطربون لكثرتهم، هذا من الأقوال التي وردت.
وقوله أيضاً: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18]، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا[الكهف:99 ]، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20].
هذه الآيات تدل على أن هذا اليوم يبدأ بهذه النفخة، واضطربت أحوال الكون الذي عهده الناس، وانتهت المقاييس التي كانت في دنياهم، وانتهت قضية الأحساب وما كانوا يتفاخرون به، وتبدلت الأحوال غير الأحوال، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]،فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون: 101].
قال رجل لزهير بن نُعيم: ممن أنت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: ممن أنعم الله عليهم بالإسلام، قال: إنما أريد النسب، قال: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101]. [حلية الأولياء: 4/319].
فيتقن المكذبون حقيقة ما كذبوا به، لأنهم يرون الآخرة عياناً وتتولى عليهم مشاهدها، وتترى أهوالها، فيأخذ الخوف بقلوبهم، وحلوقهم، وتتغير أحوالهم وألوانهم، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا[طه: 102]، تغير الألوان عند النفخ في الصور، سيحشرون زرقاً، ويحشر المؤمنين إلى الرحمن وفداً مكرمين، ويحشر المجرمون عطاشاً زرق الألوان من الخوف والقلق والاضطراب، فيوقن الجميع عند ذلك بيوم الحق، وأنه لا مجال للتكذيب، ولا منازع لله في سلطانه، وعرف الجميع النفخ عياناً، نحن الآن نعرفه علماً يقينياً، وعندما يحصل سنعيشه واقعاً حقيقياً، وننتقل من علم اليقين إلى حق اليقين، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 73].
خص الله -تعالى- يوم القيامة بالذكر بإثبات الملك لنفسه فيه مع أنه مالك الأولى والآخرة؛ لأن الملك في ذلك اليوم ليس فيه شبهة لأحد، ولا متعلق لأي إنسان، أما في الدنيا فالملك يقول: أملك، والسيد يقول: أملك العبد، ورب الدار يقول: أملكها.
يوم القيامة لا يوجد لأحد شيء من الملك، ولذلك قال: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ [الأنعام: 73]، يعني: ملكاً تماماً من جميع الوجوه، مع أن الملك الحقيقي له في الدنيا، فإن الله يملك كل مالك وما ملك، كلهم في ملك الله، لكن يوم القيامة ما لأحد تعلق بملك ولا شبهة له فيه، فلا يبقى إلا الملك الواحد القهار، وهنالك تكون الشدائد والكروبات، وتتقطع الأنساب وأوصال الكفار، وتفزع الناس تلك النفخة، فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 8 - 10].
فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، وجمع الله الخلائق للبعث والنشور فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر: 9] لكثرة أهواله وشدائده، غير يسير على الكافرين؛ لأنهم يأسوا من الخير، وأيقنوا بالهلاك والبوار، أما أهل الإيمان فإن الله ييسره عليهم.
قال بهز بن حكيم: "صلى بنا زرارة بن أوفى قاضي البصرة -وهو من أعلام التابعين- في مسجد بني قُشير فقرأ هذه الآية: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر : 8]، فخر ميتاً من هول ما استشعر من الآية"، نفخة الصعق، ونفخة البعث بعدها، "فخر ميتاً فكنت فيمن حمله إلى داره" وأورد القصة هذه في السير وصححها، وقال: "كان ذلك سنة ثلاث وتسعين للهجرة" [سير أعلام النبلاء: 4/516].
نفخة الصعق
أهل الغفلة يتمادون في غفلتهم حتى ينفخ في الصور، مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس: 49]، وقال ﷺ في حديث الدجال الطويل لما تأتي النفخة الأولى نفخة الصعق: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، الليت: جانب العنق وصفحة العنق، إذا نفخ نفخة الصعق على الجيل الموجود من الناس في الأرض، آخر جيل في البشرية الذين سيسمعونها في الأرض، ما في واحد إذا نفخ في الصور في الصعق إلا وهو يصغي ليتاً ويرفع ليتاً، يصغي يعني: يميل.
أول ما ينفخ كل واحد من الموجودين يمد عنقه ليسمع، فواحدة تميل من جنب والثانية ترتفع، إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً من هولها، قال ﷺ: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس [رواه مسلم: 2940].
معنى: يلوط حوض إبله يعني: يصلحه ويطينه، لأجل سقي الإبل، النبي ﷺ يخبرنا عن غيب المستقبل، أول واحد رجل يلوط حوض إبله يسمع النفخة، ثم يسمع الناس يتتابعون.
وقوله ﷺ: فيصعق ويصعق الناس يعني: أن أول من يسمعه ويصعق هذا، ثم يتبعه الناس، فلا هو تهنى بما تعب فيه من بناء حوضه، وكذلك الذي نشر الثوب ليبيعه، والذي يمد يده ليشتريه، والذي يرفع اللقمة إلى فيه ليأكله، ما أحد يتهنا بشيء؛ لأنها القاضية قد جاءت بهذه النفخة، ولهذا قال ﷺ: ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، هو ممدود الآن من البائع للمشتري ليفحصه، فلا يطويانه ولا يتبايعانه فقد جاءت النفخة قضي عليهم، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، حلب الناقة وانصرف بالإناء ليشرب منه فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أوكلته إلى فيه فلا يطعمها [رواه البخاري: 6506].
