الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد تقدم في الدرس الماضي في "حماية منهج السلف"ذكر الموقف الشرعي من الخارجين عن منهج السلف، والمخالفين له.
وذكرنا: إن المخالفة قد تكون كلية، كالكفار والمرتدين والمنافقين نفاقاً أكبر، وقد تكون مخالفة في أمر عملي لا يخرج عن الملة.
وذكرنا: أن الموقف من الكفار مبني في الشرع على عدة أمور:
ومن ذلك: التعامل معهم بناء على العدل الذي قامت به السموات والأرض، وأن هذا أساس مهما كانت العداوة بيننا وبينهم.
وأن من عصى الله -تعالى- فينا أطعنا الله فيه.
ومقابلة السيئة بالحسنة ما أمكن.
وأهمية العلم بحال هؤلاء في التعامل معهم.
والتعامل على الظاهر، والله يتولى السرائر.
وتحدثنا عن موقفنا منهم، وأنه ينبغي التعامل معهم على أساس الاعتزاز بالإسلام، والبراءة من الشرك، وأن الكافر والمسلم لا يستويان، وكذلك مراعاة اختلاف أحوال المخالفين من الكفار، وأيضاً: جواز الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة، وسائر أنواع البر من غير المحاربين.
وكذلك التعامل معهم على أساس الرحمة العامة، والوفاء لهم بالعهود والمواثيق التي نعاهدهم عليها، وعدم الغدر.
وجواز المعاملات الدنيوية من التبادل التجاري والصناعي، وغير ذلك، وعدم المشابهة مع البراءة وعدم الموالاة.
بعض هذه البنود التي تحدثنا عنها، والتي فيها الإحسان من غير المحبة القلبية؛ لأن المحبة القلبية لا تجوز أبداً، مهما كان نوع الكافر، وأن التعامل معهم بالأمانة، وعدم خرق العهود والمواثيق التي نعاهدهم عليها، وعدم جواز الغدر، مبني على قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:34].
وقوله : وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ[سورة المؤمنون: 8].
بعض الأدلة في وجوب احترام العهود بين المسلمين والكفار:
ومن الأدلة على وجوب احترام العهود بين المسلمين والكفار: حديث حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدراً، إلا أني خرجت أنا وأبي حسين، خرجوا من مكانهم إلى المدينة لمبايعة النبي ﷺ على الإسلام، في الطريق حدث شيء، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده -ما يريدوا إلا المدينة-، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله ﷺ، فأخبرناه الخبر، حصل كذا وكذا، قال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم[رواه مسلم: 4740].
وعن سليم بن عامر قال: "كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم، -يسير بناء على العهد- فهو لا يغزوا وإنما مجرد يقطع المسافة ينتقل من مكان إلى مكان، حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عبسة –صحابي قديم- فسأله معاوية عن ذلك –يعني لماذا تقول هذه الكلمات؟- فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يحلن عهداً من الحل، الإلغاء والإنهاء ولا يشدنه، حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء يعني يخبرهم أن العهد انتهى، أما أن يغير عليهم بدون إخبار أثناء المدة، فلا يجوز، قال: "فرجع معاوية" [رواه أبو داود: 1251، والترمذي: 1580، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح أبي داود: 2464]رجع بالجيش، ما مضى في غزوه.
"الفيزة" تعد عقد أمان
ومن المسائل المهمة التي تتعلق بهذا الباب مسألة: المسلم إذا دخل بأمان دار الكفار، حتى لو كانت دولة محاربة للمسلمين، وهذا دخل بلدهم بفيزة، والفيزة تعتبر عقد أمان، بمعنى أنك تأمن على نفسك إذا دخلت، وهم يأمنون في المقابل على أنفسهم وأموالهم، فيحرم أخذ شيء من أموالهم، حتى لو كانوا حربيين، ويحرم الغدر.
ومع الأسف: أن بعض جهلة المسلمين، الذين يدخلون اليوم بعض بلاد الكفار من المحاربين، يدخل بعهد، أو أمان، أو بفيزه، يمكن أن يقتل، أو ينهب، أو يسرق، وهذا حرام، حتى لو كانوا حربيين؛ لأنه دخل بأمان، ويظن بعضهم أن هذا من باب البراءة من المشركين، وهذا فقه مغلوط، وموقف شاذ لا يتوافق مطلقاً مع كلام علماء الإسلام، ولا مع فقه الكتاب والسنة.
وقد لخص الإمام الشافعي -رحمه الله- هذه المسألة بكلام فصل، فقال: "وإذا دخل رجل دار الحرب بأمان –يعني دخل رجل من المسلمين دار الحرب الكفار، دخلها بأمان، اتفاق معهم- وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له، لم يحل له أن يأخذ شيئاً قل أو كثر؛ لأنه"يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "إذا كان منهم في أمان، فهم منه في مثله".
"فهم منه" من هذا المسلم "في مثله"يعني في مثل ذلك الأمان.
قال رحمه الله: "ولأنه لا يحل له في أمانهم إلا ما يحل له من أموال المسلمين وأهل الذمة؛ لأن المال ممنوع لوجوه:
أولها: إسلام صاحبه.
والثاني: مال من له ذمة.
والثالث: مال من له أمان إلى مدة أمانه، وهو كأهل الذمة فيما يمنع من ماله إلى تلك المدة"[الأم: 4/268].
