الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
مفهوم الشَّجاعة
فحديثنا أيُّها الإخوة في هذه الليلة عن خلقٍ آخرٍ من الأخلاق الإسلامية الكريمة الحسنة؛ ألا وهو خلقُ الشَّجاعة، وهو خُلقٌ عظيمٌ يعيب كُلَّ شخصية ألا تتصف بها، وحقيقة الشجاعة: هي الصَّبر والثَّبات والإقدام على الأمور النَّافعة تحصيلاً وعلى الأمور السِّيئة دفعاً، وتكون الشَّجاعة في الأقوال والأفعال، واصل الشَّجاعة في القلب: وهو ثبات القلب وقوته وسكونه عند المهمَّات والمخاوف، وثمرة الشَّجاعة ونتيجتها: الإقدام في الأقوال والأفعال وعند القلق والاضطراب، وكمال الشَّجاعة وزينتها: أن تكون متَّسمةً ومتوافقةً مع الحكمة، فإنَّ الشِّيء إذا زاد عن حد الحكمة خشي أن تكون تهوراً وسفهاً وإلقاءً باليد إلى التَّهلكة، وذلك مذمومٌ كما يذم الجبن، فالشَّجاعة خُلقٌ فاضلٌ متوسِّطٌ بين خلقين رذيلين فما هما؟ الشَّجاعة وسط الجبن والتَّهوُّر، والشَّجاعة خلقٌ نفسيٌّ، ولكن لها موادٌ تمدها: وهي قوةٌ وعزيمةٌ في النَّفس تدفع إلى الإقدام بعقلٍ في مخاطرة بقول أو عمل؛ لتحصيل خيرٍ أو دفع شرٍ، مع ما في ذلك من توقُّع الهلاك أو المضرَّة، ولذلك الإقدام بغير عقلٍ ليس شجاعة بل هو جنونٌ وتهوُّرٌ، والإقدام بغير مخاطرةٍ لا يعتبر شجاعة، بل هو نشاطٌ وهمَّةٌ وهو شيءٌ طيب، لكن لا يمكن تصنيفه في خانة الشَّجاعة إذا كان إقدام بغير مخاطرة، وإذا كان الإقدام لا لتحصيل خيرٍ ولا لدفع شرٍّ فإنَّه تهوُّرٌ مذمومٌ أو هو هلاكٌ، مثل: المنتحر الذي يرمي بنفسه من عُلوٍّ مثلاً: فيه إقدامٌ فلولا قوَّة الإقدام ما رمى نفسه، لكن حيث أنَّ هذا الإقدام وهذا الرَّمي ليس في تحصيل خيرٍ ولا في دفع شرٍّ فلا يمكن تصنيفه في خانة الشَّجاعة أيضاً، بل هو تهوُّرٌ مذمومٌ وجنوحٌ في العقل، ولا شكَّ أنَّ أعلى الشَّجاعة هو التَّقدُّم للتَّضحية بالنَّفس في سبيل الله تعالى، وقضية الشَّجاعة في النَّفس تحصل عندما تطغى المخاوف؛ لأنَّه لا توجد نفسٌ إلَّا وفيها مخاوفٌ، فمتى تحصل الشَّجاعة؟ عندما تنسى المخاوف، أو يكون في النَّفس أشياءٌ تطغى على المخاوف وتتجاوزها، فعند ذلك يحصل أثرُ الشَّجاعة ويظهر التَّقدُّ،م فإذاً هناك مركَّباتٌ نفسيةٌ في الإقدام، فالحكمة والفائدة من تغطية المخاوف وزوالها والتَّغلُّب على المخاوف وبحسب خلط نسب هذه العناصر تزداد الشَّجاعة أو تقل، ثُمَّ إنَّ الشَّجاعة لا تستمر بعد وقوع الآلام إلَّا إذا دعهما خلقٌ مهمٌّ وهو الصَّبر؛ لأنَّ بعض النَّاس يكون شجاعاً في أول الأمر، فإذا جاءت الآلام تراجع، فإذاً الشَّجاعة لن تكتمل إلَّا إذا كان هناك خُلقٌ آخر مرافقٌ وهو خُلق الصَّبر.
ماهو ضدُّ الشَّجاعة؟ ومتى تكون الشَّجاعة محمودةً أو مذمومةً
وضدُّ الشَّجاعة: الجبن، وواضحٌ أنَّ الجبن يكون نتيجة تغلُّب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام ناظري الشَّخص، تتغلَّب المخاوف فيحجم ولا يعود شجاعاً، وحين يفقد الشِّجاعُ عنصرَ الصَّبر يفقد شجاعته عند نزول الآلام التي لا يتحمَّلها فيكون شجاعاً في الأوائل جباناً في الأواخر، ولذلك الصَّبر على تحمُّل المكاره مع الإقدام بعقلٍ وحكمةٍ هو الذي يحافظ على الشَّجاعة، فإذاً الشَّجاعة: إقدامٌ وحكمةٌ وصبرٌ، وقد تكون أحياناً النَّتائج المرجوَّة أو الخير الذي يُرجى من وراء الإقدام قليلاً بالنُّسبة للمخاطرة، فلا يكون من الحكمة الإقدام، وبالمناسبة: معظم الأخلاق -إنَّ لم تكن كُلُّ الأخلاق- هي نتيجة الإقدام أو الإحجام في النفس البشرية، يعني مثلاً: الشَّجاعة إقدامٌ والجبن إحجامٌ، والكرم إقدامٌ والبخل إحجامٌ وهكذا، فنتيجة تنازع خط الإقدام مع الإحجام في النَّفس البشرية تنتج في الأخلاق، ففهم مسألة الإقدام والإحجام هذا تؤدِّي إلى فهم الأخلاق، وكُلُّ واحدٍ يريد أن يحلِّل نفسيته فإنَّه لا بُدَّ أن ينطلق مدخل تحليله لأخلاق النَّفس البشرية من قضية الإقدام والإحجام.
ولنعلم بأنَّ الإقدام ليس دائماً محمود ولا الإحجام دائماً مذموم، ففي بعض الحالات يكون الإقدام مذموماً، مثل: الانتحار، وبعض الحالات يكون الإحجام مطلوباً مثل: عندما يكون الإقدام تهلكةً، وأيضاً الإحجام محافظة على رأس المال وعلى النَّفس، ومحافظة على الآخرين، كانسحاب خالد بن الوليد في معركة مؤتة، حيث كان قراراً عسكريَّاً صحيحاً، لكن هو إحجام لو استمرَّ في موقعه بالجيش لهلك الجيش بدون أن تحصل الهزيمة للكفَّار والانتصار للمسلمين، فما الفائدة من الإقدام؟ والإقدام للجيش حتى يفنى دون أن تحدث هناك فائدة، فإذاً نعود ونقول: أنَّ كلَّ الأخلاق مرجعها إلى قضية الإقدام والإحجام، وأنَّ الإقدام في موقعه هو الصَّحيح، والإحجام في موقعه هو الصَّحيح، ولا يضبط ذلك إلَّا الحكمة، فالشَّجاعة خُلقٌ نفسيٌّ له مواد تمدُّه، فأعظم ما يمدُّه وينمِّيه: الإيمان وقوة التَّوكُّل على الله وكمال الثَّقة بالله.
