الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسوله محمد، وآله وصحبه، وبعد:
خُلق الإنصاف
فحديثنا في هذه الليلة -أيُها الإخوة- عن خُلقٍ عظيمٍ من الأخلاق الإسلامية المتفرِّعة من خلقٍ أصليٍّ، يتفرَّع عنه هذا الخُلُق الذي سنتحدَّث عنه في هذه الليلة، وهذا الخُلق الأصلي سبق الحديث عنه: وهو خُلُق العدل، وأمَّا الخلق الذي سنتحدَّث عنه في هذه اللِّيلة فهو خُلق الإنصاف، الإنصاف خُلقٌ عظيمٌ مبنيٌّ على العدل ونابعٌ منه، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المائدة:8].
الأمر بوجوب الإنصاف
لقد امتثل أصحاب النَّبيِّ ﷺ لخلق الإنصاف، حتى جرت الأمثال بقصصهم، ومن ذلك: القصَّة العظيمة التي حدثت للصَّحابي الجليل عبد الله بن رواحة ، لما ذهب إلى اليهود عندما بعثه النَّبيُّ ﷺليخرص النَّخل هناك، فقال لهم: "يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله ، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إيَّاكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسقٍ من تمرٍ، فإن شئتم فلكم وإن أبيتم فلي" فقالوا: بهذا قامت السَّماوات والأرض، قد أخذنا فاخرجوا عنَّا[رواه احمد14996]. رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. خُلُقُ الإنصاف يقول عنه ابن القيم رحمه الله تعالى: "والله تعالى يحبُّ الإنصاف بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرَّجل، خصوصاً من نصَّب نفسه حكماً بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ[الشورى:15]. فورثةُ الرَّسول منصبهم العدل بين الطَّوائف، وألَّا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحقُّ مطلوبه، يسير بسيره، وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف، ويحكم الحجَّة، وما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، فهو العلم الذي قد شمَّر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، ولا يثني عنانه عنه عذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يعيده عنه قولُ قائلٍ[إعلام الموقعين3/ 94-95]. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وأمور النَّاس إنَّما تستقيم في الدُّنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الإشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر ممَّا تستقيم مع الظُّلم في الحقوق وإن لم يشترك في إثمٍ، ولهذا قيل: إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظَّالمة وإن كانت مسلمة، ويُقال: الدُّنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظُّلم والإسلام"[الاستقامة2/ 247]. يعني: لو أخذنا مثالاً بسيطاً: شخصٌ عنده مثلاً شركة، ومجال العمل حلالٌ، لكن الشُّركاء فيها يظلم بعضهم بعضاً، فالشَّركة تتفسَّخ وتزول، ولو أخذنا شركةً أخرى مجال عملها حرامٌ، تشتغل في تصنيع الخمر مثلاً، ولكن الشُّركاء الذين فيها يعدلون فيما بينهم، ويعدلون عند الموظفين، فإنَّ الشَّركة تستمرُّ، يعني: يستمرُّ الشَّيء فيه عدلٌ حتى لو كان إثماً، ما لا يستمر الشَّيء الذي فيه ظلمٌ ولو كان أصله حلالاً، هذا من أهمية وخطورة خُلق العدل، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه عزَّ فيه العدل والإنصاف، حتى أصبحت الأهواء هي التي تتحكَّم بآراء النَّاس وتوجيهاتهم وحكمهم على الأشياء وعلى الأشخاص، حتى إنَّك تجد الإنسان يتغاضى عن أخطاء من يحبُّ مهما كانت كبيرة، ويسوِّغها ويبرِّرها، ويُوجِد له الأعذار، بل رُبَّما تتحوَّل الأخطاء إلى محاسن، ويجعل محبوبه في أعلى المنازل، ولا يقبل فيه نقداً ولا عيباً ولا ذمَّاً ولا قدحاً ولا مراجعةً، وفي المقابل: تراه إذا أبغض أحداً لهوى في نفسه، أو موقفٍ شخصيٍّ مسبقٍ من هذا الإنسان، جرَّده من جميع الفضائل، ولم ينظر إلَّا إلى سيئاته وزالته، ففخَّمها وعظَّمها وكثَّرها وفرَّعها، وينسى أو يتناسى محاسن هذا الشَّخص، ولا ينظر إلَّا إلى سيئاته، لماذا؟ لغلبة الهوى؛ لأنَّ المسألة منبعها من الهوى.
نظروا بعين عداوة ولو أنها | عين الرِّضا لاستحسنوا ما استقبحوا |
فصار النَّاس في طرفين، والوسط بينهما كما قال الشَّاعر:
يقضى على المرء في أيَّام محنته | حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن |
ولذلك كان السَّلف رحمهم الله لا يهتمون كثيراً للمدح المفرط، ولا للذَّم المفرط، وإنَّما بحسبهم أن يكونوا مع الله تعالى، ولذلك يقول مطرِّف بن عبد الله: "قال لي مالك: ما يقول فيَّ النَّاس؟ قلت: أمَّا الصَّديق فيثني، وأمَّا العدو فيقع، فقال: ما زال النَّاس كذلك" لم تأت بجديد "ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كُلِّها"[شعب الإيمان8137]. المشكلة: كُلُّ النَّاس إذا ذمُّوا الشَّخص فهذه المشكلة، لكن أن يثني عليك الصَّديق ويذمُّك العدو، فهذا هو الموجود عند النَّاس، ليس ذا دلالة كبيرة، لكن أن تجتمع كُلُّ الألسنة على ذمِّ شخصٍ؛ فهذه هي الطَّامة الكبيرة، وعندما ينشب الخلاف وتثور العداوات، يصبح كثيرٌ من النَّاس عاجزاً عن الإبصار بعينيه، فهو لا يرى إلَّا المثالب والمساوئ، وحين تهب رياح المودَّة؛ فإنَّ كثيرين أيضاً لا يبصرون إلَّا بعين الرِّضا، ومن هنا جاءت دعوة شعيب لقومه صريحةً واضحةً، حينما قال: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]. ولم تكن فقط الدَّعوة إلى أن يكون الميزان في البيع والشِّراء عدلاً، وإنَّما عموماً: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ حتى حقوقهم وصفاتهم، وحتى إذا أردت أن تتكلَّم فيهم بمدحٍ أو قدحٍ، فلا تبخس النَّاس أشياءهم، وكذلك يرشدنا القرآن إلى تحرِّي الدِّقَّة في المعاملات المالية، كما يرشدنا إلى تحرِّي الدِّقَّة في الأقوال، فهو عندما يقول: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [النساء:6]. كذلك هو يقول أيضاً : وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. وأيضاً يراقب الإنسان كُلَّ كلمةٍ تصدر منه.
أهمية خلق الإنصاف
ولا شكَّ أنَّ الإنصاف من الخير والخلق العظيم، وأنَّ الإنصاف يحتاج إلى دقَّةٍ كبيرة؛ لأنَّ أحوال البشر غايةٌ في التَّعقيد في أمزجتهم وأهوائهم، والمنصف هو الذي يدرك أنَّ الاعتمال الذي يعتمل في النَّفس هو الذي ينتج الحكم على الأشخاص بالأشياء، فإذا كان الإنسان عنده عدلٌ، وإذا كان يتحرَّى أقواله وأفعاله؛ أنصف، وأمَّا إذا كان هذا الإنسان مع هواه، ومع شهوته، حيث أنَّنا الآن تمرُّ بنا في الحياة مواقفٌ كثيرةٌ، نتعامل مع الأشخاص، تمرُّ بنا أحداثٌ كثيرةٌ، من أين ينتج حكمنا على النَّاس؟ من المواقف، ومن أين ينتج؟ من تفاعلات الأحداث، والمواقف التي تمرُّ بنا، فتجد نفسك أحياناً تميل إلى شخصٍ أو تنفر من شخصٍ، وأحياناً لا تتذكَّر شيئاً معيَّناً، أو ليس هناك سببٌ مباشرٌ، لكن لو حلَّلت بدقةٍ ما مرَّ بينك وبينه من المواقف، لعلمت أنَّ سبب نفورك منه حدثٌ أو مجموعةٌ من الأحداث توالت، أو سبب انجذابك إليه أيضاً مواقفٌ صارت بينك وبينه، إحسانٌ أو برٌّ أو صلةٌ، هي التي تتحكَّم، الإنصاف في الأشخاص تحكم فيه المواقف والأحداث، وهذه المشكلة، والنَّفس بطبيعتها فيها هوى، والإنسان ظلومٌ وجهولٌ، ومن هنا تكون قضية الإنصاف، أصعب ما يمكن أن تجد الإنسان يعطيك الحقَّ في حكمه، وقديماً مسألة الكره كانت تنعكس على أقوال الشُّعراء، فأحياناً إذا كره شخصاً هجا القبيلة بأسرها، لذلك قال النَّبيُّ ﷺ: إنَّ أعظم النَّاس جرماً إنسانٌ يهجو القبيلة من أسرها، ورجلٌ تنفى من أبيه[رواه البخاري في الأدب المفرد 874، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 763]. فأحياناً يكره شخصٌ فيهجو كُلَّ القبيلة التي هو منها، وأحياناً يكره شخصاً من بلدٍ فيسبُ أهل البلد كُلَّهم، فلا يوجد إنصاف، وهذا شيءٌ موجودٌ حتى في الطَّرائف التي يطلقونها في المجالس، وفي الأحكام التي يقولونها على بعض الجنسيات والبلدان والأشخاص، فتجد أنَّه يعمِّم الحكم؛ لأنَّه صار بينه وبين أحد النَّاس موقفٌ معيَّنٌ سلبيٌّ، فحكم به على الآخرين، ولا شكَّ أنَّ الإنصاف خُلقٌ عظيمٌ نلتمس فقده في هذه الأيام، كما قلنا هناك مظاهرٌ متعدِّدة هي التي تجعلنا نفتقد هذا الخلق، ونحس أنَّ هناك مشكلةٌ في الواقع، فمن هذا: ما ذكرت آنفاً من التَّعميم في إطلاق الأحكام على الأشخاص، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكثير من النَّاس إذا علم من الرَّجل ما يحبُّه أحبَّ الرَّجل مطلقاً، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقاً وأعرض عن حسناته"[مجموع الفتاوى11/ 15].
