الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذه الدورة عن "السنن الإلهية"، وهو موضوع عظيم متعلق بالنفس والكون، والتفكر والاعتبار، تمس إليه حاجة المؤمن.
والله له في خلقه شؤون، وله في هذا الكون نواميس، وفي البشر الذي خلقهم قوانين. هذا يبين العلاقة بين الإسلام وبين الواقع.
وقد شاء الله أن يجري سنناً جارية، وتكون هذه السنن للمسلمين قوانين يعرفون بها أفعال الله -تعالى- في خلقه، حتى إذا انتصر أجدادهم لا يأتي الأحفاد، فيقولون: كانت تلك خارقة؟ وإنما نُصر الأولون بسنة من سنن الله ، فإذا تكررت السنة جاءت النتائج وفقها، وإذا توافرت شروط النصر في هذه السنة جاء النصر.
والقرآن يرد المسلمين إلى سنن الله -تعالى- في هذا الكون، وفي هذه الحياة، ليعلم المسلم أن من وراء ما يرى حِكماً، وعادات لله -تعالى- في خلقه.
المقصود بالسنة وأهمية معرفتها
موضوع "السنن الإلهية" مرتبط بكلمة السنة، وهي الطريقة، أو القاعدة، أو السيرة، كما قال صاحب اللسان: "السنة، السيرة، حسنة كانت أو قبيحة" [لسان العرب، ابن منظور: 13/220].
وقد قال ﷺ: من سن في الإسلام سنة حسنة، ثم قال: ومن سن في الإسلام سنة سيئة [رواه مسلم: 2398].
والسنة في تعريف العلماء، يعتمد تعريفها على العلم الذي تورد فيه هذه الكلمة.
فالسنة في علم الحديث لها تعريف، وفي علم أصول الفقه له تعريف، وفي اللغة لها تعريف.
تعريف السنن الإلهية
وما نقصده في "السنن الإلهية" تعريفه: سنة الله -تعالى-: "طريقة حكمته" كما قال الراغب -رحمه الله- [انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، ص: 415].
قال ربنا -تعالى-: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح: 23].
وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: أن السنة، هي: "الْعَادَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَنْ يَفْعَلَ فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا فَعَلَ بِنَظِيرِهِ الْأَوَّلِ" [مجموع الفتاوى: 13/20].
أهمية معرفة "السنن الإلهية"
وقد أمر تعالى بالاعتبار، وقال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111].
والاعتبار: أن يقرن الشيء بمثله، فكيف ستعتبر بوقوع شيء إذا لم يكن قد وقع على نظير أمر سابق، فتقيس هذا على ما حصل من قبل، فيحصل الاعتبار بشيء آخر لم تأت نتيجته بعد؟ ولكن القياس على ما سبق على وفق السنة والقانون، يخبرك بالنتيجة قبل وقوعها: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف: 111]. فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2].
فمن فعل مثل فعلهم جوزي مثل جزائهم. وذلك تحذيراً وترغيباً.
ففي شأن المؤمنين من سار على وفق ما كانوا عليه -مثلاً- أصحاب محمد ﷺ في قاعدة النصر والتمكين، أو سنة النصر والتمكين، من سار على طريقتهم يحصل له النصر والتمكين؛ لأن هنالك سنة إلهية في هذا الأمر.
وكذلك الظالمين الكافرين المتمردين على شرع الله، هؤلاء الذين يفسدون في الأرض، لله فيهم سنة، فإذا سلكوا سبيل عاد وثمود، وقوم شعيب وقوم لوط، ونحو ذلك، فإن السنة ستنطبق عليهم، كما قال ربنا: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا[محمد: 10].
ما معنى: أَمْثَالُهَا؟
يعني هناك سنة وقانون يجري، فسيحصل لهؤلاء المتأخرين الذين يسيرون على وفق ما كان عليه أسلافهم، سيحصل لهم النتيجة نفسها.