من أعظم الأمور التي تُنمِّي الشَّجاعة
وهناك مسألةٌ مهمَّةٌ جدَّاً في قضية الشَّجاعة: وهي الإيمان بالقضاء والقدر، وهذا من أعظم الأمور التي تنشِّئ الشَّجاعة وتنمَّيها؛ أن يعلم العبد أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وكذلك ممَّا يزيد الشَّجاعة: إكثار ذكر الله تعالى والمداومة عليه، كما قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الأنفال:45]. فإذاً هو حثٌّ على الثَّبات الذي هو مظهرٌ من مظاهر الشَّجاعة، ثُمَّ أمر بشيءٍ يحصل به الجنودُ الثَّبات وهو ذكر الله تعالى، وأنَّ هذا هو سببُ الفلاح، يقول الشَّيخ عبد الرَّحمن بن ناصر السَّعدي رحمه الله: "فمتى قوي إيمانُ العبد بالله وبقضائه وقدره، وقوي يقينه بالثَّواب والعقاب، وتمَّ توكُّله على الله وثقته بكفاية الله، وعلم أنَّ الخلق لا يضرُّون ولا ينفعون، وأن نواصيهم بيد الله، وعلم الآثار الجليلة النَّاشئة عن الشَّجاعة، إذاً هنا مسألةٌ مهمَّة في قضية تحصيل الشَّجاعة، هذه كُلُّها أسباب تحصيل الشَّجاعة أن يتفكَّر في محامد ومحاسن الشَّجاعة ومنافعها والآثار الجليلة النَّافعة عن الشَّجاعة "متى تمكَّنت هذه المعارف من قلبه؛ قوي قلبه، واطمأنَّ فؤاده وأقدم على كُلِّ قولٍ وفعلٍ ينفع الإقدام عليه، ولا بُدَّ لمن كانت هذه حاله أن يمدَّه الله بمددٍ من عنده لا يدركه العبد بحوله ولا قوته، فإنَّ من كان الله معه فلا خوفٌ عليه، ومن كان الله معه هانت عليه المصاعب، ودفع الله عنه المكاره، قال الله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249]. انظر إلى حال نبيِّنا ﷺ وقد أحاطت به المخاوف المزعجة وهو في الغار، والأعداء منتشرون في طلبه، ويقول له أبو بكر : "يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدميه لأبصرنا" فقال ﷺ: ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما[رواه البخاري3453]. كان ﷺ مطمئنَّاً ثابتاً غير مبالٍ ولا قلق، ولذلك قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه[التوبة:40]. وانظر إلى جميع مقامات النَّبيِّ ﷺ في الدَّعوة وجهاد الأعداء، وهو صادعٌ بأمر الله معلنٌ بدعوته للقريب والبعيد، والعدوِّ والصَّديق، لا تصدُّه معارضةُ الأعداء، ولا قلةُ الأنصار والأولياء ﷺ" لاحظ: النَّبيُّ ﷺ كان واحداً في مواجهة العالم، لما بُعث النَّبيُّ ﷺ في الجاهلية؛ تخيَّل الموقف: شخصٌ في مواجهة العالم، أيُّ واحدٍ فينا لو كان في ذلك المكان لأحجم وترك الدَّعوة وانهارت معنوياته، ولكنَّه ﷺ لم تصدُّه معارضة الأعداء ولا قلَّةُ الأنصار والأولياء، لم يفتر ولم يضعف ولم يخف مخلوقاً، ولم يثنه خذلانُ الخاذلين ولا لوم اللَّائمين، بل ثبت على الدَّعوة والجهاد المستمر أعظم من ثبات الجبال الرَّواسي، وهو مع ذلك مطمئنُّ الضَّمير ثابت الجأش واثقاً بوعد الله مستبشراً بنصره، حتى أنجز الله له ما وعده وأكمل دينه وأعزَّ جنده وهزم أعداءه، وجعل له العاقبة الحميدة، وتبعه على ذلك خلفاؤه وأصحابه، فمضوا على ما مضى عليه نبيُّهم بإيمانٍ ويقينٍ وثباتٍ كاملٍ وقوَّةٍ في الدِّين؛ حتى فتحوا الأمصار ودانت لهم الأقطار، وأظهر بهم الدِّين، وأتمَّ نعمته على المؤمنين، فوالله ما أدركوا ذلك بكثرة عددٍ ولا قوَّة عُددٍ، كيف وأقلُّ دولة في ذلك الوقت وأضعفها تلتهم العربَ كُلَّهم التهاماً! إنَّما أدركوا ذلك بقوَّة الإيمان واليقين وبعُدَّة الشَّجاعة الإيمانية المؤيَّدة بالثِّقة بنصر ربِّ العالمين، وبإعداد المستطاع من القوَّة المعنوية والمادية للأعداء، وبالصَّبر العظيم في مواطن اللقاء، وبالنَّصر الرَّباني"[الرياض الناضرة46-47]. إذا كانت هناك شجاعةٌ وحكمةٌ وصبرٌ وإيمانٌ بالقضاء والقدر وتوكُّلٌ وثقةٌ بالله وتأييد انتشر الإسلام.
هل تجتمع الشَّجاعة والجبن في شخصية
ولا شكَّ أنَّ النَّاس يتفاوتون فيما لديهم من شجاعةٍ وجبنٍ في أصل فطرتهم، ويمكن أن نقول: حتى إنَّ كُلَّ واحدٍ في نفسه شجاعةٌ وجبنٌ، ولكن بعض النَّاس عندهم درجة الشَّجاعة عاليةٌ والجبن منخفضٌ جدَّاً، وبعض النَّاس بالعكس، فما من شجاعٍ إلَّا لديه نسبةُ جبنٍ فطريٍّ، وما من جبانٍ إلَّا لديه نسبةُ شجاعةٍ فطريَّةٍ، فبأيِّ شيءٍ يحصل التَّفاوت بين النَّاس في الشجاعة؟ بهذا، فكم نسبة الشَّجاعة في نفسه ونسبة الجبن؟ نحن نعرف مثلاً: حتى طبيَّاً من ناحية هرمونات الذُّكورة والأنوثة: أنَّه إذا طغت هرمونات الذُّكورة ظهرت علامات الرَّجولة: الشَّعر وخشونة الصَّوت والقوَّة، وإذا طغت هرمونات الأنوثة ظهرت: نعومة الصَّوت وعدم نبات الشَّعر وتكسُّرٌ في المشي ونحو ذلك، فكذلك قضية الشَّجاعة والجبن في الإنسان: إذا زادت مركَّباتُ الشَّجاعة ظهرت آثارها على الإنسان، وإذا زادت مركَّباتُ الجبن ظهرت آثارها على الإنسان، فهذه الأخلاط النَّفسية مثل الأخلاط الجسدية تظهر آثارها في الخارج كما تظهر آثار الأخلاط الجسدية في الخارج، وعند التَّساوي يكون خُنثى أو مهجَّناً، أي: شجاعةٌ في جبنٍ، لا تعرف له سيرة واحدة، فأنت في الوقت الذي تفاجأ به بشجاعةٍ في موقف؛ تفاجأ بجبنٍ في موقفٍ آخر، فهو إنسانٌ مضطربٌ ومتذبذبٌ، لكن في الغالب: أنَّه لا يستمرُّ على حالٍ واحدةٍ لابُدَّ أن يغلب أن عليه شيءٌ، حتى الإنسان يكون فيه كفرٌ وإيمانٌ وفسقٌ وطاعةٌ، لكن لا يستمرُّ مخلَّط دائماً، بل في الغالب يغلب ويطفو شيءٌ على السَّطح، وإذا قال الإنسانُ: إذا كانت المسألة إذاً فطرية في النَّفس: فهل هناك مجالٌ لها للاكتساب؟ فنقول: نعم، لا يُوجد خُلقٌ لا يمكن اكتسابه، إنَّ العملية الفطرية في الأخلاق الموجودة في النَّفس البشرية مسألةٌ واضحةٌ، فبعض النَّاس يُولدون شجاعاً، وبعض النَّاس يُولدون جبناءَ، لكن لا يعني ذلك أنَّ الجبان لا يمكن أن يغيِّر من طبعه، بل إنَّ تربية الوالدين قد تفسد الولد الشَّجاع فتجعله خوَّافاً، فإذاً الإنسان بحسب الظَّروف المحيطة ينمو الخلق الذي طبعه الله عليه: إنَّ فيك لخصلتين يحبُّهما الله: الحلم والأناة [رواه مسلم 17]. فهل الخصلتين أكتسبهما الرَّجل أو أنَّ الله طبعه عليهما؟ الله طبعه عليهما؛ لكن الخُلق الذي طُبع عليه الإنسان قد ينمو ويزداد بحسب الجوِّ المحيط والتَّربية التي يتلقَّاها الشَّخص، وقد يضعف ويضمر ويخبو أيضاً بحسب البيئة والتَّربية التي يتلقَّاها الشَّخص هذا الشَّيء الفطري، كذلك يمكن الاكتساب، والدَّليل على اكتساب الأخلاق كما ذكرنا سابقاً: أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: إنَّما العلم بالتَّعلم والحلم بالتَّحلم[رواه البيهقي1763، وصححه الألباني في الصحيحة342]. وقال أيضاً: ومن يتصبَّر يصبِّره الله[رواه البخاري1400]. ومن يتشجَّع يحصل على الشَّجاعة، فإذاً: العملية قابلةٌ للاكتساب كحال سائر الأخلاق مع كونها فطرية، لكن قابلة للاكتساب وقابلةٌ للزِّيادة وللنِّقص، فهناك شجاعةٌ فطريةٌ، وهناك شجاعة مكتسبةٌ أيضاً بحسب التَّربية، كما أنَّ هناك جبنٌ فطريٌّ وجبنٌ مكتسبٌ.