أهمية الإنصاف في المولَّفات والكتب
ولم يقتصر على الاضطراب والظُّلم في الحكم على الأشخاص فقط، وإنَّما يتعدَّى أيضاً إلى المؤلَّفات والكتب، فتجد أنَّ بعض النَّاس إذا رأى خللاً في كتاب رماه بأجمعه، وضرب بها عرض الحائط، وشنَّع على المؤلِّف، وعلى من اقتناه، وعلى من قرأه، وإذا رأى أحدٌ كتاباً لمؤلِّف من المؤلِّفين المرضيين عنده، فإنَّه يرفع الكتاب فوق منزلته، ويغضُّ الطَّرفَ عن زلل المؤلِّف وتقصيره، والمسألة كما قال الشَّاعر:
فعين الرِّضا عن كُلِّ عيبٍ كليلةٌ | كما أن عين السُّخط تبدي المساويا |
ولذلك بعض المؤلِّفين ينصحون القرَّاء في هذه المسألة في مقدِّمة التأليف أو في آخره، ويقول عبارةً معناها: يا أيُّها القارئ أنصف إذا رأيت زللاً أو خطأً واعذر، وإذا رأيت صواباً وحسنةً فادع لكاتب هذا الكتاب، والمسألة تحتاج إلى مجاهدة هوى، فالمناوي رحمه الله قال: "فرحم الله امرأً قهر هواه، وأطاع الإنصاف وقوَّاه، ولم يعتمد العنت، ولا قصد قصدَ من إذا رأى حسناً ستر، وعيباً أظهره ونشره، وليتأمَّله بعين الإنصاف، لا بعين الحسد والانحراف، فمن طلب عيباً وجدَّ وجدَ، ومن افتقد زلل أخيه بعين الرِّضا والإنصاف فقَدْ فقَدَ والكمال محال لغير الذي الجلال"[فيض القدير شرح الجامع الصغير1/4].
ومن الأسباب التي تبعث على مخالفة هذا الخلق في الواقع: أن يتصدَّى للحكم على الأشخاص، أو على المؤلَّفات أو على أيِّ مجموعةٍ من المجموعات، إنسانٌ جاهلٌ رُبَّما لا يعرف أُسس الإسلام، وهو يريد أن يقوم ويحكم ويعطي ويطلق الألفاظ، وقد حصل بين بعض العلماء وبين شخصٍ من الأشخاص أراد أن يتبوَّأ هذا المكانة إطلاق الأحكام، فحصل موقفٌ طريفٌ كشف هذا الرَّجل، فيقول أحمد بن علي بن الأَبَّار: رأيت بالأهواز رجلاً حفَّ شاربه، وأظنُّه قد اشترى كتباً، وتعبَّأ للفتيا، فذكروا أصحاب الحديث" في مجلس جرى ذكر أصحاب الحديث من العلماء الذين يجمعون الحديث، "فقال: ليسوا بشيءٍ، وليس يسوون شيئاً، فقلت له: أنت لا تحسن تصلِّي، قال: أنا؟ قلت: نعم، قلت: أيش تحفظ عن رسول الله ﷺ إذا افتتحت الصَّلاة؟" أيش تحفظ عن النَّبيِّ ﷺ من صيغ التَّشهُّد والتَّحيات؟ أيش تحفظ من الأدعية في السُّجود؟ أيش تحفظ من كذا؟ وسكت الرَّجل، وقلت: مالك لا تكلَّم؟[الكفاية في علم الرواية1/ 5]. فإذاً ممَّا يجعل القضية تستشري وتسوء: أنَّه يوجد في المجتمع جهلةٌ يطلقون الأحكام، وكذلك بعض النَّاس من الذين عندهم طرفٌ من العلم، بدون منهج صحيح، وهؤلاء الذين استهزأ بهم أحمد شاكر رحمه الله لما أطلق لفظ المجديدينات خصوصاً من أصحاب المنهج العقلاني، الذين يريدون تجديد الدِّين فقالوا له: يا شيخ ما هذا الجمع المجديدينات؟ نحن نعرف يعني مجددين المجددون: جمع مذكر سالم، والمجددات جمع مؤنث سالم، فأيش المجديدنات؟ قال: هذا جمع مخنَّث سالم، فهناك بعض النَّاس لأجل قضية طرفٍ من العلم يتباهى ويظهر به أمام النَّاس، فهو يريد أن يجدِّد في الدِّين أو يطلق الأحكام على العالمين.
من معوِّقات الإنصاف
وكثيراً ما تكون أيضاً من بواعث الجور في الحكم: الخلفيات التي تكون عند بعض النَّاس، فيأتي إلى مؤلّفٍ من مقرَّرات عقلية أو نفسية سابقة، بأشياء تشرَّبها من الماضي، فهو يحكم من هذه المخلَّفات وهذه المقرَّرات السَّابقة دون أن يتجرَّد عند الحكم، ولذلك تكون المسألة فيها انحرافٌ وفيها هوى، ولذلك مهمٌّ على الشَّاب في أول أمره وطالب العالم أن يبني نفسه بناءً صحيحاً؛ لأنَّ المقررات هذه لا بُدَّ منها، فلا يمكن أنَّ الواحد يدخل على شيءٍ من دون مقرَّرات سابقة، فإذا كان هو من أول أمره أقام نفسه على الكتاب وعلى السُّنَّة، وعلى منهج السَّلف، وطريقة أهل السُّنَّة والجماعة، والمعتقد السَّليم والأدلة الصَّحيحة، وكلام العلماء الموثوقين، فعند ذلك تكون خلفيته ومقرَّراته السَّابقة صحيحة، فيكون الحكم بالتَّالي صحيحاً، ويكون ما ينكره منكراً، وما يعرفه معروفاً، وينبغي حتى نحصل على هذا الخلق -خلق الإنصاف- أن يجاهد الإنسان نفسه مجاهدةً شديدةً، فيترك الجور والظُّلم، ويترك الغلوَّ والعيب والذَّم والقدح، الذي لا يكون نتيجته أمراً شرعياً، ولا مبنياً على شيءٍ شرعيٍّ، كذلك يترك الغلو في المدح والتَّزكية، والله قد قال لداود : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[ص:26]. لأنَّ الإنسان إذا وقع في شراك الهوى، فلا ترجو منه خيراً، وإنَّ كثيراً ليضلِّون بأهوائهم بغير علمٍ، والهوى هذا خطيرٌ جدَّاً، الهوى والميل مع ما تميل إليه النَّفس، فأينما تميل نفسه ذهب معها، إذا تميل نفسه إلى كره فلان فهو يطلق الألفاظ في سبِّه، وإذا تميل نفسه إلى محبِّة فلان فهو يطلق الألفاظ في مدحه ورفعه، والمشكلة في ضبط هذا الهوى والميل النَّفسي، الذي ليس بميلٍ مع الشَّرع، وإنَّما الميل مع الهوى يعمي ويصم، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضا إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ورُبَّما يكون معه شبهةٌ من دينٍ"[منهاج السنة النبوية5/ 176]. يعني: كلمتان يحتجُّ بهما أو نصٌّ يستصحبه ليدافع به عن نفسه، ويبرِّر به موقفه، والمشكلة إذا كان الخصم الذي أنت تتكلَّم عليه أو تريد أن تقوِّمه أو تطلق عليه حكماً إذا كان مشتركاً معك في أشياء، فلو أنت تتكلَّم في كفَّار رُبَّما تهون المسألة، ولو أن العدل في الكفَّار واجباً أيضاً، ولكن أحياناً يجرح الإنسان ويعدَّل ويتكلم ويقوَّم من إذا كان داخل دائرة حدود الإسلام، فكيف إذا كان الذي يدَّعي الحقَّ والسُّنَّة مثلك معه حقٌّ وباطل، وكذلك أنت معك حقٌّ وباطل، وإذا كان هو عنده سُنَّة وبدعة، وهذا الذي يحكم عنده سُنَّة وبدعة، فكيف يصحُّ أن يكون هذا متفرِّداً بالحكم، يعتقد أنَّ ما يحكم به هو الصَّحيح.
