الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تقدم الكلام في سلسلة "حماية منهج السلف"عن الموقف من الكفار والمنافقين والمرتدين.
وذكرنا: تعريف المرتد، وهو: الذي يكفر بعد إسلامه بكلام، أو اعتقاد، أو فعل، أو شك.
وذكرنا: خطورة أفعال المنافقين حديثاً في: الطعن الدين، والتشكيك في أحكامه، واللجوء إلى المتشابهات لإثارة الشبهات.
وكلام هؤلاء في قضية إقصاء الدين عن نواحي من الحياة عظيمة، والزعم أنه لا حكم فيها للشريعة، وتحريف النصوص بالتأويل الفاسد، فيما زعموا أنه إعادة قراءة للنص، وفق مقتضيات العصر.
وذكرنا: قواعد وضوابط في الموقف منهم، وكيفية التعامل معهم، ومسألة التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وأن فعل الكفر لا يستلزم كفر الفاعل، وليس كل من وقع منه الكفر يحكم بكفره،لاحتمال وجود مانع؛ من جهل، أو شبهة، أو إكراه، وهذه أسباب معتبرة.
وذكرنا: أن هذا الباب قد ضلت فيه طائفتان من الناس:
فئة: رأت أنه لا يكفر معين أبداً، وبالتالي ألغوا حد الردة، وقالوا: إننا لا يمكن أن نحكم على أي أحد.
وهذا إرجاء، وفساد وضلال، وتمييع للدين، وفتح الباب لكل من يريد الطعن فيه.
والطائفة الثانية: قالت: إذا وجد الحكم العام على فعل من الأفعال بأنه كفر، دخل فيه جميع من وقع منه ذلك، ونحكم بالكفر عليه مباشرة، دون أن ننظر في عوارض الأهلية، دون أن ننظر في انطباق الشروط، وانتفاء الموانع.
وذكرنا: ضلال هاتين الطائفتين، وأن منهج أهل السنة والمنهج الحق: أن من وقع منه الفعل أو القول المكفر، وانطبقت عليه الشروط، وانتفت الموانع يحكم بكفره، ويتعامل معه على ذلك، فلا تؤكل ذبيحته، ولا يزوج من المسلمات، ولا يورث، وفي أحكام، ولا يدخل الحرم.
وفي أحكام الآخرة، وفي أحكام الموت كذلك لا يغسل،ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وهناك أحكام أخرى متعلقة بالموضوع.
وبينا: أن من القواعد في التعامل مع المرتدين: إزالة الشبهات أو الأعذار التي تعلقوا بها، والرد عليهم، والاحتساب في هذا، وأن السكوت عن الرد عن المرتدين يفتح الباب أمام الطاعنين للطعن في الدين؛ لأنه ليس أمامهم أحد يتصدى لهم.
وكذلك-ذكرنا-: أن المرتد إذا مات على الردة فعمله حابط، ولا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، ولا فرضاً، ولا نافلة، ولا عملاً خيرياً، أو من البر، وأنه خالد مخلد في النار:وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً[سورة الفرقان:23].
وأن هذا الكفر والردة لا يمكن أن يستقيم معه عمل خيري.
ومنها: أن المرتد لن يضر بردته إلا نفسه، وأن المرتدين لن يضروا الله شيئا.
ومنها: أن باب التوبة مفتوح أمام المرتد فمن دونه، وأن المنحرف مهما بلغ انحرافه، فإن الله يقبل توبته إذا تاب.
ومنها: أن المرتد قد يعزر بعد توبته لزجره.
ومنها:أن العلماء يظهرون الحكم، وأما تنفيذ الحكم في المرتد والحد الشرعي فيه هو من اختصاص الإمام المسلم، والحاكم الشرعي، وليس لآحاد الناس؛ لأن فتح الباب لمن شاء أن ينفذ حد الردة، فيمن يرى أنها تنطبق عليه، هو في الحقيقة فتح باب للفتن والشرور، والثارات والانتقامات، والفوضى.
ومنها –كذلك-: أن المرتد لا يصح زواجه مطلقاً من أي ذات دين، حتى من مرتدة، حتى من نصرانية، ونص على ذلك الإمام الشافعي في كتابه: "الأم"وغيره، وإذا حدثت الردة بعد الزواج وجب التفريق بينهما، وأن المرتد لا تؤكل ذبيحته؛ لأنه ليس بمسلم، ولو ارتد إلى دينأهل الكتاب لا تؤكل ذبيحته؛ لأنه في الحقيقة مرتد وليس بكتابي أصلي.
وكذلك: لا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يصلى عليه.
وأن المرتد لا يرث، ولا يورث، وأنه يجب بغضه، والبراء منه، وأنه يحرم توليه، وموادته.
وأن المرتد يجب نصحه، ودعوته إلى الله، وأن المرتد لا يولى الولايات العامة مطلقاً، فلا يمكن أن يسلط هذا على مسلمين: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[سورة النساء: 141].
وبقي لدينا الحديث عن طائفتين من المخالفين، نتعرف على حكم الشرع فيهم، وكيفية التعامل معهم؟ وما هو منهج السلف تجاههم؟
أولهما: المبتدعة.
وثانيهما: العصاة.
الموقف من المبتدعة والتعامل معهم
حكم الابتداع في الدين
أما المبتدعة: فإن الابتداع في الدين حرام، ومردود على صاحبه، كما قال النبي ﷺ: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"[رواه البخاري: 2697، مسلم: 4589].