تحريم أخذ مال الذمي والمستأمن:
إذن، ما هي الأشياء التي تجعل المال حراماً، لا يجوز الأخذ منه؟
أولا: إسلام صاحبه: أن يكون مسلماً؛ لأن مال المسلم حرام لا يجوز لأحد أن يأخذه.
ثانياً: مال الذمي.
ثالثاً: مال صاحب الأمان الذي أعطي أماناً، أو أعطى أماناً، فلا يجوز أن يؤخذ من ماله شيء.
وقال رحمه الله: "وإذا أسر العدو الرجل من المسلمين فخلو سبيله –أطلقوه- وأمنوه، وولوه ضياعهم – قالوا: أنت مسلم، وأنتم عندكم أمانة، تعال نوليك على أموالنا، نوليك على مزارعنا- قال: وولوه ضياعهم أو لم يولوه، فأمانهم إياه أمان لهم منه، وليس له أن يغتالهم، ولا يخونهم"[الأم: 4/247].
وقال أيضاً رحمه الله: "ولكنه ليس له أن يغتالهم في أموالهم وأنفسهم؛ لأنهم إذا أمنوه، فهم في أمان منه، ولا نعرف شيئاً يروى خلاف هذا"[الأم: 4/275].
وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "دخل مسلم دار الحرب بأمان، فاقترض منهم شيئاً، أو سرق وعاد إلى دار الإسلام، لزمه رده"[روضة الطالبين وعمدة المفتين: 10/291].
بعض الطلاب المبتعثين يقولون: أخذنا قروضاً، هو الآن دخل دار الحرب، أو دار الكفر بأمان، بالفيزة، يقول: أنا دخلت، واقترضت عليّ قروض؟
نقول: يجب أن تردها.
يقول: أنا رجعت إلى دار الإسلام.
نقول: يجب أن تردها.
قال الإمام النووي -رحمه الله- في [روضة الطالبين: 10/291]: "لأنه ليس له التعرض لهم إذا دخل بأمان".
وذكر نحو ذلك ابن قدامة -رحمه الله- في المغني.
فإذن، وصف رحمه الله ما أخذه من أموالهم بالسرقة، وليس كما يظنه البعض غنيمة، وأموالاً طيبة.
حالات يجوز فيها أخذ أموال الكفار:
متى تكون غنيمة وأموالاً طيبة؟
إذا لم يدخل بأمان، أو أنه استولى عليها، وهو خارج بلادهم منهم، إذا كانوا حربيين، أما إذا كانوا كفاراً مسالمين، فلا يجوز له الأخذ من أموالهم.
وهذه المسألة الذين يقعون فيها يعطون صورة سيئة عن الإسلام؛ لأن الكفار يكتشفون هذه السرقات، ويكتشفون هذا الأخذ، ويكتشفون عدم رد القرض، ويكتشفون التهرب من تسديد الالتزامات المالية، ويقولون: هذا عمل المسلمين، دخل بأمان وأعطيناه الأمان، ثم هاهو يغدر، وهاهو يسرق، وهاهو لا يعيد المال، ونحو ذلك.
وذكرنا في الموقف من الكفار: جواز التعامل معهم في المباحات؛ كالتبادل التجاري، والصناعي، والتقني، ونحو ذلك من المعاملات الجائزة، ولا يتعارض هذا مع البراءة منهم.
يعني أنت تتبرأ من شركه وكفره، تكره شركه وكفره، ويجوز لك أن تشتري منه، وأن تبيعه، وأن تتعاقد على خدمة من الخدمات، ونحو ذلك.
فعن عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي ﷺ اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنه درعاً من حديد"[رواه البخاري:2386، ومسلم: 4199].
ولا مانع من الانتفاع بما عندهم من علوم الدنيا، ولا مانع من الانتفاع بما عندهم من علوم الدنيا.
فقد "استأجر النبي ﷺ وأبو بكر، رجلاً خِريتاً من المشركين، رجلاً من بني الديل، هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش"[رواه البخاري: 2263].
والخريت، هو الماهربالدلالة على الطريق، يعرف المسالك والدروب.
وجوب مخالفة الكفار وتحريم مشابهتهم:
سادساً في الموقف من الكفار: تحريم مشابهتهم، بل تعمد مخالفتهم، يعني من الشرع: أن نتعمد مخالفتهم، ومن الشرع: أنه يحرم مشابهتهم.
وقد نهى الشرع عن مشابهة الكفار، كما قال النبي ﷺ: من تشبه بقوم فهو منهم[رواه أبو داود: 4033، وهو حديث صحيح،صححه الألباني في صحيح الجامع، رقم: 6149].
فيحرم التشبه بالكفار في كل ما كان من خصائصهم، وعاداتهم، وعباداتهم.
والمقصود بالعادات التي تميزهم عن غيرهم، وتدل عليهم، فهي علامة عليهم.
وكذلك لا يجوز التشبه بهم في سمتهم، كما أنكر النبي ﷺ على ذلك المجوسي حلق لحيته، وإطالة شاربيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة، والتدريج الخفي"[اقتضاء الصراط: 1/548].
بعض أسباب عدم جواز التشبه بالكفار:
لو قال قائل: لماذا لا يجوز التشبه بالكفار؟
فيقال: لأسباب كثيرة:
أولاً: في ذلك قرة عين لهم، عندما يرون مسلماً يتشبه بهم، ويعمل مثلهم.