وسائل اكتساب الشَّجاعة
فإن قال قائلٌ: ما هي وسائل اكتساب الشَّجاعة؟ فالجواب يقول العلَّامة الشَّيخ عبد الرَّحمن السَّعدي: "ويمدُّ هذا الخلق الفاضل أيضاً: التَّمرين، فإنَّ الشَّجاعة وإن كانت في القلب فإنَّها تحتاج إلى تدريب النَّفس على الإقدام وعلى التَّكلُّم بما في النَّفس وإلقاء المقالات والخطب في المحافل" يجب أن نقول: إنَّ الشَّجاعة لها ميادين؛ فهناك شجاعةٌ في الجهاد، وشجاعةٌ في الخطب، وشجاعةٌ في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وشجاعةٌ في إعلان الرَّأي، إذاً: مجالات الشَّجاعة كثيرةٌ، وضرب لها مثلاً في قضية الخطيب، حيث أنَّ كثيراً من النَّاس ليس عندهم قدرة على إلقاء الكلمات، ولا أن يقفوا أمام النَّاس، ولا أن يصدعوا بأصواتهم أو يرتقوا المنابر، أو يخاطبوا الجماهير المحتشدة، أو ينظر في عيون من أمامهم، وذلك تراه ترتعد أطرافه ويتلجلج صوته، ورُبَّما يُغمى عليه كما حصل لبعضهم لما ارتقى منبراً لأول وهلة فنظر إلى النَّاس وهم ينظرون إليه فأُغمي عليه، فإذاً الشَّجاعة لها ميادين فكما أنَّ من ميادين الشَّجاعة ساحاتُ القتال فكذلك من ميادين الشَّجاعة منابر الخطباء والمتحدِّثين، قال رحمه الله: "فإنَّ الشَّجاعة وإن كانت في القلب فإنَّها تحتاج إلى تدريب النَّفس على الإقدام وعلى التَّكلُّم بما في النَّفس، وإلقاء المقالات والخطب في المحافل، فمن مرَّن نفسه على ذلك لم يزل به الأمر حتى يكون ملكة له، وزالت هيبة الخلق من قلبه فلا يبالي بإلقاء الخطب والمقالات في المحافل الصِّغار والكبار على العظماء وغيرهم"[الرياض الناضرة47]. لأن بعض النَّاس يمكن أن يُلقي في أهل بيته لكن لا يمكن أن يلقي في الجيران، وبعض النَّاس يمكن يُلقي في المعارف لكن لا يمكن أن يلقي في الأجانب والنَّاس البعداء الذين لم يعرفهم، وبعض النَّاس يمكن أن يُلقي في فصلٍ دراسيٍّ لكن لا يمكن أن يُلقي في منبر جمعة، وبعض النَّاس يمكن أن يُلقي على أقرانه والصِّغار لكن لا يمكن أن يُلقي على الوجهاء والكبراء والعظماء والعلماء والأمراء والنَّاس، فإذاً: المسألة أيضاً في قضية الشَّجاعة في المنابر والشَّجاعة في الكلام تحتاج إلى تمرين ومراسٍ، ولذلك يُوصَى مثلاً في التَّعويد على الخطابة والإلقاء أن يبدأ الإنسان بدايةً متدرجةً تتناسب مع إمكاناته، فيمكن أولاً: أن يُلقي في غرفةٍ بمفرده، ويمثَّل الخطابة تمثيلاً، وقد يُلقي بعدذلك على إخوانه الصِّغار، وقد يُلقي بعد ذلك على أهل بيته، وقد يلقي بعد ذلك على بعض جيرانه وأقربائه، وقد يبرز بعد ذلك إلى مسجد حيٍّ صغيرٍ فيه نسبةٌ كبيرةٌ من الأعاجم ويخبِّئ وجهه بالكتاب، ثُمَّ بعد ذلك ينحسر الكتاب تدريجيَّاً حتى يرى من أمامه ثُمَّ يكثر الجمع وتصبح الكلمة مرتجلة ثُمَّ يرتقي المنبر، فالمسألة فيها تعوُّدٌ وتدرُّج لا بُدَّ لها من مران قال "وكذلك تمرين النَّفس على مقارعة الأعداء ولقائهم والجسارة في ميادين القتال، تقوى به النَّفس والقلب، فلا يزال به الأمر حتَّى لا يبالي بقتال الأعداء ولا تزعجه المخاوف، وقد حثَّ الله على هذا الدَّواء النَّافع بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:200]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا[الأنفال:45]. فالله يحثُّ على الشَّجاعة: اصبروا وصابروا ورابطوا وأثنى على المتَّصفين بهذا الوصف الجليل في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[آل عمران:173]. فهذا أمرٌ بالشَّجاعة وهذا حثٌّ عليها وعلى الثَّبات، وما هو الثَّبات إلَّا شجاعة؟ "فهكذا يكون حال الرِّجال لا كمن خلع الرُّعب قلوبهم وصار خوف الخلق عندهم أعظم من خوف الخالق، قال تعالى في وصف هؤلاء: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ[المنافقون:4]. حتى لو ما كان معنيَّاً بها فيظنُّ نفسه مقصوداً بها يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ من جبنهم يودُّوا لو جاءوا الأحزاب أنَّهم بعيدين في الأعراب يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا[الأحزاب:20]. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ[الأحزاب:19]. [الرياض الناضرة47-48].
من وسائل كسب الشَّجاعة: التَّدريب العملي لدفع الرَّهبة
فهناك إذاً وسائلٌ للتَّمرين لاكتساب الشَّجاعة، وقلنا أنَّ الوسيلة الأولى: التَّدريب العملي بدفع الإنسان نفسه إلى المواقف ليتخلَّص من رهبتها، فممكن نقول: أن من تعريفات الشَّجاعة أيضاً: التَّغلُّب على رهبة الموقف، سواءً كان هذا موقف معركة أو موقف خطابة أو موقف إنكار منكر أو مخاطبة عظيم، الشَّجاعة هي التَّغلُّب على رهبة الموقف؛ لأنَّ الإنسان إذا تغلَّب على رهبة الموقف انتهت العملية، واجتاز الجسر وعبر، وصار في شاطئ السَّلامة وثبَّتت رجله وقدمه على الطَّريق، فكيف يتخلَّص الشَّخص من رهبة الموقف؟ هذه العملية مسألةٌ تربويةٌ مهمَّة، تحتاج إلى تكرار وضع النَّفس في المواقف التي فيها رهبةٌ فإذا تكرَّر وضع النَّفس في المواقف التي فيها رهبة؛ ستزول الرَّهبة، أولاً قد تكون الرَّهبة بنسبة مئة بالمئة، ثُمَّ تسعين ثُمَّ ثمانين ثُمَّ خمسين ثُمَّ أربعين، حتى تصير الرَّهبة صفراً فلا يُوجد رهبة من المواقف وبالتَّالي تحصل الشَّجاعة التَّامة، فلا يتصوَّر أنَّ إنساناً يتغلَّب على رهبة الموقف من أول وهلة إلَّا ندرة من النَّاس، فمثلاً: لا يعرف يُلقِي مطلقاً فيحدث له ظرفٌ فيخطب في جموعٍ حاشدةٍ بدون ورقة، فهذا نادرٌ جدَّاً، لكن نحن نتكلَّم على الأعمِّ الأغلب، والنَّادر لا حكم له، فتكرار وضع النَّفس في المواقف التي فيها رهبةٌ هو الذي يزيل الرَّهبة؛ لأنَّ الرَّهبة شيءٌ جديدٌ على النَّفس، فالنَّفس متى تتغلَّب عليه؟ عندما يتكرَّر عليها فتألفه، ولا تصبح صدمةً ولا مفاجأةً، وبالتَّالي ينطلق الإنسان.
ومن الوسائل أيضاً لتحقيق الشَّجاعة: أن يقنع الإنسان نفسه بأنَّ المخاوف أوهامٌ، ليست بالضَّرورة أن تحصل؛ لأنَّه ممَّا يجعل بعض النَّاس يحجمون أنَّه يعتقد أنَّ المخاوف ستقع، فلو أقنع نفسه أنَّ المخاوف والظُّنون والاحتمالات لن تقع، أو بعيدةٌ الوقوع، ما الذي يجعل كثيراً من النَّاس يحجمون عن القتال؟ مثلاً: لو صارت معركةٌ أنَّه يخاف من القتل، وهذا هو الحقيقة والواقع، فلو أنَّه أقنع نفسه بأنَّ القتل ليس بالضَّرورة أن يحصل، وقد يحصل له في غرفة النَّوم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[آل عمران:154]. فإذاً إذا أقنع نفسه بذلك تحصل الشَّجاعة، ثُمَّ إنَّ بعض الاحتمالات قويةٌ، فإذا قلت: إنَّه إذا دخل المعركة قد يُقتل، وهذا احتمالٌ قويٌّ، لكن ليس احتمالاً وهميَّاً لا يمكن أن يحصل، لكن ليس بالضَّرورة أن يحصل، ففي غالب المعارك أكثر الجيش لا يُقتل ولا يموت، لكن يموت جزءٌ منه في غالب المعارك، فالذي يظنُّ أنَّه إذا دخل معركةً لا محاله مقتولٌ فهذا يثبِّطه، لكنَّه إذا أقنع نفسه بأنَّ هذا القتل ليس بالضَّرورة أن يحصل في هذه المعركة، وأنَّ قضية الآجال بيد الله، وما دام أنَّه مطالبٌ بالقتال فهو سيدخل المعركة، فهذا خالد بن الوليد كم معركة دخلها وما مات فيها؟ بل في الغالب أنَّ أكثر الجنود -النُّسبة الأكبر- من الذين يدخلون المعارك يسلمون، قد ينتصر وقد يقع أسيراً وقد يسلم وقد يموت، فأولاً: أن يقنع نفسه بأنَّ الاحتمال مع كونه احتمالاً وارداً لكنَّه ليس حتميَّاً، فممَّا يثبِّط بعض النَّاس ولا يجعلهم شجعاناً: اعتقاده بحتمية وقوع الاحتمال، وهذا شيءٌ يجب تدميره وإنهاؤه والقضاء عليه في النَّفس، فليس حتميَّاً أن يقع هذا الشَّيء، ثانياً: الأوهام والاحتمالات النَّادرة، يعني: بعض النَّاس يقدِّرون أشياء ولكنَّها وهميةٌ، فإذاً أن يقع في نفسه بأنَّ الاحتمال ليس حتميَّاً والمخاوف ليست حتميَّة الوقوع، وأنَّ النَّوع من المخاوف الوهمي يجب ألَّا يفكر فيه؛ لأنَّه وهمٌ هذا يخفِّف جدَّاً من قضية الإحجام، ويجعل النَّفس تنطلق.