البدعة أشد خطر من المعصية
وأن البدعة أشد من المعصية، وأن المبتدعة أشد خطراً من العاصي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها -في العادة-، والمعصية يتاب منها"[مجموع الفتاوى: 10/9].
العاصي يعرف نفسه أنه عاصي، ويشعر أنه مقصر، مفرط مذنب، وحز الضمير يدفعه للتوبة، المبتدع لا حس له، فهو يرى أن عمله حسنا: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [سورة فاطر: 8].
الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [سورة الكهف:103- 104].
فالمبتدع، يرى أنه من المحسنين صنعا، فلماذا يتوب؟ لأي شيء يتوب؟
وهذا معنى قولهم: "إن البدعة لا يتاب منها في الغالب"؛ لأن المبتدع يرى أن ما يفعله موافق لشرع الله، بل هو من شرع الله، يرى أن عمله حسنا.
وأول طريق التوبة: العلم بسوء الفعل، والمبتدع لا يرى ذلك.
توبة المبتدع
لكن لو تاب المبتدع، وتبينت له بدعته، ورجع إلى السنة، فإن الله يتوب عليه، فالله يقبل التوبة من عباده:يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً[سورة الزمر: 53].
الكفر والردة، فما دون.
خطر البدعة ومفاسدها
ويرجع فساد البدعة وخطرها إلى أصلين:
الأول: أن البدعة مفسدة للقلوب، معادية منافرة للسنة، فهي أشبه ما يكون بالطعام الخبيث، الذي يفسد البدن ويغذيه بالحرام، ويغذي القلب بالباطل.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا المعنى: "الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع، لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث"[اقتضاء الصراط المستقيم: 2/104].
ثانياً: أن البدع معارضة للسنن ومناقضة لها، وتؤدي إلى الخروج عن الشريعة بزيادة أو نقصان، أو تحريف.
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام أيضاً: "ومن أسباب هذه الاعتقادات، والأحوال الفاسدة: الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول ﷺ إلينا، فإن البدعة هي مبادئ الكفر، ومظانه، كما أن السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية له، فإنه -يعني الإيمان- يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"[مجموع الفتاوى: 10/565].
فالبدع تخفي السنن وتميتها، ويعتبر من نشأ في البدعة في مصاف المناقضين للسنة، هو يرى نفسه أنه من أن هذا سنة، وأنه مطبق للسنة، وعامل للسنة، فينقلب عنده الأمر، فيرى السنة بدعة، والبدعة سنة.
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله- في مقدمة كتابه الفذ:"الاعتصام": "لم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله ﷺ، وحذر منها، وبين أنها ضلالة، وخروج عن الجادة، وأشار العلماء إلى تمييزها، والتعريف بجملة منها، لعلي اجتنبها فيما استطعت".
يقول الإمام الشاطبي: "وأبحث عن السنن التي كادت تطفأ، أو يطفأ نورها، أو تطفئ نورها تلك المحدثات، لعلي أجتنبها فيما استطعت، وأبحث عن السنن التي كادت تطفئ نورها تلك المحدثات، لعلى أجلو بالعمل سناها"يعني إذا عملت بالسنن "أجلو سناها"يعني ضؤها، فيعود لها البريق"وأعد يوم القيامة فيمن أحياها"فهو يرجو بتنبيهه، وكلامه، وما ألفه، أن يميت البدع، ويحيي السنن.
قال: "وأعد يوم القيامة فيمن أحياها، إذ ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنن ما هو في مقابلتها،حسب ما جاء عن السلف في ذلك.
فعن أبي عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن" [الاعتصام: 1/30].
أهداف ضوابط التعامل مع البدع وأهلها:
ومع خطورة البدع والمبتدعة، إلا أن هناك ضابط في منهج السلف في التعامل مع البدع، ومع أهلها، ومواقف واضحة منهم.
وهذه الضوابط تهدف إلى: محاصرة البدعة، وتحجيم الضرر، وكبت المبتدع، وكف شره، وإقامة الحاجز بين الناس وبين البدع، لينفروا منها، حتى لا يتقبلوها، حتى يحذروها.
وكذلك الضوابط هذه في التعامل مع المبتدع فيها: عدل معه،وأيضاً إقامة لهذا المبدأ الشرعي مبدأ العدل، وترك الظلم للمخالف.
الحاجة إلى معرفة الموقف من المبتدعة في هذا الزمان
والحاجة إلى معرفة الموقف من المبتدعة في هذا الزمان ماسة، وذلك؛ لأن البدع قد شاعت.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتكلم عن أحكام المبتدعة: "إن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب، ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات، أو مستحبات، وفعلوا به محرمات -يعني في الهجر تجاوزوا الحد-وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة، ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحبابًا".
قال: "فهم بين فعل المنكر، وترك النهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه، وترك ما أمروا به، ودين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه"[مجموع الفتاوى: 28/213].
قواعد وأسس في الموقف من المبتدع وكيفية التعامل معه
والضابط الذي على أساسه نبني موقفنا من المبتدع، وكيفية التعامل معه في قواعد منها:
أولاً: أنه لا يجوز الحكم على مسلم بأنه مبتدع إلا إذا جاء ببدعة، أو اتبع بدعة تخالف الكتاب والسنة، فإما أن يخترع، أو يتبع البدعة، إما أن يخترع بدعة، أو يتبع بدعة.
