الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
المقدمة
فقد تقدّم في الدرس الماضي ذكرُ طرق الاستدلال على الحق، وذلك أولاً:
بمعرفة الكتب السماوية، والقرآن ناسخها والمهيمن عليها، وذلك أننا ذكرنا بأن أول صفات الحق أنه إلهي المصدر.
وكذلك من طرق معرفة الحق: السنة النبوية، وهي التي تشرح القرآن، وتبينه، وتفصّله.
وكذلك فإن كلام الصحابة الذين علّمونا الاستشهاد بالقرآن، وأخذ الأدلة منه، والاعتماد عليه في معرفة الحق.
ولذلك فإن أول طريق في معرفة الحق هو كتب الله المنزلة، وما جاءت به الرسل، هو الطريق الثاني.
وكذلك أهل العلم الثِقات الذين يشرحون الكتاب ويبيِّنونه، ويعلمونه فيما أنزل، ومعنى ما أنزل.
وأيضاً، من سبل معرفة الحق: معرفة أحوال أهل الحق المجمَع عليهم:
وعلى رأسهم صحابة رسول الله ﷺ، والتابعون، والسلف الصالح.
وأيضاً، من سبل معرفة الحق: قراءةُ التأريخ، ومعرفةُ أحوال الأمم السابقة، وهذا نظيفة على ما تقدّم.
فإن التدبُّر في أحوال الأمم السابقة، ومعرفة أحوال المؤمنين، والكافرين، والظالمين، لماذا هلكوا؟ وكيف هلكوا؟ وطبيعة الصراع بين الحق والباطل؟ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف: 111].
وقال صاحبُ الإعلام بالتوبيخ لمن ذمّ التأريخ: "إن الله أقام الخلائق جيلاً بعد جيل، واستعمرهم قبيلاً في إثر قبيل، ليبقي الأول للثاني قصصاً، ومواعظ، وعِبرا، ويحيي الآخر للمتقدّم ذِكرا، وينثر خبراً كي يرعوا الفطن عن فعل ما يُذم وما يُستقبح، ويقتدي الأديب لما هو الأحسن من الأخلاق والأصلح.
والله قال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ[يوسف: 111].
وقال الله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[يوسف: 109]، وقال الله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[الحج: 46].
فإذا نظروا في التأريخ، وعرفوا أخبار من غَبَر، عرفوا خبر من غبر وعبر، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين، ونجّى المؤمنين، رأوا سنة الله في خلقه، وكيف أنه نصر الحق وأهله.
وكذلك كَسَرَ الباطل، وأهله.
معرفة الحق من جهة المفسدة والمصلحة
من طرق الاستدلال على الحق: اشتمال الشيء على المصلحة القطعية، أو المفسدة القطعية، فيُعرف بالأول اعتماده، وبالثاني تركة، فإذا تعارض عندك أمران؛ فانظر بعين الإمعان، فالجانب المشتمل على المصلحة الحقيقة، وليست المتوهمّة، البعيد عن المفسدة الحقيقة، وليست المتوهمّة، فاعلم أنه جانب الحق.
فمثلاً: إذا نظرتَ في البيع والربا؛ فإنك ستعلم من خلال الواقع، ومن خلال آثار البيع، وآثار الربا، لماذا هذا حقٌ؟ وهذا باطل؟
إذا نظرتَ في النكاح، وفي الزنا، ورأيتَ آثار هذا، وآثار هذا، ستعلم لماذا الأول حقٌ، والثاني باطل، لماذا النكاح حقٌ، والزنا باطل؟ وهكذا.
فعقد المقارنات، وتبين المصلحة الحقيقية، والمفسدة الحقيقة يدل على الحق، فأنت ترى مثلاً في البيع، كيف أنه سبيل للكسب الحلال، والإنفاق على العيال، وكف ذُلّ السؤال، وطريقة للمقايضة وتبادل المنافع والسلع بين الناس، وطريقة للربح، وجني المال، وهكذا من الفوائد الكثيرة له.
وإذا نظرتَ في الزنا، وما يؤدي إليه، من شيوع الجريمة، وأولاد الحرام، وقبل ذلك نتكلم عن الربا الذي هو مقابل البيع، إذا نظرت إليه، وما فيه من صيرورة المال في يد الأغنياء، وزيادة أعداد الفقراء، وتراكم الأموال عند الأولين، وزيادة الافتقار عند الآخرين.
وإذا رأيتَ الأزمات الاقتصادية التي سبّبها، والانهيارات، والفشل الذي كان أساسها والمؤدي إليها هو الربا، ونظرتَ في كلام الخبراء، وبعضهم من الكفار.
كما قال مورس آلي الفرنسي، الحائز على جائزة نوبل، تعقيباً على الأزمة المالية التي ظهرت على الملا، والعيان قريباً، اعتبر أن هذا أثر من آثار ا الرأس مالية المتوحشة، وأن الوضع على حافّة البركان، ومهدد للانهيار، وأن المديونية والبطالة سائرة في طريقها، وأن المصيبة كبيرة، وكُرتَ الثلج ستتدحرج بسرعة، وآخذة في التضخم الشديد.