فاللبن لا يطعمه، واللقمة لا يطمعه، ولا يتهنا أحد بشيء.
ارتحل سيبويه إمام النحو إلى خرسان ليحظى عند واليها طلحة بن طاهر بن الحسين يعني بالجوائز والأعطيات يرجوا ذلك؛ لأنه كان يحب النحو، فمرض هنالك سيبويه مرضه الذي توفي فيه، وقال عند الموت:
يؤمن دنيا لتبقى له | فوفى المنية دون الأمل |
حثيثاً يروي طول الفسيل | فعاش الفسيل ومات الرجل |
الفسيل النخل الصغير، والحثيث النشيط المجتهد.
هذا يوم رهيب يذهل فيه اللبيب لو دام للعاقل ذكره لأذهب عنه لذة العيش، وأنساه نعيم الدنيا.
روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، كيف يطيب لي عيش؟ كيف أفرح وأتنعم بعيش وصاحب القرن الملك الموكل بالنفخ بالصور قد التقم القرن؟ إذاً وضعه في فيه، واستمع الأذن، ينتظر متى يؤمر، واستمع الأذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ، فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي ﷺ فقال المسلمون: يا رسول الله فما العمل؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا [ رواه الترمذي: 3243، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1078].
إذاً: نحن إذا تذكرنا وتفكرنا في هذه المسألة كيف العيش وصاحب القرن قد التقم القرن ينتظر الإذن، ماذا سنفعل؟ نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا فوضنا أمرنا إلى الله.
كان علي بن موسى -رحمه الله- يقول:
كلنا يأمل مداً في الأجل | والمنايا هن آفات الأمل |
لا تغرنك أباطيل المنى | والزم القصد ودع عنك العلل |
إنما الدنيا كظل زائل | حل فيه راكب ثم ارتحل |
[تهذيب الكمال: 21/152].
حقيقة الصور وصفته
ما هي حقيقة الصور وما هي صفته، ونحن سندقق في أحداث اليوم هذا لنعيشه واقعاً كما جاء في الكتاب والسنة وأقوال العلماء في شرح النصوص حتى يكون ذلك في حسنا ثقيلاً له وزنه.
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه حديث صحيح [ رواه الترمذي: 2430، وأحمد: 6507، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1080].
وفي حديث أبي موسى المتقدم: كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وذلك يدل على أن الصور أو القرن هو هذا الذي ينفخ فيه على المعروف في لغة العرب، القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عند بعث الموتى إلى المحشر كما قال ابن الأثير. [النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/60].
وقال ابن منظور: "والناقور الصور الذي ينفخ فيه الملك" [لسان العرب: 5/227]، ينقر: يعني ينفخ، نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر : 8]، يعني: نفخ في الصور.
جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قرأها: ونفخ في الصوَر، يعني: نفخ الأرواح في الأجساد. [زاد المسير: 14/53]، لكن هذا بعيد، وليس من القراءات المعتمدة عند أئمة القراءة، فلا الصوُر بمعنى الصوَر، ولا الصوُر أيضاً، وإنما المقصود بالصور هذا القرن الذي يُنفخ فيه.
ولو كان المقصود نفخ الأرواح في الأجساد لأضاف الله النفخ إلى نفسه، وقد قال:فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[ص: 72]، وقال: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا[الأنبياء: 91]، وقال: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون: 14]، النفخ في الصور النفخ في القرن، هومن فعل ملك الصور إسرافيل ، من أي شيء مادته؟ لم يثبت في ذلك شيء، والله تعالى أعلم.
وقد قال بعض أهل العلم: إنه من نور، أو من ياقوته، ولكن يحتاج إلى حديث صحيح؛ لأن هذا غيب، فإذا لم نعرف المادة فلا يضرنا لكننا نعرف أنه قرن ينفخ فيه، وشكل القرن أصلاً معروف، ولكن القرن الذي في فم الملك غير الموجود أمامنا في الدنيا، هذا غيب لم نشهده.
وكذلك فإن قوله ﷺ: كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، قال: وحنى جبهته، أمالها مبالغة في الإصغاء وإلقاء الأذن، قال: وأصغى سمعه، يعني: آمال أذنه ليسمع أمر الله، واستمع الأذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ.
فقوله في الحديث: واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ معناه: أن الالتقام والإصغاء والنفخ كله حق على الحقيقة، التقمه فعلاً، والقرن حقيقي.
تأويلات أهل الباطل للنفخ في الصور
وهذا فيه رد على المخرفين من المعاصرين الذين يقولون: إن هذا كناية ولا يوجد قرن حقيقي، ولا نفخ حقيقي، ويريدون تأويلات فاسدة وتفسيرات باطلة من عقولهم المريضة؛ لأن الذي لا يؤمن بالغيب إذا وردت عليه بعض هذه النصوص يروغ، يقول: لا هذا ما هو قرن، هذا لعله كذا، ولعله كذا، ويتأولون، وأن هذا كناية عن إعلان البعث، هذه الحروب كانت تقوم بالنفخ في الأبواق، يعني: إشعار قيام الحرب كان يتم عند أهل الجيوش بالنفخ بالبوق، أو بالنفخ بالقرن، يصنعون قرناً ينفخ فيه كي يتنبه الناس إلى الخطر، فالقرن قد التقمه ملك الصور الموكل بالنفخ.