فبعض الناس عنده توسع وعدم فقه في ضبط المبتدع من غيره، فيبدع بالمخالفة أحياناً في أمور من الخلاف السائغ، فتكون القضية فقهية يسوغ فيها الخلاف، وفيها مجال للرأي المتعدد، فيحكم على المخالف في البدعة، وليس الأمر إلا خلافا فقهيا معتبرا، وهذا انحراف.
فمثلاً يأتي واحد، فيقول: السلام على النبي ورحمة الله، يا السلام عليك أيها النبي، هذا خطأ، هذا بدعة، وكل من يقول: السلام عليك أيها النبي، هذا كان في حياته، السلام عليك بعد مماته، بدعة، والذي يسوي يقول: السلام عليك، مبتدع، وإذا راجعت الأمر وجدت أن هذه مسألة فيها خلافاسائغا، وأن هناك قولان لأهل العلم: منهم من يقول: السلام على النبي، كما جاء عن ابن مسعود وغيره.
ومنهم من يقول: السلام عليك أيها النبي،يستحضر النبي ﷺ في قلبه، يقول: السلام عليك، يقصد ما قام في قلبه، كما أشار شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-.
فإذن، هذه مسألة ليست مجال تبديع، فبعض الناس قد يجعلها مجال تبديع، وهي مسألة خلافية، والخلاف فيها سائغ، مسألة اجتهادية، ولا يثرب صاحب هذا القول على صاحب هذا القول، ولا صاحب هذا القول على صاحب هذا القول.
بعض الأخطاء والانحرافات في الموقف من البدع وأهلها
فإذن، من الأخطاء والانحرافات في الموقف من المبتدعة أو من البدع: أن يبدع من ليس بمبتدع، بل أحياناً بما ليس بخلاف أصلاً، بل هو جائز أو مباح. ولذلك وجب معرفة حد البدعة، التي يكون بها الرجل من أهل البدعة.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء، ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة"[الفتاوى الكبرى: 4/194].
وقال أيضاً: "ومن خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه السلف، خلافًا لا يُعذر فيه، فهو يُعامل بما يُعامل به أهل البدع"[مجموعالفتاوى: 24/172].
إذن، لا تبديع في مسائل الاجتهاد، ولا تبديع في أمور الخلاف السائغ.
التبديع والتفسيق على المعينين بعد إقامة الحجة وتحقق الشروط وانتفاء الموانع:
ومنها -يعني من القواعد في معاملة المخالف المبتدع-: أن أحكام التبديع والتفسيق على المعينين؛ مثل أحكام التكفير، لا تكون إلا بعد إقامة الحجة، وتحقق الشروط، وانتفاء الموانع.
قال شيخ الإسلام: "فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق، ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع"[مجموعالفتاوى: 10/372].
نقد مقالات أهل البدعة وأعمالهم ومسالكهم ونصحهم ودحض شبهاتهم والتحذير من اتباعهم:
ومن القواعد -أيضاً-: نقد مقالات أهل البدعة، وأعمالهم، ومسالكهم، ونصحهم، والرد عليهم، وكشف باطلهم، وبيان شبهاتهم، وتفنيدها، والتحذير من اتباعهم، وزيغهم؛ لأنه لا يمكن أن تتم حماية الدين إلا بهذا، ولا يمكن الدفاع عن الدين من الشوائب الباطلة، وتنقية الدين من الشوائب الباطلة إلا بهذا.
التصدي للبدع وأهلها وحكم ذلك
في الحقيقة، هذا لا يتصدى له إلا أخيار الناس، هذا لا يتصدى له إلا الطائفة العلية من المؤمنين، هذا عمل خواص أهل الإيمان: تنقية الدين من كل شائبة أدخلت فيه من البدع، وهو يتطلب علماً وجهاداً؛ لأن هؤلاء المبتدعة أصحاب أهواء، وسيقعون فيمن يرد عليهم، ويحاربون من خالفهم، فمن الذي يتصدى لهم، ويصمد أمامهم، ويكون قوي القلب، ثابت الجنان في مواجهتهم، هذا نوع جهاد من الجهاد الخاصة.
وهذا في الحقيقة من الواجبات الكفائية التي إذا لم يقم بها من يكفي أثمت الأمة كلها.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا الشأن: "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم، واجب باتفاق المسلمين.
حتى قيل لأحمد بن حنبل-رحمه الله-: "الرجل يصوم، ويصلي، ويعتكف –يعني النوافل الصلاة والصيام والاعتكاف- أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع"؟
-طبعاً- يتكلم بحق، لا يبدع الأبرياء، أو يبدع أهل السنة، إنما يبدع من يدعو إلى الدين، يحتسب في الكلام على أهل البدع من الخوارج، والمرجئة، والقدرية، والذين يقدمون الرأي على الوحي، ونحو ذلك؛ من الرافضة.
قيل لأحمد بن حنبل-رحمه الله-: "الرجل يصوم، ويصلي، ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع"؟قال: "إذا قام وصلى واعتكف، فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنما هو للمسلمين؛ هذا أفضل".
يقول ابن تيمية عن كلام أحمد:"فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد"[مجموع الفتاوى: 28/231]جهاد اللسان، والبيان، والحجة.
وكلام شيخ الإسلام -رحمه الله- يعني واضح في وجوب هذا الأمر.
