الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
المقدمة
فإن من سنن الله -تعالى-: الإضلال والهداية.
وله في خلقه شؤون في هذين الأمرين.
وتعظم الحاجة إلى معرفة "السنة الإلهية" في "الهداية والإضلال" حتى يأخذ العبد بأسباب الهداية، ويبتعد عن أسباب الإضلال.
نعمة الهداية
وقد أنعم الله -تعالى- على عباده بنعم كثيرة، ومنها: نعمة الهداية: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء: 94] يعني: كنتم ضُلالاً فمّن الله عليكم بالهداية.
وقال سبحانه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[الحجرات: 17].
والنبي ﷺ قال للأنصار: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلالاً، فهداكم الله بي؟ [رواه البخاري: 4330، ومسلم: 2493].
وهذه السنة العظيمة، ما من ريب في أهميتها، أن يتكرر طلبها بقول العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة: 6] فهو يسأله أكثر من سبعة عشر مرة، لشدة الحاجة إليها، فإن العبد محتاج إليها في كل نفسٍ، وطرفة عين.
وهو يحتاج إليها تعريفًا وبيانًا وإرشادًا، وإلهامًا وتوفيقًا، وبذلك يخرج عن طريق المغضوب عليهم.
ومسألة هداية الله -تعالى- للعبد، وإضلال العبد، هي قلب أبواب القدر، ومسائل القدر.
وأعظم نعمة، هي: الهداية، وأعظم مصيبة، هي: الإضلال.
ومفهوم الهداية والضلال، يقوم على معرفة المعنى.
تعريف الهداية
فالهداية في الأصل، هي: الإرشاد والدلالة على ما يوصل إلى المطلوب.
وحقيقة الهداية: العلم بالحق، والرغبة فيه.
بعض الناس يعرف، لكن ما عنده رغبة.
العلم بالحق، والرغبة فيه، وإرادة الحق، وإيثار العبد للحق على هواه، وأن يقدمه على غيره.
أنواع الهداية
الهداية العامة:
هناك أنواع من الهدايات ولا شك، فمنها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق، وهي هداية كل مخلوق لما يصلحه في أمر معاشه، المذكورة في قوله : قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه: 50].
فهداه إلى مصلحته، كهداية الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل الذي يحصل به الولد، لبقاء النسل، وهداية الولد وهو طفل رضيع إلى التقام ثدي أمه، ليحصل على طعامه، وهداية النمل إلى تنظيم معاشها، وخزن طعامها، إلى غير ذلك مما يحار العقل فيه.
فسبحان! الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] فهدى هذا المخلوق لمصلحته، فلذلك يهتدي إلى التناسل، ويهتدي إلى الطعام، حتى وهو رضيع لا يعقل، من الذي عرف الطفل التقام ثدي أمه؟
لا درسه أحد، ولا علمه ولا دربه، ولا عنده عقل، يستنتج به ويفكر.
إذاً، هناك أحد هداه للتقام الثدي بفمه وهو لا يبصر، أول ما يولد لا يبصر، ومع ذلك يلتقمه، لا يلتقم غيره، يلتقم الثدي، فمن الذي دله عليه، وهداه إليه؟
هذه هداية الطفل، وهداية الحيوان، هذه هداية واضحة: أن الله دله على مصلحته، وكيف يعيش.
هداية الدلالة والإرشاد
ثانياً: هداية الدلالة والإرشاد، تعريف بطريق الخير وطريق الشر: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10].
هذه التي يقوم بها الرسل وأتباعهم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: 52].
ولكن هل كل إنسان بين له الأنبياء والدعاة الهدى من الضلال يهتدي؟
الجواب: لا؛ لأن هناك توفيقاً لا بد أن يحصل، وقد قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت: 17] بينا لهم، أرسلنا لهم صالحاً، فبين لهم: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17].
فإذاً، أرشدناهم فعصوا ولم يتبعوا.
ومن ظلمهم: استحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان، والهداية على الضلالة:فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ[فصلت: 17].
ولذلك، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ[التوبة: 115] يعني: بعد مرحلة أي هداية؟
هداية البيان والدلالة.
فالله لا يضل قوماً بعد إذا هداهم، هداية الدلالة والإرشاد: حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [التوبة: 115] ويكون إضلالهم في هذه الحالة عقوبة على ترك الاهتداء، فأعرضوا فأعماهم، وصدوا فأضلهم.
هداية التوفيق والسداد
ثالثاً: هداية التوفيق والسداد، هذه التي لا يقدر عليها إلا الله، هذه التي تنجي من النار، هذه التي قال الله فيها: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[القصص: 56].