قال: واقترح للخروج من الأزمة، وإعادة التوازن شرطين:
أن تكون الفائدة، يعني: الربا في حدود الصفر، وأن تكون الضريبة في حدود 2%.
ولو قارنتَ ما تُوصل إليه بما يوجد في نظام الإسلام؛ من كون الربا محرم، ويجب أن يكون صفراً، وأن الزكاة التي هي أعلى شأناً من الضريبة يُؤجر فيها الإنسان، ويطيع الرحمن، ويطهِّر ماله، وتزيد البركة، وتطهِّر قلوب الفقراء من الغلِّ والحقد على الأغنياء.
وما فيها من المنافع الكثيرة من سدِّ الحاجات، والكفاية عن الحرام، وتآلف القلوب، فهي اثنان ونصف في المائة في الأغلب، وإذا نظرتَ فيما يؤدي إليه الربا من المصائب، من تعطيل الطاقات البشرية.
المرابي يضع ماله في الربا، ويأخذ من غير تشغيل، عندما يكون الربا محرماً، هو يحتاج للتشغيل، فينشأ به المصانع والمزارع، والمقاولات، والمشاريع، تتحرك العجلة، بدلاً من مجرد تشغيل بالربا.
وأيضاً، إذا نظرتَ إلى عاقبة الربا من هذا التضخُّم، وارتفاع الأسعار، وارتفاع مقابل الخدمات، وهذه الاثنان التي لا طاقة للناس بها، وهي تتضخم، إيجارات، أسعار السلع مقابل الخدمات، ونحو ذلك.
وإذا نظرتَ إلى ما يحدثه الربا من الكساد والبطالة، فيها توقف مصانع عن الإنتاج، كساد، وفيها بطالة، وعدم وجود وظائف، وكذلك ما يشجع به الربا على الإسراف، ويُغري بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال ثِقَلُ الدَّين على الكواهل حتى يستغرق الأموال، وتنقضي الآجال، دون دفع المستحق من المال.
وهؤلاء يماطلون، وأولئك يؤجلون، والدَّين يزداد يوماً بعد يوم، حتى يستولي الدائنون قسرا على ما يملكه أولئك المقترضون، فيصبحوا فقراء معْدَمين.
وهكذا قُل في مسألة النكاح، ومسألة الزنا، ونحو ذلك.
معرفة الحق من جهة المنفعة والمضرّة
ومن طرق الاستدلال على الحق: اشتمال الشيء على المنفعة، وخلوِّه من المضرّة.
فإذا كان طيباً فهو حق، وإذا كان خبيثاً فهو باطل، قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[الأعراف: 157].
قال بعض العلماء: "كل ما أحلّ الله -تعالى- من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرّمه فهو خبيث في البدن والدين"، وهذا واضح جداً فينا.
إذا قارنتَ مقارنةً سريعة بين لحوم بهيمة الأنعام، والحبوب، والثمار، والفواكه بأنواعها، وبين الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمور، والمسكرات، ستجد ما يدلُّك على الحق؛ لأن تلك حلال، وهذه حرام.
معرفة الحق من جهة التأمُّل في العواقب:
ومن طرق الاستدلال على الحق: التأمل في العواقب، فالحق عاقبته دائماً إلى الصلاح والخير، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه: 132]، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
وكذلك الرسل تُبْتَلى، وتكون العاقبة لهم [رواه البخاري: 4553، ومسلم: 4707]، كما قال هِرَقل، بخلاف الباطل، فإن عاقبته الخسارة والهلاك.
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ[الروم: 10].
وتجدُ أن الحق -وإن كان فيه تعب- لكن العاقبة فيها بركة.
فمثلاً: النكاح، فيه تعب من جِهة البحث عن بنتِ الحلال، وبذل المال في المهر، وتجهيز مسكن الزوجية، وتكاليف الزواج، والإنفاق على الزوجة والأولاد، ونحو ذلك.
لكن عاقبته خير؛ من سكنٍ نفسي، وراحةٍ قلبية، وحصول الأولاد والذُّرية، والتآلف بين العوائل، فأنسابٌ وأصهار، بعد أن كانوا غرباء، أو غير موجودين، ثم صاروا مجودين، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا[الفرقان: 54].
قد تكون تكلفة الزنا في البداية، شيئاً قليلاً جداً، أو لا شيء أحياناً، متعة رخيصة، لكن لا تلبث هذه السويعات أن تنتهي، وتنتهي هذه اللَّذة، و تذهب، لكن العاقبة هي العار، والشنار، والعِداء، والتعرُّض للفضيحة في الدنيا، والآخرة، وعذاب في الدنيا بأولاد الحرام، وفي الآخرة، أمراض هنا، وفتكٌ بالنسل، وأشياء مُعْدِية، وكوارث مميتة وقاتلة، فلا تشكُّ عند التأمل في قضية النظر في العواقب، أن الزواج حقٌ، وأن النكاح باطل.
معرفة الحق من جهة معرفة الباطل
فالحق والباطل نديدان لا يجتمعان، ولا يرتفعان، ومن أمكَنَه معرفةُ الحق أمكَنَه معرفة الباطل، وهذه قاعدة أخرى، نقول للاستدلال على الحق: معرفة الباطل، لأن الحق ضده.