الكلام في البدع وأهلها وفق منهج السلف
ويجب أن يكون هذا البيان وفق منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، دون منهج أهل البدعة والغواية، في الكلام على الناس، والتعامل معهم، ولذلك يجب تحري العدل، ويجب الكلام بعلم.
قال شيخ الإسلام: "والكلام في الناس يجب أن يكون في علم وعدل، أو بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع"[منهاج السنة النبوية: 4/183].
فأهل البدع أنفسهم إذا ردوا، أو إذا هاجموا، يهاجمون بجهل وظلم، ويجب على أهل السنة الذين يتصدون لهم: أن يتصدوا لهم بعدل وعلم، ويجب إخلاص النية في التصدي، وقصد الخير للأمة.
قال شيخ الإسلام: "إذا كان مبتدعًا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقًا يخالف الكتاب والسنة، ويخاف أن يضل الرجل الناس بذلك، بين أمره للناس ليتقوا ضلاله ويعلموا، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح، وابتغاء وجه الله -تعالى-، لا لهوى الشخص مع الإنسان- يقول شيخ الإسلام-: مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية –يعني مالية مثلاً-، أو تحاسد، أو تباغض، أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح، وقصده في الباطن البغض في الشخص، واستيفاؤه منه –يعني أن ينال منه انتقام تشفي، فرصة- قال: "فهذا من عمل الشيطان إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[رواه البخاري: 1، ومسلم: 5036].
بل يكون الناصح قصده: أن الله يصلح ذلك الشخص، وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم، ويسلك في هذا المقصود -يعني الناصح- أيسر الطرق التي تمكنه-يعني من البيان والبلاغ، والرد-"[مجموع الفتاوى: 3/385].
عدم العزة بالباطل في معرض الرد على المبتدعة
ويجب -كذلك-: ألا تأخذنا العزة بالباطل في معرض الردود؛ فنرد ما مع بعض المبتدعة من الحق؛ لأن بعض المبتدعة عندهم تخليط والتباس، فيقولون كلاماً بعضه حقا، وبعضه باطلا، فيأتي الذي يرد، يقول: ما قلت حرفاً واحداً صحيحاً، كلامك كله ساقط وباطل، مع أن بعض كلامه ليس كذلك، فليس؛ لأنه مبتدع نسقط كلامه كله، نهاجم كل ما قال.
وبعضهم إذا كان بعض ما قال حق، يجب أن نقول: أما ما قلت من كذا وكذا، فهو حق، وأما ما قلت من كذا وكذا، فهو باطل.
ويقول شيخ الإسلام -وهو يتصدى؛ لأن شيخ الإسلام -رحمه الله- دخل في مواجهات، ومعارك، ودخل في بيان ردود، ودخل في تفنيد شبهات ومناظرات، فهو صاحب تجربة عريقة وعظيمة، وعميقة، وشاملة في هذا، يعني ما يكاد يوجد مبتدعة في عصره إلا بيّن، ورد عليهم، يعني كان هذا عنده غير قضية بيان الحق، ونشر السنة، وبيانها.
كذلك رد على البدعة، وأهل الانحرافات، فهو خالط هؤلاء، وتداخل معهم،وجلس، وسمع، وتكلم، فيقول: "والله قد أمرنا أن لا نقول عليه إلا الحق، وأن لا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه ونرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق"[منهاج السنة النبوية: 2/199].
ولنضرب على ذلك مثالا: الآن الرافضة شركهم شرك أكبر مخرج عن الملة، لكن ما يوجد في كلامهم بعض الحق في الموقف من آل البيت، أو الحسين مثلاً ، وقلنا: بعض الحق؛ لأن عندهم غلو في آل البيت، وغلو في الحسين ، وشركهم في آل البيت، وشركهم في الحسين ، ولكن شيء من كلامهم في آل البيت، والحسين ، وعلي وفاطمة حق، فلما تتكلم، فلا تقل: أصلاً كل كلامك باطل في باطل، بل إن من الإنصاف والعدل أن تقول: أما تعظيم آل البيت، بما ليس فيه غلو، فحق، وأما محبة علي وفاطمة وحسين، فحق، ومن الدين والإيمان.
ومن الإشكالات: أن بعض الذين يردون من أهل السنة، ما يبينون الموقف من آل البيت، ومن الحسن والحسين، وفاطمة، وعلي .
فكأن قضية محبة آل البيت، صارت للصوفية والرافضة، وكأن السنة ما لهم علاقة بموضوع محبة آل البيت، وكأن قضية نصرة علي ، والحسين، صارت خاصة بالرافضة يقومون بها، وأن أهل السنة لا يقومون بها!.
العدل والانصاف عند الرد على أهل البدع
ولذلك من أسباب عدم تقبل بعض هؤلاء المبتدعة: أنه لا يراك منصفاً وعادلاً، ومقراً بالحق الذي يمكن أن يكون هناك في كلامه.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والله قد أمرنا أن لا نقول عليه إلا الحق، وأن لا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق"[منهاج السنة النبوية: 2/199].
ولذلك شيخ الإسلام لما كتب كتابه:"منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" هو تكلم فيه عن حقوق آل البيت، وتكلم فيه عن الموقف الصحيح من علي والحسين وفاطمة ، وقال في هذا الكتاب: "فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة، ردوا ما تقوله المعتزلة، والرافضة، وغيرهم من أهل البدع، بكلام فيه أيضاً بدعة وباطل.
وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام، ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد، لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا، وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، ويأمرون أن لا يقول الإنسان إلا الحق، لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال.
وهذا هو الصواب الذي أمر الله -تعالى- به ورسوله ﷺ، ولهذا لم نرد –يقول شيخ الإسلام- ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق، بل قبلناه، لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال، ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك"[منهاج السنة النبوية: 2/199].
معرفة مراتب البدع والفرق بين البدع المكفرة وغير المكفرة
من القواعد في التعامل مع المبتدعة: معرفة مراتب البدع، ومراتب المبتدعة، والتفريق بين البدع المكفرة وغير المكفرة:
فعلى سبيل المثال: التفريق بين البدع الأصلية والإضافية، فليست البدع كلها على درجة واحدة، فهناك بدع عملية، وبدع اعتقادية، وبدع مكفرة، وبدع غير مكفرة.
ضابط البدع المكفرة
وضابط البدع المكفرة: تضمنها لكفر، كإنكار المعلوم بالدين من بالضرورة، أو تكذيب القرآن، ونحو ذلك، كإنكار القدرية علم الله ، وقضاءه وقدره،مثلاً القدرية قالوا: إن الله لا يعلم أنه سيحدث شر أو فتنة، أو شرك في الأرض، أو عدوان، أو ظلم، أو زنا، أو فاحشة، أو بغي، فأنكروا علم الله، والله بكل شيء عليم، والله كتب المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، كتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة من خير أو شر.
فإذن، قضية البدع المكفرة، كالبدع التي تتضمن إنكار معلوم من الدين بالضرورة، كما فعل القدرية في إنكار علم الله، هذه بدعة مكفرة.
وأيضا: مثل بدع البابية، والبهائية، والقاديانية.
مثلاً القاديانية؛ أنكروا أن يكون محمد ﷺ خاتم النبيين، وزعموا: أن صاحبهم "غلام مرزا أحمد"القادياني أنه نبي!.
سبحان الله-كيف تدرج بهم الشيطان- أول شيء، قالوا: بأنه المهدي! وبعدين قالوا: نبي! وبعدين قالوا: هو الله! -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-.
فهذه البدع تتضمن إنكار معلوم من الدين بالضرورة، وهذا شيء كفري.
يقول الشيخ الحكمي في "معارج القبول"مميزاً بين البدع الكفرية المكفرة، والبدع غير المكفرة، يقول: "فَضَابِطُ الْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ: مَنْ أَنْكَرَ أَمْرًا مُجَمْعًا عَلَيْهِ مُتَوَاتِرًا مِنَ الشَّرْعِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، مِنْ جُحُودِ مَفْرُوضٍ، أَوْ فَرْضِ مَا لَمْ يُفْرَضْ، أَوْ إِحْلَالِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ" [معارج القبول: 3/1228].
كالبابية والجهمية والقاديانية، وغير ذلك.
والْبِدَعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُكَفِّرَةٍ، هِيَ: "مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ"[معارج القبول: 3/1229] ولا ارتكاب شيء من نواقض الإسلام.
والبدع التي في العبادات، بدع في العبادات، عامة البدع التي في العبادات سواءً كانت بدعة حقيقية أو إضافية.
وغالب البدع التي في العبادات غير مكفرة.
الفرق بين البدعة الحقيقية، والبدعة الإضافية
البدعة الحقيقية: هي البدعة التعبدية المحدثة استقلالاً، يعني كذا نوع جديد من العبادات يخترع، مثلاً؛ كصلاة الرغائب، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، وعيد غدير خم، وبدعة الموالد، وهكذا.
البدع الإضافية، هي: الأمر المبتدع، الذي يضاف إلى شيء مشروع، يدخل فيه، يلصق به، فهي ليست عبادة مخترعة استقلالاً من أولها إلى آخرها كاملة، ما لها أصل -فلو كانت كذلك فهي بدعة حقيقة أصلية-.
فالبدعة الإضافية: أن يأتي هذا المبتدع إلى عبادة مشروعة، فيضيف إليها شيئاً، يلصق بها شيء، يدخل فيها شيئاً مثل: سجود الشكر جماعة.
الأصل في سجود الشكر أنه فردي، كل واحد يسجد شكراً وحده، ولو صارت نعمة عامة، فلو قتل عظيم من عظماء المشركين، ممن أنكى في المسلمين، وفعل .. وفعل .. وفعل، فجاء الخبر إلينا ونحن مجتمعون، فقام واحد وتقدم الصفوف، وقال: الله أكبر! يا الله سجود! سجود! الله أكبر! اسجدوا، فسجدوا معاً، ورفعوا معاً،فهذه بدعة إضافية.
وبعض الناس يفكر: البدعة الأصلية شيء تمام، غير البدعة التقليد، وليس كذلك، بل البدعة الأصلية كما تقدم.
والبدعة الإضافية: الملحقة، المدخلة، المدرجة في شيء له أصل صحيح ثابت.
فسجدة الشكر مشروعة، وأدلتها معلومة، وسجد النبي ﷺ، وسجد كعب، وسجد أبو بكر لما قتل مسيلمة، وسجد علي في قتل المخدج.
الشاهد: البدعة الإضافية، بدعة إلحاقية إلصاقية، إدخالية على شيء مشروع، له أصل.