الرسول ﷺ يهدي، الله يهدي، لكن هداية الرسول ﷺ هداية دلالة وإرشاد، وهداية الله -تعالى- التي لا يملكها إلا هو، هداية التوفيق للحق، وفتح القلب له، وانشراح الصدر له، والإقبال عليه، واعتناق الحق، واتباع الحق، فهذه لا يستطيعها الدعاة، ولذلك قال الله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272].
ولا يملكها حتى الأنبياء: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56].
الهداية إلى الجنة والنار
هناك هداية رابعة يذكرها العلماء، وهي: الهداية إلى الجنة والنار، إذا سيق أهلهما إليهما، قال الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس: 9].
ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف: 43].
والنبي ﷺ قال عن أهل الجنة إذا دخلوها، كيف واحد يعرف بيته في الجنة، الجنة كبيرة؟ قال ﷺ: فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا [رواه البخاري: 6535] يعني: أنت إذا دخلت الجنة، تعرف بيتك في الجنة أكثر مما تعرف بيتك في الدنيا.
لكن هذه الهداية الرابعة، هي: ثمرة الهداية الثالثة، فمن حصلت له هداية التوفيق والإلهام، حصلت له هداية الإقبال على الحق، واعتناق الحق، تحصل له الهداية الرابعة هذه، وهي أن يهتدي إلى بيته في الجنة أكثر من اهتدائه إلى بيته في الدنيا.
هداية الكفار إلى النار
وأما هداية الكفار في النار، فيطلق عليها هداية لغة.
ما هو الدليل أن للكفار هداية في النار؟
قول الله في كتابه العزيز: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23].
فإذاً، هذه هداية إرغامية إجبارية، إلى الجحيم -والعياذ بالله-.
تعريف الضلال
بالنسبة للضلال، الضلال ضد الهدى، فيقول العربي: "ضللت بعيري إذا لم يهتد لمكانه، وضل عني، يعني ضاع، وضللته، يعني أُنسيته".
قواعد مهمة في سنة الهداية
أسباب إضلال الله للإنسان
وإضلال الله للإنسان على وجهين:
الأول: جزاء إعراض، ما كان جزاءً على إعراض، فلما أعرض العبد عن الحق، وصراط الله المستقيم، وآثر طريق عدو الله الشيطان، ووافقه، وتنكر لهدى ربه، فإن الله خذله، وتخلى عنه، فأضله.
الثاني: أن لا يشاء ذلك له ابتداءً لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليها، ولا يثني عليه بها، ولا يحبه، فلا يشاءها له، لعدم صلاحية المحل لذلك، قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53].
وقال: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23].
فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية، كان ذلك محض العدل.
فإذاً، قد لا يشاء له الهداية ابتداءً؛ لأن الإنسان هذا غير قابل، يعلم حاله وحقيقته، وقد يكون عقاباً على صدٍ وإعراض.
ولما قال الله : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] يعني: فَتَنَّا الكفار بالمسلمين، فيقول الكفار: يعني هؤلاء المسلمون هؤلاء يستحقون، هؤلاء سينجون، يعني: هؤلاء أهل الجنة، يعني: هؤلاء على الحق، هؤلاء فقراء، سفهاء، إلى آخره.
فإذاً، هم يرون -مستهزئين- أن هؤلاء المؤمنين ليسوا أهلاً للجنة.
وفي الحقيقة: أن هؤلاء الكفار ليسوا أهلاً للجنة: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] يعني: هو ابتداءً يعلم من الذي يستحق، ومن الذي لا يستحق.
فإذاً، إضلال الله منه ما يكون جزاءً للعبد على إعراضه بعد ما عرف الحق وعاند واستكبر.
النوع الثاني: أن لا يشاء له الهداية ابتداءً؛ لأنه يعلم أنه هذا يعني هذا العبد لا يعرف قدرها، ولا يشكره عليها، وأن محله وقلبه غير صالح لها، وإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل.
متى يمكن أن يأتي اعتراض؟
لما يكون الإنسان مستحق للهداية، قابل لها لو عرضت عليه أخذها وقلبها، فيضله، علماً أنه حتى في هذه الحالة، الخلق ملك له، يفعل بهم ما يشاء، لكن تنزلاً نقول هذا.
يمكن يأتي يقول: أنا عندي قابلية، وعندي أهلية، وكنت مستعد، لو أريتني طريق الحق أن أتبعه، لكن هؤلاء الذين يضلهم الله لا يصدقون في هذا الكلام، غير صادقين حتى لو قالوه، ولذلك يحاولون في النار محاولات، كلها فاشلة: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28].