ثانياً: فيها هوان لأهل الإسلام، وإعزاز لأهل الشرك.
ثالثاً: تكثير سوادهم في الظاهر لا يجوز.
رابعاً: أن التشبه بهم في الظاهر وسيلة للتشبه بهم في الباطن.
الارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن:
ومن زعم: أن الظاهر لا علاقة له بالباطن، ولا يؤثر عليه، فهو مغالط للحقيقة.
ألا ترى أن الضابط في البدلة العسكرية يختلف فعله، تختلف تصرفاته، بل مشيته، عنها في لباسه المدني، وما الفرق إلا شيء ظاهر وهو الثياب.
ولذلك، فإن للشيء الظاهر، أو للسمت الظاهر، أو للباس الظاهر، أو للعادات الظاهرة تأثير في الباطن، ولذلك شيخ الإسلام قال: "على وجه المسارقة والتدريج الخفي"[اقتضاء الصراط المستقيم: 1/548].
يعني التسلل إلى داخل نفوس المتشبهين، ما يتسلل إليهم من دين الكفار، وعقيدة الكفار، فالمشابهة في الظاهر تورث نوعمودة ومحبة وموالاة في الباطن.
ولذلك شباب المسلمين هؤلاء لما يتشبهون بالكفرة، من المغنين، والممثلين، واللاعبين، بل بعضهم قد يتشبه بهم في لباس رهبنتهم، وهيئة قساوستهم، ونحو ذلك.
هذا كله ذريعة إلى محبتهم، وتسلل هذه المحبة إلى قلوب هؤلاء الشباب المسلمين، لدرجة أنهم صاروا يقومون بشعارات الكفر الظاهرة؛ كالتثليث في الملاعب، وغيرها، هذا تشبه، لكن تشبه واضح في الكفر.
فلا يقولن قائل: هذا تشبه ظاهري لا يدل على شيء، والعقيدة سليمة في الداخل.
نقول: ليست سليمة، ولا تكون سليمة، وتأمل ماذا يكون على المدى الطويل، فالمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف، ومن كره شيئاً جعل لا يتشبه به في أمر مطلقاً.
فلو واحد الآن، مثلاً: زوجة كرهت حماتها، فلا تتشبه بها، حتى في طريقة الطبخ، مع أنه مسألة عادية!... لماذا؟
الباطن له انعكاس على الظاهر.
وتراه إذا كره شخصاً لا يلبس مثله، ولا يمشي مثله، بل يحرص على مخالفته، لكرهه له وبغضه.
وإذا أحب شخصاً، قلده في صوته، ومشيته، وملابسه، ونحو ذلك مما يفعله من يقع في العشق.
إذن، هناك ارتباط بين قوي بين الظاهر والباطن، ولما نهى الشرع عن المشابهة في الظاهر؛ نهى لحكم عظيمة، وأسباب قوية.
البراءة من شرك وكفر الكفار وعدم موالاتهم:
سابعاً: من الموقف من الكفار: البراءة من شركهم وكفرهم، وعدم موالاتهم: فحتى لو كانوا من غير المحاربين، وأحسنا لهم بأنواع من الإحسان، فإن ذلك لا يلزم منه موالاتهم ومحبتهم ومهادنة كفرهم، كلا.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:"الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد"[مجموع الفتاوى: 11/160 -161].
قال تعالى: وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[سورة التوبة:3].
أي: ورسوله كذلك بريء منهم.
هذا الدليل على البراءة من المشركين.
فأهل الإيمان يتبرؤون من الكفرة جملة وتفصيلاً، قال الله -تعالى-: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[سورة المجادلة: 22].
بعض صور الموالاة المحرمة للكفار
ومن أهم ما ذكره أهل العلم من صور الموالاة المحرمة، وقد تصل إلى الكفر: الرضا بكفرهم، أو الشك فيه، أو الامتناع عن تكفيرهم، أو الإقدام على مدح دينهم.
كذلك: التحاكم إليهم، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ[سورة النساء: 60].
وكذلك مودتهم ومحبتهم، قال الله -تعالى-: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ[سورة المجادلة: 22].
فإذن، محبته حرام.
ومن المحرمات أيضاً: الركون إليهم، والاعتماد عليهم، وجعلهم سنداً وظهيرا، قال الله -تعالى-: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ[سورة هود: 113].
ومن الأمور المحرمة جداً: إعانتهم، ومظاهرتهم على المسلمين، ومناصرتهم علىأهل الدين القويم، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ[سورة المائدة: 51].
ومن الصور الشنيعة في موالاتهم: نقل قوانينهم إلى بلاد المسلمين ليحكم بها، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[سورة المائدة: 50].
وهناك صور أخرى كثيرة للموالاة المحرمة للكفار، وهذه بعض صورها.
والواجب: البراءة منهم، وكره ما هم عليه من الكفر.
حكم الاختلاط بالكفار في الأعمال الدنيوية:
فإن قال قائل: هؤلاء يخالطوننا، وهم معنا في الأعمال، ونحن نسافر إليهم، وهم يدرسوننا، ويدرسون معنا، وانفتحت الدنيا على بعضها البعض الآن، وهؤلاء من غير المسلمين، مع المسلمين في منتدياتهم، ومجموعاتهم الإلكترونية، وغير ذلك؟!