كيفية تنمية الشَّجاعة عند الأطفال
ثالثاً: القدوة الحسنة واستعراض مواقف الشَّجعان، نماذج ومشاهد الشُّجعان، وذكر قصصهم والثَّناء عليهم؛ لأنَّ النَّفس البشرية مفطورةٌ على المحاكاة والمتابعة ثُمَّ المنافسة، فتحاكي ثُم تتابع ثُمَّ تنافس، فلو أنَّ الإنسان استعرض سير الشُّجعان سيتشجع، فمثلاً لماذا يكون من أنواع الإقناع أو أنواع غسيل الدِّماغ مشاهدٌ وأفلامٌ يرونها لبعض الأشخاص عن أحوالٍ معينةٍ؟ مثلاً: صوروا شجعان وعرضوا المشاهد فأثَّر المشهد على المشاهد ويرسخ في النَّفس، فلو أنَّك أُريت طفلاً مثلاً: فلماً عن جهادٍ أو قتالٍ في سبيل الله سيتشجَّع تلقائيَّاً، ويقول: متى سترسلوني إلى المعركة؛ لأنَّه يرى بنفسه وبعينه كيف يفعلون وكيف يقاتلون وكيف يثبتون وكيف يكبرون، فسواءً أريته إيَّاه في مشهدٍ مصوَّرٍ أو وصفته له بالكلمات، كما نشأ عليه غالب فتيان الإسلام من قديم، حيث كان لايوجد تصويرٌ ولا كاميراتٌ، فكيف ينشأ الولد في المجتمع الإسلامي؟ وكيف تتكَّون الشَّجاعة لديه؟ بعرض قصص الشَّجعان عن طريق أمِّه وأبيه وأهل بيته، أو في مسجدٍ يسمع ذلك في الحلق وفي بعض الدُّروس، ومعلم الصبيان والمؤدب كانت هذه أدواره في الماضي، حيث كان لها شأنٌ عظيمٌ في تربية الأطفال وصقل شخصياتهم، فهؤلاء كانوا يعرضون مشاهد ويروي قصصاً عن شجعان فيصوِّرها بأسلوبه الأدبي كأنَّ الطَّفل يشاهده في الفلم مشهد تصويري، لكن بدل التَّصوير بالكاميرا يكون التَّصوير بالكلمات، وإن من البيان لسحراً، فالقدوة الحسنة سواءً كانت منقولة من الماضي أو الحاضر أو كانت مشاهدة، وهذا أقوى شيءٍ في التَّأثير: أن يرى الطِّفل أمامه، فالزُّبير بن العوام كان يصطحب أولاده إلى ساحات الوغى، وعبد الله بن الزبير لما يرى شجاعة أبيه –الزُّبير- في المعركة فعبد الله بن الزَّبير على فرسٍ قد وكَّل أبوه به من يمسكه؛ لأنَّ الولد منطلقٌ عنده قوة إقدامٍ شديدةٍ، وقد تشبَّع بمشاهدة شجاعة أبيه، فالمعارك التي خاضها الزُّبير كان عبد الله موجوداً ويرى على الطَّبيعة إقدام أبيه، ولذلك كم مرَّة كاد أن يفلت من الشَّخص الموكل في إمساكه وعمره إحدى عشر سنة أو نحوها؟ فمسألة القدوة هي من أعظم ما يرسِّخ الشَّجاعة في النَّفس، رابعاً: إثارة دوافع التَّنافس ومكافأة الأشجع مع الثَّناء الشَّرعي عليه، الذي لا يحطِّمه ويدخل العجب في نفسه، وهذا يكون كثيراً في واقع الصِّبيان، في أحد المعارك بين النَّصارى والمسلمين في عهد صلاح الدِّين الأيوبي، قال بعض المسلمين لبعض النَّصارى: لقد سئمنا من قتال الكبار فأرسلوا صبيَّاً ونرسل صبيَّاً في وسط ساحة المعركة، فأخرج المسلمون صبيَّاً وأخرج النَّصارى صبيَّاً فالتقيا فابتدر صبيُّ المسلمين صبيَّ النَّصارى فأخذه فاقتلعه فرفعه فهوى به إلى الأرض وأطبق عليه ليقتله، فحالوا بينه وبينه، فالصَّبي إذا عُوِّد على الشَّجاعة يتقمَّصها وتُصبح الشَّجاعة بالنُّسبة له خلقاً يرى أثره في الواقع، ومن عملية إثارة دوافع التَّنافس التي حصلت على عهد النَّبيِّ ﷺ قصصٌ كثيرةٌ في المشاهد في الجهاد، ولمَّا اعترض بعض الصِّبيان الصَّحابة لماذا مُنع هو وقُبِل فلانٌ؟ ولو صارعه لصرعه فأجيز هو وإيَّاه إذاً: كانت المسألة فيها تنافسٌ من الذي سيخرج، وبعضهم بكى؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام كان لا يسمح لمن كان دون الخامسة عشرة من الخروج، ولذلك ردَّ عبدالله بن عمر في غزوةٍ وقُبِل في أُخرى؛ لأنَّه ليس من المصلحة إدخال الصِّغار، فيكون في قلَّة قوتهم وضعفهم ثغرات على أهل الإسلام، فمشاهد التَّنافس كانت واضحة بين الصَّحابة في قضية الدُّخول في المعارك وتسجيل الأسماء، ومن الذي يدخل ومن الذي ينافس على الدُّخول، ولما كان التَّدريب العملي من أفضل الوسائل لاكتساب الأخلاق والمهارات فإنَّنا نجد في قطاعات البشر الموجودين في المناطق المختلفة ميزاتٌ لا توجد في غيرهم، فمثلاً: أهل البادية فيهم شجاعةٌ في الصَّحاري والقفار، وأهل السَّواحل فيهم شجاعةٌ في خوض غمار البحار، وأهل الجبال عندهم قوةٌ في ارتقاء شواهق الجبال وقممها، فالبيئة لها تأثيرٌ، وأهل المدن أجبن خلق الله وهذا معروفٌ لا يحتاج إلى إثباتٍ، حيث لا جبال ولا بحار، فلا يطلبون رزقاً في بحرٍ ولا في صحراء، ولذلك التَّرف يؤدِّي إلى تحطيم الشَّجاعة، ولذلك النَّبيُّ ﷺ قال: تمعددوا انتسبوا إلى معد الذي كان معروفاً بالفروسية والقوة واخشوشنوا [رواه الطبراني15430، وقال الألباني: "ضعيف جداً" ضعيف الجامع2482]. لأنَّ التَّنعم يذهب بقوة البدن.