مثلاً: التبليغ وراء الإمام، بدون حاجة، هذه بدعة إضافية، الدعاء الجماعي، بدعة إضافية؛ لأن الدعاء له أصل مشروع معلوم، لكن لما جعل جماعياً على هذه الهيئة التي قيد بها العمل المشروع، صيرها بدعة إضافية.
الدعاء كل واحد يدعو وحده، وليس كل دعاء جماعي بدعة، بل المقصود الدعاء الجماعي بعد الصلاة، مثلاً: الإمام بعد كل صلاة يرفع يديه، ويرفع المأمومون أيديهم، ويقومون بدعاء جماعي بعد كل صلاة.
فهل فعل ذلك رسول الله ﷺ؟ فعله أبو بكر؟ عمر؟ عثمان؟ علي؟ الصحابة فعلوه؟ أما كانوا أئمة؟ أما صلوا بالناس؟ أما قادوا الجماعات في الصلاة؟ فهل كان الواحد منهم إذا سلم رفع يديه، ورفع من وراءه أيديهم؟
كلا -والله-، فإذا أتى أناس الآن بعد كل صلاة، كلما سلم الإمام رفع يديه، ورفعوا أيديهم، فنقول: إما أنكم مفتتحو باب ضلالة، أو أنكم أهدى من رسول الله ﷺ سبيلاً! أنتم أهدى سبيلاً منه؟ اكتشفتم شيئاً؟ توصلتم إلى شيء من أبواب الأجر والعبادة والثواب غاب عنهم، لم يعلمه، لم يفعله، فرط فيه أم كتمه؟!
ولما قال ربكم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة: 3].
تقولون: إنه لم يكتمل، وإن الفرص متاحة للزيادة والإضافة، أنتم غير مقتنعين بما قاله ربكم من تمام الدين وكماله، وأن الوحي انقطع بعد وفاة النبي ﷺ، فأي إضافة؟ أي زيادة في الدين بدعة، كالنقص منه؟
ويتفاوت أهل البدع بتفاوت بدعهم، ومدى قربهم، أو بعدهم عن الحق، وبالتالي تتفاوت معاملتهم، والموقف منهم، بناءً على ذلك.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "بعض هذه البدعة أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض"[الكيلانية، ص: 115].
بعض المبتدعة يكون عنده من الإيمان ما ليس في البعض الآخر.
وقال أيضاً: "ومما ينبغي أيضاً: أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة"[مجموع الفتاوى: 3/348].
التفريق بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي إليها
من القواعد أيضاً: أن من أسس موقفنا في التعامل مع المبتدعة: التفريق بين الداعي إلى البدعة، وغير الداعي إلى البدعة: هذا داعي هذا مُقلَد، هذا داعي هذا مُقلِد، والتفريق بين من يظهر البدعة، وبين من يكتم البدعة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "من أظهر بدعته، وجب الإنكار عليه، بخلاف من كتمها"[منهاج السنة النبوية: 1/27].
ضوابط في هجر المبتدع وعدم هجره
وإذا عرف أن هذا من باب العقوبات الشرعية، علم أنه يختلف باختلاف الأحوال؛ من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها.
فليس دائماً الإنسان المؤمن المتبع للسنة، يجد نفسه في بيئة تساعد على الإنكار، وتساعد على التصدي لهذا، ممكن يكون في غربة شديدة، فكل من حوله أهل بدع، وليس إلا هو، أو معه واحد أو اثنان: فقد جاء في الحديث قوله ﷺ: عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِي وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِي وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِي لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ[رواه البخاري: 5752، ومسلم: 549] فقد يكون الإنسان في مكان لا يستطيع الإنكار.
ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "عُلم أنه يختلف لاختلاف الأحوال، من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع قد يكون هو التأليف تارة، والهجران أخرى"[منهاج السنة النبوية: 1/27- 28].يعني في بعض الأحوال، لما يكون أمر السنة قوي في المكان، يكون الردع للمبتدع بالهجران والإنكار الشديد؛ ولأن المجتمع يساعد على هذا، ولأن البيئة تساعد على هذا، وأنه كلهم لو قاطعوه سيستوحش استيحاشاً عظيماً، وسيدفعه هذا للعودة والتوبة.
بينما قد يكون في وقت في مكان آخر، يمكن لو هجرته، قال: ارتحنا! احنا من زمان نريد هذا! وربما يرتد فعل الهاجر عليه،فيصبح المحاصِر هو المحاصَر.
قال شيخ الإسلام: "وأن المشروع قد يكون هو التأليف تارة والهجران أخرى، كما كان النبي ﷺ يتألف أقواماً من المشركين ممن هو حديث عهد بالإسلام، وكان يهجر بعض المؤمنين كما هجر الثلاثة الذين خلفوا؛ لأن المقصود أن دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح" [منهاج السنة: 1/28].
فإذن، المبتدع المستتر ببدعته، نتألفه، وندعوه إلى الخير، والمظهر لبدعته يهجر، إلا إذا كان يترتب على الهجر مفسدة أعظم من مصلحة الهجر، فيترك هجره لذلك.
فمسألة الهجر وعدمه مبنية على المصلحة، سواءً في حق العاصي، أو المبتدع، وفي حق الجماعة المسلمة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستتراً بمعصية، أو مسراً لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً أو فعلاً، قولاً أو عملاً.