فنقول: كل ذلك لا يبيح الموالاة، ولا المحبة القلبية، فكيف تحب من عادى ربك وسبه وشتمه، وزعم أن له زوجة وولدا، وزعم أنه ثالث ثلاثة، وزعم أن المسيح هو الله، وزعم أنه بوذا، وزعم أنه بقرة، وزعم أنه الشمس والقمر، والشجر والحجر، ومن أنكر وجوده وجحده من هؤلاء الملاحدة، كيف تحبه؟! كيف تحبه وقد سب ربك وشتمه، وكفر به وجحده؟!
لا يمكن أن يفعل ذلك مؤمن، ومن أحب كافراً فعليه أن يراجع دينه، وأن ينقي قلبه؛ لأنه على خطر عظيم.
وهذا أيضاً لا ينافي الإحسان والبر بغير المحاربين من الكفار، فلا يستلزم الإحسان إليهم أن نحبهم، ولا يستلزم البر بهم أن نواليهم، وأنت أحياناً تصانع رجلاً من المسلمين تبغضه، ومع ذلك تتعامل معه في الظاهر.
مديرك في العمل كثيراً ما تبغضه، وتنفر منه، ومع ذلك تتعاون معه في الاجتماعات، وتنفذ خطة العمل، وربما ضيفته وأنت تكرهه.
مديرك في العمل تدعوه إلى وليمة، وتجيب دعوته، بل وتخدمه، وربما قال: أوصل أولادي إلى المدارس، وأنت تبغضه بغضاً عظيماً، وهو مسلم، لخلاف بينك وبينه، أو؛ لأن له سلوكاً لا ترتضيه، ونحو ذلك، فماذا تقول في هذه؟ وهو في أصل الإسلام مثلك، وأنت كاره، يعني لا ترى الطريق من كرهه؟
فإذن المؤمن الحقيقي، هو الذي يقف من الكافر الموقف الشرعي، ما يظلمه ولا يغدر به، بل ربما أحسن إليه، وبر به، ومع ذلك يكرهه لكفره، وبحسب موقف الكافر من الله يكون موقفنا منه.
ثالثا: لأننا نحن نتكلم الآن عن الموقف من المخالف، ما هو المنهج السلفي في الموقف من المخالف؟ وبينا منهج السلف في الموقف من الكافر.
الموقف من المنافقين وكيفية التعامل معهم
النوع الثاني من المخالفين: المخالفة الكاملة التامة في أصل الدين: المنافقون الزنادقة النفاق الأكبر، فالمنافقون من أقسام الكفار، بل من شرهم، قال الله -تعالى-: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً[سورة النساء: 145].
فهم وإن كانوا في أحكام الدنيا يعاملون معاملة المسلمين في الظاهر، لكن مآلهم إلى أسفل سافلين.
تعريف النفاق:
والنفاق في اللغة: أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن.
وفي الشرع: إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وكتمان الكفر في القلب.
فكيف يكون التعامل مع هذا النوع من المخالفين؟
المنافقون متلونون مخادعون، يظهرون خلاف ما يبطنون، ولذلك فهم يحتاجون إلى نوع خاص من المعاملة ليس كمعاملة بقية الكفار، فلا يمكن أن نعاملهم معاملة الكفار، وهم يظهرون الإسلام، ولا يمكن أن نعاملهم معاملة المسلم الأخ في الله وهم يبطنون الكفر، فكيف نعاملهم بالتصافي والثقة، وهم ألد أعداء الإسلام؟!
ولا خير في ود امرئ متلون | إذا الريح مالت مال حيث تميل |
أسس وقواعد التعامل مع المنافقين
بيان الحق للمنافقين وإقامة الحجة عليهم:
وهناك أسس وقواعد للتعامل مع المنافقين، ومنها:
أولاً: أن نبين لهم الحق، ونقيم الحجة عليهم: قال الله -تعالى-: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ[سورة الأنعام: 149].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر الإسلام، قال الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[سورة التوبة: 73].
فجهاد المنافقين كما يقول ابن القيم: أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة"[زاد المعاد: 3/5].
لأنه يحتاج إلى بصيرة بالمنافقين، أن تبصر أحوالهم، أن تتعرف إليهم، أن تكتشفهم، ومن الذي يكتشفهم؟!
ثم الترصد لهم لأجل الوقاية من شرهم ومكرهم ومؤامراتهم، فمن الذي يتصور هذا ويتتبعه، ويعرف كيف يتعامل معه، وهذا مكر خفي وعدو باطن؟!
ولذلك قال ابن القيم: "جهاد المنافقين من خواص، من جهاد خواص الأمة"[زاد المعاد: 3/5].
فالعامة لا يستطيعونه، وجهادهم هذا فيه أجر عظيم، وقد يكون أعظم أجراً من قتال الكفار بالسلاح، والله شاء أن توجد هذه الطبقة من الناس، وهذا النوع من البشر تمحيصاً وابتلاءً، يطعنون في دين الإسلام، ويضربون في ظهر المسلمين من الخلف، عدو باطن داخل في المسلمين، مدسوس بينهم، ليس مثل الكافر الظاهر المعروف.
قال: "فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، بل هو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلين عدداً".
يقول ابن القيم: "فهم الأعظمون عند الله قدرا" [زاد المعاد: 3/5]فالاشتغال بجهاد المنافقين من أعظم الطاعات.