بعد ما يروا جهنم لو رأوا جهنم، وعذبوا فيها، ودخلوها، واحترقوا، لو رجعوا للدنيا، لسلكوا نفس المسلك، الشرك والكفر والضلال.
ولذلك ما يدخل الواحد النار إلا وهو مستحق لدخولها حقاً، ولو في أمل ما أدخله الله، ولذلك يدخلونها، وهم مقتنعون بدخولها.
الضلال والهداية بيد الله
الضلال والهداية بيد الله : مَنْ يَشَأ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الأنعام: 39].
فهو المنفرد بذلك: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل: 93].
فلو شاء الله جمع الناس على الهدى، وجعلهم أمة واحدة على التوحيد، وعلى الحق، ولكن اقتضت حكمته: أن يقسمهم هذه القسمة.
وقال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم [رواه مسلم: 6737].
فالهداية فضل منه يوفق الله إليها من أراد هدايته، ويمده بأسباب ذلك، ويعينه عليه.
فلو قال العبد: وأنا ما ذنبي إذا كنت من الذين قلبي لا يقبل؟
نقول: ذنبك أنه أعطاك الإرادة فأعرضت، وبين لك الطريق فصددت، ولو أردت لفعلت.
عندك القدرة على الاهتداء لو أردت، لكنك أعرضت، لقد ملكك الاختيار، فاخترت الضلالة، لقد أرسل إليك رسله فعلموك، وأنزل عليك الكتب وبين لك، وأعطاك الإرادة والحرية والمشيئة والاختيار، لكنك أبيت، وهنا يكون الجواب على من قال: أنا مجبور ما ذنبي؟!
فيقال له: لست مجبوراً: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 54 - 55]. إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا[الإنسان: 29].
فإذاً، القرآن من أوله إلى آخره؛ كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "يدل على أن الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب -سبحانه- بعبده من أول وهلة، حين أمره بالإيمان، أو بينه له، وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد، وتكرار الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم، ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول، لم يكن مع ختم وطبع، بل كان اختيارا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية" [شفاء العليل: 17/14] ختم الله على قلوبهم.
ومن الأدلة على أن ابتداء الشر من العبد، الابتداء في الشر من العبد، وأن فعل الله في العبد هذا هو مقابلة، وليس ابتداء، من الأدلة على أنه مقابلة وجزاء: قول الله : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]. كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110].
جزاءً كما أنهم لم يؤمنوا به أول مرة، صرفناهم عن الحق: ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة: 127].
كما قال عن المنافقين: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155]. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[التوبة: 77].
فالرب رحيم، لا يُضل إلا من اختار الضلال، ولا يحول بين الإيمان وراغب فيه؛ لأن الكريم الرحيم صفته تأبى ذلك، لا يمكن أن يرد عن الحق من يبتغيه، وأن يصرف عن الإيمان من يحرص عليه، ويريده.
والشيطان يتسلط على من يتخلى عنه الرحمن: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ[النحل: 100].
هو هذا الإنسان يتولى الشيطان، فالشيطان تسلط عليه، والله لا يسلط الشيطان على أوليائه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا[الإسراء: 65].
إضلال الله لمن يستحق الإضلال
ومن سنن الله -تعالى- في الهداية والإضلال: أنه حكم عدل، لا يضل إلا من يستحق الإضلال، والله منزه عن الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع، هذا وضع الشيء في غير موضعه، وضع العذاب في موضع التقوى والطاعة، هذا ظلم، فالله منزه عن الظلم، وقد نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه .
ومن أسمائه الحسنى: العدل، ومن عدله : أنه أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وأزاح العلل، وجعل الأسماع والأبصار والعقول لتفهم وتعقل، ماذا أنزل عليها، ومن أجلها، ووفق من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه، وأن يوفقه، فكان فضلاً منه عليه، وخذل من ليس بأهل للتوفيق، فكان عدلاً فيه.
كان أبو جهل وعمر بن الخطاب مشركين، كلاهما استمعا للقرآن، وكلاهما رأى من الآيات الدالة على صدق محمد ﷺ، فكان عمر أحب إلى الله من أبي جهل، عمر استكان واتبع، وأسلم وأطاع، ولو بعد إعراض، لكن في النهاية أطاع، وأبو جهل أعرض واستكبر، واستمر على الإعراض، وخرج للقتال، وجرد سيفه ضد الحق، فلما كان من أبي جهل الاستكبار والعتو والتمرد، وكان من عمر الاستكانة والطاعة والاهتداء، والإسلام والدخول، والرغبة، أضل الله ذاك، ووفق هذا، فكانت الاستجابة لدعاء النبي ﷺ: اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فكان أحبهما إليه عمر [رواه الترمذي، وهو حديث صحيح: 3681، وأحمد: 5696، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2907].