وكذلك فإن أهل الباطل هؤلاء وصل بهم الأمر إلى أن يقول بعضهم: أن النفخ في الصور هو عبارة عن انفجار قنابل هيدروجينية ونووية تفني الكائنات على الأرض، طبعاً هذا كله من السخف، فترى بعض من ليس من أهل الوحي، ولا تأدب بأدب الشرع، ولا يقف عند النصوص، ولا يستسلم لقول الله ورسوله، إذا جاءت مثل هذه النصوص، يبحثون لها عن تأويلات عندهم، فيقول: لعله ستكون هناك حرب نووية وبيولوجية وهيدروجينية وانفجارات تفني كل البشر، وأن هذا هو النفخ في الصور، هذا كلام الله وكلام رسوله وهذا كلام العلماء في تفسيره، ثم نترك هذا كله لأجل أهل الباطل هؤلاء.
الملك الموكل بالنفخ في الصور
الملك الذي ينفخ في الصور وهو صاحب القرن ورد اسمه في الأحاديث، مثل: حديث أبي هريرة ورفعه إلى النبي ﷺ: إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان [رواه الحاكم في المستدرك: 8676، صححه الألباني في سلسلته الصحيحة: 1078].
إذاً فهو ينظر بعينيه جهة العرش دون أن تطرف له عين يخشى أن يأتيه الأمر في لحظة إهباط عينيه فلذلك هو ينظر نظراً شديداً ينتظر لا تطرف له عين، متى يؤمر بالنفخ، هكذا الملائكة عند أمر الله، الاستجابة الفورية.
وفي حديث البراء بن عازب عن النبي ﷺ: صاحب الصور واضع الصور على فيه منذ خلق، ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه فينفخ [أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: 11/39] والحديث في الصحيح الجامع [3752].
قال ابن حجر -رحمه الله-: "اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل ، ونقل فيه الحليمي الإجماع، ووقع التصريح به في حديث وهب بن منبه المذكور، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه، وكذا في حديث الصور الطويل الذي أخرجه عبد بن حُميد والطبري، وأبو يعلى في الكبير، والطبراني في الطوالات، وعلي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية، والبيهقي في البعث من حديث أبي هريرة" [فتح الباري: 11/368].
فتسمية ملك الصور بإسرافيل وردت في أحاديث متعددة، لكن تحتاج إلى إثبات صحتها؛ لأن هذه الأحاديث فيها كلام، وحديث الصور الطويل غريب جداً، وقد ضعفه أهل الحديث، وفي تصريح بأنه إسرافيل لكن المقصود أن تسمية ملك الصور بإسرافيل يحتاج إلى أن نبحث له عن حديث صحيح لكنه شيء مستقر عند العلماء حتى نقل فيه الحليمي الإجماع أنه شيء مفروغ منه أنه هو إسرافيل، وقد ورد على سبيل التكنية عنه بصاحب الصور كما في شأن ملك الموت -عليهما السلام-.
وتسمية الذي ينفخ بالصور بإسرافيل وردت في أحاديث ضعيفة، ووردت في الإسرائيليات، كما ذكرها أبو الشيخ ابن حبان في كتابه العظمة، طبعاً إسرافيل ثابت أنه ملك عظيم مثل قول النبي ﷺ: اللهم رب جبريل أو جبرائيل وميكائيل وإسرافيل في رواية مسلم [770]، وفي رواية النسائي [1625] تقديم إسرافيل على ميكائيل، فإسرافيل ملك عظيم يعني أحد الثلاثة الكبار، رءوس الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وهناك ملائكة عظام آخرين مثل ملك الموت، وملك الجبال، وكل ملك له وظائف، جبريل هو السفير بين الله وأنبيائه بالوحي، ورئيس الملائكة، وميكائيل موكل بالقطر بالمطر أو النبات، وإسرافيل هو الذي ذكروا أنه الموكل بالصور والنفخ فيه.
وورد عن ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إن صاحبي الصور بأيديهما أو في أيديهما قرنان، يلاحظان النظر متى يأمران [رواه ابن ماجه: 4273، وضعفه الألباني ضعيف الجامع الصغير: 1872].
هذا يدل على أنهما اثنين، لكن الحديث إسناده ضعيف، وكذلك قال البوصيري في مصباح الزجاجة: لضعف حجاج بن أَرْطَأَة، وعطية العوفي" [مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: 4/253].
وبالتالي فإنه لم يثبت أنهما اثنان وإن ورد في حديث آخر رواه أحمد عن أبي مرية عن النبي ﷺ وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: النفاخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب، أو قال: رأس أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق ينتظران متى يؤمران ينفخان في الصور فينفخان [رواه أحمد: 6804، وقال الألباني: منكر في سلسلة الأحاديث الضعيفة: 6896].
فلتنبيه فقط أنه قد وردت أحاديث ضعيفة أو منكرة أنهما اثنان، ولكن الراجح أنه واحد ملك الصور إسرافيل كما هو مشهور عند العلماء.