ومن طرق معرفة الباطل: معرفة الحق، لأن الباطل ضده، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[الفاتحة: 7].
فعرَّف الحق بعلامتين: علامة حقٍ لازمة، وعلامة باطلٍ منتفية، علامة حقٍ لازمة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، المنتفية غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
وقال تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: 32].
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[الأنعام: 55].
فإذا علمنا مثلاً: أن قول الكفار في النبي ﷺ: كاهن، شاعر، مجنون، به جِنّة، ساحر، أن هذا باطل، عرفنا أنه حق، وأن ما جاء به حق، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف: 184] ، أنظر كيف دلّهم على معرفة الحق، من خلال النظر أنه ليس عنده باطل، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالِ[يونس: 32].
والذي يكون ضد الباطل هو الحق أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ[الأعراف: 184].
فكِّروا، تذكَّروا، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ[الحاقة: 41]، هم يعرفون بحور الشعر، وأوزانه، وأن الذي في لقرآن ليس كذلك، وأنه ليس على أوزان الشعر، والشعر معروف كيف هو والقوافي، ليس بشعر، قال الله: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ[الحاقة : 41- 42]، الكاهن يكذب تسعةً وتسعين كذبة مع واحدة، يرجم بالغيب عشْوا، يتمتم؛ زازا زازا، كاك كاك، سحلوت، هلفوت، فكروت، ليس كلاماً، هل ترى في كلام الكهان فصاحة؟، أو كلاماً مفيداً؟، طلاسم.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الواقعة: 80] وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الحاقة: 42-43].
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور: 29]، فانتفاء الباطل عن الشيء دليلٌ أنه حق، وانتفاء الباطل عن الشيء من طرق معرفة، ومعرفة الباطل، وضده الحق.
وقال رجلٌ لابن عباس -رضي الله عنهما-: ما تقول في الغناء، حلال أم حرام؟ فقال: "لا أقول حراماً إلا ما ذُكر في كتاب الله، قال: أفحلال هو؟ فقال: ولا أقول كذلك، ثم قال له: "أريتَ الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء"؟ فقال الرجل: مع الباطل، قال: "اذهب فقد أفتيت نفسك" [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: 1/243].
هذه من طرق المعرفة.
معرفة الحق من جهة حصول دلائله وأماراته
من طرق الاستدلال على الحق: حصول دلائله وأماراته:
فللحق دلائل وأمارات، متى ما وجُدِت استدللنا عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمه -رحمه الله-: "الرجل الصادق البارُّ يظهر على وجهه من نور صدقة، وبهجة وجهه سيما يُعرف بها، وكذلك الكاذب والفاجر، وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه، حتى إن الرجل يكون في صغره جميلَ الوجه، فإذا كان من أهل الوجوه، يعني: صار فإذا صار من أهل الفجور، مصرّاً على ذلك يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثّرَّه باطنُه، فالباطل يؤثر على الظاهر، ويخرج القبح من الداخل إلى الخارج، "وبالعكس". [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 6/489].
وقد رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن للحسنة لنوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وسَعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمةً في الوجه، وسواداً في الوجه، ووهناً في البدن، وبُغضاً في قلوب الخلق" [الاستقامة: 1/351].
تأمّل الفرق بين صلاة المسلمين، في خشوعها، وخضوعها، وسكونها، وقيامها، ورجوعها، وسجودها، ودعائها، متضمنّة توحيد الله، وتلاوةَ كلامه، وتقديسَه، وتسبحَه، وتحميدَه، وتكبيرَه، وإجلاله عن النقائص والعيوب، وبين صلاة النصارى، التي تقوم على الشرك، والاستهزاء بالرب، ووصفة بما لا يليق، والعزف على الموسيقى على مقاعد الكنيسة.
تُعزفُ الترانيم، وتغنّى، ويُقال: هذه صلاة، أقمنا القدّاس!
وكذلك لو نظرتَ في صلاة يهود، وهم ينقرون عند الجدار، لوجدتَ العبث، ومنظراً لا يليق.
قال ابن القيم -رحمه الله- في صلاة النصارى: "يقوم اعبَدُهم، وأزهدهم إليها، والبول على ساقه، وأفخاذه، يعني: ليس عندهم استنجاء، ولا طهارة، فيستقبل الشرق، ثم يصلَّب على وجهه، ويعبد الإله المصلوب، ويستفتح الصلاة بقوله: يا أبانا، أنت الذي في السماوات، تقدّس اسمك، وليأتِ ملكك، ولتكن إرادتك في السماء، مثلها في الأرض، أعطنا خبزنا الملائمَ لنا، ثم يحدِّث إلى من هو إلى جانبه، وربما سأله عن سعر الخمر والخنزير في صلاته!، وعمّا كسب في القمار، وعمّا طبخ في بيته، وربما أحدث وهو في صلاته، ولو أرد لبال في موضعه إن أمكنه"، يعني: ليس عنده مشكلة في هذا.