الشَّجاعة المحمودة والشَّجاعة المذمومة
وإذا كانت الشَّجاعة المقصود بها نصرُ الحقِّ وردُّ الباطل وتحصيل المنافع الفردية والجماعية للإسلام والمسلمين؛ فإنَّها شجاعةٌ محمودةٌ، أمَّا إذا كانت في سبيل حظوظ النَّفس الدِّنيئة لا في حقوق الله ولا في حقوق المسلمين؛ فإنَّها ذميمةٌ، ولذلك ترى أهلها يتقاتلون أشدَّ المقاتلة على لعاعة من الدُّنيا وعلى حطام من الدُّنيا، ولا يعتبر هذا شجاعةٌ محمودةٌ فقد يوجد من يكون شجاعاً ويخوض معركةً ليفوز بمنصبٍ، أو ليأخذ امرأةً، أو لينال معصيةً؛ فهذه ليست بشجاعةٍ مع أنَّه قد يوجد الآن في بعض الأماكن قُطَّاع الطُّرق واللُّصوص، لا يمكن أن تنفي عنهم الشَّجاعة، بل عندهم قوةٌ إقدامٌ بسببها استطاعوا قطع الطَّريق وإيقاف القوافل والتَّعرُّض لها وإنزال النَّاس، وأحياناً يسرقون في وضح النَّهار لا شك أنَّ عندهم شجاعةٌ وقوةٌ إقدامٌ، لكن لا يمكن أن نسميها شجاعةٌ محمودةٌ؛ لأنَّ الغرض الذي استعمل الشَّجاعة فيه غرضٌ فاسدٌ وحرامٌ، بل ينبغي أن يجبن عن مثل هذا، ويصرف إقدامه إلى شيءٍ آخرٍ، فأحياناً يكون عند النَّاس قوةٌ بهيميةٌ أو سبعية في الافتراس والاعتداء؛ لأنَّ الناس طباعهم مثل طباع الحيوانات في كثير من الجوانب، كما أشار إلى ذلك أهل العلم، وقد أخذه سفيان بن عيينة رحمه الله من قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ[الأنعام:38]. ولذلك قال العلماء: من النَّاس من عنده طبيعةٌ عدوانيةٌ مثل الحيوانات المفترسة كالأسد، والذئب، والنَّمر، والفهد ونحو ذلك، ومن النَّاس من عنده طبيعة خداعٍ ولؤمٍ كالثَّعلب، ومن النَّاس من عنده طبيعةُ قلةِ وانعدام غيرةٍ كالخنزير، ومن النَّاس من عنده طبيعةُ تبلُّد كالحمار، ومن النَّاس من فيه عُجبٌ واختيال كالطَّاوس، ومن النَّاس من فيه طبيعةُ الإفساد كالفأر، أيَّ شيءٍ يدخل فيه يريد أن يفسده، فيخرِّب هذا وهذا ولا يترك شيئاً سليماً مثل الفأر يقرض أيَّ شيءٍ بأسنانه وهكذا، كثيرٌ من طباع الحيوانات والبهائم موجودةٌ في طباع الخلق وتشابههم، ومن النَّاس من طباعهم كريمةٌ كطباع الخيل -مثلاً- في الجانب المقابل، فالآن الذين عندهم قوةٌ وإقدامٌ في أخذ الأموال وسلب النَّاس وقطع الطُّرق فإقدامهم هذا ليس شجاعة محمودة؛ وإنَّما هي شهوةٌ بهيميةٌ أو سبعية نسبةً إلى السِّباع، وهؤلاء أراذل الخلق عند الله .
ضرورة مصاحبة الإخلاص للشَّجاعة
فلا بُدَّ أن يُصاحب الشَّجاعة -حتى تسلم من الغوائل- إخلاصٌ لله تعالى، فإنَّ ممَّا يزيد هذا الخلق الجليل: عدمُ مراءاة الخلق؛ لأنَّ المخلص الذي لا يريد إلَّا وجه الله تعالى لا يبالي بلوم اللَّائمين، إذا كان عمله في رضا ربِّ العالمين فيقدم على قول الحقِّ، غير مبالٍ بانتقاد من انتقده، ولا يعتدُّ بمدح من مدحه، فإذاً: مسألة الارتباط بين الشَّجاعة وبين الرِّياء والإخلاص ارتباطٌ وثيقٌ، فالذي لا يبالي بمدح المادحين ولا ذمِّ الذَّامين ما دام هو على الحقِّ فهذا إنسانٌ شجاعٌ، أمَّا المرائي المتزِّين للنَّاس والواقف في همته على مدحهم وذمِّهم؛ فما أسرع خوره في المقامات الرَّهيبة، وما أعظم هلعه وهيبته إذا رماه النَّاس بأبصارهم، وما أقلُّ ثباته عند اعتراض المعترضين وذمِّ الذَّامين، والسَّبب في ذلك واضحٌ؛ لأنَّه إنسانٌ مرائي، فالمرائين ليسوا شجعاناً.
أمثلةٌ من شجاعته ﷺ
ولنأخذ بعض الأمثلة التي تبيِّن لنا شجاعة أهل الإسلام عبر التَّاريخ كما كنا نذكر في كُلِّ خُلُقٍ: روى البخاري رحمه الله تعالى عن أنس قال: "كان النَّبيُّ ﷺ أحسن النَّاس وأشجع النَّاس وأجود النَّاس"[رواه البخاري2665]. الشَّاهد قوله: "أشجع النَّاس" قال في رواية أخرى للبخاري: "ولقد فزع أهل المدينة ليلةً فخرجوا نحو الصَّوت" سمعوا صوتًا مدويَّاً ففزعوا نحو الصَّوت "فاستقبلهم النَّبيُّ ﷺ وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السَّيف وهو يقول للنَّاس مطمئناً لم تراعوا لم تراعوا ثُمَّ قال: وجدته بحراً أو قال: أنَّه لبحرٌ[رواه البخاري 5686]. يعني: سريعٌ جدَّاً، فمن شجاعته عليه الصلاة والسلام أنَّه لما حصل هذا الصَّوت كان أول مَن خرج وأول من عرف الخبر والحقيقة، وأنَّه ليس شيئاً مخيفاً ولا مقلقاً، وردَّ النَّاس وقال: لم تراعوا لم تراعوا ولا خوفٌ عليكم ورجعوا، وروى مسلمٌ رحمه الله تعالى عن البراء أنَّه جاءه رجلٌ فقال: أكنتم ولَّيتم يوم حنين يا أبا عُمَارة؟ فقال" أشهد على نبيِّ الله ﷺ ما ولَّى ولكنَّه انطلق أخِفَّاءٌ من النَّاس وحُسَّرٌ إلى هذا الحيِّ من هوازن وهم قومٌ رماةٌ" ناسٌ انطلقوا في طليعة جيش المسلمين أخِفَّاءٌ ومن بعض مسلمة الفتح حدثاء عهدٍ بالإسلام ليس عندهم إيمانٌ ودينٌ متمكِّن وناسٌ حُسَّرٌ ما عليهم أدراع وأشياء تحصنهم وتقيهم كانوا في طليعة النَّاس وهوازن استقبلتهم بالنَّبل، فهذان الصِّنفان أول من طار وتبعثروا "ولكنَّه انطلق أخِفَّاءٌ من النَّاس وحُسَّرٌ إلى هذا الحيِّ من هوازن وهم قومٌ رماةٌ فرموهم برشق من نبلٍ كأنَّها رجلُ من جرادٍ" يعني: من كثرتها كأنَّها قطيعُ جرادٍ "فانكشفوا" فهذا سبب الهزيمة الأولية التي حصلت للمسلمين "فأقبل القوم إلى رسول الله ﷺ" الناس إذا تبعثروا فالقائد هو الذي يجمعهم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته ﷺ فنزل ودعا دعا النَّاس" يا فلان يا فلان يا أيُّها الأنصار يا المهاجرين يا للأنصار دعا الأنصار "فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النَّبيُّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب، اللهمَّ نزِّل نصرك قال البراء: "كنَّا والله إذا احمرَّ البأسُ نتقي به" بالنَّبيِّ ﷺ، إذا اشتدَّ البأس وحمي الوطيس والمعركة صارت في غاية شدَّتها احتموا بالنَّبيِّ ﷺ "كنَّا والله إذا احمرَّ البأس نتَّقي به، وإنَّ الشِّجاع منَّا للذي يحاذي به" يعني" بالنَّبيِّ ﷺ "وكانوا يتقون به"[رواه مسلم1776]. رواه مسلم. فهذا جانبٌ من شجاعة النَّبيِّ ﷺ.
أمثلة من شجاعة الصَّحابة رضوان الله عليهم
أمَّا الصَّحابة فحدِّث ولا حرج بشيءٍ، لا يكاد يجمع البراء نفسه هذا الذي يتواضع في كلامه كيف كان في الشَّجاعة، قال الذَّهبي رحمه الله في السِّير: "وبلغنا أنَّ البراء يوم حرب مسيلمة الكذَّاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترسٍ، على أسنة رماحهم، ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم وشدَّ عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة" يعني: للمسلمين ليدخلوا "فجُرح يومئذٍ بضعةً وثمانين جرحاً، ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهراً يداوي جراحه، وقد اشتهر أنَّ البراء قَتَل في حروبه مائةَ نفسٍ من الشُّجعان مباررزةً"[سير أعلام النبلاء1/ 164]. ومعاذ بن عمرو بن الجموح وصاحبه من شجعان صبيان الصَّحابة اللَّذان قالا لعبد الرحمن بن عوف وهو واقفٌ بينهما يوم بدر حيث غمزه أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قال: قلت نعم، وما حاجتك؟ قال: أُخبرت أنَّه يسبُّ رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منَّا، فهذه شجاعةٌ بالغةٌ في المنتهى، صبيٌّ يسأل عن أبي جهل وهو أعتى فارسٍ في قريش ليقتله! ثُمَّ لم تكن القضية ادعاءً، ولما غمزه الآخر وقال الكلام نفسه، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في النَّاس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما، قال فابتدراه سيفهما حتى قتلاه وجعل الله إذلال أبي جهل على يدي صبيِّين من المسلمين[رواه البخاري2972، ومسلم1752].