الإنصاف في الحكم
ثُمَّ إنَّ الإنسان إذا أراد أن ينصف ويتخلَّق بخلق الإنصاف اللازم في الحكم؛ لأنَّ أعظم ما يتجلَّى فيه الإنصاف الحكم، فإنَّه يجب أن يضع في نفسه اعتباراتٍ قبل أن يحكم وقبل أن يطلق الحكم، مثلاً: يريد أن يحكم على شخصٍ فما هي الاعتبارات التي يضعها في ذهنه حتى يكون منصفاً في حكمه؟ أولاً: أن يعتقد أنَّ هذا الشَّخص بشرٌ يخطئ ويصيب، فهذه أول قاعدةٍ يجب أن تتقرَّر عندنا، كما قال النَّبيُّ ﷺ: كُلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين: التَّوابون[رواه الترمذي2499، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي 2499]. فالخطأ صفةٌ لازمةٌ من صفات البشر، لو نجا أحدٌ منها لنجا الأنبياء والصَّحابة، لكن حتى الأنبياء أخطؤوا، وقال الله تعالى لرسوله ﷺ: عَبَسَ وَتَوَلَّى[عبس:1]. وأخذ النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام الفدية من أسارى بدر، ولم يكن ذلك أمراً موافقاً للحقِّ والصَّواب في البداية، حتى نزل التَّخفيف من الله ، وبعض المبتدعة يعتقدون أنَّ المخطئ آثمٌ، أمَّا أهل السُّنَّة والجماعة فإنَّهم يعتقدون أنَّ المجتهد المخطئ إذا كان أهلاً للاجتهاد فهو مأجورٌ، وإذا أصاب فله أجران، كما قال النَّبي ﷺ: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر[رواه البخاري 6919، ومسلم 1716]. والعلماء متفقون على أنَّ الإثم محطوطٌ عن المجتهدين في الأحكام الشرعية، فالآن كم من العلماء اجتهد في قضية وأخطأ؟ فهل هم آثمون بهذا الخطأ؟ لا، ولذلك لما كانوا أهلاً للاجتهاد كان خطؤهم مغفوراً، وقال ابن تيمية رحمه الله: "فأمَّا الصِّدِّيقون والشُّهداء والصَّالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذُّنوب المحقَّقة، وأمَّا ما اجتهدوا فيه: فتارةً يصيبون، وتارةً يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤوهم مغفورٌ لهم، وأهل الضَّلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين" وهذا هو معقد الأمر في هذا الموضوع "أهل الضَّلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين" فأيُّ واحدٍ أخطأ فهو آثمٌ وليس، الأمر كذلك "وأهل العلم والإيمان لا يُعصمون ولا يؤثمون"[مجموع الفتاوى35/ 69]. ولا يقولون هذا معصومٌ، فالأنبياء ليسوا معصومين عن الصَّغائر على القول المختار عند أهل السُّنَّة والجماعة، فكيف بمن دونهم؟ والمجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد لا يأثم على خطئه، وخيار الأمور أوساطها: ألَّا يجعل معصوماً ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، وفي هذه الحالة إذا قلنا: أنَّ البشر يخطئون فما هو صفات الشَّخص الذي نريده؟ لو كان النَّاس يخطئون فماذا يعني نزِّكي الجميع؟ أو ماذا نريد من قضية طرح مسألة قبل الحكم نقعد ونعتقد بقاعدة أنَّ البشر يخطئون، حتى إذا كان المخطئ أخطأ نوازن أخطاءه مع صوابه وحسناته.
ثانياً: لا نحكم عليه بالإثم، إذا كان مجتهداً فهذا ما نريد من طرح موضوع أنَّ البشر يخطئون في قضية الحكم على الآخرين، وقال الثَّعالبي رحمه الله: الكامل من عددت سقطاته والسعيد من حسبت هفواته"[يتيمة الدهر1/140].
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كُلَّها | كفى المرء نُبلاً أن تُعدَّ معايبه |
من قواعد أهل السُّنَّة والجماعة في الإنصاف
كذلك من الأمور المهمة في الحكم على النَّاس والأشخاص: أنَّنا نعتقد بقاعدة مهمَّة، وهناك قواعدٌ لأهل السُّنَّة والجماعة في هذا المجال، ألَّا وهي: اجتماع الشَّرِّ والخير في الشَّخص الواحد، فقد يجتمع في المسلم الخير والشَّرُّ، وتجتمع فيه شعبة من شعبٌ الإيمان مع شعبٍ من شعبٍ الكفر، فيُحمد من هذا الوجه، ويُذم من هذا الوجه، فمثلاً: المسلم المتلبِّس بمعصيةٍ، مسلمٌ داخلٌ في الدِّين يشهد بالحقِّ، ولكنَّه عنده معصية، فلمَّا نأتي على قضية الولاء والبراء -مثلاً- نريد أن نكون منصفين، فكيف نعامله: نواليه أو نتبرأ منه؟ لا هذا ولا هذا، وإنَّما يجتمع في قلوبنا تجاه الرَّجل هذا حبٌّ وبغضٌّ، وولاءٌ وبراءٌ، فنحن نتولَّاه ونحبُّه بقدر إسلامه وطاعته، ونبغضه ونتبرَّأ منه بقدر معصيته، ويزداد البراء بازدياد المعاصي، ويزداد الولاء بازدياد الطَّاعات، وبعض النَّاس من أخطائهم في الحكم: أنَّه رُبَّما مدح الكافر؛ لأنَّ الكافر أخلاقه حسنةٌ، وذمَّ مسلماً؛ لأنَّ المسلم فيه شيءٌ من الجور والخشونة في التَّعامل، ويقول شيخ الإٍسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإنَّ الله سبحانه بعث الرَّسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدِّين كُلُّه لله، فيكون الحبُّ لأوليائه، والبغض لأعدائه، وإذا اجتمع في الرَّجل الواحد خيرٌ وشرّ،ٌ وفجورٌ وطاعةٌ، وسُنَّةٌ وبدعةٌ؛ استحقَّ من الموالاة والثَّواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقَّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشِّرِّ فلو أتينا بلصٍّ فقيرٍ انطبقت عليه شروط حدِّ السَّرقة ماذا سنفعل به؟ نقطع يده ونعطيه من بيت المال"[مجموع الفتاوى28/ 209]. نقطع يده لتوافر شروط قطع اليد، ونعطيه من بيت المال لحاجته إذا انطبقت الشَّروط، فهذا الأصل من أصول أهل السُّنَّة والجماعة، الذي خالفهم فيه غيرهم من المبتدعة.
موازنة السلبيات والايجابيات في الحكم
ثُمَّ إذا أردنا أن نكون منصفين في أحكامنا ونظرتنا للأشياء والأشخاص، فلا بُد أن نوازن الإيجابيات والسِّلبيات، والحسنات والسِّيئات، ولا بُدَّ أن يكون عندنا موازنة، ولا يحملنا بغضنا لشخصٍ على أن نجرِّده من جميع فضائله، بل نذكر له فضيلته ولو كان كافراً، والله تعالى قال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا[آل عمران:75].