مصارحة المنافقين بكفرهم إذا أعلنوه ومواجهتهم به
ثانياً في الموقف من المنافقين: ولابد من مصارحتهم بكفرهم إذا أعلنوه، ونواجههم به، نقول: قلتم كذا! كتبتم كذا! صرحتم بكذا! فعلتم كذا!.
ولا يجوز مجاملتهم على حساب الدين.
فمن النصيحة للمنافق إذا أظهر كفراً: أن نبين له كفره، من النصيحة للكافر والمنافق: نصحه، وتبيين حاله له.
وقد قال الخليل لقومه الكفار: لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[سورة الأنبياء: 54].
قال عبد الله بن عمر : "قال رجل في غزوة تبوك، في مجلس يوماً: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء".
هذا منافق يتكلم على الصحابة، يقول: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء"-القراء: حفظة القرآن- يقول: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء"حفظة القرآن والعلماء، وهؤلاء هم رأس الصحابة، ما رأيت مثلهم لا أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء.
"فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق".
واجهه؛ لأن كلامه صريح لا يحتمل تأويلاً، ليس كلاماً ملفوفاً، كلام صريح، فيه شتم للصحابة.
"فقال رجل في المجلس -يعني من المسلمين-: كذبت، ولكنك منافق".
وبعض المنافقين يصرحون بهذا بين بعض قومهم، وفيهم بعض المسلمين ذي القرابة، فيتجرؤون يقول هذا منا وفينا؛ لأنه قريبه، لكن هذا القريب المسلم لم يسكت"قال: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ﷺ، فبلغ ذلك النبي ﷺ، ونزل القرآن: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ[سورة التوبة:65-66].
"قال عبد الله: فأنا رأيته -رأيت ذلك المنافق الذي كان يتكلم في ذلك المجلس- تنكبه الحجارة، فأنا رأيته متعلقاً بناقة رسول الله ﷺ، فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله ﷺ تنكبه الحجارة".
يعني يمشي، وهو متعلق ويعتذر: ما قصدنا، وما قصدنا، والنبي ﷺ لا يلقي له بالاً، والحجارة تنكب رجليه وتضربها، ويقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب؟ حديث الركب نقطع به عناء الطريق؟ ورسول الله ﷺ لا يزيد على أن يقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ[سورة التوبة: 65] [الحديث رواه الطبري في تفسيره: 11/543، وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح"].
وهكذا كان يفعل العلماء على مدار التاريخ، إذا صرح منافق بالكفر، بينوا حكمه مباشرة، كما فعل العلامة أحمد شاكر -رحمه الله-، في بيان كفر فتاة كتبت تطعن في أحكام المواريث في الإسلام.
وقال الشيخ: "وهكذا يجب أن نفعل كل من أبدى للإسلام صفحته، صدعنا بأمر الله، وصارحناه بحكم الإسلام فيه، وعاملناه بما تأمرنا به الشريعة في كل أموره" انتهى.
خطر الثناء على المنافقين والسكوت على باطلهم
وأما ما يفعله بعض المتخاذلين اليوم: من الثناء على المنافقين، والسكوت عن باطلهم، أو اعتبار كلامهم نوعاً من الحرية والإبداع، فهذه خيانة لله ولرسوله ولدينه، وهؤلاء المنافقون يزينون كفرهم.
وإعلان المنافق بالكفر الصريح اليوم عبر أي وسيلة من الوسائل المسموعة، أو المقروءة أو المرئية، والسكوت عليه جريمة؛ لأن معنى ذلك أن يظهر كلام هذا المنافق للعامة أنه شيء عادي؛ لأن العلماء ما أنكروا، والدعاة ما بينوا، وأن أهل الإسلام سكتوا.
فإذا صار الأمر أسوأ من ذلك، بأن قام بعض المنتسبين إلى الدين بالثناء على هؤلاء المنافقين، في الوقت الذي يجب الإنكار عليهم، وفضحهم، وبيان باطلهم، فإذا قام هؤلاء بالثناء عليهم ماذا ستكون النتيجة؟
معاملة المنافقين في أحكام الدنيا معاملة المسلمين ما لم يظهروا كفرهم ونفاقهم:
ثالثاً في الموقف من المنافقين: المنافق ما لم يظهر كفره ونفاقه، فإنه يعامل في أحكام الدنيا معاملة المسلمين:
يعني مثلاً حرمة الدم، حرمة المال، الصلاة عليه، دفنه، إرثه، ذبيحته، دخوله الحرم، إلى آخره.
فهو قد أعلن ما يعصم به دمه وماله من الشهادتين، والنطق بهما، والإقرار الظاهر بالإسلام، وربما أداء الصلاة مع المسلمين، كما كان المنافقون يفعلون على عهد النبي ﷺ.
وهذا الفعل من المنافقين جنة ووقاية؛ كما قال الله : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[سورة المنافقون: 2].
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "يعني والله تعالى أعلم"يعني جنة وقاية من ماذا؟ قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "من القتل، فمنعهم من القتل، ولم يزل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم –يعني ربنا- الدرك الأسفل من النار، لعلمه بسرائرهم، وخلافها لعلانيتهم بالإيمان"[أحكام القرآن، لابن العربي" 1/ 299 - 300].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لم يحكم النبي ﷺ في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم، ولا موارثتهم، ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي بن سلول، وهو من أشهر الناس في النفاق ورثه ابنه عبدالله، وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم-يعني لأحد هؤلاء المنافقين- وارث -يعني من المسلمين- ورثوه مع المسلمين ... وإن علم في الباطن أنه منافق، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، بل كانوا يورثون ويرثون، وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين"[مجموع الفتاوى: 7/210].