لماذا أخبرنا بالخبر أن هنالك ملك وأنه موكل بالصور وأنه مستعد للنفخ؟ ليستعد العباد بالأعمال الصالحة؛ ليعلموا أنهم مقبلون على الله؛ ليوقنوا أن القيامة ستقوم وأن الحياة ستنتهي، وأن النفخة ستقضي على كل حي على الأرض.
وقت النفخ في الصور
وقد ورد بأن النفخة والصعقة هذه ستكون يوم الجمعة، فروى أوس بن أوس والحديث عند النسائي وأبي داود أن النبي ﷺ قال: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه قُبض، وفي النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ -يعني: بلي الجسد في القبر بعد موتك-، أي يقولون: قد بليت، قال: إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء -عليهم السلام- والحديث صحيح. [رواه أبو داود: 1047، والنسائي: 1374، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1527].
فيه الصعقة: يعني الصيحة، ما هي الصيحة أو الصعقة؟ صوت عظيم جداً، صوت هائل من جراء هوله يموت الناس، وهذه هي النفخة الأولى، والله -تعالى- قد أخبرنا أن الساعة تكون بنفخ الصور، وذلك يكون يوم الجمعة، والعجيب أن البهائم تعرف هذا، البهائم تعرف أن قيام الساعة يكون يوم جمعة، والبهائم تميز يوم الجمعة عن غيره من الأيام.
والدليل: روى الإمام مالك وأحمد والنسائي عن أبي هريرة أنه قال: "خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله ﷺ، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله ﷺ: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنسان [رواه النسائي: 1430، ومالك: 16، وأحمد: 10303، وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 1359].
يعني: أهل التكليف من الجن والأنس في غفلة، والدواب والبهائم غير المكلفة يوم الجمعة من أول الصباح من الفجر إلى طلوع الشمس مسيخة، والإساخة: هي الاستماع مع التوقع لأمر يطرأ، إذاً: أساخ السمع ليس معناه فقط استمع، وإنما استمع مع توقع لشيء يطرأ، ما هنالك دابة إلا وهي مسيخة من أول النهار إلى طلوع الشمس، هذا بين الفجر وطلوع الشمس وقت النفخة، ستقوم الساعة يوم الجمعة صباحاً من الفجر إلى طلوع الشمس ستكون النفخة القاضية على جميع الناس.
وقد أخبر النبي ﷺ أن إساختها إنما هي توقع للساعة وشفقة منها مع أنها بهائم لكنها مشفقة من الساعة تسيخ، وهذا الوقت الذي أكثر الناس فيه نائمين، في غفلة من سهر ليلة الجمعة، والدواب في هذا الوقت في غاية الانتباه.
قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد: "وفي هذا الحديث دليل على أن الإنس والجن لا يعلمون من معنى الساعة ما يعرفه غيرهم من الدواب، وهذا أمر تقصر عنه أفهامنا، وهذا الجنس من العلم لم يؤتى الناس منه إلا قليل". [التمهيد: 23/42].
كم مرة ينفخ في الصور؟
كم مرة ينفخ في الصور؟ ورد في القرآن الكريم ذكر نفختين: إحداهما تعقب الأخرى، فسمى الله الأولى: الراجفة، والثانية: الرادفة، فقال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات: 7]، تأتي بعدها التي تردف الأولى، والراجفة كل ما يرجف بالناس فيزعزهم ويحركهم، والرادفة بعدها.
قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: باب نفخ الصور، قال مجاهد: الصور كهيئة البوق، زجرة: يعني صيحة، وقال ابن عباس: الناقور: الصور، الراجفة: النفخة الأولى، الرادفة: النفخة الثانية" [صحيح البخاري: 5/2388].
وقال ابن كثير رحمه الله: قال ابن عباس : "هما النفختان الأولى والثانية، وهكذا قال طلابه من المفسرين". [تفسير ابن كثير: 8/313].
فأما النفخة الأولى من هاتين النفختين فهي نفخة الصعق التي تصعق الناس فتميتهم، وأما الأخرى فهي التي تفزع الناس فتقيمهم من قبورهم، قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر: 68].
وقال : مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس: 51]، هذه النفخة الثانية.
ودلت السنن والآثار على أنهما نفختان أيضاً كما في حديث أبي هريرة عن المدة بين النفختين، قال: بين النفختين أربعون، [رواه البخاري: 4814، ومسلم: 2955].
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ثم يرسل الله مطراً كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، وسيأتي الكلام عليه، قال: ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [رواه مسلم: 2940]، فإذاً هذا حديث عبد الله بن عمرو أيضاً يدل على أنهما نفختان.
قال ابن حجر -رحمه الله-: وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفاً: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السموات، ولا في الأرض إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون". [الحاكم في المستدرك: 8519، قال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم]، [فتح الباري: 6/136] هذا كلام ابن مسعود ، ومثل هذا لا يقوله من رأيه إنما هو متصل بالوحي.
فظاهر الآيات والأحاديث الواردة في ذكر النفخ في الصور أنهما نفختان، وهذا رأي عدد من أهل العلم كابن حجر -رحمه الله-، والقرطبي، وغيرهما.