فالله بيَّن أن بعض أهل الكتاب عندهم أمانةٌ، وأن منهم من عنده خيانة، وقد يكون عند واحدٍ منهم أمانةٌ لو ائتمنته على قنطار: شيءٌ عظيمٌ من المال، ما خانك فيه، وواحد لو تستأمنه على دينارٍ واحدٍ خانك فيه، فإذاً: كونه كافرٌ وكتابيٌّ لا يمنعنا أن نقول عنده أمانة، إذا كان عنده أمانة، ولا يمنعنا أن نقول يصدقون في المواعيد إذا كانوا يصدقون في المواعيد، وأنَّهم منظَّمين في عملهم إذا كانوا منظمين في عملهم، وأنَّ الحقَّ عندهم لا يضيع إذا كان الحقُّ عندهم لا يضيع، لكن يأتي واحد ويقول ذهبت إلى بلاد الغرب فوجدت إسلاماً بلا مسلمين؛ فهذا شنيعٌ وهذا غلوٌّ وتعدِّي، كيف إسلاماً بلا مسلمين؟ هل الإسلام هو الأخلاق الحسنة؟ وصدق والوعد؟ وحفظ الحقوق؟ فأين لا إله إلا الله؟ وأين العقيدة؟ وأين الأساس؟ وأين الإيمان بالله واليوم الآخر؟ وأين الحكم لله؟ فحتى من المعاصرين في النَّظرة إلى الكفَّار فيه شططٌ، فالكافر نجسٌ لعقيدته، لكن إذا عنده فضيلة نقرُّ له بها، أمَّا نقول إذا أعجبنا تنظيم الكفَّار ودقة مواعيدهم، وصدقهم في الحديث: هؤلاء مسلمون، وكأنَّ الذي ينقصهم شيءٌ يسيرٌ! والذي ينقصهم هو الأساس، هذا كافر يقول: الله تزوَّج مريم وأنجب عيسى، وما يترتب على ذلك من الشَّهوة والانتصاب والشَّنائع التي يلحقونها بالله، فلو فكر قليلاً في النَّصارى هؤلاء وفي عقديتهم لكرههم أشدَّ الكره على العقيدة السيئة أو المعتقد الذي يعتقدونه، يسبُّون ربَّهم ، والمشركون وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، ولذلك يجوز شرعاً أن يستأمنوا على الأموال، وإذا كان النَّبيُّ ﷺ استأجر مشركاً يدلُّه على الطَّريق؛ لأنَّه كان مأموناً؛ أليس كذلك؟ ووسط جوٍ خطيرٍ من بحث الكفَّار عنه وعن صاحبه، فمن هو هذا المشرك؟ عبد الله بن أريقط، استأجره مع أنَّه مشركٌ؛ لأنَّه كان مأموناً، ويجوز أن يُستأمن الكافر شرعاً على الأموال إذا كان ثقةً، وعندما يقول إنسانٌ هذا الكلام –مثلاً- عند أهل الكتاب فلا يعني أنَّه يحبُّهم ويودَّهم وأنَّه يواليهم، لا، لكن من باب الإنصاف أن يقول هذا، والعلماء لما تكلَّموا في بعض المبتدعة عدلوا في القول فيهم، وقالوا مثلاً كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنَّ المتكلِّمين أحسن حالاً من الفلاسفة، كما أنَّ جنس المسلمين خيرٌ من جنس اليهود والنَّصارى، وإن كان يوجد عند بعض اليهود والنَّصارى خصوصاً لمن عاش في بلاد الغرب، فعند بعضهم عقلٌ وصدقٌ وأمانة لا توجد في كثير من المسلمين، فإذاً نحن نعدل ونقرُّ بأن ما عند بعضهم من الأخلاق الحسنة، والتَّعامل الجيِّد، ولكننا لا نرفعه إلى رتبة المسلمين أبداً،
من أدلَّة الإنصاف حتى مع غير المسلمين
ولمَّا قال الشَّيطانُ كلاماً لأبي هريرة صحيحاً إذا قرأ آية الكرسي قبل النَّوم عُصم من الشَّيطان، فما أنكره عليه الصَّلاة والسَّلام ولا جحده؛ لأنَّ الذي أتى به هو الشَّيطان، بل قال: صدقك وهو كذوب[رواه مسلم3101]. ولما جاء يهودي إلى النَّبيِّ ﷺ فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنَّكم تشركون، فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله وما ذاك ما هذا الشِّرك الذي تدَّعيه عنَّا؟ قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة، قال فأمهل رسول الله ﷺ شيئاً ثُمَّ قال: إنَّه قد قال حقَّاً فمن حلف فليحلف بربِّ الكعبة قال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنَّكم تجعلون لله ندَّاً، قال: سبحان الله وما ذاك قال: تقولون ما شاء الله وشئت، تجعلون المشيئتين في درجةٍ واحدةٍ فأمهل رسول الله ﷺ شيئاً ثُمَّ قال: إنَّه قد قال فمن قال ما شاء الله فليفصل بينهما ثُمَّ شئت [رواه أحمد27138، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح27138، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1093]. فلا يقول: ما شاء الله وشئت ويجعل المشيئتين في درجةٍ واحدةٍ، بل يفصل ويقول: ما شاء الله ثُمَّ شئت، والحديث قد رواه أحمد رحمه الله، وقال ابن حجر: سنده صحيحٌ، وصحَّحه الألباني في السَّلسلة.
والله لما حكم على الخمر وهي خمرٌ قال : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ[البقرة:219]. فالخمر فيها منافع في التِّجارة وفيها منافع في توليد حرارةٍ لأهل البلاد الباردة، ولذلك الصَّحابي جاء كما في حديث أبي داود قال: يا رسول الله إنَّ عندنا شراباً نتَّخذه نستعين به على برد بلادنا، قال: أيسكر هو قال: نعم، قال: فاجتنبوه [رواه أبو داود3685، وصححه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود3683]. فالصَّحابي يقول: عندنا شرابٌ نستعين به على عملنا وعلى برد بلادنا، فهو يعين في البرد وهذه فائدة، والميسر، كانوا في الجاهلية يجتمعون -مثلاً- عشرة وكُلُّ واحدٍ يدفع عشر ثمن بعير، ويشترون ثُمَّ يضربون بالقداح، فواحدٌ يخرج له القدح المعلى فيأخذ نصف البعير، والثَّاني يأخذ ربع وهكذا، وبعضهم لا يأخذ شيئاً، وكانوا يتباهون في النِّهاية أنَّهم يتركونه للفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، فكان الذي يفوز بالميسر يوزِّع على الفقراء فيستفيد الفقراء، لكن هل هذه الفائدة تساوي المضرَّة؟ أبداً، ولذلك قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ضياع العقل، وهذه المقامرة في تضييع الأموال لا تساوي أبداً المنافع الموجودة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فالله ذكر أنَّ فيها منافع وما قال لا ليس فيها منفعة، لكن إثمهما أكبر من نفعهما،
من الأنصاف: إعتابر لذي الفضل فضلهم عندما يخطئ
وكذلك الرَّجل الذي أُتي به إلى النَّبيِّ ﷺ كان يسكر، وكان اسمه عبدالله وكان يلَّقب حماراً من قديم، يعني غلب عليه اللَّقب وإلَّا هو اسمه الحقيقي عبد الله، وكان يضحك رسول الله ﷺ، وكان النَّبيُّ ﷺ قد جلده في الشَّراب، رجلٌ ابُتلي بشرب المسكر، ونزل للحكم وفي النَّاس من كان على عادته، أهل الجاهلية عشرات السَّنوات يشربون الخمر، بعضهم ما استطاع أن يقاوم وشرب، فأُتي به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهمَّ العنه ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النَّبيُّ ﷺ: لا تلعنوه فوالله ما علمت أي الذي علمته إلَّا أنَّه يحبُّ الله ورسوله[رواه البخاري6398]. يقول ابن القيم رحمه الله: "وانظر إلى الشريب السكير الذي كان كثيراً ما يُؤتى به إلى النَّبيِّ ﷺ فيُحِدَّه على الشَّراب، كيف قامت به قوةُ إيمانه، ويقينه ومحبَّته لرسوله، وتواضعه، وانكساره، حتى نهى رسول الله ﷺعن لعنته"[مدارج السالكين3/ 225]. فشُرَّاب الخمور ليسوا سواءً، بل هناك ناسٌ عنده غيرةٌ دينيةٌ، وتعلمون قصة أبي محجن حيث كان عاشقاً للخمر، أبلى في سبيل الله، ثُمَّ هداه الله ولم يحده سعدٌ بعد ذلك، فهل نريد أن نُقارن رجلاً مثل أبي محجن بواحدٍ شرب الخمر من فسَّاق النَّاس؟ لا عنده غيرةٌ ولا عملٌ للدِّين ولا خدمةٌ للشَّرع ولا دفاعٌ ولا جهاد؟ هذا ظلمٌ، فالنَّاس يجتمع فيهم خيرٌ وشرٌّ، ونحن نوازن الحسنات والسَّيئات، ولا يكفي أن تقول هذا سكِّير، بل انظر إلى حسناته الأخرى لتحكم عليه، قد يكون هذا السِّكِّير من أسوأ النَّاس، وقد يكون فيه جوانبٌ جيدة كثيرة، فإذا أردنا أن نحكم عليه نحكم عليه من هذا الجانب بموازنة الجانبين جميعاً، وقصة حاطب الذي راسل أعداء الله، ولو وصل الخطاب لوقعت مقتلةٌ في المسلمين إذا انتبه كفَّار قريش، ولو فعلها واحدٌ آخرٌ ماذا كان مصيره؟ القتل، لو كان واحد ليس عنده ميزة حاطب، فالجاسوس يُقتل؛ لأن عمله لصالح المشركين، لكن لما كان حاطب عنده ميزةٌ عظيمةٌ في حضور بدر، فقال ﷺ: ولعل الله اطلع على أهل بدر وكذلك فعل "لعل" يعني: أكيدٌ في حقِّ الله وواجبةولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم[رواه البخاري2845، ومسلم2494]. فيقول ابن القيم رحمه الله: "من قواعد الشَّرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهرٌ؛ فإنَّه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، فإنَّ المعصية خُبثٌ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنَّه يحمل أدنى خبثٍ"[مفتاح السعادة1/ 176]. فإذا أردت تمثيل رجلٍ صالح ذي دينٍ عالمٍ حصل منه خطأٌ بآخر من عامَّة النَّاس حصل منه نفس الخطأ؛ فلا يمكن المقارنة، ولو حصل نفس الخطأ من هذا ومن هذا، لا بُدَّ أن تنظر إلى الصَّورة الكليَّة، وتقوِّم الشَّخص من جميع جوانبه، ولو أتيت بإناءٍ صغيرٍ وقعت فيه قطرة بول لظهر لونها وريحها وطعمها، ولو أتيت بحوضٍ كبيرٍ ووقعت فيه نفس القطرة من البول فتضييع، ولذلك الذي عنده حسناتٌ كثيرةٌ جدَّاً لو فعل خطأً يحتمل منه، لكن الذي ما عنده إلَّا النَّزر اليسير لو فعل نفس الخطأ، قد لا يحتمل منه، والتَّسوية بينهما ظلمٌ.