إذن، نحن في أحكام الظاهر نجري عليهم أحكام الإسلام، ما دام ما أظهروا الكفر؟
وإذا أحسسنا بنفاقهم، في قرائن، في ريبة، اجتماعاتهم، أعمالهم فيها يعني أشياء من هذه الشكوك الكثيرة، الأمور التي تدعو إلى الارتياب فيهم بقوة، لكن ما صرح، لكن هذه جلساته، وهذه اجتماعاته، يعني ظهرت قرائن كثيرة؟!
فنقول: مادام ما صرح بالكفر، سنجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر، سنأكل ذبيحته، ويعقد لابنته، ويدخل الحرم، ويعصم دمه وماله، وإذا مات نغسله ونكفنه، ونصلي عليه، وندفنه في مقابر المسلمين، ويورث، ويرث هو لو كان حياً ومات له قريب مسلم، فهذه كله في أحكام الدنيا.
ولا يقول قائل: ما الفائدة؟ ما في فائدة؟.
بل ثمة فائدة؛ لأن هذا فيه دفع لهم لعدم الانسلاخ من الإسلام في الظاهر، فهناك فائدة ومصلحة في قضية بقاء هذا في الظاهر له هذه الأحكام، وقد يحدث تمرد كبير، يعني هذا هذه المعاملة فيها نوع من كف الشر؛ لأن المنافق يريد أن يحمي دمه وماله، يريد أن يعيش مع قوم له حقوق، فظاهرياً المسألة فيها فوائد.
الذين هم خارج مجتمع المسلمين، لا يرون أن المسلمين يغدرون ويخونون لإخوانهم، وإلا لو صار الأمر إلى قتل المنافقين، حتى لو ما صرحوا، لقال الكفار: ما الفائدة من الدخول في الإسلام، لو دخلنا يقتلوننا! قتلوا أخاهم فلاناً، وقتلوا فلاناً وهو منهم؟! فإذن، في مصلحة في قضية معاملة هؤلاء معاملة المسلمين في الظاهر.
سلم عليه، ورد السلام، تشميت العاطس.
وقد ترك النبي ﷺ قتلهم سداً لذرائع النفور من الإسلام، يعني منعاً للتنفير من الإسلام.
ويدل على ذلك حديث جابر قال: "كنا في غَزَاة -أي غزوة بني المصطلق- فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار".
الكسع: الضرب على الدبر باليد أو بالرجل، هذا يسمى كسعاً في اللغة.
"فقال الأنصاري: يا للأنصار!" يستنجد. "وقال المهاجري: يا للمهاجرين!" يستغيث بهم.
"فسمع ذلك رسول الله ﷺ فقال:ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، قال: دعوها فإنها منتنة فسمع بذلك عبد الله بن أبي -رأس المنافقين- فقال: فعلوها".
تأمل الآن ينتهز الفرصة، ويريد أن يستغل هذا الحدث، يعني أخطأ شخص في حق أخيه المسلم كسعه.
فالذي كسع، مهاجري، والمكسوع، أنصاري.
الآن عبد الله بن أُبي هذه فرصته، قال: فعلوها! يعني هؤلاء المهاجرين "آويناهم، وأطعمناهم".. وفعلنا... والآن بدؤوا بالعدوان؟!
هو تصرف فردي، وكان هذا المهاجري رجلاً لعاباً أو مزاحاً، مزحة ثقيلة، لكن عبد الله بن أبي هذه فرصته الآن!.
"قال: فعلوها: أما والله لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ[سورة المنافقون:8]".
هو يقصد أنه هو الأعز، ويقصد بالأذل النبي ﷺ.
ولكن أخزاه الله بأقرب الناس إليه بولده، فسبق ولده ووقف على باب المدينة، ولما جاء عبد الله يدخل شهر عبد الله بن عبد الله ولده، سيفه، وقال: لا تدخلن إلا وأنت الذليل ورسول الله ﷺ العزيز.
على أية حال كلام عبد الله بن أبي هذا الذي كان في قصة زيد بن أرقم، وحصل فيها تمحيص، بلغت النبي ﷺ، فقام عمر، فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال النبي ﷺ: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابهيعني أتباعه [رواه البخاري: 4907، ومسلم: 4907].
قال النووي -رحمه الله-: "فيه ترك بعض الأمور المختارة، والصبر على بعض المفاسد، خوفاً من أن يترتب على ذلك مفسدة أعظم، وكان ﷺ يتألف الناس، ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك".
قال –أي النووي رحمه الله-: "ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه ﷺ، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا، أو عصبية لمن معهم من عشائرهم"[المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، للنووي: 8/392].
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: الثالث –يعني من القواعد على سد الذرائع، من الشواهد، من الشواهد على سد الذرائع والأدلة- أن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة"يعني أن فيه تخلص من شرهم، وذلك مراعاة لمفسدة أكبر، وحتى لا تفوت مصلحة أكبر.
"أن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قول الناس –يعني الكفار من الخارج- أن محمداً ﷺ يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام"[إقامة الدليل على إبطال التحليل: 3/471].