قال: "ثم يدعوا تلك الصورة التي هي من صنع يد الإنسان، يعبد ما صنع، وصوّر، ولوّن وشكّل، وعلّق، قال: فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة مَن إذا قام إلى صلاته طّهر أطرافه، وثيابه وبدنه من النجاسة، واستقبل بيته الحرام، وكبّر الله، وحمد الله وسبّحه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ناجاه بكلامه، المتضمن لأفضل الثناء عليه، وتحميده، وتمجيده، وتسبيحه، وتوحيده، وإفراده بالعبادة والاستعانة، وسؤاله أجلّ مسئول، وهو الهداية إلى طريق رضاه، التي خصّ بها مَن أنعم عليهم دون طريق الأمتين المغضوب عليهم من اليهود، والضالين وهم النصارى" [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى: 1/22].
ثم أعطى كل جارحةٍ حضّها من الخشوع، والخضوع والعبودية مع غاية التحميد، والثناء لله رب العالمين، لا يلتفتُ عن معبوده بوجهه، ولا قلبه، ولا يكلِّم أحداً كلمة، بل قد فرَّغ قلبه لمعبودة، وأقبل عليه بقلبه ووجهه، لا يحُدِث في صلاته، ولا يجعل بين عينيه صورةً مصنوعة يدعوها، ويتضرَّع إليها.
فالذين اختاروا تلك الصورة، يعني: صورة صلاة النصارى التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود، لا يرضاها المخلوق لنفسه، فضلاً عن أن يرضى بها الخالق عنه، وعن صلاته، التي لو عُرضت على مَن له أدنى مَسْكَةٍ من عقل لظهر له التفاوت بينهما، وهم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل محمد ﷺ، وعبده، اختاروا التكذيب على الإيمان به وتصديقه وإتباعه.
"والعاقلُ إذا وازن بين ما اختاروه ورغبوا فيه، وبين ما رغبوا عنه تبين له أن القوم اختاروا الضلالة على الهدى، والغي على الرشاد، والقبيح على الحسن، والباطل على الحق، وأنهم اختاروا من العقائد أبطلها، ومن الأعمال أقبحها، وأطبق على ذلك أساقفتهم، وبتاركتهم، ورهبانهم، فضلاً عن عوامهم". [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى: 1/22].
فمن قارَن بين صلاة المسلمين، وصلاة النصارى، تبين له، وأدرك الفرق من خلال أسلوب المقارنة.
معرفة الحق من خلال أتباعه وأنصاره
ومن طرق الاستدلال على الحق: معرفة أتباعه وأنصاره:
يعني: إذا أردتَ أن تعرف، أنت مشتبه عليه في طائفتين، بينهما مواجهات، ومحتار هل الحق مع هؤلاء، أم مع هؤلاء؟ انظر في صفات هؤلاء، وصفات هؤلاء؛ فإن رأيتَ في أتباع الأولين العلم، والهدى، والصلاح، والخلُق، ورأيتَ في صفات الآخرين الفساد، والشر، والشِّقاق، والغي، وسفك الدماء، والطمع في الدنيا، والحرص على المال، والبطش، وسفك الدماء، وفعل المحرمات، ستعرف من خلال المقارنة، أن الطائفتين على الأقل أقرب إلى الحق.
وأحياناً لا تكون إحدى الطائفتين على الحق مائة في المائة، والثاني على الباطل مائة في المائة.
تحصل مواجهات بين طرفين، ليس الطرف الأول على الحق مائة في المائة، ولا الطرف الثاني على الباطل مائة في المائة، لكنك تعرف أقرب الطائفتين إلى الحق.
بموضوع الصفات هذا، صفاتُ أتباع هؤلاء، وصفاتُ أتباع هؤلاء، مَن هم هؤلاء؟ ومَن هم هؤلاء؟ مَن مع هذا المعسكر؟ ومَن مع هذا المعسكر؟ قارِن، لأنه الله دعانا لهذه الطريقة: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9].
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر: 19 - 22]. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35 - 36].
وأسلوب المقارنات هذا من أهم الأساليب في الاهتداء إلى الحق، ومعرفة الحق.
فلو قصد عاميٌ لا يعرف شيئاً إلى جماعتين متخالفتين؛ إحداهما من أهل الصلاح والتقوى معروفين بذلك بين الناس، والطائفة الثانية من أهل الخلاعة والمجون، الطائفة الأولى من أهل القرآن، والطائفة الثانية من أهل الغناء.
الطائفة الأولى من أهل الدين، والصلاح، والعبادة، والطائفة الثانية من أهل تضييع الفروض والفواحش، فمن اطلع على الجماعتين، وقارَن الحالين، تبين له، فمَن عرف الصفة عرف على أيِّ شيء أهلها، الحق أم الباطل.
ولذلك فإن الله تعالى عرّف صفات أهل الحق بأنه صراط أتباعه وأنصاره، لا طريق مخالفيهم.
وصراط الله المستقيم يعني: الحق، صراط الذين أنعم عليهم، وليس الذين خالفوا أمره، وغضب عليهم، وأضلهم.
قال تعالى بعد أن ذكر أنبياءه وما هم عليه من الهدى: أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 89 - 90].