هذا موسى كليم الرَّحمن ألقى الألواح التي فيها كلام الله من الغضب، حتى تكسَّرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربَّه في ليلة الإسراء في النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، قال لربِّه: "شابٌ بُعث بعدي يدخل الجنَّة من أمته أكثر ممَّا يدخلها من أمتي" وأخذ بلحية هارون أخيه يجرُّه إليه، وهو نبيٌّ مثله، كُلُّ هذه الأشياء ما نقصت قدره عند ربِّه، وبقي موسى من أولي العزم من الرُّسل، لماذا؟ لأنَّ الصَّبر الذي صبره، والأذى الذي أوذيه، والمسئولية التي تحملَّها، والتَّعليم الذي أجر عليه، والتَّبليغ، والجرأة على فرعون، والصُّمود أمامه، وإيمانه بالله، وعبادته لله؛ لا تُقارن مطلقاً بهذه الأخطاء المعدودة، التي حصلت
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ | جاءت محاسنه بألف شفيع |
ويكفينا أنَّ الله تعالى يوم القيامة عنده ميزانٌ ذو كفَّتين تُوزن بهما أعمال العباد، فإذاً السِّيئات معتبرةٌ والحسنات معتبرة، ولو رجحت حسنةٌ واحدةٌ دخل الجنَّة، والنَّبيُّ ﷺ علَّمنا أن ننظر للشَّيء الواحد من الزَّوايا المتعدِّدة، لا يكون الواحد أحادي النَّظرة، أحادي الاتِّجاه، لا يرى إلَّا ما أمامه، ولا ينظر إلى الأمور بجوانبها المختلفة، أو ينظر بعينٍ واحدةٍ، فهذا خطأ، فقال ﷺ: لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً يعني: زوج متزوِّج بامرأة ينهاه أن يكرهها، لماذا؟ قال: لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خُلقاً فما دامت مؤمنةً فمعناه أن عندها شعبٌ من الإيمان إن كره منها خلقًا رضي منها آخر، إذاً فزوجتك التي تزوَّجتها رُبَّما تكره منها خُلقاً يوماً من الأيام، كـأن إبطأت في تنفيذ أمرك، أو رُبَّما تكره منها شيئاً من المخالفة في الرَّأي وعدم النُّزول عند رأيك، أو رُبَّما تكره منها شيئاً من عدم الاقتصاد في المال، تذكَّر أنَّ لهذه المرأة -إن كانت مؤمنةً- جوانب إيجابيَّة أُخرى، صيامها الاثنين والخميس، قيامها اللَّيل، دعاؤها، صلاحها، حفظها لفرجها ولبيتك، تربيتها لأولادها، تحفيظهم القرآن، إذاً إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر، فالرَّجل ينظر إلى زوجته بمجموع أعمالها، وهذه القاعدة ليست فقط للزَّوجة؛ بل هذه في جميع النَّاس، ولذلك ليس من الإنصاف أن يغضَّ الإنسان عن المحاسن ويلحظ المساوئ.
من مجانبة الإنصاف: ذكر المحاسن والتَّستُّر على المعايب
ومن النَّاس من لا يتذكَّر إلَّا المحاسن، وهذا إنسانٌ كريم الطَّبع، الذي يكون عنده أريحية، بحيث أنَّه ينسى المساوئ وما يحصل عليه من الخطأ والظُّلم الذي ظلمه بسرعةٍ، ولا يتذكَّر إلَّا المحاسن، فهذا النَّادر، وناسٌ أطرافٌ أُخرى ينسون المحاسن بالكلية، وما رأيت منك خيراً قط، كفران العشير كمثال، فينسى المحاسن بالكلية ولا يتذكَّرها مطلقاً ولا ينظر إلَّا إلى المساوئ، فهذا ظالمٌ، وقسمٌ ثالثٌ يلحظ الأمرين، ويوازن بينهما، ويعامل زوجته بمقتضى كُلِّ واحدٍ منهما، يعني مثلاً: في حالة الزُّوجة هذا يُقال عنه إنسانٌ منصفٌ، الأول كريمٌ والثَّاني ظالمٌ والثَّالث منصفٌ، فيقول الشَّيخ محمد بن صالح العثمين في شرح رياض الصالحين في هذا الحديث: "لا يُعادي المؤمنُ المؤمنةَ كزوجته مثلاً لا يعاديها ويبغضها، إذا رأى منها ما يكره من الأخلاق، وذلك لأنَّ الإنسان يجب عليه القيام بالعدل، وأن يُراعي المعامل له بما تقتضيه حاله، والعدل أن يوازن بين السَّيئات والحسنات، وينظر أيُّهما أكثر وأيُّهما أعظم وقعاً، فيغلِّب ما كان أكثير، وما كان أشدَّ تأثيراً؛ لأنَّ هذا هو العدل وإذا أساء إليك يوماً من الدَّهر -يعني صاحبك- فلا تنس إحسانه إليك مرَّاتٍ سابقة، وقارن بين هذا وهذا، فإذا غلب الإحسان على الإساءة؛ فالحكم للإحسان، وإن غلبت الإساءة على الإحسان فانظر: إن كان أهلاً للعفو فاعف عنه ومن عفى وأصفح فأجره على الله، وإن لم يكن أهلاً للعفو فخذ بحقِّك وأنت غير ملومٍ إذا أخذت بحقِّك"[رياض الصالحين3/ 122]. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[النحل:126].