فإذاً، الهداية والإضلال ليست جزافاً، الله قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65].
لكن هؤلاء لهم صفات: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة: 27].
وقال سبحانه: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[الرعد: 27].
فكذلك منهم عمل.
المقصود بالفطرة
ومن سنن الله في الهداية والإضلال: أن الله تفضل على بني آدم بأمرين، هما أصل السعادة.
أولاً: أن كل مولود يولد على الفطرة:
ما معنى: يولد على الفطرة؟
وما معنى المثل الذي ضربه، وقال: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاءوتلا أبو هريرة قول الله: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30]؟ [رواه البخاري: 1358، ومسلم: 6926].
هذه الفطرة ما معناها؟
ما معنى قول النبي ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة؟ [رواه البخاري: 1358، ومسلم: 6926].
يعني: لو ترك المولود بدون مؤثرات خارجية يعرف الله، ويهتدي إلى دينه، ويتبع شرعه، ويقبل ما أنزل، لو خُلي بين هذه النفس وبين القرآن لاتبعته، لو بقيت هذه النفس بلا مؤثرات تنجذب.
فإذاً، من رحمة الله: أنه جعل الفطرة، فكل مولود في العالم لا يستوي عنده الخير والشر أبداً.
نفس كل مولود في العالم، اتباع الحق مركوز فيها، ومعرفة الحق مركوز فيها الاهتداء إليه، الانجذاب إليه.
فإذاً، لو عُرض على الفطرة السليمة الحق والباطل، تختار الحق مباشرة، وبدون تردد.
كل مولود يولد على الفطرة [رواه البخاري: 1358، ومسلم: 6926] معناه: لو عُرض الحق والباطل على هذه الفطرة لاختارت الحق مباشرة، يعني جعل الله فيها الانجذاب، والإلْف، والمعرفة، والاختيار للحق، وهذا يعين كثيراً، ولذلك الآن تقول لي: بعض الناس يهتدون، سبحان الله بدون داعية! بعض الكفار يسلمون بغير دعوة! كيف؟!
الغلام في قصة أصحاب الأخدود، لما كان أمامه راهب يعرف الله، وساحر مشرك بالله، الغلام مال إلى الراهب، يعني: مال إلى دعوته هذه، يقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[رواه مسلم: 7386].
فإذاً، أصل الخلقة، أصل الفطرة، إذا تُركت فهي مقرة بالله، تتعرف إليه، وتريد عبادته.
فمن الذي أفسدهم؟
الشياطين، شياطين الإنس والجن.
مرجحات هداية الإنسان على إضلاله
لو قال واحد: فهمنا قانون الهداية والضلال، لكن في مرجحات؟
نعم، في مرجحات للهداية:
أولاً: الفطرة.
ثانياً: الهداية العامة، بما جعل الله في هذه النفوس من المعرفة، وأسباب العلم، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل لهذا؛ للتعريف: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10].
فالله أرشد العباد عموماً إلى أنواع العلم التي يتمكنون بها من الوصول إلى الحق، وجعل فطرهم تحب ذلك، وتنجذب إليه. فلماذا يعرض الكثيرون عن الحق؟
للجاهلية، والغفلة، والشياطين التي اجتالتهم، وأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.
وهكذا مؤثرات خارجية: الإعلام، القنوات، الصحف، الكتب، قرناء السوء، الواقع الفاسد، القدوات السيئة، وإلا فالأصل على خلاف هذا.
هداية المهتدين لأنفسهم وضلال الضالين على أنفسهم
ومن سنن الله في الهداية والإضلال: أن هداية المهتدين لأنفسهم، يعني لمصلحتهم، وضلال الضالين على أنفسهم: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا[الأنعام: 104]. مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46]. إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7].
فالعباد إذا عملوا الخير فلأنفسهم: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الزمر: 41].
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه [رواه مسلم: 6737].
نحن -لما ذكرنا-: أن الله لا يهب الهداية إلا من يستحقها، وإلا لهدى الناس أجمعين، لماذا؟
قال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ[الأنعام: 149].
وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99].
فالله أعلم بمن هو أهل لهداه، فيُنعم عليه بذلك، ويصطفيه ويختاره: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124].