أمثلة من شجاعة أُولي الضَّرر من الصَّحابة
وحتى عُميان المسلمين كانوا يتميَّزون بالشَّجاعة مع أنَّ الأعمى في المعركة لا يستطيع أن يقاتل، فيقول ابن أم مكتوم: أي ربِّ أنزل عذري فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ[النساء:95]. فكان مع ذلك ومع أنَّ الله أنزل عذره يغزو بعد ذلك، ويقول: "ادفعوا إليَّ اللواء فإنِّي أعمى لا أستطيع أنَّ أفرَّ وأقيموني بين الصَّفين"[سير أعلام النبلاء1/ 316]. وخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه الذي لما احتضر بكى، وقال: لقيت كذا وكذا ما قدَّر الله له الشَّهادة قتلاً، فقد كانت شجاعته تفوق الوصف ومعروفةٌ، ولم تكن شجاعته فقط في القتال؛ بل توكَّل على الله في قصةٍ لما أتى الرَّوم إليه وصار التَّحدِّي لأهل الإسلام في صعيدٍ آخرٍ، جيء له بشرابٍ فقال: ما هذا؟ قالوا: سمٌّ ساعة، فقال: بسم الله ثم ازدرده"[رواه الطبراني 3719]. ولم يضرَّه، ما هو السَّبب؟ التَّوكُّل، والتوَّكُّل إذا كان صادقاً يعطِّل سمَّ الأفعى والعقرب ونهشة الحيَّة وعضة الأسد، ويعطِّل كُلَّ شيءٍ، قال الذهبي معلقاً هذه: "والله الكرامة وهذه الشَّجاعة فلمَّا صار تحدٍ لم تكن القضية انتحاراً، وخالد يعلم من نفسه صدق يقينه وتوكُّله على الله ، قلنا: إنَّ شجاعة الصَّحابة لم تكن فقط في ميادين المعارك، وكانت أيضاً شجاعةٌ في قول الحقِّ، فهذا عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله ﷺ مع ضعفه وهزالة جسمه، إلَّا أنَّه قام وأعلنها صريحةً أمام كفَّار قريشٍ، وأبو ذرٍ الغفاري أعلنها أمامهم صريحةً، إذاً: كانت قضية التَّحدي بالمبادئ وإعلان الدِّين ومجابهة القوم بما يكرهون من الكلام، إعزازاً لدين الله، وتحديَّاً للكفرة، وإعلاء لكلمة الله، كان هذا شأن الصَّحابة الشُّجعان؛ لأنَّه لا يقوم بالإعلان إلَّا شجاعٌ، وكان ابن الزُّبير لا ينازع في ثلاثة: شجاعةٌ، ولا عبادةٌ، ولا بلاغةٌ رضي الله تعالى عنه.
مثال من شجاعة الزبير وابنه عبدالله ابن الزبير
وقال ابن الزُّبير: "هجم علينا جرجيرٌ -هذا أحد قادة الكفرة- في عشرين ومائة ألف فأحاطوا بنا، ونحن في عشرين ألفاً" يعني: في إفريقية "واختلف النَّاس على ابن أبي سرح، وكان قائد المسلمين فدخل فسطاطه فرأيت غرة من جرجير، يعني: ثغرة في موقع هذا القائد الكافر، وبصرت به خلف عساكره على برذون أشهب معه جاريتان تظللان عليه بريش الطَّواويس، بينه وبين جيشه أرضٌ بيضاء، فأتيت أميرنا ابن أبي سرح فندب لي النَّاس، قلت: أريد مجموعة اقتحام لنصل إلى هذا القائد في عقر مكانه، فاخترت ثلاثين فارساً، وقلت لسائرهم: البثوا على مصافِّكم، وحملت وقلت لهم: احموا ظهري" لأنَّ عملية الاختراق تحتاج إلى حماية المؤخَّرة حتى يستطيع أن يصل إلى مبتغاه "فخرقت الصَّف إلى جرجير وخرجت صامداً وما يحسبه هو وأصحابه إلَّا أنِّي رسولٌ إليه، ظنَّ أنَّ جيشه عمداً سرب هذا الرَّجل؛ لأنَّه يحمل رسالة، حتى دنوت منه فعرف الشَّرَّ، فتبادر برذونه موليَّاً فأدركته فطعنته فسقط ثُمَّ احتززت رأسه فنصبته على رمحي وكبَّرت وحمل المسلمون فانفضَّ العدو ومنح الله أكتافهم[تاريخ الإسلام3/ 318-319]. ومن قصص الشَّجاعة التي كانت عند المسلمين ما كان من قصة عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب الهاشمي الذي كان موصوفاً بالشَّجاعة والفروسية كما ذكر ذلك الذهبي رحمه الله في السِّير، ويقول أبو الحويرث: "أول من قتل يوم أجنادين بطريقٌ برز يدعو إلى البِراز، فبرز إليه عبد الله بن الزُّبير بن عبد المطلب فاختلفا ضرباتٍ، ثُمَّ قتله عبد الله ثُمَّ برز آخرٌ فضربه عبد الله على عاتقه، وقال: خذها وأنا ابن عبد المطلب، فأثبته وقطع سيفُه الدِّرعَ، وأشرع في منكبه ثُمَّ ولَّي الرُّومي منهزماً"[سير أعلام النبلاء6/ 376].
أمثلة من شجاعة السلف: أحمد بن إسحاق السرماري
ومن العجائب أيضاً في تاريخ المسلمين: أحمد بن إسحاق الإمام الزَّاهد العابد المجاهد فارس الإسلام من أهل سرماري من قرى بخارى، وبشجاعته يضرب المثل كما قال الذَّهبي رحمه الله، هذا السُّرماري يقول إبراهيم بن عفان البزَّاز: "كنت عند أبي عبد الله البخاري فجرى ذكر أبي إسحاق السُّرماري، فقال: ما نعلم في الإسلام مثله، ومن قصصه قال إبراهيم بن شمَّاس: كنت أكاتب أحمد بن إسحاق السرماري فكتب إليّ إذا أردت الخروج إلى بلاد الغزية في شراء الأسرى فاكتب إليّ، فكتبت إليه فقدم سمرقند فخرجنا، فلمَّا علم جعوبيه استقبلنا في عدَّةٍ من جيوشه، فأقمنا عنده فعرض يوماً جيشه فمرَّ رجلٌ فعظَّمه وخلع عليه، فسألني عنه السُّرماري: من هذا الرَّجل" الذي أكرمه جعبويه وخلع عليه وكافأه "فقلت هذا رجلٌ مبارزٌ يُعدُّ بألف فارس، فقال: أنا أبارزه، فسكتُّ، فقال جعبويه: ما يقول هذا؟ قلت: يقول كذا وكذا، قال: لعلَّه سكران لا يشعر ولكن غداً نركب، فلمَّا كان الغد ركبوا، فركب السُّرماري معه عمودٌ في كمِّه، فقام بإزاء المبارز فقصده، فهرب أحمد" هذا السُّرماري تظاهر بالهروب "حتى باعده من الجيش، ثُمَّ كرَّ وضربه بالعمود فقتله، وتبع إبراهيم بن شمَّاس؛ لأنَّه كان سبقه، فلحقه وعلم جعوبيه فجهَّز في طلبه خمسين فارساً نقاوةً انتقاهم فأدركوه" السُّرماي هذا المسلم لما لحقه خمسين "ثبت تحت تلِّ مختفياً حتى مرُّوا كُلُّهم واحداً بعد واحد، وجعل يضرب بعموده من ورائهم حتى قتل تسعةً وأربعين وأمسك واحداً فقطع أنفه وأُذنيه وأرسله رسولاً يخبر عمَّا رأى"[سير أعلام النبلاء25/30-31].
أمثلة من شجاعة بعض الصَّحابة في المعارك
فالنَّبيُّ ﷺ كان ولا شكَّ من أعظم الأسباب في شجاعة الصَّحابة رضوان الله عليهم، فنحن استعرضنا الآن بعض النَّماذج لشجاعة بعض الشُّجعان في التاريخ الإسلامي، لكن إذا نظرنا إلى شجاعة الصَّحابة رضوان الله عليهم في القتال التي أدَّت بهم إلى الانتصار في المعارك المختلفة في الإسلام وبعد الإسلام، سواءً على كفَّار قريش أو كفَّار العرب أو حروب المرتدين أو كسرى وقيصر؛ فإنَّنا نجد أنَّ من الأسباب التي دفعت الصَّحابة إلى اتخاذ مواقف الشَّجاعة أمورٌ، فمنها: أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان يحمِّس القوم ويحفزِّهم، كما قال أحدهم: يا رسول الله أرأيت إن قتلت فأين أنا قال: في الجنَّة فألقى تمراتٍ وقاتل حتى قُتل[رواه البخاري3820]. فإذاً: ممَّا كان يشجِّع على القتال: أن يعرف الإنسان نفسه إذا صدق وقُتل أين هو، فهذا أنس بن النَّضر قال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع، فلمَّا كان يوم أحدٍ انكشف المسلمون، فقال: اللهمَّ إنِّي أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني: أًصحابه الذين انكشفوا وأبرأ إليك ممَّا صنع هؤلاء يعني: المشركين، ثُمَّ تقدَّم، والقصَّة معروفةٌ[رواه البخاري2651]. لكن الرَّغبة في تعويض المشاهد الفائتة في الخير ذكر الجنَّة شجَّع عرض المسئولية، فالنَّبيُّ ﷺ أخذ سيفاً يوم أحدٍ فقال: من يأخذ هذا منِّي فبسطوا أيديهم كُلُّ إنسانٍ يقول: أنا أنا، فقال: فمن يأخذه بحقِّه فأحجم القوم، فقال أبو دجانة سمَّاك بن خرشة : أنا آخذه بحقِّه، فأخذه ففلق به هام المشركين[رواه مسلم2470].