وذهب عدد من العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أن النفخات ثلاث وقال: إن القرآن قد أخبر بثلاث نفخات، نفخت الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[النمل: 87]، ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر: 68]، فقال: آية النمل هذه فيها نفخة الفزع، والآية الأخرى فيها النفختان الصعق والإحياء، بعض العلماء قالوا: أنها ثلاث: أولها الفزعة وثانية صعقة وموت، وبعد ذلك تأتي نفخة البعث، فالذين اختاروا أنهما نفختان كالقرطبي قال: ونفخة الفزع هي نفخة الصعق لأنهما أي الصعق والفزع لا زمان لها أي فزعوا ماتوا منه. [مجموع الفتاوى لابن تيمية: 4/260].
والسنة دلت على أنهما نفختان، وإنما جاء في الآية آية النمل أن نفخة الفزع التي جعلها بعض العلماء الأولى، ثم الثانية والثالثة.
وهذا مشهد رهيب مفزع؛ لأن النفخة إذا فاجأت الناس لا يكونون يتوقعونها، ولم يكن أحد ينتظرها، وأهل السوق في سوقهم، وأهل الخصام في خصامهم، وصاحب الإبل في إبله، وكل منصرف إلى شأنه، قد غفلوا عنها ولم يهتموا بارتقابها إلا البهائم فهي ترتقبها، فجاءت النفخة فقبضت أرواحهم، جاءت هذه الصيحة العظيمة فأخذتهم وحق للقلوب أن تفزع من هول تلك الصيحة، ثم إذا جاءت نفخة البعث تقوم أيضاً خائفة وجلة كما قال : قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [النازعات: 8]، وحق للأبصار أن تخشع للقاء الرحمن، فقال تعالى: أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 9].
وقد روى الترمذي عن أبي بن كعب قال: "كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أبي: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعلك من صلاتي؟ قال: ما شئت... الحديث [رواه الترمذي: 2457، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 954].
قوله: يا أيها الناس: أراد به النائمين ليستيقظوا لقيام الليل، والتهجد، وذكر الله -تعالى-.
وقوله: جاءت الراجفة تتبعها الرادفة: النفخة الأولى التي يموت لها الخلائق، والرادفة: الثانية التي بها يحيون ليوم القيامة، وأصل الرجف الحركة والاضطراب، وفي هذا إشارة إلى قوله -تعالى-: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ[النازعات: 6]، وقال ﷺ: جاءت: بصيغة الفعل الماضي لبيان تحقق وقوعها، ما فيها شك جاءت، وقد اقتربت فاستعدوا لها.
وقال: جاء الموت بما فيه: من الأهوال، والنزع، والكروبات، والسكرات، وأكد وكرر، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه.
قالت بنت الربيع بن خثيم: "يا أبتاه إني أرى الناس ينامون وأنت لا تنام، قال: يا بنيه إن أباكي يخاف البيات" [التبصرة لابن الجوزى: 2/279] ، والبيات مفاجأة العدو ليلاً، وطرقهم القوم فجأة.
وكل من مات مسئول ومفتتن | من حين يوضع مقبور ليختبره |
وإن أرواح أصحاب السعادة | في جنات عدن كطير يعلق الشجرة |
لكن الشهداء أحياء سارحة | من كل ما تشتهي تجني بها ثمرة |
وإن أرواح من يشقى معذبة | حتى تكون مع الجثمان في سقره |
وإن نفخة إسرافيل ثانية | في الصور حقاً فيحيا كل من قُبرا |
كما بدا خلقهم ربي يعيدهم | سبحان من أنشأ الأرواح والصورَ |
حتى إذا ما دعا للجمع صارخه | وكل ميت من الأموات قد نشرا |
قال الإله قفوهم للسؤال لكي | يقتص مظلومهم ممن له قهرا |
فيوقفون ألوفاً من سنينيهم | والشمس دانية والرشح قد كثُرا |
وجاء ربك والأملاك قاطبة | لهم صفوف أحاطت بالورى رُمرا |
وجيء يومئذ النار تسحبها | خزانها فهالت كل من نظرا |
[موارد الظمآن لدروس الزمان 5/359]
نسأل الله السلامة.
الوقت بين النفخة الأولى والثانية وما يحدث فيه
كم بين النفختين من الوقت وماذا يحدث في تلك المدة؟
روى البخاري رحمه الله ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة -وهو راوي الحديث- أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً، قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيتُ، قال: ثم ينزل الله من السماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبله إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة [رواه البخاري: 4935، ومسلم: 2955].
ما معنى قول أبو هريرة: "أبيت"؟ يعني: امتنعت، أنا لا أتكلم، هل هو عنده علم لكن لأن السؤال واضح جداً جوابه فهو لا يريد أن يتكلم، أو لأنه ليس عنده علم فلا يريد أن يتكلم؟ الثاني هو الظاهر أنه ليس عنده علم بين النفختين، ما سمع النبي ﷺ يقول: لا شهر، ولا جمعة، ولا سنة، ولذلك أبى أن يتكلم، وهذا اللائق بالصحابة أنهم إذا ما عندهم علم لا يخوضون، ولا يتكلمون إلا بالدليل، توقيف، ما وقفت على شيء، ومما يدل على هذا رواية ابن مردويه بسند جيد: "لما قالوا: أربعون ماذا؟ قال: هكذا سمعت".