فليس كل أحد أهلاً لتحمل الرسالة والنبوة، ولذلك الله اختار من البشر أُناساً معينين، جعلهم محلاً للنبوة، وليس كل البشر يصلحون للنبوة، فكذلك الله اختار من خلقه من يصلح للهداية، وليس كلهم يصلحون للهداية، فمن سلك طريق الهداية اهتدى، ومن سلك طريق الضلالة ضل، فهدايته لهؤلاء العباد إنما تقوم على علمه وحكمته: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 27]. وقال: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: 13].
وقد بين : أن الظلم سبب لعدم الهداية، وبين أن الإنابة سبب للهداية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن تدبر القرآن تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي، يجعله جزاءً لذلك العمل، كقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5].
وقوله: وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 8- 10] [مجموع الفتاوى: 8/222].
فإذاً، عملوا أعمالاً، ما جاء ضلالهم من فراغ، ولا جاء بدون سبب، عملوا أشياء فكان المقابل مناسباً لما عملوا، زاغوا، استحبوا العمى على الهدى، عاندوا، استكبروا، أصروا على الباطل.
فينبغي على كل عاقل أن يسلك سُبل الهداية.
فإذا عرفنا -مثلاً-: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى: 13] ما هي الإنابة؟ كيف نحقق الإنابة؟
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]. كيف نجاهد؟ ما هو الجهاد في الله؟
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17].
بخلاف الظلم: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51].
الكفر والظلم معاً: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا [النساء: 168]. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86].
قال: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر: 34].
الهداية لا تحصل إلا بعون من الله، ولذلك يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا [الفاتحة: 5 - 6]. فلا بد من عون من الله، وافتقار إليه: اللهم لولا أنت ما اهتدينا [رواه البخاري: 4769، ومسلم: 3034].
فالعبد يحتاج إلى ربه في الهداية.
والنبي ﷺ لما علم علي بن أبي طالب ذاك الدعاء، فقال له: قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم [رواه مسلم: 7086].
فأنت لما تكون في الصحراء، وتريد أن تصل، تتحرى أين الطريق الموصل، وعندما تطلق سهمك، فإنك تراعي وتدقق التصويب جداً، ولذلك قال: واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد، سداد السهم [رواه مسلم: 7086].
حتى تصيب السنة لا بد أن تتحرى في إصابة السنة؛ لتُرزق السداد.
والسداد، هو أن تصيب الصواب.
ولازم تحرص على الهداية، إذا كانت الهداية تتطلب منك أنك تقرأ لازم تقرأ، إذا كانت الهداية تتطلب منك أن تسمع من أهل العلم، لازم تسمع من أهل العلم، وإذا كانت الهداية تتطلب منك أن تعمل أعمالاً أخرى لا بد من القيام بها، فإذاً لا بد من أعمال، وطلب العون من الله: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم [رواه مسلم: 6737].
النبي ﷺ كان إذا خرج من بيته، قال: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ماذا يقال له حينئذ؟ هُديت، وكُفيت، ووقيت، وتنحى عنه الشيطان [رواه أبو داود: 5097، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 5095].
لماذا يسأل المؤمن الهداية مع أنه مؤمن؟:
وهنا سؤال قد يتبادر إلى الأذهان، وهو: إذا كان الإنسان مؤمناً، فلماذا يسأل الله الهداية؟
فالجواب: أن الهداية على نوعين:
هداية مُجملة، وهداية مفصلة.
الهداية الإجمالية، هي الهداية للإسلام والإيمان، فمن دخل في الإسلام، حصلت له الهداية الإجمالية، لكن الهداية التفصيلية، ما هي شعب الإيمان؟ ما هي تفصيلات الصلاة؟ ما هي أذكار الصلاة؟ ما هي شعائر الحج، سننه وواجباته أركانه؟ في تفصيلات يحتاج الإنسان بعد الهداية العامة إلى الهداية التفصيلية.
فأحد الأجوبة على قول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وليه ماذا نقول: اهدني واهدني وأنا أصلاً مهتدي؟
نقول: لأنك تحتاج إلى مزيد من الهداية.
وتكرر؛ لأنك تحتاج الثبات على الهداية، وليس فقط الآن أنك تهتدي، فقد تضل بعد ذلك، فأنت سؤالك المزيد من الهداية لأجل المزيد من الاستمرار عليها.
ثم ثالثاً: الهداية الإجمالية والهداية التفصيلية؛ لأنه الآن أنت عندك هداية إجمالية، فتحتاج هداية تفصيلية. وإذا قلت: أنا تعلمت الآن خلصت عشر متون؟
نقول: لا زال هناك علوم أخرى في الهداية التفصيلية لم تحط بها بعد، ولم تعرفها بعد، ويموت الإنسان ولم يحط بعلم القرآن والسنة كله، فكلما سأل الله هداية أكثر، كلما علمه الله، وهداه لمزيد من تفاصيل الدين أكثر.