معرفة الحق من جهة قِدَمِه وعتاقِته
من طرق الاستدلال على الحق أيضاً: أن نعرف هل هو قديم بِقَدَم رسول الحق؟ أم هو حديث محدَث حدث الآن؟ لأن ما لم يكن يومئذ ديناً، لا يكون اليوم ديناً.
قال ابن مسعود : "عليكم باليوم العتيق" [رواه الطبراني: 8754، والدارمي: 142].
وقال حذيفة : "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله ﷺ فلا تعبّدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القرّاء، وخذوا بطريق مَن كان قبلكم" [الاعتصام: 2/132].
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أهل السُّنة والجماعة يقولون في كل فعلٍ وقولٍ لم يثبت عن الصحابة هو بدعه؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وبادروا إليها" انتهى. [تفسير ابن كثير: 7/278].
فمن طرق الاستدلال على الحق أن يُعرف أنه قديم قِدَم المرسَل بالحق، وقِدَم الكتاب الذي جاء بالحق، وقِدَم أولَ جيلٍ نَصَر الحق، وفهم الحق، وسمع الحق من صاحب الحق.
أما المُحدثات التي لا عهد للسلف الأول بها فليست من الحق، ولا من الدين.
فصلاةُ الاستخارة مثلاً، معروفة في السنة عرفها الجيل الأول، وفي عمل المسلمين قديماً، وحديثا، وكذلك الاستسقاء، وصلاة الخسوف، وصلاة الخوف، وصلاة الجنازة، وصلاة العيد، ونحو ذلك.
جرى عليها السلف والخلف، لكن إذا جئنا إلى صلاة الرغائب ما هذا؟ قال: هذه صلاة تُصلّى في أول جمعة من شهر رجب، هل كانت موجودة قديماً قِدمَ الحق؟ قال: لا.
هذه تقريباً تمّ اختراعها في القرن الخامس، أو السادس، أو السابع، بعد ستمائة سنة من ظهور الحق، إذاً، هذه لا يمكن أن تكون ديناً.
صلاة الحفظ، وصلاة الحاجة، وصلاة الفرقان، وصلاة الوحشة، وصلاة نصف شعبان، متى ظهرت؟ في عصور مختلفة، لكن هناك شيء من القرن الأول، ولا الثاني، ولا الثالث، كله بعد.
فنستدل بذلك على أنها ليست من الحق.
معرفة الحق من خلال اعتراف المخالف
ومن طرق معرفة الحق، والاستدلال عليه: اعتراف المخالف بأنه على الباطل:
أن يُقرّ بذلك؛ كأن يتوب ويعترف، وهذا يحصل، حتى بعض أصحاب المذاهب الهدّامة، قد يندم، بعد مدة ويتوب
قال شيخ الإسلام: "وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة، يعني: أصحاب الفلسفة، وعلم الكلام، والمتصوفة يعني الطريقة التيجانية متى صارت؟ الأحمدية، الرفاعية، الطريقة القادرية، الطريقة النقشبندية، متى حدثت هذه الطرق؟ وهذه كلها متأخرة.
قال شيخ الإسلام: "وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج من المتكلمة والمتصوفة يتعرف بذلك إما عند الموت، وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة".
فهذا أبو الحسن الأشعري، نشأ في الاعتزال أربعين عاماً، يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك، وصرَّح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الردِّ عليهم" [مجموع الفتاوى: 4/72].
وليس شرطاً أن يرجع الواحد إلى الحق مائة في المائة؟
قد يرجع من الباطل إلى باطل أخف، وقد يرجع من الباطل إلى بعض الحق، وقد يوفق الله بعضهم، ويرجع من الباطل تماماً إلى الحق تماماً، هذا للتنبيه.
ثم قال: "وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه، وتألهه، ومعرفته بالكلام، الفلسفة، وسلوك طريق الزهد، والرياضة، تمرين البدن -التمرين النفسي-، وليس التمارين الرياضة البدنية.
والتصوُّف ينتهي في هذه المسائل، والوقف والحيرة" [مجموع الفتاوى: 4/72].
فبعض علماء الكلام آلَ أمره إلى أنه قال في النهاية، بعد كل الجولات والصولات، قال: انتهينا إلى الحيرة!؟
خُضْنا البحر الذي نهونا عنه، فضعنا، فتجد الواحد ضارباً كفاً بكفٍ من الحيرة، أو قارعاً سناً بسنِّ من الندم".
نهاية إقدام العقول عِقالُ | وآخَرُ سعي العالمين ضلالُ |
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا | وآخر دنيانا أذى ووبالُ |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا | سوى أن جمعنا فيه قيل وقال |
قال: "وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:
"لقد أملّت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه: 5].
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[فاطر: 10]، وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا[طه: 110]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[مريم: 65].
ثم قال: "ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
ثم قال: "وهذا إمام الحرمين غاص في علم الكلام مدةً طويلة، ثم قال في النهاية: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به".
وقال عند موته: "لقد خضتُ البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وآنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: وها أنا أموت على عجائز نيسابور" [مجموع الفتاوى: 4/72- 73].
لأن عجائز نيسابور على الفطرة، ولم يعرفوا علم الكلام، على القرآن والسنة، على الحق.
أثبت له وجهاً نثبت، نفي عن نفسه الظلم ننفي، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11].