من تطبيقات السَّلف لخُلق الإنصاف
والسَّلف والعلماء رحمهم الله طبقَّوا قاعدة الإنصاف، وحكموا على النَّاس بموازنة ما عندهم من الحسنات والسِّيئات، فهذا الشَّعبي رحمه الله يقول: "كانت العرب تقول: إذا كانت محاسن الرَّجل تغلب مساوئه فذلكم الرَّجل الكامل، وإذا كانا متقاربين فذلك المتماسك، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك"[حلية الأولياء4/ 312- 313]. وقال محمد بن سيرين رحمه الله: "ظلم أخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم وتكتم خيره"[صفة الصفوة3/ 245]. وقال الشافعي رحمه الله: "إذا كان الأغلب الطَّاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرَّح"[طبقات الشافعية3/ 327]. وقال الشَّافعي وهو ينصح يونس بن عبد الأعلى نصيحةً غاليةً يقول: "يا يونس إذا بلغك عن صديقٍ لك ما تكرهه فإيَّاك أن تُبادره بالعداوة، وقطع الولاية، فتكون من أزال يقينه بشكٍ، ولكن القه" إن بلغك عن واحدٍ أنَّه ذمَّك القه والمصارحة والمفاتحة تحلُّ كثيراً من المعضلات "وقل له بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تُسمِّي المبلِّغ" حتى لا تكون نميمة "فإن أنكر ذلك فقل له أنت أصدق وأبر" كأنَّك تقول كذَّبت النَّاس وصدَّقتك "ولا تزيدن على ذلك شيئاً" ولو كان كاذباً فالموقف هذا منك يجعله ينقلب إلى وليٍّ حميمٍ "وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً بعذرٍ فاقبل منه، وإن لم يذكر لذلك وجهاً لعذر وضاق عليك المسلك، فحينئذٍ" اعترف وليس فيه مبرِّر "فحينئذ أثبتها عليه سيئةً ثم أنت بالخيار: إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتَّقوى، وأبلغ للكرم، لقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه[الشورى:40]. فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فاذكر فيما سبق له لديك" إذا أردت أن تكافئه ونفسك ما طاوعتك وقالت لك: لقد ذمَّك وشتمك وسبَّك وعابك وانتقدك "وأردت أن تكافئه" ونفسك ما أعطتك "فتذكر سابقة إحسانه إليك، ولا تبخس باقي إحسانه السَّالف بهذه السِّيئة، فإنَّ ذلك الظُّلم بعينه، وقد كان الرَّجل الصَّالح يقول: رحم الله من كافأني على إساءتي، من غير أن يزيد، ولا يبخس لي حقَّاً"[حلية الأولياء9/121-122]. وحصل بين الحميدي وأحمد بن حنبل رحمه الله موقفٌ، يقول عبد الله: "كان قد أقام عندنا أحمد بن حنبل بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يومٍ، أو ذات ليلةٍ: ها هنا رجلٌ من قريشٍ له بيانٌ ومعرفةٌ، فقلت له: من هو؟ فقال: محمد بن إدريس الشَّافعي، وما زال بي حتى جرَّني إليه، وكان الشَّافعي قُبالة الميزاب، فجلسنا إليه، ودارت مسائلٌ، فلمَّا قمنا قال أحمد بن حنبل: كيف رأيته؟ فقلت: فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه، وكان ذلك بالقرشية، يعني: من الحسد، فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة أو هذا البيان!! تمرُّ مائة مسألة يخطئ خمساً أو عشراً اترك ما أخطأ وخذ ما أصاب"[آداب الشافعي ومناقبه34]. وقال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: "ولو أنَّا كُلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهادٍ في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الرَّاحمين"[سير أعلام النبلاء14/ 40]. وبعض النَّاس يقلِّد شيخاً، هناك شيءٌ للشَّيخ يُعذر به، لكن لهذا المقلِّد لا يوجد عذرٌ، فمثلاً: بعض العلماء ورُبَّما بعد بحثٍ واستقصاءٍ كتب عبارةً فاظفر بهذا، فلعلَّك لا تجده في غير هذا الموضع، فيأتي واحدٌ مؤلِّفٌ صغيرٌ يعني بالرِّضاعة في عالم التَّأليف، فيكتب كتيِّباً ويقول تحت: وانظر إلى هذا الموضع فلعلَّك لا تجده في غيره، الله أكبر! هذا الشَّيخ قال هذه العبارة بعد بحثٍ واستقصاءٍ واطلاعٍ، وسعة علمٍ، وقال: لعلَّك لا تجده في غير هذا الموضع، أمَّا أن يأتي هذا الصَّغير ويكتب ذلك!! وبعض النَّاس يكتسب من شيخٍ خلقاً سيئاً، مثلاً: شيخٌ عصبيٌّ يأتي بعض الطُّلاب فيأخذ عصبية الشَّيخ، وإذا صار شيءٌ احتدَّ وهاج وماج، على هونك، قال: شيخنا عصبي، شيخكم عصبي وعنده علمٌ ومنافع للنَّاس، وأعمال صالحة عظيمة، وسبعين سنة في طاعة الله، وخمسين سنة في طلب وخدمة العلم، ولأنَّ الشَّيخ عصبيٌّ سيصبح عصبياً، بعض النَّاس لا يتحمل منهم، ويتحمل من الشَّيخ ما لا يتحمَّل من الطَّالب، لماذا؟ لسابقته يتحمل منه، فنقول أيُّها الإخوة: إنَّ غمط النَّاس حقَّهم ليس من الإنصاف في شيءٍ، وقد قال النَّبيُّ ﷺ: الكبر بطر الحق وغمط الناس [رواه مسلم 91]. فهذا الذي يحدث من قبل البعض نسيانُ المحاسن وعدم الموازنة بين سيئات فلان وحسناته، إنَّما هو غمطٌ للنَّاس، ومخالفةٌ واضحةٌ لحديث النَّبيِّ ﷺ.
من المواقف التَّربوية التي تعلِّم النَّاس الإنصاف
ويحتاج الإنسان إلى مواقف تربوية لتعليم النَّاس الإنصاف، سواءً معه أو مع غيره، ولا شكَّ أنَّ هذه البعض من المواقف تكون -كما قلنا- منطلقة من المصارحة والمفاتحة؛ لأنَّ كثيراً ما تجعل الشَّخص الذي لا ينصفك يرجع عن رأيه، أو عن موقفه، إذا ناصحته أو إذا فاتحته، كما حصلت مفاتحةٌ بين المسور بن مخرمة ومعاوية رضي الله عنهما، لما قدم المسور على معاوية فقضى له حاجته، ثُمَّ خلا به، فقال له: يا مسور والله لتُكلِّمني بذات نفسك بالذي تعيب عليّ، قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلَّا بيَّنت له، فقال معاوية: لا أبرأ من الذَّنب" أنا لست بمعصومٍ "فهل تعدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذُّنوب وتترك المحاسن؟ يعني: عُدَّ لي ما يشفع لي عندك "قال مسور: ما تُذكر إلَّا الذُّنوب" فالنَّاس عادتهم ينسون المحاسن، وما تبقى إلَّا الذُّنوب التي تذكر "قال معاوية فإنَّا نعترف لله بكُلِّ ذنبٍ أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى بأنَّ تهلك إن لم تغفر؟ قال: نعم، قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحقَّ مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر ممَّا تلي، ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلَّا اخترت الله على ما سواه، وإنِّي على دينٍ يقبل فيه العمل ويجزى فيه الحسنات، ويجزى فيه بالذُّنوب إلَّا أن يعفو الله عنها، قال مسور: فخصمني، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلَّا صلَّى عليه"[سير أعلام النبلاء5/ 147]. يعني: دعا له، فهناك طبيعةٌ عند بعض النَّاس: أنَّهم لا يتذكَّرون وما يرسخ في بالهم إلَّا المعايب، فذاكرتهم لا تحفظ إلَّا ذلك، والمحاسن ينسونها ولا يتذكرونها، وقال الشَّعبي رحمه الله: "لو أصبت تسعة وتسعين مرَّةً" إذا أصبت في كلامي وفتاواي وأحكامي "تسعةً وتسعين مرَّةً وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة وتركوا التِّسعة والتِّسعين"[سير أعلام النبلاء7/ 341] كالذُّباب، قال ابن القيم: "ومن النَّاس من طبعه كطبع الخنزير، يمرُّ بالطَّيبات فلا يلوي عليها" ولا يكترث بالطَّيبات الخنزير "فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه" جاء الخنزير وراءه ولعقه "وهكذا كثيرٌ من النَّاس يسمع منك، ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء وجد بغيته، وما يناسبها فجعلها فاكهته، ونقله" أينما حلَّ وارتحل وهو يردِّد: فلان فعل كذا، فلان فعل كذا، لا يذكر إلَّا هذه الهفوة، وهذا من الظُّلم ومن ترك الإنصاف، فالإنسان لا بُدَّ له -كما قلنا- من مواقف تربوية، ولابُدَّ من كظم الغيظ، وسعة الصَّدر لاحتواء مثل هؤلاء الأشخاص، خصوصاً إذا أكرمتهم وهم يسيئون إليك، فإنَّك كما قال الله، وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في النَّفسيات علَّمها الله لنا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإذا أساء إليك أن تحسن إليه، وإذا ظلمك اعدل فيه، وإذا حرمك كافئه، وإذا قطعك صله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[فصلت:34]. يعني: هؤلاء النوعيات متى تنقلب؟ إذا كافأت إساءته بإحسان، قال عبدالرحمن بن عمر الأصبهاني: "كُنَّا في مجلس عبدالرحمن بن مهدي إذ دخل عليه شابٌّ فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه، قال: فقام شيخٌ من المجلس، فقال: يا أبا سعيد إنَّ هذا الشَّاب ليتكلَّم فيك حتى إنَّه ليكذِّبك، فقال عبد الرحمن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت:34-35]. ثُمَّ قال عبد الرحمن: حدثني أبو عبيدة النَّاجي قال: كنَّا في مجلس الحسن البصري، إذ قام إليه رجلٌ فقال: يا أبا سعيد إنَّ ههنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبَّعوا سقط كلامك" لا يحضرون للفائدة وللاستفادة، ولا للأخذ والتَّلقي، ولكن يحضرون ليتتبعوا السَّقطات، وماذا تقول كي يكتبوا عنك، ثُمَّ يصدرون بياناً بأخطائك فهذا شغلهم الشَّاغل، فقال الحسن: يا هذا إنِّي أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي السَّلامة من النَّاس فلم تطمع، إنِّي لما رأيت النَّاس لا يرضون عن خالقهم، علمت أنَّهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم"[تبيين كذب المفتري1/ 422]. فلو قدر الله على أحدٍ رزقه ماذا يقول عن ربِّه؟ رَبِّي أَهَانَنِ[الفجر:16]. وإذا كان لا يرضون عن خالقهم فهل سيرضون عن مخلوق؟ لا يمكن؟ فإذاً ممَّا يخالف الإنصاف إلى النِّهاية: أن ينسى كُلَّ المحاسن، ويركِّز ويعرض المساوئ، ويجمع الأخطاء وتلتمس العثرات، هذه الهفوات يُؤتى بها ليُشنَّع بها على الإنسان، والأمر كما قال قعنب بن أم صاحب:
صمٌّ إذَا سمعُوا خيراً ذكرتُ بهِ | وإنْ ذكرتُ بسوءٍ عندهمْ أذنُوا |
فطانة فطنوها لو تكون لهم | مروءةٌ أو تقى لله ما فطنوا |
إنْ يسمعُوا ريبةً طارُوا بِها فرحاً | منِّي، ومَا سمعُوا منْ صالحٍ دفنُوا |
من مواقف السَّلف في إنصاف أقاربهم
لكن هذه سُنَّة الله في الحياة، وابتلاء الله يبتلي به النَّاس، ألم يقل للنَّبيِّ ﷺ: إنما بعثتكم لأبتليك وابتلي بك[رواه مسلم 2865]. وهكذا العلماء والدُّعاة فالله يبتليهم ويبتلي بهم، فمن النَّاس من يسبُّهم ويشتمهم ويقع فيهم، فيكون ذلك زيادةً في حسناتههم، ويمكن لو رأوا يوم القيامة ماذا لديهم من حسناتٍ لقالوا وددنا لو أنَّا شُتمنا زيادةً، وذلك من الحسنات التي يأخذونها من النَّاس، فالعلماء رحمهم الله في عدلهم وإنصافهم كانوا إذا ذكروا أشخاصاً ذكروهم بما فيهم، وحتى عندما تكلَّموا في بعض الزَّنادقة حاسمون في الألفاظ والعبارات، فابن كثير لما تكلَّم في الحلَّاج -الحلَّاج قُتل زنديقاً- قال في مقدمة الكلام: "ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله أو نتحمل عليه أقواله وأفعاله" لو كان مبتدعاً تجد النَّاس يزيدون عليه ويقولون هو مبتدعٌ، حتى لو ما تأكَّد، فما بعد البدعة والكفر شيءٌ، ولا يحتاج أن تتثبَّت فيها، نقول: لا، لماذا الزِّيادة؟ ولماذا لا نذكره بما فيه؟ فعلَّمونا دروساً في الإنصاف، ولو قلت كيف نكتسب الإنصاف؟ أن تطَّلع على سير المنصفين، الذين أنصفوا في أنفسهم وأهليهم، فتجد الواحد منهم رُبَّما انتقد نفسه، وأقرب النَّاس إليه، إنصافاً واعترافاً بالخطأ؛ لأنَّ المنهج عندهم كان أغلى من الرِّجال، يقول شعبة: "لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان، كان ختني" والختن هو زوج البنت أو الأخت، يقول: "لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان، كان ختني ولم يكن يحفظ"[سير أعلام النبلاء11/ 435]. فلا يمكن أن أقول إنَّه حافظ ويحفظ وهو لا يحفظ، وسُئل علي بن المديني عن أبيه فقال: اسألوا غيري، فقالوا: سألناك، فأطرق ثُمَّ رفع رأسه فقال: هذا هو الدِّين، أبي ضعيفٌ"[المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين2/15]. يقول في أبيه عبارة تجرحه، ولا يقبل حديث أبيه، لكن لأنَّه الدِّين، وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أنيسة: لا تكتب عن أخي فإنَّه كذَّاب"[المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين3/ 110]. وقال أبو داود السِّجستاني: ابني عبد الله كذَّاب"[سير أعلام النبلاء25/ 226]. فعندما نرى هؤلاء العلماء لم تأخذهم العاطفة وينصفون ولو كان في أنفسهم وفي أقرب النَّاس إليهم؛ فعند ذلك يعرف الإنسان حاله من حال هؤلاء.
من مواقف السَّلف في إنصاف أنفسهم
وإذا كُنَّا ذكرنا أمثلةً عن إنصافهم في أقربائهم فلنذكر بعض الأمثلة عن إنصافهم في أنفسهم، قال إسماعيل بن قيس: "شهدت جنازةً فيها الأشعث وجرير فقدَّم الأشعث بن قيس جريراً" قدَّمه في الصَّلاة وقال: "إنَّ هذا لم يرتد وإنِّي ارتددت"[ سير أعلام النبلاء 3/ 29]. يعني الأشعث رحمه الله ارتدَّ ورجع إلى الإسلام، وجرير جاء في آخر عهد النَّبيِّ ﷺ وأسلم وما ارتد، قال: تقدَّم أنت إماماً فأنا أسلمت قبلك لكني ارتددت، مع أنَّه رجع إلى الإسلام، وقال الشَّافعي لأحمد رحمه الله: "أنتم أعلم بالأخبار الصِّحاح منَّا، فإذا كان خبرٌ صحيحٌ فأعلمني حتى أذهب إليه كوفياً كان أو بصريَّاً أو شاميَّاً"[سير أعلام النبلاء19/ 23]. الحديث سواء من جهة الكوفة أو الشَّام أو البصرة سأذهب إليه، فأنت أعلم منِّي فهذا إنصاف أن يعترف لطالبه؛ لأنَّ أحمد تلميذ الشَّافعي، والشَّافعي يقول لأحمد: "أنتم" يعظِّمه "أعلم بالأخبار الصِّحاح منَّا" فأعطونا ما عندكم، وقال الذَّهبي في ابنه: إنَّه حفظ القرآن ثُمَّ تشاغل عنه ونسيه، ومن إنصافهم أيضاً: أنَّه لم يكن حبُّهم لصلاح الشَّخص يجعلهم يقولون عنه: ثقةٌ في الحديث، مع أنَّ الرَّجل قد يكون من أولياء الله، فهذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: إنَّ هذا العلم دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين" وأشار إلى مسجد الرَّسول ﷺ "ممن يقولون: قال رسول الله ﷺ، فما أخذت عنهم شيئاً" حدَّثوا وما أخذت عنهم حديثاً واحداً "وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مالٍ لكان به أميناً، إلَّا أنَّهم لم يكونوا من أهل هذا الشَّأن" ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب وهو شابٌّ فنزدحم على بابه"[الانتقاء في فضائل الثلاثة1/ 16]. يعني ناس كبار وفضلاء وأمناء، لكن فضلهم وأمانتهم ما داموا ليسوا بمتقنين في الحديث، لا نأخذ منهم الحديث، وقال ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن: "إن من إخواننا من نرجو بركة دعائه ولو شهد علينا بشهادة ما قبلناه"[ الكفاية في علم الرواية1/158]. لأنَّه لا يضبط الحفظ، لكن فضل عبادة، زهد، ورع، وتقوى، موجود، لكن هذا شيءٌ والضَّبط والعلم شيءٌ آخر، وقال أيوب السِّختياني: "إن لي جاراً -ثم ذكر من فضله- ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة"[رواه مسلم69]. وكان بعضهم يقول في عبَّاد بن كثير: يثني عليه في دينه ثم يقول: لا تأخذوا عنه"[رواه مسلم41]. من باب الإنصاف فالرَّجل في دينه فاضلٌ لكن في حفظه للحديث فيه خللٌ فلا يؤخذ عنه، ولهذا قال ابن المبارك رحمه الله: "ما أدري فيمن رأيت أفضل من عبَّاد بن كثير في ضروب من الخير، فإذا جاء الحديث فليس منها في شيءٍ"[المجروحين2/ 167]. وقال أبو أسامة: قد يكون الرَّجل كثير الصَّلاة كثير الصَّوم ورعاً، في الحديث لا يسوى ذه، ورفع شيئاً رمى به"[المجروحين1/ 24]. فلا نستغرب إذا وجدنا في بعض كتب الجرح والتَّعديل مثلاً: فلانٌ كان سيئ الحفظ فقيهاً، فلانٌ كان فاضلاً، ونحو ذلك من الثَّناء، ولكنَّه فاضلاً شديداً على المبتدعة، مثال نعيم بن حماد المروزي رحمه الله، هذا الرَّجل كان من أهل السُّنَّة حريص على السُّنَّة وعلى عقيدة السَّلف، شديدٌ على المبتدعة، ولكنَّه في الحفظ ليس بذاك، في الحديث في الأسانيد يعتبر مجروحاً من جهة الضَّبط، لا من جهة العدالة، ومع ذلك العلماء يثنون على أخذه للسُّنَّة، وفي الحديث يقولون: هو كذا.