وقال الحافظ رحمه الله: "ولابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش هذا الحديث فقال: "أعييت" من الأعياء وهو التعب، كأنه أشار إلى كثرة من يسأله عن تبيين ذلك فلا يجيبه" [فتح الباري: 6/137].
وهذا أدب المسلم أن يتوقف ولا يتكلم برأيه، وهذه قضايا الغيب ما فيها اجتهادات، وأدب الشرع العام للمسلم أنه لا يخوض فيما لا يحيط به علماً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169]، هذا شيء من الكبائر.
قال ابن حجر: "زعم بعض الشراح أنه وقع عند مسلم أربعين سنة ولا وجود لذلك"، جاء في رواية لابن مردويه: أربعون سنة ولكنها شاذة، جاء من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: "ما بين النفخة والنفخة أربعون سنة"، وسنده منقطع أيضاً، وقع في جامع ابن وهب: أربعين جمعة"، فإذاً ما جاء عن ابن عباس سنده ضعيف، وما جاء عن ابن وهب سنده منقطع أيضاً، فنحن نقول أربعون ونسكت، ما بين النفختين أربعون ونسكت، ما عندنا علم. [فتح الباري: 8/552].
قوله: ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق، كل البدن يبلى في القبر إلا عظمه واحدة وهي عجب الذنب.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب يوم القيامة، قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب [رواه مسلم: 2955].
وثبت أيضاً عن النبي ﷺ أن الإنسان يخلق من هذا العجب، فقال في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يُركب [رواه مسلم: 2955].
وصفه النبي ﷺ بالصغر كما في مسند أحمد: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه قيل: ومثل ما هو يا رسول الله؟ قال: مثل حبة خردل منه تنبتون، وقال محققو المسند طبعة دار الرسالة: "إسنادها حسن لغيره". [مسند أحمد: 3/28، رقم: 11248].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والعجب عظم لطيف في أصل الصُلب، أسفل شيء في العمود الفقري، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع" -التي لها أربعة أطراف- ثم نقل عن ابن عقيل قوله: "لله في هذا سر لا يعلمه إلا الله؛ لأن من يظهر الوجود من العدم لا يحتاج إلى شيء يبني عليه". [فتح الباري: 8/552].
الله ممكن يعيدهم بدون عجب ذنب، طيب ولماذا رأس العصعص يبقى؟ لله في ذلك سر، ما أخبرنا ما نتكلم، لكن -سبحان الله- يُشبه النبات كيف من بذرة تخرج الشجرة، وهذا من عظم مستدق الصغير هذا عجب الذنب ينبت الإنسان يوم القيامة يخرجون من قبورهم.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وأما قوله: منه خلق وفيه يركب فيدل على أن ابتداء خلقه وتركيبه من عجب ذنبه"، والله أعلم، وهذا لا يدرك إلا بخبر ولا خبر فيه عندنا مفسر. [التمهيد: 18/174].
عندنا معلومة أن ابتداء التركيب يوم القيامة سيكون من هذا العظم، وقال رحمه الله: "وهذا ظاهر الحديث وعمومه يوجب أن يكون بنوا آدم كلهم سواء في ذلك، إلا أنه قد روي في أجساد الأنبياء والشهداء أن الأرض لا تأكلهم"، يشير إلى حديث النبي ﷺ: إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام رواه أبو داود والنسائي وهو صحيح. [رواه أبو داود: 1047، والنسائي: 1374، وابن ماجه: 1085، وصححه الألباني].
وقال ابن عبد البر أيضاً: "وحسبك فيما جاء في شهداء أحد وغيرهم، وهذا يدل على أن قوله ﷺ: يأكل التراب كل شيء من الإنسان، أنه لفظ عموم ويدخله الخصوص" [التمهيد: 18/173].
فإذاً كل شيء يفنى من الإنسان إلا عجب الذنب، هذا عام، لكن مخصوص يستثنى منه، الأنبياء؛ لأن أجسادهم أصلاً لا تبلى حتى تركب فهي محفوظة، نحن لا نعرف مكان نبي مدفون الآن إلا قبر النبي ﷺ، وقبر إبراهيم الخليل، كما هو مشهور، بقية الأنبياء الله أعلم أين هم في الأرض، إنما أجسادهم باقية موجودة، طيب بالنسبة للشهداء، يعني الأنبياء هذا بالنص معلوم بالنسبة للشهداء، والقرطبي ألحق المؤذن المحتسب" [فتح الباري: 8/553].
لكن يحتاج إلى دليل، طبعاً بالنسبة للشهداء معروف رواية قتلى أحد: وكيف أن جابر استخرج جسد والده بعد سنين، وأنه كما هو وربما شابت شعراته وأصاب آلة الحفر الضرب على الأذن فنفر الدم، يعني: في روايات على أن بعض أجساد الشهداء تبقى، إلى كم؟ الله أعلم، هل كل الشهداء؟ الله أعلم، إذاً أجساد الأنبياء باقية، أجساد بعض الشهداء وردت أنها بقية مدة، وما نستثني شيئاً إلا بدليل، وما عندنا دليل نسكت نكل العلم إلى الله.
بين النفختين أربعون، أخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفاً: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه والصور قرن فلا يبقى لله خلق في السموات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون". [رواه الحاكم في المستدرك: 8519، قال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم].