وأيضاً المسألة ليست مزيدا من المعلومات النظرية، ومزيدا من التفصيلات النظرية، وإنما الوصول إلى مراتب في الهداية؛ لأن الهداية مراتب، مثل الإيمان مراتب، مثل الإحسان مراتب، مثل التقوى مراتب، العلم مراتب.
فلما تقول: "اهدني" يدخل فيها رقني في مراتب الهداية، مرتبة فوق مرتبة.
فلو قال واحد: لماذا نحن دائماً نقول: اهدنا.. واهدنا.. واهدنا.. ونحن مهتدين؟
فنقول: المزيد من الهداية، سؤال الله المزيد من الثبات عليها، الهداية التفصيلية لمزيد من العلم، والفضل الإلهي.
ومن ذلك معرفة الحق في الخلافيات، ما هو الدليل؟
اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم [رواه مسلم: 1847].
فمن أسباب طلبنا للهداية المزيد: أنه في خلافيات، في مسائل خلافية، ليس الحق في هذه، ولا في هذه.
كذلك، فإن الهدى هدى الله، والضلال ضلال البشر والشياطين، وضلال اليهود والنصارى، ضلال أهل الكتاب.
فإذاً، الهدى من الله، والضلال أهواء البشر، ولا هداية على الأرض إلا في هدى الله.
ولذلك لو قالوا: نأخذ من الشرق، نأخذ من الغرب؟
فنقول: ما في هداية إلا في شرع الله.
يقولون: شوية قوانين؟! نأخذ بعض القوانين -مثلاً-؟!.
نقول: قوانين الشرق وقوانين الغرب، ليس فيها هداية! الهداية فيما أنزله الله .
-طبعاً- نحن نتكلم الآن في مسائل الدين، ما في هداية إلا من الله، ما يمكن في مسائل الدين أن نأخذ من شرق أو غرب، في مسائل الدين نأخذ فقط من هدى الله الذي أنزله.
في مسائل الدنيا؟:
"الحكمة ضالة المؤمن" دل الشرع على الأخذ بالحكمة والمصلحة إذا وجدت، حتى لو كانت عند كافر.
الهداية تجر إلى مزيد من الهداية والضلال يجر إلى مزيد من الضلال
من سنن الله في الهداية والإضلال: أن الهداية تجر إلى مزيد من الهداية، والضلال يجر إلى مزيد من الضلال، قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17].
وقال : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5].
"تكرر في القرآن" يقول ابن القيم: "جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور على الضد، والله يُحب أعمال البر، ويجازي عليها بمزيد من الهداية والفلاح، ويبغض أعمال الفجور، ويجازي عليها بالضلال والشقاء" [الفوائد، ص: 129].
يعني: هل يمكن أن يريدوا الضلال والفجور والشقاء، ويستمروا عليها، وهو يعطيهم أجراً وثواباً وفضلاً، ويرقيهم في مراتب الهداية؟
ما يمكن.
عدم توفيق المعاند المصر للهداية
من القواعد في سنة الهداية: أن المعاند المصر على العناد والتكذيب لا يوفقه الله، بل يختم على قلبه، فالمستكبر المصر المكذب للرسل، لا يناله إلا الطبع والختم، والطرد والإضلال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 42 - 43].
وقال سبحانه: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 33].
أسباب الهداية
إذا علمنا هذا، فلا بد أن نأخذ بأسباب الهداية، ونحذر من أسباب الضلال.
فما أسباب الهداية؟
الدعاء
-ذكرنا-: الدعاء: اللهم اهدني وسددنيرواه مسلم: 7086].
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6].
ربي أعني، ولا تُعن عليّ [رواه أبو داود: 1512، والترمذي: 3551، وابن ماجة: 3830، وأحمد: 1997، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 135] قال: واهدني، ويسر الهدى لي [رواه الترمذي، وهو حديث صحيح: 3551، وابن ماجه: 3830، والنسائي: 10368، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 3820].
والاستعاذة من الضد: اللهم أني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تُضلني [رواه مسلم: 7074].
أعوذ بعزتك أن تُضلني، وتوسل بالألوهية: "لا إله إلا أنت".
كذلك الحديث: اغفر لي وارحمني، واهدني وارزقني [رواه مسلم: 7023].
وكذلك: فاستهدوني أهدكم [رواه مسلم: 6737 ].
استهدوني اطلبوا مني الهداية.
الإيمان
ثانياً: الإيمان: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11].