إثبات: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهكذا.
وكذلك قال أبو عبد الله محمد ابن عبد الكريم الشهرستاني: "أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة إلا الحَيرة والندم، فقال:
لعمري لقد طفتُ المعاهد كلها | وسيرتُ طرفي بين تلك المعالمِ |
فلم أرى إلا واضعاً كفَّ حائرٍ | على ذَقْنٍ أو قارعاً سنَّ نادمِ |
وابن الفارض هذا ملحد، من متأخري الاتحادية، وهو صاحب: "تائية نظم السلوك".
وكان غاية الجمال في شعره، وغاية الكفر في المحتوى، حتى قيل: "أخبث من لحم خنزير على صينية من ذهب"، نظم فيها الكفر بأسلوب رائق وجميل في صناعته اللفظية.
فقالوا: "أخبث من لحم خنزير على صينية من ذهب".
وما أحسن من سمّاها، -سمى هذا النظم -: نظم الشكوك بالله؛ لأنه هو سماها نظم السلوك، وهي نظم الشكوك، قيل إنه: لما حضرته الوفاء أنشد.
إن كان منزلتي في الحب عندكمُ | ما قد لقيتُ فقد ضيعتُ أيامي |
أمنيةً ظفِرت نفسي بها زمناً | واليوم أحسبها أضغاث أحلامِ |
[مجموع الفتاوى: 4/72-73].
ولذلك فإن الكثير من أهل الباطل يتوبون ويرجعون إلى الحق، ويعترفون بأن الذي كانوا عليه هو الباطل، لكن لا تجد أن أهل الحق يفعلون ذلك؛ كأن يأتي رجل في آخر عمره، ويقول: أنا ندمتُ على الذي كنتُ عليه.
فلا تجد أن صحابياً ندم على اتباعه للنبي ﷺ، أو أن تابعياً ندم على إتباع سبيل الصحابة مثلاً، أو أن سلفياً قد عرف طريقة السلف، ثم تركها ورغب عنها، وكرهها، وندم على اتباعها، إلا أن يكون قد جهلها.
وقد يقول قائل: لماذا نجد بعض الشباب الآن في تويتر يقول: إنه تنصّر، وأنه عندما ابتُعث، ورأى دين النصارى، قال: أنا نادمٌ على الإسلام، ونادمٌ على الدين.
نقول: هو أصلاً ما عرف الإسلام، كم بلغ علمه بالإسلام؟ وكم سِنُّه استمرّ يسلك سبيل هذا الدين؟ ولذلك هذا نادرٌ جداً، لمن أضلّ الله على علمه, وختمَ على سمعه قلبه, وعلى بصره غشاوة, آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[الأعراف: 175].
تجد هذا نادر جداً؛ والله يقدر وقوع بعض هذه النماذج؛ لكي يخشى المؤمن على نفسه, ويسأل الله الثبات دائماً.
وإذا أتيتَ لتحصي هؤلاء، وتعدُّ الذين على هذه الحالة من العلم, والدين, والهدى, والعبادة, ثم تركوا ذلك وندموا لوجدتهم قلة قليلة جداً أمام أولئك الذين كانوا على ضلالة وكفر, وكانوا على بدعة, وكانوا على شر, ثم ندموا وتابوا, وصرحوا أنهم كانوا على باطل، كثير.
قارِن العدد، كم واحد كان عالماً, وعلى طريقة السلف، وكان على دين وعبادة, وستمر عليها –مثلاً- ستين، أو سبعين سنة, ثم قال في آخر عمره: أنا ندمتُ على ذلك, وكنتُ على باطل؟ كم واحد؟
وغالباً ما تجد أن مَن أنحرف تجد في آخر أمره أنه كان عنده دسيسة؛ كالعُجب, والغرور مثلاً.
وهذا الذي ألّف "الصراع بين الإسلام والوثنية" كان عنده عُجب وغرور، فقد كان في الظاهر يدافع عن الحق، ويكتب في المنافحة عنه، وكان يقول:
ولو أن ما عندي من العم والفضل | يقسم في الآفاق لأغنى عن الرسل |
امتلأ غروراً وعُجْباً، وفحشاً، والعياذ بالله، وكان في ظاهر الأمر على الحق، ومضى على ذلك فترة طويلة.
ولا بد أن يكون عنده دسيسة، فيقضي عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها؛ لأن لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم: 7]، يعني: لا يمكن وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69].
يعني: لا يمكن أن يكون واحد يعرف الحق، ويتعلمه، ويفني عمره في الكتاب والسنة، وأقوال السلف، والتابعين، والعلماء، والأئمة، ويتعبّد الله بهذا، ويدعوا إليه، وينافح عنه، وزهُد، وصلة بالله، هذا لا يمكن أن يأتي ويقول: ندمتُ على ما كنتُ فيه.
ولو حدث مثل هذا فهو من النوادر، ولا بد أن تجد عنده دسيسة، جعلته ينحرف، وهذه الدسيسة تظهر قبل موته، والله يقدِّر مثل هذه النماذج؛ ليسأل كل مسلم الثبات من الله تعالى.
قال الله تعالى: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف: 175].