هذه أهمية معرفة "السنن الإلهية": أن تعرف المصير وفق ما سبق: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [آل عمران: 137].
يقول ابن القيم -رحمه الله- في قوله تعالى تعليقاً على الآية: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 77].
وفي قوله : سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح: 23].
قال: "فسنته سبحانه عادته المعلومة" [شفاء العليل، لابن القيم: 23/48].
إذاً، لله عادة مع الخلق.
والطبري -رحمه الله- لما علق على قوله : قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران: 137] قال: "قد مضت وسلفت مني" يعني من الله "فيمن كان قبلكم يا معشر أصحاب محمد ﷺ، وأهل الإيمان به" سواءً في الكافرين، مثل عاد وثمود، ونحو ذلك "من سُلاف الأمم قبلكم" [انظر: جامع البيان في تأويل القرآن: 7/228].
فلله فيهم مثلات، ولله فيهم سيرة، لله فيهم عادة، لله فيهم سنة، لله فيهم قانون، يجري عليهم، وعلى من جرى على مثل منوالهم.
فإذاً، أهل التكذيب، لله فيهم سنة في كل زمان ومكان، فإذا أنزلت بساحتي نقمتي، يعني الأولين فستنزل كذلك نقمتي بساحة الآخرين.
الشوكاني، قال: "والمراد بالسنن: ما سنّه الله في الأمم من وقائعه" [فتح القدير: 2/28].
فإذاً، طريقة الله في معاملة البشر، هي السنة.
هذه "السنة الإلهية" بناءً على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، ومجموعة القوانين التي يسير وفقها الكون من جهة أخرى، من ناحية تسخيرية، أيضاً هي سنن لله -تعالى- في السماء، وفي سنن له في الأرض، وفي سنن له في الكون، وفي سنن له في الناس، في الأفراد، وفي المجتمعات.
فإذاً، القانون الدائم الذي وضعه تعالى للكون والإنسان، وعادته المعلومة في أوليائه، وفي أعدائه، وطريقته المتبعة في معاملته للبشر، هي: "السنة الإلهية"، فلما نقول السُّنن إلهية مالمقصود بها؟ هذا.
السنن الإلهية في القرآن
القرآن مليء بذكر "السنن الإلهية" سواء كانت في الكون، أو في الأفراد، أو في المجتمعات.
ومادة "سنن" في القرآن الكريم وردت مفردة، ووردت جمعاً، ووردت بالإضافة، ووردت بلا إضافة.
فقد وردت ست عشرة مرة، في أحد عشر آية، في عشر سور.
جاءت بصيغة الجمع: مرتين، إحداهما: مضافة، والأخرى غير مضافة، فقال تعالى: سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء: 26] يعني: طرق هؤلاء في اتباع ما جاءت به الرسل.
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء: 26] يعني: كيف اتبعوا الرسل، كيف آمنوا، كيف صدقوا، كيف جاهدوا، كيف نصحوا، قاموا بالأمر: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء: 26] من أنصار الرسل، من أعوان الرسل، يعلمكم كيف كان أنصار عيسى -مثلاً-، كيف كان المؤمنون بموسى، وهكذا..
الثاني: قوله : قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: 137] يعني: وقائع لله -تعالى- أوقعها بالأمم.
أما صيغة الإفراد، وردت أربع عشرة مرة، كلها مضافة، أُضيفت تارة إلى الأولين، فقال: سُنَّةُ الأَوَّلِينِ أربع مرات.
وأُضيفت إلى لفظ الجلالة: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ [الأحزاب: 38] في مرتين: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ[غافر: 85]. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ [الفتح: 23].
ووردت مضافة إلى لفظ الجلالة بصيغة: "سنة الله" وتدل على خاصية من خواص: "السنن الإلهية" في صيغ أربع على التوالي: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[فاطر: 43].
ووردت مضافة إلى ضمير الجلالة، تدل على خاصية من خصائص السنن: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 77].