قال الحافظ رحمه الله: "وجاء فيما يصنع بالموتى بين النفختين ما وقع في حديث الصور الطويل". [فتح الباري: 6/136]، حديث الصور الطويل ضعفه المحدثون، وقالوا: إنه غريب جداً، لكن ورد فيه: أن الخلق إذا ماتوا بعد النفخة الأولى ولم يبقى إلا الله ، نادى في السموات والأراضين أنا الجبار لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه قائلاً: لله الواحد القهار [فتح الباري: 11/370]، وهذه آية في القرآن: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ[غافر: 16]، ويمكن أن يقال: إن ذلك يقوله تعالى مرتين بعد النفخة الأولى إذا ما في خلاف، وبعد الحشر كما رجحه بعض العلماء قالوا: هذه الآية: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16]، يقولها الله يوم القيامة بعد الحشر، فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16].
فإذا أذن الله تعالى ببعث خلقه، وقيامهم من قبورهم بالنفخة الثانية أعاد إليهم أجسادهم التي بليت في الأرض، وأنبتهم منها نباتاً كنباتهم الأول، قال الله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء: 104].
ويكون نبات الناس من عجب الذنب بمطر ينزله الله من السماء على خلقه كما في حديث أبي هريرة وفيه: ثم ينزل الله من السماء ماءاً فينبتون كما ينبت البقل [رواه البخاري: 4935، ومسلم: 2955].
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي ﷺ يقول: ثم ينفخ في الصور، فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنه الطل-الرش الخفيف- أو الظل -شك الراوي- والطل أحفظ وأكثر- فتنبت منه أجساد العباد، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [رواه مسلم: 2940].
إذاً متى سيأتي هذا المطر؟ بين النفختين، فتنبت منه أجساد العباد، فيكونون مستعدين بأجسادهم الآن للقيام إلى القبور بالنفخة الثانية، هذا مما يحدث بين النفختين، وقد دل قوله ﷺ: ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون على أن إفاقة الخلائق إنما تكون بعد النفخة الثانية.
وثبت صريحاً صحيحاً عند البخاري -رحمه الله- من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري كذلك أكان أم بعد النفخة، وسنأتي على قضية صعق موسى ، أما المطر الذي ينزله الله من السماء، وينبت منه العباد تنبت أجسادهم جاء وصفه في بعض الأحاديث أنه كمني الرجال، وذلك فيما رواه الطبراني في الكبير: أن السماء تمطر مطراً كمني الرجال ينبتون في القبور كما ينبت النبات [رواه الطبراني في الكبير: 9761، الحاكم في المستدرك: 8519، وضعفه الألباني تخريج شرح الطحاوية: 1/463].
ولكن الحديث ضعيف، وأخرج البيهقي من طريق أبي الزعراء قال: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر الدجال إلى أن قال: "ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون، فليس في بني آدم خلق إلا في الأرض منه شيء، قال: فيرسل الله ماء من تحت الأرض فتنبت جسمانهم ولحمانهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الري"، قال ابن حجر: "رواته ثقات إلا أنه موقوف" [فتح الباري: 11/370]، طبعاً وله حكم الرفع.
وفي ذلك المطر النازل من السماء عند بعث الله لخلقه بيان لإخراج الموتى، ومثال على ذلك، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[الأعراف: 57].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أي كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات كذلك نخرج الموتى من قبورهم بعدما كانوا رفاتاً متمزقين، وهذا استدلال واضح، فإنه لا فرق بين الأمرين، فمنكر البعث استبعاداً له مع أنه يرى ما هو نظيره من باب العناد". [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 3/34].
أنت يا منكر البعث ما ترى أن الله يحي الأرض بالمطر، والأرض جافة ميتة ما فيها شيء ثم تصبح مخضرة، فلماذا تنكر بعث الله للأجساد يوم القيامة، الذي أحيا هذه يحيي هؤلاء، مبدأ الإحياء واحد، وقال : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9].
وفي مسند أحمد عن أبي رزين العقيلي قال: "قلت يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ فقال: أما مررت بالوادي ممحلاً -يعني: مجدباً- ثم تمر به خضراً -نفس الوادي- كذلك يحيي الله الموتى [رواه أحمد: 16238] وحسنه الألباني [صحيح الجامع الصغير: 1334].
المستثنون من الصعقة
من الذين لا يصعقون عند النفخ في الصور؟
دل قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68]، على أنه هنالك خلقاً من خلق الله لا يصعقون إذا نفخ النافخ في الصور، يعني: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68]، لمن الاستثناء؟ ورد في حديث صحيح متفق عليه قوله ﷺ: لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله[رواه البخاري: 3408، ومسلم: 2373].
قال الحافظ: والمراد بقوله: ممن استثنى الله قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68]، وجاء في مرسل الحسن: فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن لا تصيبه النفخة أو بُعث قبلي [فتح الباري: 6/445].