فكان الأصل في تعامله ﷺ مع المنافقين: أن يجري ظاهر حكم الإسلام عليهم، ماداموا مظهرين للإسلام.
معاملة المنافقين معاملة الكفار وإقامة حد الردة عليهم إذا أظهروا الكفر الصريح وثبت بالأدلة الواضحة:
رابعاً: فإن ظهر من المنافقين الكفر الصريح، وثبت بالأدلة الواضحة، فيعاملون معاملة الكفار، ويقام عليهم حد الردة:
روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، عن حذيفة قال: "إنما كان النفاق على عهد النبي ﷺ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان"[البخاري: 7114].
وفي رواية: "فإنما هو الكفر أو الإيمان"[فتح الباري: 13/74، والجمع بينالصحيحين البخاري ومسلم: 1/164] محمد بن فتوح الحميدي].
قال الحافظ -رحمه الله-: "والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع"[فتح الباري: 13/74].
يعني لم يرد أنه ما في نفاق بعد النبي ﷺ، لم يرد أنه ما في نفاق يحدث بعد العهد النبوي.
قال: "وإنما نفى اتفاق الحكم، وإنما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي ﷺ كان يتألفهم، ويقبل ما أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم احتمال خلافه"[فتح الباري: 13/74].
تأمل الآن حذيفة يريد أن يبين أمراً، يقول: النبي ﷺ ما كان يقتل المنافقين في عهده؛ لأنه كان يتألف قلوب الناس، وهؤلاء المنافقون لهم أقارب، لهم قبائل، وإذا قتلهم ممكن تثور قبائل مسلمة، أو يصير حمية، والناس ما بعد استقر الدين في نفوسها، والإيمان ما استقر، فإذا قتل هؤلاء نفر الخارج، وربما تثور فتنة في الداخل.
يقول حذيفة: أما الآن بعد تمكن الدين، المنافق لو اطلع على نفاقه يقتل، هذا الذي يعرف عند العلماء بقتل الزنديق، إذا اطلع بالأدلة على أنه يبطن الكفر، اطلعنا بالأدلة على أنه يبطن الكفر، وثبت عليه، يقتل زندقة، ولا يترك.
يقول حذيفة بعدما استتب الدين، ودخل الإيمان النفوس، واستقر أمر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، تغير الحكم، الآن ممكن يقتل المنافق إذا اطلع على نفاقه، وثبت ثبوتاً شرعياً.
قال ابن حجر -رحمه الله- معلقاً على كلام حذيفة: "وأما بعده-يعني بعد النبي ﷺ من أظهر شيئاً، فإنه يؤاخذ به، ولا يترك لمصلحة التألف لعدم الاحتياج إلى ذلك"[فتح الباري: 13/74].
ولذلك، قال عمر وهو في الخلافة: "من أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة"[رواه البخاري: 2641].
إنشاء الخليفة المهدي وزارة لتتبع الزنادقة
ولذلك ظهر في الخلافة الإسلامية أمر تتبع الزنادقة، كما حدث في عهد الخليفة المهدي -رحمه الله-، المهدي -رحمه الله- الخليفة العباسي، كان من أصلح الخلفاء، وأكثرهم عناية بمصلحة الدين، ولذلك أنشأ وزارة خاصة لتتبع الزنادقة؛ لأن المجوس حاولوا الاختراق، وكان لهم أعمال كثيرة، يظهرون الإسلام يدخلون في الدين وهم كفار، للطعن فيه: المؤامرات، إثارة النعرات، إثارة الفتن، نشر الأحاديث الموضوعة والمكذوبة، والطعن في الدين.
المهم، كان لهم شغل الزنادقة، وكانوا يخترقون حتى دواوين الإسلام، مثل ديوان الجند، مثل الإفشين، هذا وصل إلى رتبة عسكرية عليا.
فالمهدي -رحمه الله- تتبع الزنادقة، وأنشأ هيئة خاصة بتتبعهم، ومن عثر على بينة تدينه بالزندقة كان يقتل.
أحياناً تكون خطابات بينه وبين سادته من المشركين، يعني أشياء أدلة، أو اعترافات، أو شهود ثقات، ونحو ذلك، إذا اطلع على كفره يقتل.
ولذلك، ظهر في كتب الفقهاء مسألة: حكم قتل الزنديق والزنادقة.
والزنادقة هم المنافقون النفاق الأكبر، يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر.
وصار للزنادقة حركة في التاريخ الإسلامي، وكان لها خطر كبير، ولذلك كان تتبعها فرضاً لازماً.
حد الزنديق
وحد الزنديق: القتل؛ كما قال مالك -رحمه الله-: حتى لو أظهر التوبة؛ لأنه يقال له: ماذا زدت؟ أنت من أول تقول: "لا إله إلا الله"، أنت أصلاً كنت تقولها، وقد اطلعنا على زندقتك، تقتل وأمرك إلى الله. إذا ثبتت زندقته.
أين هذا من حال من يمدح المنافقين، ويقرهم على كلامهم، ويؤيدهم فيما يذهبون إليه، بل يمكنهم من نشر الإلحاد والفساد والزندقة، والانحلال، باسم حرية الرأي، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان، ونحو ذلك؟!
وهذه -ولاشك- من المؤامرات العظيمة على الإسلام، والآن بحجة حرية الرأي، يطلق الأمر للزنديق والمنافق أن يطعن في الدين، سواء في تصريح، أو رواية، أو شعر، قصة، أو مقالة، ونحو ذلك.