هناك نماذج قليلة ونادرة.
كم نصرانياً أسلم، وكم مسلماً تنصّر؟، لكن كان مسلماً فاهماً الإسلام، كم واحداً من هنا، وكم واحداً من هنا ؟
هذا هو الرد لمن جاءك، وقال لك: قد تكون النصرانية أفضل من الاسلام، نقول: تعال وانظر.
معرفة الحق بالتأمل في نهايات الفريقين
من طرق معرفة الحق، التأمل في نهاية هؤلاء، ونهاية هؤلاء، قال هرقل لأبي سفيان: "وسألتك، أيرتدُّ أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أن لا" .
قال: "وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب"[رواه البخاري: 7].
هرقل ملك الروم عرف هذه المسألة، وكان رجلٌ له حظٌ من النظر في كتبهم، وعرف النبي -عليه الصلاة والسلام- بصفته المكتوبة عندهم، وتأكدّ من أبي سفيان فعلاً.
وسأله عن هذا الأمر بالذات: "أيرتدُّ أحدٌ سخطهً لدينه بعد أن يدخل فيه"؟ أنتَ يا أبا سفيان من قريش، وتعرف أتباع محمد ﷺ، هل هناك من يرتدُّ عن دينه منهم ساخطاً عليه؟، دخل في الإسلام ثم خرج منه، والاسلام في نظره شرٌ، ولم يعجبه؟ قال: لا.
فقال هرقل: "وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوبَ" [رواه البخاري: 7].
قال الحافظ -رحمه الله- تعليقاً على هذا في فتح الباري: "يريدُ أن مَن دخل في الشيء على بصيرة"،
وكلمة: "على بصيرة" مهمة، نقول: البصيرة، أي: ماذا لديهم من الدين والإسلام؟ كم سنة عبدوا الله على حق؟
يأتي طالب مُبتعث، ماذا لديه من العلم والدين؟ ليس هناك تحصيل، وليس هناك إيمانٌ قوي، وليس عقيدةٌ سليمة، وليس هناك علمٌ يحمي من الشبهات، ولا عقلٌ يردعه من الشهوات، ثم يذهب، ويدخل في مهبِّ الريح؛ ريح الشُّبُهات، وريح الشهوات.
ثم بعد ذلك يُقال: فلان تنصّر، هل كان في الدين على بصيرة؟.
قال الحافظ -رحمه الله-: "يريد أن مَن دخل في الشيء على بصيرة، يبعد رجوعه عنه، بخلاف مَن لم يكن ذلك من صميم قلبه، فإنه يتزلزل بسرعة" [فتح الباري: 8/218].
هذا كلام الحافظ، وهو مهم جداً في تفسير ما يحدث الآن.
قال: "يريد أن من دخل في الشيء على بصيرة، يبعد رجوعه عنه، بخلاف من لم يكن ذلك من صميم قلبه، فإنه يتزلزل بسرعة".
فأصحاب الحق على بصيرة ثابتون، وأصحاب الباطل مضطربون، وكلما تعمقوا في الباطل أزادوا شكاً، وزادوا كفراً، وزادوا حيرةً، وزادوا إفلاساً، وزادوا اعترافاً.
كلما أوغل الواحد من أهل الباطل بالباطل، كلما انتهى في النهاية للإفلاس إلى طريق مسدود.
الاستدلال على الحق بالاستمرارية عليه
وكذلك من طرق الاستدلال عن الحق، أن يستمرّ عمل المسلمين على الشيء، دون إنكار من أحد من العلماء، فمتى وقع الشيء على مرِّ العصور، ومختلف الأمصار، فلم ينكره أهل العلم العالمون، دلَّ ذلك على أنه من الحق، لماذ؟ لأن الأمة لا تجتمع على ظلاله، وهذه قاعدة صحيحة.
سُئِلَ الإمام أحمد -رحمه الله-، إنا نبيع القطن في الكساء، هل يجوز لنا؟ فقال: هذا بمنزلة التمر في جلالته، وقواصره، ما زال هذا يُباع في الإسلام"، أي أن معلوم هذا عند كل مَن أدركناهم، ومَن بعدنا ومَن قبلنا، هذه الطريقة في البيع معمول بها عندهم.
ثم قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذه قاعدة من قواعد الشرع، عظيمة النفع: أن كل من يعلم أنه لا غنى بالأمة عنه، ولم يزل يقع في الإسلام، ولم يعلن من النبي ﷺ تغير، ولا إنكار، ولا من الصحابة، فهو من الدين.
قال: "وهذا كإجارة الإقطاع، وبيع المُعاطاة، ومعلوم أن البيع فيه إيجاب، وقبول، بعتُك واشتريت.
والمعاطاة: أن يعطيه الثمن ويعطيه السلعة، وليس في هذا البيع ألفاظ البيع والشراء، كبعتك، و اشتريتُ، ينعقد بدونها.