فالآن هناك احتمالان، النبي ﷺ إذا أفاق يرى موسى أمامه، فهناك احتمالان: إما أن يكون موسى ما أصابته الصعقة؛ لأنه جوزي بصعقة قبلها في الدنيا لما خرا موسى وصعق من الجبل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ[الأعراف: 143]، فهذه الصعقة الأولى بدل هذه كون موسى ما صعق أصلاً، أول أنه صعق ولكنه أفاق قبل نبينا ﷺ، طبعاً لا مانع أن يكون النبي أفضل من النبي، والنبي الثاني المفضول له ميزة ليست عند الأول، يعني: هذا وارد، يقول: لا أدري كان فيمن صعق، أفاق قبلي، أم حُسب بصعقته الأولى فما صعق أصلاً، هذان احتمالان، وذكر في هذا أقوال كثيرة.
من أيضاً يمكن يستثنى، غير قضية موسى صعقة موسى ؟ إلا ما شاء الله، جاء عن سعيد بن جبير: هم الشهداء، وسنده حسن إلى سعيد، واستدلوا بحديث أبي هريرة إلى النبي ﷺ: أنه سأل جبريل عن هذه الآية: من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ فقال: هم شهداء الله ، قال ابن حجر: صححه الحاكم [المستدرك: 3000]، ورواته الثقات" [فتح الباري: 6/138] غير أن الألباني رحمه الله حكم عليه أنه ضعيف جداً .[السلسلة الضعيفة: 3685].
وقيل: إنهم الأنبياء، وإلى ذلك جنح البيهقي رحمه الله قال: الأنبياء لا يصعقون.
وقيل: هم الولدان الذين في الجنة، والحور العين أنهم لا يصعقون.
وقيل: أنهم الملائكة.
وقيل: فقط جبريل وملك الموت وإسرافيل.
المهم أنه قد ذكر في ذلك أقوال [فتح الباري: 6/138].
فقوله ﷺ: لا تخيروني بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور [رواه البخاري: 4638، ومسلم: 2374].
طبعاً التفضيل هذا بالنسبة لنا واضح النبي ﷺ أفضل من موسى، لكن في النقاش مع أهل الأديان الأخرى نتجنب قضية التفضيل حتى لا نستثيرهم فربما سبوا نبينا، ولذلك لا تخيروني، يعني: هذا في مجال النقاش بين أتباع الأديان، وإلا فنحن نعلم يقيناً أن نبينا ﷺ أفضل من موسى ، كذلك لا شك أن موسى قد مات التي هي الموتة المعروفة الموتة التي في الدنيا، كما جاء في الحديث: أن الله تعالى لما أرسل لموسى ملك الموت على هيئة رجل ثم لطمه، في النهاية قال: ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن، وقُبض موسى . [رواه البخاري: 1339]، بلا شك.
النفخ في الصور بداية جديدة لعالم جديد، عالم القيامة الكبرى والدار الآخرة، وهذه الأرض طالما سعى عليها الناس وعملوا لكنها ستبدل، وهذه السماوات طالما أظلت الناس وكانت نجومها زينة وعلامات ولكنها ستتغير، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48].
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر: 70].
إذاً صعق الجميع لما سمعوا نفخة الصور، وأزعجتهم من شدتها وعظمها، وهناك استثناهم الله فثبتهم فلم يصعقوا كالشهداء أو بعضهم وغيرهم، وهذه النفخة الأولى نفخة الصعق والفزع، ثم نفخة فيه أخرى وهي نفخة البعث، فإذا هم قيام كل الناس قاموا من قبورهم لبعثهم وحسابهم، تمت الخلقة الجسدية ورجعت الأرواح إلى الأجساد الرجوع الكلي الذي لا تفارقه بعده، يعني في الدنيا الأرواح تفارق الأجساد عند الموت، في القبر تعود الأرواح في الأجساد عوداً ولكن ليس كلياً، في ارتباط ولكن ليس كلياً، يوم القيامة يكون دخول الأرواح في الأجساد دخولاً كلياً؛ لأنه ما في خروج بعده، خلود إما في الجنة وإما في النار، وأشرقت الأرض بنور ربها مع أن الشمس كورت، والقمر خُسف، والنجوم اندثرت، والناس في ظلمة فتشرق عند ذلك الأرض بنور الله عندما يتجلى وينزل للفصل بين الناس، ويوضع الكتاب، وتنشر الدواوين والصحف، ويجئ بالنبيين والشهداء من الملائكة، والأعضاء، والأرض التي تشهد على الناس، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، فيحصل حكم يقر به الخلق جميعاً، ويعترفون لله -تعالى- بالحمد والعدل، ويعرفون عظمته وعلمه، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر: 70].
الحب في الله نور يستضاء به | والهجر في ذاته نور على نور |
جنب أخا حدث في الدين ذا غير | إن المغير في نكس وتغيير |
حاشا الديانة أن تُبنى على خبر | سبحان خالقنا من قول مثبور |
إن الحقائق لا تبدوا لمبتدع | كذا المعارف لا تهدى لمغرور |
تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت | يمناه ما ظل في ظن وتقدير |
حقق ترى عجباً إن كنت ذا أدب | ولا يغرنك الجهال بالزور |
إن الطريقة في التنزيل واضحة | وما تواتر من وحي ومشهور |
ففهم هديت هدى الرحمن واهدي به | هدى يفيدك يوم النفخ في الصور |
نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب: 5/476]
نسأل الله أن يرحمنا وأن يتوب علينا وأن يثبتنا في ذلك اليوم إنه سميع مجيب.