محاربة أماكن تجمعات المنافقين
خامساً: في التعامل مع المنافقين: محاربة أماكن تجمعاتهم الظاهرة التي تخدم أعمالهم النفاقية: قال الله -تعالى-: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمثَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً[سورة التوبة:107-108].
فأخبر الله أنهم اتخذوا هذا المسجد لعدة أسباب:
أولا: ضِرَاراًيعني مضارة للمؤمنين.
ثانياً: وَكُفْراًقصدهم فيه الكفر، وغيرهم من المؤمنين يبني المساجد للإيمان.
ثالثاً: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَليتشعبوا ويتفرقوا ناس هنا وناس هناك، الآن بناء هذا المسجد ليس لله، وإنما لتفريق المؤمنين.
رابعا: وَإِرْصَاداًيعني إعداداً لمن حارب الله ورسوله من قبل.
فيعينون الكفرة، ولذلك جاء أن هذا المسجد الذي بناه المنافقون في طرف المدينة، كانوا يجتمعون فيه مع بعض الكفار الذين يتسللون من الخارج، ويتداولون الأمر في محاربة الإسلام، تحت ستار مسجد!.
يعني من الذي يتوقع أن يبنى مسجدا؛ أن هذا المسجد الذي يرفع ليذكر الله فيه، أن يكون هذا مقر خيانة لله ورسوله، ومحاربة للدين الذي أنزله؟! وكان أبو عامر الراهب أو أبو عامر الفاسق، أحد الذين يغشون هذا المكان!.
فأمر الله نبيه ﷺ بهدم المسجد، وتحريقه، فهدم وحرق، وقد نهى الله رسوله أن يقوم فيه، وأراد المنافقون، قالوا: نحن بنينا مسجد، تعال افتتح المسجد، صل فيه، قص الشريط، تعال، ودعوه.
قال الله له: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [سورة التوبة: 107-108].
فمساجد الضرار، تهدم وتحرق.
بعض صور مساجد الضرار المعاصرة
ومساجد الضرار، قد يوجد اليوم؛ مجامع ضرار، ومؤتمرات ضرار، وملتقيات ضرار، ويعني صور كثيرة جداً، ليس فقط مسجد الضرار.
ولذلك، فإنه لابد من بيان حال اللافتات الخادعة، وكشف حقيقة هذه الزندقة، والأماكن التي تختفي فيها، وتتآمر منها.
ذكر صفات المنفقين للتحذير منهم
سادساً: ذكر صفات المنافقين للتحذير منهم: قال الله -تعالى-: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ[سورة التوبة:64].
يعني الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين له أمركم، كما حدث في سورة التوبة، وفي سورة المنافقون، وفي سورة محمد، وفي سورة النور، وفي سورة الأحزاب، وأول البقرة، وفي سورة النساء، بيان أحوال المنافقين، وعلاماتهم، وأعمالهم، قال الله -تعالى-: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ[سورة التوبة:64].
يعني الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به.
وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ[سورة محمد:29].
وقال ﷺ: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان [رواه البخاري: 33) ومسلم: 220].
وقال ﷺ: أربع من كن فيه كان منافقاً[البخاري: 34، ومسلم: 219].
وسورة التوبة مليئة بفضائحهم، ولذلك سميت ب"الفاضحة".
عدم إكرام المنافق أو توقيره
سابعاً: لا يجوز إكرام المنافق ولا توقيره: والنبي ﷺ قال: لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يك سيداً، فقد أسخطتم ربكم [رواه أبو داود: 4979، وأحمد: 22989، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2923، وفي صحيح الجامع: 7405].
فمن يقول، ويوقر المنافق، ويقول له هذه الكلمات التي فيها ثناء ومدح، إنما يغضب الله -تعالى-؛ لأنك تعظم عدوه.
وقيل معناه: إن يك سيداً لكم، فتجب عليكم طاعته، فإذا أطعتموه أسخطتم ربكم.
وقال ابن الأثير -رحمه الله-: "فإنه إن يك سيدكم" وهو منافق، فحالكم دون حاله، والله لا يرضى لكم ذلك"[النهاية في غريب الحديث والأثر: 2/1029]أنكم تكونون تحت منافق.
فمن انقلاب الأحوال: أن يصبح المنافقون سادة، ونجوماً لامعة، وأئمة ينعتون بأوصاف التبجيل والتعظيم.
عدم تولية المنافقين الولايات العامة
ومن معاملتهم: أنه لا يجوز توليتهم شيئاً من الولايات العامة أبداً، لا الوزارة، ولا القضاء، ولا إمارة الجند، ولا .. ولا..
ولا حتى -طبعاً- الإمامة في الصلاة، ولا أي ولاية يدبرون فيها شؤون المسلمين؛ لأن هذا سيكون إعانة لهم على القيام بوظيفتهم: من الخيانة لله ورسوله، والطعن في دين الإسلام، والتخذيل فيه، وإثارة الفتن عليه.
كان هذا طائفة من الموقف الشرعي في التعامل مع نوع آخر من المخالفين، وهم المنافقون.
وسنشرع -إن شاء الله- في الدرس القادم، في الكلام على التعامل مع المخالف، في قسم آخر من الأقسام، ونأتي على موضوع المبتدعة والعصاة، وما هو الموقف الشرعي منهم؟
نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.