إذاً: تقدير المسئولية حقَّ قدرها من الأشياء التي ترسِّخ الإنسان في طريق الثَّبات، وتدفعه إلى الشَّجاعة، والنَّبيُّ ﷺ ما كان يدفع جنوده إلى ساحات المعارك دون إعدادٍ، وينتظر شجاعاتٍ فردية، لكنَّه كان يجهِّزهم ثُمَّ يأذن لهذه المشاعر النَّفسية -الشَّجاعة وغيرها- أن تنطلق، لكن تنطلق على إعداد مسبقٍ، فمثلاً: كان يقول: ألَّا إنَّ القوَّة الرَّمي [رواه مسلم1917]. ويحثُّ أصحابه على التَّدريب وعلى المران والرَّمي، وكان يرمي مع هؤلاء ويرمي مع أولئك، وقال: ارموا فأنا معكم كُلُّكم[رواه البخاري2743]. وكان المجتمع حتى اللعب بالحراب في المسجد من أجل هذه النَّوع من التَّدريب الحربي لم يكن لعباً ولا لهواً ولا عبثاً في المسجد، وإنَّما كان لعباً بالحراب وتدريب كان يحسنه الحبشة، مثل التَّمرين أو استعراض عسكري، كانوا يقومون به، وكذلك فإنَّه ﷺ قال: ستفتفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه [رواه مسلم1918]. يعني: لا تتركوا التَّدرب على السِّهام ولو فتحت عليكم الدِّيار، ولا تتركوا الرَّمي وتعلَّموه جيلاً بعد جيل، وعلِّموه أبناءكم، وليكن دائماً هناك مرانٌ على الرَّمي، هكذا كان ﷺ يقول، فأقول أيُّها الإخوة: أنَّ مثل هذه الأشياء هي التي كانت تحمِّس المسلمين وتجعل الوقفة وقفةً صحيحةً، وليست مجرَّد دفع الأفراد أو الجيش إلى معارك بغير إعداد سابقٍ، فالشَّجاعة لا بُدَّ أن يقارنها إعدادٌ.
الفرق بين الشَّجاعة والجرأة
ثُمَّ إنَّ بعض النَّاس قد يجهل الفرق بين الشَّجاعة والجرأة، فممَّا ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الرًّوح في آخر الكتاب في مبحث الفروق قال: "والفرق بين الشَّجاعة والجرأة: أنَّ الشَّجاعة من القلب، وهي ثباته واستقراره عند المخاوف" يعني: إذا أردت تعريفاً آخراً للشَّجاعة، فهي: ثباتُ القلب عند المخاوف، وقيل للمهلب: كيف كان مشهورٌ بالشَّجاعة، فأمهل هذا السَّائل فترةً حتى جاءت معركةٌ، وهذا السَّائل كان بجانبه والمهلب يضرب بسيفه ويخوض غمار المعركة، فقال لمن بجانبه: ضع يدك الآن على قلبي، قال فوضعتها على قلبه فإذا هو أسكن شيءٍ، قال: بهذا، فهذه هي الشَّجاعة، يعني: واحدٌ في المعركة وأمام الأعداء متوقِّعٌ أن ضربات القلب تتسارع نتيجةَ القلق والخوف، فكان قلبه من أسكن ما يكون وهو في لحظة المبارزة، يقول ابن القيم رحمه الله: "الشَّجاعة من القلب، وهي ثباته واستقراره عند المخاوف، وهو خُلقٌ يتولَّد من الصَّبر وحسن الظَّنِّ، فإنَّه متى ظنَّ الظَّفر وساعده الصَّبر ثبت، كما أنَّ الجبن يتولَّد من سوء الظَّنِّ وعدم الصَّبر، فلا يظنُّ الظَّفر ولا يساعده الصَّبر، وأصل الجبن من سوء الظَّنِّ ووسوسة النَّفس بالسُّوء" يقول الجبان لنفسه: الآن سأموت ومنيتي الضَّربة أو الرَّصاصة أو الطَّلقة القادمة أو الانفجار القادم، ويقول لن ننتصر فالأعداء كثيرون ونحن قلِّةٌ ضعفاء، فالجبان هكذا دائماً يخاطب نفسه، فماذا يحدث لنتيجة التَّأزمات النَّفسية هذه؟ يحدث شيءٌ جسديٌّ، فالانفعالات النَّفسية تنعكس على العضلات وعلى الأعضاء الجسدية، فيقول ابن القيم: "وهو ينشأ من الرَّئة" يقول: الشجاعة في القلب والجبن في الرِّئة "فإذا ساء الظَّنُّ ووسوسة النَّفس بالسُّوء انتفخت الرِّئة فزاحمت القلب في مكانه وضيَّقت عليه حتى أزعجته عن مستقره، فأصابه الزِّلازل والاضطراب؛ لإزعاج الرِّئة له وتضييقها عليه، ولهذا جاء في حديث عمرو بن العاص الذي رواه أحمدٌ وغيره عن النَّبي ﷺ: شرُّ ما في المرء جبنٌ خالعٌ وشحٌّ هالعٌ[رواه أحمد7997، وصححه الأباني في الجامع الصغير6022]. فسمَّى الجبن خالعاً؛ لأنَّه يخلع القلب عن مكانه لانتفاخ السِّحر وهي الرِّئة، كما قال أبو جهل لعتبة بن ربيعة يوم بدر عتبة: انتفخ سحرك" هذه عبارةٌ صحيحةٌ عربيةٌ، يعني أبو جهل لعتبة: انتفخ سحرك، وهذا دليلٌ على أن الخوف والجبن نزل عليه، قال: "فإذا زال القلب عن مكانه ضاع تدبير العقل، فظهر الفساد على الجوارح" فلا يدري أيمسك سلاحاً أم يهرب ولا ينظر، قال: "فإذا زال القلب عن مكانه ضاع تدبير العقل فظهر الفساد على الجوارح، فوضعت الأمور على غير مواضعها، فرُبَّما استعمل السِّلاح على نفسه، فالشَّجاعة حرارةُ القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته، فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته، فإنَّها خدم له وجنود، كما أنَّه إذا ولَّى ولَّت سائر جنوده وأولها الرجلين، وأمَّا الجرأة: فهي إقدامٌ سببه قلةُ المبالاة" فالاندفاع بدون تفكيرٍ ولا حكمةٍ على عكس الشَّجاعة ليست من الشَّجاعة "سببه قلة المبالاة وعدم النَّظر في العاقبة"[الرُّوح236-237]. فإذاً الشَّجاعة فيها تدبيرٌ وحكمةٌ والجرأة أو عدم التَّهوُّر فيه قلة مبالاة وعدم حسبانٍ للأمور أن يحسب للأمور حسابها.