قال: "وبيع المعاطاة، وقرض الخبز والخمير، وردُّ أكثر منه، وأصغر"، يعني: مثلاً، استلفنا من الجيران ثلاثة أرغِفة، أعدناها، لكن من فرن آخر، يمكن فيه شيء من، طيب هذا التفاوت، وفي فرق خمسين غرام، عشرين غرام يؤثر؟ فقال: "جرى عملُ المسلمين على هذا"، اقترضوا ثلاثة أرغفة، أعادوا ثلاثة أرغفة، وقد يكون الخباز شخصاً آخر، أو أن هذه الأرغفة أكبر قليلاً، وهذه أصغر قليلاً.
استدلَّ أن عمل المسلمين على جواز ذلك.
ثم ذكر قصة حصلت في حصار الشام، قال: "في رمضان طرقت بنتٌ صغيرة الباب على الجيران، وقالت: هل عندكم تمر؟ فأعطوها صحناً من التمر، يعني: ليس عندهم تمر ليفطروا عليه.
قال: فعادت بعد قليل وفي الصحن مخلل، هذا الذي عندهم، ومع ذلك كانوا لا يأخذون دون أن يُعطوا، على قلّة ما لديهم، المهم ردوا شيئاً.
قال: "وقرض الخبز والخمير، وردُّ أكثر منه، وأصغر، وأكل الصيد من غير تفريز محل أنياب الكلب، ولا غسله، لأن الله قال: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة: 4].
الآن لو أرسلت هذا الكلب المعلّم، وقد عظّ بأنيابه على الفريسة، وجاء بها، هل يجب غسل المواضع التي غرس فيها أنيابه، هل يجب غسلها؟
معلوم أن لُعاب الكلب نجس، لكن هل حال هذه يقول: جرى عمل المسلمين من أول على أنه لا يجب غسله، قال: "من غير تفريز محل أنياب الكلب ولا غسله، وصلاة المسلمين في جراحاتهم، ومسحهم سيوفهم من غير غسل، وصلاتهم وهم حاملوها، ولو غسلت السيوف لفسدت، ولا يُعرف في الإسلام غسل السيوف، ولا إلقائها وقت الصلاة".
قال: "وكذلك صلاة النساء في ثياب الرضاعة؛ لأن المرضعة يتقيؤ عليها الرضيع، هناك رجيع منه، فهل يجب غسلها، هل هذا نجس؟
فاستدلّ بعمل المسلمين قال: "لا زال المرضعات من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الآن ترضع ولدها، وربما يرجِعُ على صدرها، على كتفها، وتصلى به، ولا تأمر بغسله.
فدّل ذلك على أن هذا يتُسامح فيه.
قال: "وكذلك صلاة النساء في ثياب الرضاعة أمر مستمرٌ في الإسلام، مع أن الصبيان لا يزال لعابهم يسيل على الأمهات وهم يتقيئون ولا تُغسل أفواههم.
كذلك البيع والشراء بالسعر لم يزل واقعاً في الإسلام، حتى أن من أنكره لا يجد منه بداً.
فإنه يأخذ من اللحّام والخباز وغيرهما، كل يوم ما يحتاج إليه من غير أن يساومه على كل حاجة، ثم يحاسبه في الشهر، أو العام، ويعطيه ثمن ذلك، فما يأخذه كل يوم إنما يأخذه بالسعر الواقع من غير مساومة.
قال: "وكذلك الإجارة في السعر في مثل دخول الحمام، وغسل الغسّال، وطبخ الطباخ، والخباز، وغيرهم.
لم يزل الناس يفعلون ذلك من غير تقدير أُجرة، اكتفاءً منهم بأجرة المثل، وأنه يجوز.
وكذلك بيع المغيّبَات في الأرض؛ لأن الأصل أن يكون المبيع معلوماً، فبيع اللِّفت، والجزر، والفجل، والقُلقاس، والبصل". [بدائع الفوائد: 4/874- 875]. هذه كلها مغيبة في الأرض.
ما هو حكم بيع محصول البصل، وأنت لم ترَ كل بصله كم حجمها؟ وكم كبرها، طيب أنه هذا جائز، ومثل هذا أصلاً فيه حرج، أن تُقلع كل واحدة.
ومذهب مالك، وهو قول في مذهب أحمد الجواز، ومأخذُ القول بالجواز أن أهل الخبرة يعلمون حال تلك المغيبات، وهذا يخرِج عن الغَرَر، وأهل الخبرة يعلمون ذلك علماً دقيقاً، وأن هذا عليه عمل المسلمين.
وبالتالي فإن كلما جرى عليه عمل المسلمين من غير نكير من علامات أنه من الحق.
معرفة الحق بالفراسة:
من طرق معرفة الحق الفراسة، وقلنا: أن هذه طريقة ليست عامة، وأنه نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء، ويُستعمل في أحوال معينة، أحياناً لمعرفة تمييز الخائن من الأمين، والبريء من المتهم، ونحو ذلك.
وقد يُكشف بها الجاسوس، ويُكشف بها أحيانا أشياء.
ويتبين بها الحق في النهاية مثلاً، أن يكون مع هذا، أو مع هذا، ولكن هذه طريقة محدودة، ليست بعامة، ولكنا ذكرناها من بين الطرق.
فإذاً، كان موضوعنا طرق الاستدلال على الحق، وطرق معرفة الحق.
ونتكلم بمشيئة الله السبت القادم عن الصراع بين الحق والباطل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.