وأما من أظهر لنا خيراً، فإنا نقبل علانيته، ونكل سريرته إلى الله، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين، الذين كان النبي ﷺ يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاؤوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذورن.
ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله-يعني من السلف- وبعده من الأئمة كمالك وغيره، لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع"[مجموع الفتاوى: 24/175].
الآن هذا الداعية معلن، هذا ما يمكن أن يخرج عنه أبداً، ولا يروى عنه شيء، الرواية عنه تكريم، وكلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى.
وكذلك يختلف الهجر بسبب قوة البدعة، وأهلها، وضعف الحق وأهله، وبحسب أثر الهاجر في المهجور، يعني بعضهم إذا هجر يتألم، وبعضهم إذا هجر، يقول: استرحنا! ولذلكهذا باب عظيم من السياسة الشرعية، يقول شيخ الإسلام: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله"[مجموع الفتاوى: 28/206].
أنه ماأحد يمشي وراءه، ولا يقلده.
قال: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعاً" أي الهجر "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي ﷺ يتألف قوماً، ويهجر آخرين.
كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وكان في هجرهم تطهير لهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".
يقول شيخ الإسلام: "وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب -يعني في باب الهجر- مبني على هذا الأصل-مراعاة المصلحة والمفسدة- ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم في خراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك.
ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك -يعني الإنسان- في حصول أوصل الطرق إليه"[مجموع الفتاوى: 28/206 – 207].
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في معاملة أهل البدع: "تجب نصيحتهم، فإن أصروا على البدع وجب هجرهم، فإن كان عدم الهجر أصلح، فلا مانع من ترك الهجر؛ لأن المقصود من الهجر إشعارهم بعدم الرضا عن بدعتهم، فإذا كان الهجر يزيدهم تمسكاً بباطلهم، ونفرة عن الحق، كان تركه أصلح، كما ترك النبي ﷺ هجر عبد الله بن أُبي بن سلول، لما كان ترك هجره أصلح للمسلمين".
وهذه المسألة تعتمد -كما قلنا- على الغلبة والظهور، وهل هو لأهل السنة أو لأهل البدعة في المنطقة؟ هل القوة لأهل السنة وإلا لأهل البدعة في البلد؟
جواز التعلم عند أهل البدع عندالحاجة والمصلحة
ومن القواعد الهامة في معاملة المبتدعة: أنه إذا كانت الواجبات لدى أهل السنة؛ مثل التعليم، والجهاد، والطب، والهندسة، ونحوها متعذر إقامتها إلا بواسطة ناس فيهم بدع، فإنه يعمل على تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة التعليم، وهكذا.. مع الحذر من بدعة هذا الشخص، واتقاء فتنته، وبقدر الضرورة يتعامل معه، فإذا زالت هذه الحاجة رجعنا إلى الأصل، وهو الهجر.
قال شيخ الإسلام في جوابه في الهجر المشروع: "فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم، والجهاد، وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة، مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة، خير من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل"[مجموع الفتاوى: 28/212].
وقال أيضاً في كلام له يحتاج إلى شيء من التركيز، والتبصر فيه، قال: "قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة أو غير مغفورة، وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة، إلا بنوع من المحدث، لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل، وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك" يعني الذي يرفض الحاجة التي تحصل، يرفض التعامل مع هذا الموقف "وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك لما رآه في طرق الناس من الظلمة"قال: "فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائما بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان"[مجموع الفتاوى: 10/364- 366].
فأحياناً تأتي إلى بلد، ما فيها من أهل السنة الخلص الذين يتبعون منهج السلف،افرض مثلاً مكانا فيه أقلية مسلمة في بلاد الكفار، ما في أحد يمسك إدارة المركز الإسلامي، إلا واحد فيه لوثة في موضوع التأويل المنحرف في الأسماء والصفات، ولكنه في أمور التفسير،والحديث،والفقه، قد يكون مجيداً لمذهب من المذاهب، وإدارته جيدة، ويحسن التعامل مع الناس، ويحسن التعامل مع المسلمين الجدد، ويحسن حل المشكلات الزوجية...، وإلى آخره..فإما أن تضيع الأقلية المسلمة هناك، وإما أن يعين هذا الرجل، فيأتي الشخص الذي بنى المركز الإسلامي، ويبحث عن واحد يمسك المركز، فما يجد إلا هذا، وهذا فيه مشكلة، فيكون الأمر بين إضاعة كل المصلحة، وبين تحصيل أكثر المصلحة، مع وجود مفسدة منغصة: أن هذا الرجل ربما يقول كلاماً في درس فيه شيء من انحرافه، فماذا نختار؟هل نقول: فليحدث ما يحدث، ولن نقيم، ولن نفتح المركز، ولن نعين أحدا، وندع الناس في عماهم، وندع الأمور في اختلال، وندع أوضاع هؤلاء في عسر! أم ماذا نختار؟!
فعمر لما قال: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة"[السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية، ص: 29].
في كثير من الأحوال في قضية؛ مدرس، إمام، خطيب، مدير مركز إسلامي.. كذا.. تبحث عن القوي الأمين، صاحب المنهج الصحيح، عن الإداري الجيد، فلا تجد. فإذا لم تجد بهذه المواصفات، فتختار الأمثل فالأمثل.