حكمة العرب في الشَّجاعة
والعرب كانت لهم عباراتٌ أو كلماتٌ أو أمثالٌ يضربونها في الشَّجاعة، فرأس العرب النَّبيُّ ﷺ فإنَّه قال: لا تمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاثبتوا[رواه البخاري2863]. وهذا حثٌّ على الشَّجاعة، أمَّا أبو بكر الصِّدِّيق فإنَّه قال في كتابه لخالد بن الوليد العبارة المشهورة التي ذهبت مثلاً: "احرص على الموت؛ تُوهب لك الحياة"[المجالسة وجواهر العلم671]. وقال عمر بن الخطاب لبعض بني عبس، وبنو عبس كانوا فرساناً وقبيلة شجاعة في الجاهلية: كم كنتم في يوم كذا؟ الحروب التي كانت بينكم وبين ذبيان، قال: كنا مائة، لم نكثر فنتواكَّل ونفشل، ولم نقلَّ فنذل، قال: فبم كنتم تظهرون على أعدائكم ولستم بأكثر منهم؟ أي ما هو سبب الصَّبر؟ وهذا الكلام نقله عددٌ من إلقاء المسلمين إلى الجنود في معارك اليرموك في القادسية، قال: كنَّا نصبر بعد النَّاس هنيهة"[بهجة المجالس2/468]. وهذه عبارةٌ يسيرةٌ لكن فيها سرٌّ عظيمٌ، سبب الانتصار في المعركة قال: كنَّا نصبر بعد النَّاس هنيهة، أي: ننتظر ونصبر قليلًا بعد خصمنا، وهذا القليل هو اللَّازم للانتصار، فكان بعض المسلمين القادة يوصي الجيش: اصبروا ساعةً فقط حتى يبدأ الضَّعف والفشل والانهزام في الرُّوم والفرس، فتأتي الهزيمة، فالمسألة هي صمودٌ زيادةٌ عن الخصم، ولو لحظةً، فهذا الذي يأتي بالانتصار، وقيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق؟ وهذا موضعٌ بديار بني سعد كانت فيه حربٌ أيام عبس وذبيان، قال: كنَّا ألفاً مثل الذَّهب الخالص ليس فينا غيرنا، لم نكثر فنتواكل ولم نقلَّ فنذلَّ"[العقد الفريد1/95]. ومن الأبيات المشهورة التي قالها شجعان العرب ما قاله قطريٌّ بن الفجاءة، مع أنَّه كان من الخوارج، لكن كان بعضهم مشهوراً بالشَّجاعة، والأبيات المشهورة التي قال فيها:
أقول لها وقد طارت شعاعاً | من الأبطال ويحك لن تراعي |
فإنَّك لو سألت بقاءَ يومٍ | على الأجل الذي لك لم تطاعي |
فصبراً في مجال الموت صبراً | فما نيل الخلود بمستطاع |
ولا ثوب البقاء بثوب عزٍّ | فيطوى عن أخي الخنع اليراعي |
سبيل الموت غاية كُلِّ حيٍّ | وداعيه لأهل الأرض داعي |
ومن لم يعتبط يهرم ويسقم | وتسلمه المنون إلى انقطاع |
الشَّجاعة في الدِّين
ومن الأمور التي نختم بها هذا الكلام عن موضوع الشَّجاعة: أنَّ الشَّجاعة مسألةٌ عظيمةٌ في الدِّين، وابن تيمية رحمه الله له كلامٌ مهمٌّ، ذكره في كتابٍ عظيمٍ من كتبه وهو الاستقامة، والكلام يحتاج إلى شيءٍ من القراءة والتَّركيز، يقول رحمه الله في مسألة مدح الشُّعراء بالشَّجاعة: "فإنَّ جميعهم يتمادحون بالشَّجاعة والكرم حتى أنَّ ذلك عامَّةُ ما يمدح به الشُّعراء ممدوحيهم في شعرهم، وكذلك يتذامُّون بالبخل والجبن" وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والشَّجاعة ليست هي قوَّة البدن، فقد يكون الرَّجل قويَّ البدن ضعيفَ القلب، وإنَّما هي قوة القلب وثباته، فإنَّ القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمود منهما ما كان بعلمٍ ومعرفةٍ دون التَّهوُّر الذي لا يفكِّر صاحبه ولا يميِّز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القويُّ الشَّديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح" وجماع ذلك هو الصَّبر، ثُمَّ قال رحمه الله: "وبالشَّجاعة والكرم في سبيل الله فضَّل الله السَّابقين فقال: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].
فالمسألة كانت تحتاج إلى أمرين: الشَّجاعة والإنفاق، والله مدح المسلمين على الشَّجاعة والإنفاق "وقد ذكر الجهاد بالنَّفس والمال في سبيله ومدحه في غير آيةٍ من كتابه، وذلك هو الشَّجاعة والسَّماحة في طاعته سبحانه وطاعة رسوله، وملاك الشَّجاعة الصَّبر؛ الذي يتضمَّن قوة القلب وثباته، ولهذا قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249]. ثُمَّ قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ذلك لأنَّ أصل ذلك هو الصَّبر على المؤلم، وهذا هو الشِّجاع الشَّديد الذي يصبر على المؤلم" وقال بعد ذلك: "فلهذا تجدهم يعني العرب يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة إذا كان عدم هذين مذموماً على الإطلاق، وأمَّا وجودهما ففيه تحصيل مقاصد النُّفوس على الإطلاق" ثُمَّ قال: "والله سبحانه حمد الشَّجاعة والسَّماحة في سبيله، كما في الصَّحيح عن أبي موسى الأشعري ، قال: قيل يا رسول الله الرَّجل يقاتل شجاعةً ويقاتل حميةً ويقاتل رياءً فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[رواه البخاري 7020]. وقال سبحانه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]. ثُمَّ قال: "ولهذا كان النَّاس أربعة أصنافٍ، من يعمل لله بشجاعةٍ وبسماحةٍ؛ فهؤلاء هم المؤمنون المستحقُّون للجنَّة، ومن يعمل لغير الله بشجاعةٍ وسماحةٍ" مثل الذي يعمل لنشر مذهبٍ ضالٍّ فيه شجاعةٌ ومالٌ ينفق "فهذا ينتفع بذلك في الدُّنيا وليس له في الآخرة من خلاقٍ، ومن يعمل لله لكن بلا شجاعةٍ ولا سماحةٍ؛ فهذا فيه من النِّفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك" هو يعمل ويتظاهر "ومن لا يعمل لله ولا فيه شجاعةٌ ولا سماحةٌ؛ فهذا ليس له دنيا ولا آخرة"[الاستقامة2/ 263-285]. فركَّز شيخ الإسلام في هذا الكلام على قضية الشَّجاعة والسَّماحة، وأنَّ هذا الذي طلبه الله من المؤمنين، وأنَّه ينبغي أن يجتمع الأمران.
أمثلة من شجاعة شيخ الاسلام ابن تيمية ، والعز ابن عبدالسلام
وشيخ الإسلام رحمه الله من الذين ضربوا الأمثلة العظيمة في قضية الثَّبات في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكان هناك من النَّماذج العظيمة في الإسلام: العزُّ بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، فالعزُّ ابن عبد السلام هو الذي أنكر على الصَّالح إسماعيل حاكم دمشق، الذي تنازل للصَّليبين عن قلعة صفد والشَّقيف وصيدا، اختياراً تنازل عنها للنَّصارى؛ لينجدوه على شخصٍ آخر مسلمٍ يتنافس معه، وهو الصَّالح نجم الدِّين أيوب حاكم مصر، فدخل الصَّليبيون دمشق لشراء السِّلاح ليقاتلوا المسلمين، فلمَّا رأى ذلك العزُّ بن عبد السلام ورأى أنَّ هذا يتنازلٌ للصَّليبين من أجل قتال أخيه المسلم ترك الدُّعاء له في الخطبة، وجدَّد دعائه بقوله: اللهمَّ أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً تعزُّ فيه وليَّك وتذلُّ فيه عدوَّك ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك، والنَّاس يبتهلون بالتَّأمين والدُّعاء للمسلمين والنَّصر على أعداء الله الملحدين، والنَّتيجة: أنَّه أمسك به السَّلطان فسجنه، ثُمَّ قال للنَّصارى: هذا أكبر قسوس المسلمين وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي إليكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، وقد جدَّدت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقال له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلَّنا رجليه وشربنا مرقتها، انظر كيف فقهوا أحسن من هذا المسلم، وموافقه فيما حصل من بيعه في قصة البيع المشهورة معروفة وحادثة انتشرت بها وسارت بها الصُّحف والكتب[طبقات الشافعية الكبرى8/243-244].
وأمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنَّ جرأته أو شجاعته في الحقِّ والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر قضيةٌ أيضاً مشهورةٌ، فلمَّا دخل على سلطان التَّتار وتكلَّم أمامه ورفع صوته وخفض يديه، يتكلَّم وهم قد جمعوا ثيابهم -المسلمين الذين معه- مخافة أن دمه يصيبها في أيِّ لحظة يقطع رأسه، فلمَّا خرج من عند سلطان التَّتار قال: كيف وقفت هذا الموقف؟ قال: ذكرت الله فصار السلطان في عيني كالذباب" فإذاً: شيخ الإسلام رحمه الله من الأشياء التي ساعدت وكانت واضحةً في نشر علمه: شجاعته رحمه الله، فشجاعة العالم من أهم الأشياء التي تساعد في تأثيره في النَّاس ونشر علمه بينهم ومواقفه، سواءً ضدُّ المبتدعة من الأشاعرة وغيرهم، أو الصُّوفية من الأحمدية الرِّفاعية وغيرهم، أو من ظلم بعض المسلمين وإنكاره على السَّلاطين، أو في قضية الكفرة كالتَّتار وغيرهم، كانت له مواقفٌ معروفةٌ في هذا كُلِّه شاهدةٌ على شجاعته في الحقِّ وعلى جرأته في قول كلمة الحقِّ، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه.
فهذه بعض الأمثلة من ميادين مختلفة في الشَّجاعة: في الخطابة، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، مع ذكر تعريفها وضدِّها والعوامل التي تزيد الشَّجاعة، والفرق بينها وبين التَّهوُّر ونسأل الله أن يجعلنا من الشُّجعان في قول الحقِّ والعمل به، إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.