أنواع "السنن الإلهية؟"
ما هي أنواع "السنن الإلهية؟"
يمكن تقسيمها بعدة اعتبارات:
باعتبار أن هناك سنة خارقة، وسنة جارية.
يمكن أيضاً أن نفهم التقسيم بناءً على أن لله سنن خارقة، وسنن معتادة، جارية، عادية، لكنها قانون مطرد.
السنن الخارقة
السنة الخارقة: التي يجريها الله -تعالى- على خلاف المألوف؛ مثل تحويل العصا إلى حية في يد موسى .
نبع الماء من الصخرة عندما ضرب موسى بعصاه الحجر، لما فلق البحر إلى اثني عشر طوداً عظيماً بتلك العصى.
كما شق القمر نصفين لنبينا ﷺ.
كما حجب النار عن طبيعة الإحراق، كما في قصة إبراهيم .
كما حصل ليونس الذي عاش في بطن الحوت تحت طبقات الماء مدة من الزمن، ولم يمت، وهذا خلاف المعتاد.
فتكون هذه السنن الخارقة في بعضها من جنس الكرامات والمعجزات.
السنن الجارية
أما السنن الجارية -القسم الثاني-: فهي القوانين التي تحكم الدنيا، منتشرة في الكون، وفي الحياة.
وهناك سنن متعلقة بالأمور الكونية، وهناك سنن متعلقة بالأفراد، وسنن متعلقة بالمجتمعات.
في الكون، يعني سنن الله في الكون مثل ماذا؟
تعاقب الليل والنهار، هذه سنة مطردة.
الشمس والقمر، وفق ناموس محدد، قال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40].
في خلق الإنسان، قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14].
هذه الأطوار التي يمر بها خلق الإنسان، سنة جارية.
بالنسبة للسنن المتعلقة بالأفراد، أو المجتمعات؛ من مثل نصره لأوليائه، وعذابه لأعدائه، واستدراجه للظالمين، وإملائه للطغاة الكافرين الجبارين، ثم أخذهم في النهاية.
هذه أمثلة.
خضوع البشر لهذه السنن ثابت ومطرد في تصرفاتهم وأفعالهم: سعادة وشقاءً، عزاً وذلاً، غنى وفقرا، قوة وضعفا، وهكذا..
ومن هذا الباب: صارت قصص المتقدمين بالنسبة لنا عبرة، ولولا القياس والاطراد والتكرار، لصار العالم كله مفاجئات! في أشياء جديدة! ما في شيء يشبه شيء، ولكن الله جعل هذه الحوادث مكررة في كثير من الأحيان.
حكم مقولة: "التاريخ يعيد نفسه":
بعض الناس يقولون: "التاريخ يعيد نفسه".
والصحيح: أن يقال: التاريخ يعيده الله ، فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإنما يعيده الله.
فالسنن تكرر؛ فمثلما حدث للأولين حدث للآخرين.
وسنتناول في سلسلتنا هذه -إن شاء الله- عدة سنن إلهية -مثلاً-: سنة النصر والتمكين، سنة الابتلاء والتمحيص، سنة المداولة، سنة الاستدراج، سنة المدافعة، سنة التغيير، سنة الاستخلاف، سنة الحفظ، سنة الإهلاك، ونحو ذلك.
الفرق بين السنن الإلهية في الكون والسنن الإلهية في الأفراد والمجتمعات
الفرق بين السنن الإلهية في الكون، والسنن الإلهية في النفس، أو في الأفراد والمجتمعات.
أن السنن الكونية، تقع بطريقة القهر والتنجيز الآني، فتعاقب الليل والنهار لا يختلف إلى نهاية الدنيا، لكن سنن في -مثلاً- أفراد معينين، في ظالم معين، هذه سنن قهرية.
السنن الكونية سنن قهرية، والسنن الإنسانية، فيها أخذ أُناس بسبب الظلم، أو البطر، وقد يكون في إملاء لهم.