فإذن، هذا مثال على كلام شيخ الإٍسلام في قضية الموازنات العادلة في هذا الباب؛ ومثل مثلاً أن يغزو الرافضة أو النصارى بلداً مسلماً، ولا يوجد من يقود المسلمين إلا واحد عنده بعض البدع في العبادات، مثل الدعاء الجماعي، فهل تقول: دعهم يكتسحون بلاد المسلمين، ويقيمون المذابح، ويفعلون ما يفعلون، ويخربون المساجد، ويغتصبون، ويقتلون، ولا يولى هذا؟ أو تختار أن يولى ولو كان عنده بدع؛ لأن ما سيقيمه من الدين أكثر مما سيهدمه، والمصلحة العظيمة التي ستتحقق أكبر من المفسدة التي يمكن أن تحدث.
هذا شيء مهم جداً، هذا عالمنا نحن اليوم، هذا عالمنا ما فيه مائة في المائة دائماً، إلا تجد فيها منغصات، فهي تحتاج إلى موازنة صحيحة، وعقل سليم في التعامل.
الموقف من العصاة وكيفية التعامل معهم
موضوع العصاة، وكيفية التعامل معهم:
ما من أحد إلا وهو معرض للزلل، قال النبي ﷺ: كلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ[رواه ابن ماجة: 4251، وهذا حديث حسن، حسنه الألباني، في صحيح الجامع: 4515].
لكن نحن علينا: أن نتناصح فيما بيننا: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[سورة العصر: 1-3].
عدم تكفير عصاة أهل القبلة بذنب ما لم يستحله:
من المخالفين للمنهج: العصاة على اختلاف درجاتهم:
فهناك قواعد سريعة في التعامل معهم:
أن نتعامل معهم على أساس أنهم مسلمون، فلا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله:
كما قال الإمام الطحاوي: "العاصي لو ارتكب كبيرة لا يكفر، ولا يلعن، ولا نكون عوناً للشيطان عليه، "كان يؤتى رجل إلى النبي ﷺ يجلد في الشراب" ابتلي بذلك، تتابع الأمر، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: "اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به" فقال النبي ﷺ: لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله[رواه البخاري: 6780].
وأبو الدرداء : "مر على رجل قد أصاب ذنباً، فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألا تكونون مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإن تركه فهو أخي"[رواه عبد الرزاق في المصنف: 11/180، رقم: 20267، والبغوي في شرح السنة: 13/137، وأبو داود في الزهد: 232].
الإيمان والطاعة أساس الولاء والحب والكفر والمعصية أساس البغض والبراءة
ونقول -كذلك-: الإيمان والطاعة، هما أساس الولاء والحب، والكفر والمعصية، هما أساس البغض والبراءة:
ولذلك لو جيء لنا بعاص، فنحن نحبه بقدر ما معه من الإيمان، ونبغضه بقدر ما معه من العصيان، نحبه بقدر ما يقوم به من الطاعات، ونبغضه بقدر ما يعمله من المعاصي.
هذا تحقيق: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان[رواه أبو داود: 4683، وهو حديث صحيح، وقال الألباني: "حسن صحيح"كما صحيح الترغيب والترهيب: 3029].
موقف المرجئة وأهل السنة من العصاة
إذن، مسألة الموقف من العاصي: أنه أيضاً ما في مسألة دائماً ليست حدية، بمعنى: أن نعامل العاصي معاملة نتبرأ منه، تبرؤاًكاملاً.
انظر المرجئة الآن إذا كانوا سيوالونه بحسب ما معهم من الإيمان، يقولون: نوالي ولاءً كاملاً؛ لأن الإيمان عند المرجئة لا يتبعض، يقولون: الإيمان كامل ما في إيمان ناقص!.
أهل السنة، يقولون: الإيمان يزيد وينقص.
ولذلك نحن سيتفاوت موقفنا من العاصي، بحسب معصيته، كبيرة أو صغيرة، عملها مرة، مصرا عليها، أو غير مصر.
الدعاء للعصاة بالهداية والحرص على هدايتهم
وأيضاً: الدعاء لهم بالهداية، والحرص على هدايتهم: والنبي ﷺ كان يأخذ بحجز الناس عن النار، وهم يقتحمون فيها حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[سورة التوبة:128].
الستر على العصاة غير المجاهرين والمتهتكين
وكذلك: الستر على العصاة غير المجاهرين، والمتهتكين:"من ستر مسلماً ستره الله"[رواه البخاري: 2442، ومسلم: 6743].
"والستر المندوب، ستر ذوي الهيئات ممن ليس معروفاً بالأذى والفساد، وأما المعروف بالفساد -كما يقول النووي- يرفع إلى ولي الأمر إذا لم تكن مفسدة أشد، حتى لا يتساهل الناس في المعاصي، وهذا في معصية حصلت وانقضت، أما معصية رآه عليها متلبساً بها، فتجب المبادرة إلى الإنكار، فإن عجز رفع إلى ولي الأمر[انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 8/387].
الأخذ على أيدي العصاة وتعزيرهم وعدم إعانتهم على المعصية
وكذلك: الأخذ على أيديهم، ومنعهم من المعصية، وتعزير المجاهرين بما يردعهم، وعدم مخالطة المجاهرين بالمعاصي، وعدم جواز إعانة العاصي على معصيته.
هذه إلماحة سريعة عن قضية القواعد في التعامل مع العصاة، وسيكون لذلك شيء من التفصيل، وفي الدرس القادم سندخل في موضوع جديد -إن شاء الله-.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.