فلا بد من جزم القلب، وربط القلب على الاعتقاد الجازم بالله -تعالى- رباً.
والإيمان أكبر سبب لهداية العبد ولا شك.
التوبة والإنابة
ثالثاً: التوبة والإنابة، هذه من أسباب الهداية، فإذا واحد تاب يهتدي، يأتي واحد -مثلاً- كان مغرقاً في المعاصي، ثم أدركته لحظة ندم، فتاب، صدق في التوبة، أقلع، وعزم على عدم العود، وترك طريق المعصية.
ماذا يحدث له في الغالب إذا ما رجع؟
يهتدي، يهديه الله للإيمان، للعلم، يهديه إلى تفصيلات، يهديه إلى منازل في القلب ما كان وصل إليها، ولا طاف حولها، طائر فكره، ولا خطرت بباله.
القرآن
رابعاً: من أسباب الهداية: القرآن: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15 - 16].
فالإكثار من: قراءة القرآن، والإقبال عليه، والتدبر فيه، ومدارسة القرآن، سبب هداية.
المجاهدة
خامساً: المجاهدة: قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[العنكبوت: 69].
الصحبة الطيبة
سادساً: الصحبة الطيبة: قال تعالى: حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام: 71].
وقال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] فاجتماع هؤلاء الصالحين على الإيمان، كان سبباً لزيادة الهدى.
والأدلة الإجمالية العامة في هذا كثيرة.
الاعتصام بالله
سابعاً: من أسباب الهداية: الاعتصام بالله: يقول : وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101].
وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 175].
والاعتصام: الاستمساك والإقبال، والاستمرار، والثبات على الشيء.
طاعة الرسول ﷺ
ثامناً: من أسباب الهداية: طاعة الرسول ﷺ: قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54].
وقال الله : وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 68].
أسباب الهداية ووسائلها
وسائل الهداية كثيرة، من الناس من يهتدي بقراءة القرآن! منهم من يهتدي بحادث يقع له! منهم من يهتدي برؤيا يراها! منهم من يهتدي بخطبة يسمعها! أو موعظة تُقدم له! أو دعاء قنوت في صلاة التراويح! منهم من يهتدي بعد عمرة! أو بعد حج! منهم من يهتدي لمصيبة وقعت من موت قريب، أو فقد حبيب، أو مرض ينزل به، أو حادث يحصل له! منهم من يهتدي برؤية نكبات المسلمين!.
وهذا نراه في الحقيقة سبحان الله! في الوقت الذي نعيشه الآن نكبات المسلمين! تُلين قلوب الكثيرين! ولذلك نشاط الدعاة في تكملة الطريق لمن تأثر لمصائب المسلمين، هذا من الحكمة، ومن الفطنة: اغتنام الفرصة، الآن في مصيبة نزلت بالمسلمين -مثلاً- ناس لانت قلوبهم لما جاعت الصومال! ناس لانت قلوبهم لمذابح الشام! ناس لانت قلوبهم..! هذه فرصة الآن!.
لو تقول الآن -مثلاً- أهل الشام: ما هي أعظم من أعظم فوائد المصيبة التي نزلت بهم؟
قربتهم من الله، لا شك أنهم الآن في المصيبة أقرب إلى الله، وأعرف وأقبل على الله، الآن في إقبال واضح، بعضهم ما كان يأتي المساجد! ولا كان .. ! الآن صار يأتي المساجد!.
فإذاً، المصائب من الأسباب!.
-طبعاً- الرفقة الطيبة، البيئة الأسرية الصالحة، المعلم في المدرسة، لا شك أن هذه أسباب.
عوائق الهداية وأسباب الضلال
العادة والتقليد
وبالنسبة للضلال لا شك أن له أسباباً أيضاً، مثل العادة والتقليد، تعظيم الأسلاف، واتباع الآباء والأجداد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170]، لا يهتدون ويتابعونهم.
التعلق بالشهوات
كذلك: التعلق بالشهوات: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات [رواه مسلم: 7308].
وهذه الشهوات قد أضلت كثيراً من الناس، حتى الأعشى الشاعر جاء يريد الإسلام، فحاولت قريش معه، وقالوا: هذه مصيبة! هذا وزارة إعلام! هذا الأعشى لوحده وزارة إعلام كاملة! هذا قناة كاملة!.
يعني من إعجاب العرب به، وبشعره، كان يعتبر قدوة كبيرة.
الأعشى، شعره مؤثر، الشعر عند العرب مثل الأفلام هذه الدراما المحبوكة عند الغرب، كيف تؤثر في النفوس؟ كذلك المقطوعات الشعرية للشعراء في وقتهم كانت هذه أشد تأثيراً، مثل تأثير هوليود، يعني في النفوس.