من مواقف السَّلف في إنصاف الاكابر من أهل العلم
فإذاً هذا هو الإنصاف، نذكر حسناته والشَّيء الذي لا يحسنه نقول: لا يحسنه، وفي التَّاريخ عجائب، مثلاً: حفص بن عمر الدُّوري هذا مشهورٌ في علم القراءات لكن في الحديث ضعيفٌ، في القراءات إمامٌ، حفص بن سليمان الأسدي من أئمة القرَّاء نقرأ على قراءة هذا في القرآن والإجادة، قد لا يُعلى عليه، لكن في الحديث متروكٌ، حتى قال ابن حجر: متروك الحديث"[تقريب التهذيب1/172]. مع إمامته في القراءة، ورُبَّما يكون شغلَه الإقراء عن الاهتمام بالحديث وإجادته وضبطه، وكذلك من العلماء رحمهم الله لما جاؤوا إلى البدعة أولاً: قسَّموا البدعة من إنصافهم، وقالوا هذه بدعةٌ مكفِّرةٌ وهذه بدعةٌ غير مكفِّرة، ثُمَّ إذا كان الرَّاوي مبتدعاً قالوا: ننظر إذا كانت البدعة مكفِّرة لا نقبله، إذا كانت البدعة غير مكفِّرة نظرنا في صدقه، فإن كان صادقاً نظرنا في الرِّواية التي رواها، هل لها علاقة بالبدعة أو لا؟ وهل الرَّجل داعيٌ للبدعة أو لا؟ فإذا كان صادقاً، ولا يدعو إلى بدعة، وحديثه لا علاقة له بتأييد البدعة التي يعتقد بها؛ أخذنا حديثه، والبخاري رحمه الله روى لعمران بن حطَّان وكان من أهل الصَّدقة مع أنَّه من الخوارج، وهذا عددٌ موجودٌ في كتاب الجرح والتَّعديل لأهل العلم، مثل: عبَّاد بن يعقوب وغيره، يأخذون حديثه لصدقه، ويقولون إنَّه مبتدعٌ؛ لأنَّ البدعة غير مكفِّرة، ولأنَّه لم يرو حديثاً يؤيِّد بدعته، ولا كان داعيةً للبدعة، فهذا التَّصنيف وهذا التَّنزيل للنَّاس منازلهم، هو عين الإنصاف، أهل السُّنَّة يستعملون مع النَّاس الإنصاف، وأهل البدعة يجورون عليهم، وحتى إذا نظرنا في تقويم ابن القيم رحمه الله مثلاً لأبي إسماعيل الهروي -صاحب كتاب مدارج السالكين- ويثني عليه، ورُبَّما يقول شيخ الإسلام عباراتٍ فيها بيانُ أخطاء هذا الرَّجل، وقال ابن القيم: "حبيبنا" يقصد أبا إسماعيل الهروي "ولكن الحقُّ أحبُّ إلينا منه" ويقول إنَّ هذه العبارة له فيها زلَّات، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما جاء يقوِّم كتاب إحياء علوم الدِّين مثلاً للغزالي وقوت القلوب لأبي طالب المكي، كلاهما من كتب الرِّياضة والسُّلوك والمواعظ، قال: "وأمَّا كتاب قوت القلوب، وكتاب الإحياء تبعٌ له فيما يذكره من أعمال القلوب، مثل: الصَّبر، والشُّكر، والحب، والتَّوكل، والتَّوحيد، ونحو ذلك، وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصُّوفية من أبي حامد الغزالي، وكلامه أشدُّ وأجود تحقيقاً، وأبعد عن البدعة، مع أن في قوت القلوب أحاديثٌ ضعيفةٌ وموضوعةٌ، وأشياءٌ كثيرةٌ مردودة، وأمَّا ما في الإحياء من الكلام في المهلكات، مثل: الكلام على الكبر، والعجب، والرِّياء، والحسد، ونحو ذلك؛ فغالبه منقولٌ من كلام الحارث المحاسبي في الرِّعاية، ومنه ما هو مقبولٌ، ومنه ما هو مردودٌ، ومنه ما هو متنازعٌ فيه، والإحياء فيه فوائدٌ كثيرةٌ، لكن فيه مواد مذمومة، فإنَّ فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلَّق بالتَّوحيد والنُّبوة والمعاد، فإذا ذُكرت معارف الصُّوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين" يعني شيءٌ خطيرٌ جدَّاً في كتاب الإحياء "وقد أنكر أئمَّة الدِّين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: أمرضه الشِّفاء"[الفتاوى الكبرى5/ 86]. أبو حامد الغزالي امرضه الشِّفاء، والمقصود بالشِّفاء: كتابُ الشِّفاء لابن سينا في الفلسفة، وابن سينا متأثِّرٌ بأفكار الملاحدة، والغزالي تأثَّر بابن سينا، فانعكست ضلالاتُ ابن سينا على الغزالي في كتابه إحياء علوم الدِّين، ولكن مع ذلك ابن تيمية يقول فيه ما هو مقبولٌ وقال أن فيه فوائد كثيرة، مع أنَّه كتابٌ فيه شركيات أيضاً، إذاً هذا ما يجب أن يكون استعمال الإنصاف، وهذا ما يجب أن يكون.
من الأمور التي تؤدِّي إلى حرمان الإنصاف
ونحن إذا أردنا أن نتعامل مع هذا الموضوع فإنَّ هناك أشياءٌ ينبغي أن نجتنبها، ومن الأمور التي تؤدِّي إلى الحرمان من الإنصاف: التَّعصب، فالتَّعصُّب -يا إخوان- خطأ قاتل، وأمرٌ مذمومٌ، والتَّعصُّب من أكبر أعداء الإنصاف، فتجد بعض النَّاس في بعض المذاهب لا يقبلون غيره، فيقول واحدٌ مثلاً:
أنا حنبليٌّ ما حييت وإن أمت | فوصيتي للنَّاس أن يتحنبلوا |
وواحد شافعيٌّ يقول:
وإنَّ حياتي شافعياً وإن أمت | فوصيتي بعدي بأن يتشفعوا |
وواحد حنفيٌّ يقول:
فلعنة ربِّنا أعداد رملٍ | على من ردَّ قول أبي حنيفة |
فانظر الغلو والتَّعصَّب، فهذا كيف يمكن أن يكون منصفاً؟ إذا كان الواحد متعصِّباً لمذهبٍ أو لقبيلةٍ أو لبلدٍ أو لأيِّ شيءٍ، إذا كان متعصِّب فلا يمكن أن يكون منصفاً، وتجد في الشَّخص الواحد من يرفعه إلى أعلى علِّيين، وفي نفسه واحدٌ ينزل به إلى أسفل سافلين، لماذا؟ إمَّا تعصبٌ، أو عداوة وجهل، فيأتي واحدٌ حنفيٌّ يقول: إذا نزل عيسى بن مريم سيحكم بمذهب أبي حنيفة، وواحد يقول: خالِف أبا حنيفة فإنَّك تصيب، سبحان الله يعني: الصَّواب في خلافه، والثَّاني يقول: عيسى سيحكم بمذهبه، وهذا نتيجة التَّعصُّب والمبالغة في الإطراء، حتى رُبَّما يصفون شخصاً بأنَّه ملكٌ من الملائكة، وتجد أيضاً بعض المؤلِّفين عندهم مبالغة في التَّشنيع، فهذا الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني -وكتاب الأغاني من أسوأ الكتب- ولذلك مجدَّه المستشرقون وحقَّقوه وطبعوه ونشروه، وأعداء الإسلام دائماً يروِّجون لكتاب الأغاني للأصفهاني، وينقلون عنه ويعتبرونه من كُتب التُّراث، وهو كتابٌ مليءٌ بالمجون والخلاعة، والذي ألَّفه ضالٌ، يقول في بعض الخلفاء: إنَّه كشف عن عورته وأمر غلامه أن يسجد له، وأنَّه فعلت الفاحشة في مجلسه، وإنَّه افترى على ابنته، وهذا كلام الأصفهاني في كتابه الأغاني، فأين وكيف يكون الإنصاف عند مثل هؤلاء؟ ثُمَّ إنَّ الإنسان إذا نظر إلى الشَّيء، يجب أن تكون نظرته معتدلة ومنصف، ولا ينظر بعين واحدة، وإنَّما ينظر بكلتا العينين، ولا يكيل بمكيالين كما قلنا، فالله قال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ[الأعراف:85]. فبعض النَّاس كما قلنا إذا جاء إلى حبيبه اغتفر له خطأً، بل رُبَّما يجعل خطأه منقبةً، وإذا جاء إلى من يكرهه فلا يذكر إلَّا سيئاته، حتى رُبَّما جعل حسناته سيئاتٍ، وكُلُّ ذلك بسبب عدم الإنصاف، فذكرنا أيُّها الإخوة في هذا الدَّرس: الأدلَّة على وجوب الإنصاف، وقواعد أهل السُّنَّة والجماعة في الإنصاف، وأمثلةٌ من السَّلف والعلماء في قضية الإنصاف، والأشياء التي لا يمكن أن ينصف صاحبها كالتَّعصب والغلو ونحو ذلك، فأصحابها لا يمكن أن يكونوا منصفين، وبعض الوسائل التي تعين على الإنصاف.
نٍسأل الله تعالى أن يجعلنا من المنصفين، وسيكون الدَّرس القادم هو آخر درسٍ في هذه السَّلسلة -سلسلة الأخلاق الإسلامية- بمشيئة الله تعالى، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.