فلما علمت قريش أن الأعشى يتجه إلى المدينة، قعدوا له بالطريق، قالوا: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا؟ قال: ما لي فيه من أرب، قالو: إنه يحرم كذا، إنه يحرم كذا، قالوا في الأخير: إنه يحرم الخمر، قال: أما هذه، فوالله إن في النفس منها لعلالات
ما رأيك؟
قال: ولكني منصرف، فأتورى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم، فانصرف، فمات في عامه ذاك! [انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/232].
اتباع الهوى
اتباع الهوى؛ من عوائق الهداية: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص: 50].
والنبي ﷺ قال: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه [رواه البزار في مسنده: 3/486، رقم: 7293].
هذا يؤدي إلى خذلان الله لصاحبه، الضلال، ولذلك آفة العقل الهوى، فمن علا على هواه عقله فقد اهتدى ونجا.
التسويف وطول الأمل
من أسباب الضلال: التسويف، وطول الأمل.
بعض الناس يقعد يسوف.
الاعتذار بالقدر
كذلك من أسباب الضلال: الاعتذار بالقدر، يُدعى للهداية، أو إلى الحق، فيقول: النفوس بيد الله، وإذا الله شاء أن يهدينا هدانا، ولذلك ليس لأحد أن يحتج بالقدر على ذنب.
الإصرار على المعصية
كذلك سبب من أسباب الضلالة: الإصرار على المعصية، وعدم التوبة؛ مثل حديث: نكت فيه نكتة سوداء [رواه مسلم: 386] حتى تعم القلب.
بعض الناس يعتقد أن الله لا يمكن أن يغفر الله، هذا من أسباب الضلال؛ لأنه سيتسمر على الضلال.
الفهم القاصر للاستقامة
من أسباب الضلال: الفهم الخاطئ للحق، يعني من أسباب الضلال الآن لترويج لشخصيات متساهلة على أنها قدوة، وعرض الجوانب المتساهلة عند الأشخاص المشهورين، هذه تجعل بعض الناس، يقولون: فلان يعمل كذا؟ إذا سوينا خلاص؟! إذا فلان سوى كذا؟! فيقلدون الخطأ.
كذلك الخاطئ للوسطية! ما هي الوسطية؟
لما تقول: الوسطية، هي: فعل النبي ﷺ، هي سنته، هي طريقة السلف الصالح.
يقول: لا! السلفية هذه طرف! الوسطية شيء ثان!.
فإذاً، انحرفت الأفهام.
فمن أسباب الضلال: الفهم القاصر للاستقامة.
الغنى المطغي
من أسباب الإضلال: الغنى المطغي: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6 - 7].
سكرة الشهرة والمنصب والأضواء والمشجعين:
سكرة الشهرة والمنصب والأضواء والمشجعين، ولا بد أن نعرف الفرق بين أمرين؛ ففي فرق كبير بين المعجبين والأنصار. المعجبون اليوم حتى في عالم الدعاة والمشاهير كثر، المعجبون حتى في الفيس بوك كثير، وبعض المعجبين أصلاً واضح عليهم المعصية.
يعني واضح أنهم معجبون وليسوا أنصار، الأنصار من يعاونك في الحق، فليست الفرحة بكثرة المعجبين وإنما بالأنصار. الفرحة الحقيقية في الأنصار الذين يقومون معك في نصرة الحق، هؤلاء -بعد الله- الاعتماد عليهم.
أما المعجبون لا يعتمد عليهم حتى لو عندك خمسمائة ألف معجب.
ماذا يعني؟ معجبون؟ أنت عاجبهم، جاي على مزاجهم، يعني على هواهم، أنت راكب على هواهم، ولذلك منهم فسقة ومعجبون.
وقد يُعجب بشكل الداعية، ويمكن يعجب بكلامه، من ناحية البلاغة والأسلوب.
يمكن يُعجب بمال الداعية، بمنصب الداعية، بشكل الداعية، شكله الإعلامي.
هؤلاء كلهم ليس لهم قيمة حقيقية.
الأنصار: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران: 52].
هؤلاء هم الذين عليهم الكلام؛ الأنصار، وليسوا المعجبين.
لا شك أن الشيطان، الزوجة والأولاد، إذا صار عندهم انحرافات، والصحبة السيئة كذلك، ذلك من موانع الهداية، ومن أسباب الضلال.
ولا شك أن الإعلام اليوم يلعب دوراً كبيراً في قضية الإضلال.
نسأل الله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.