فما الفرق بين تصرف فرعون وتصرف الشمس والقمر؟
تصرف الشمس والقمر يجري رغماً عنهما: أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11].
فرعون لما يتصرف يتصرف باختيار، بإرادة، برغبة.
لكن مصير فرعون في النهاية هو مصير الفراعنة من قبله.
فالشمس والقمر، مسخرة ذليلة، هي تظهر، تختفي، وفق سنة إلهية، مقهورة، مربوبة لله.
ما يحدث في الأفراد، هو إرادة واختيار منهم، لكن المصير في النهاية يجري عليهم، تنطبق سنة الله فيهم رغماً عنهم.
السنن البشرية، مع اتسامها بالمرونة والاطراد، لا تختلف أيضاً من جهة النتيجة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وليست هي السنن المتعلقة بأمور الطبيعة، كسنته في الشمس والقمر، والكواكب، وغير ذلك من العادات.
فإن هذه السنة -يعني السنن الكونية- ينقضها إذا شاء بما شاء، كما حبس الشمس على "يوشع" في فتح بيت المقدس، وكما شق القمر لمحمد ﷺ، وكما أحيا الموتى لعيسى، وكما جعل العصا حية، وكما أنبع الماء من الصخرة، ومن أصابع محمد ﷺ" [انظر: رسالة في لفظ السنة في القرآن، ص: 52].
فإذاً، هذه السنن التي في الكون، تنخرق إذا أراد.
السنن المتعلقة بوعده ووعيده، وأمره ونهيه، في الأفراد والمجتمعات، لا تتخلف.
الأولى ممكن تنخرق إذا أراد، وفي سنة ماضية ومطردة، وهذه مخلوقات مربوبة، فهي مسخرة بأمره، فإذا أراد الله أن تقف الشمس وتشرق من المغرب في آخر الزمان، أشرقت من المغرب.
لكن في سنة مطردة، وهي: أن الشمس تخرج من المشرق كل يوم، هذه سنة مطردة، والشمس مسخرة مربوبة، إذا أراد الله خرق هذه العادة الكونية، أو السنة الكونية انخرقت.
السنن التي في الأفراد، الأفراد لهم إرادة.
السنن في المجتمعات، في البلد، يعني الله لا يهلك: الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، لكن: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 9].
هذه متعلقة بإرادة هؤلاء، وعمل هؤلاء، وفي حرية لهم، حركتهم ما هي مثل حركة الشمس والقمر في السنن الكونية.
"السنن الإلهية" في الكون غير "السنن الإلهية" في الأفراد وفي المجتمعات.
الأفراد والمجتمعات، سنن الله فيهم متعلقة بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وما ابتلاهم به من الشرع الذي أنزله لينظر كيف يعملون.
سمات وخصائص السنن الإلهية
ثبات السنن الإلهية
من خصائص "السنن الإلهية": أنها لا تتبدل ولا تتغير: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43].
والله أضافها لنفسه، فهي قدر سابق.
فلو واحد قال: ما مزايا "السنن الإلهية"؟
نقول: هي قدر سابق: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38].
فهو نافذ المفعول، لا يقف شيء في وجهه، مقدر بحكمة ووزن.
فهو سبحانه الذي شرعها وسنها، كلف بها الإنسان، وربط بها الجزاء، وبحسب الالتزام يكون الاستخلاف، وبحسب المخالفة يكون العذاب.
ثانياً: هذه السنن: ثابتة، لا تتحول ولا تتبدل.
إذاً -ذكرنا- أولاً: هي قدر مقدور من الله، مكتوب.
ثانيا: لا تتبدل ولا تتغير.
ماذا يعني لا تتبدل ولا تتغير؟
يعني مرتبطة بأسبابها وعللها، وجوداً وعدماً، فإذا وجدت الأسباب وجدت النتائج، تخلفت الأسباب تخلفت النتائج.
سنة النصر -مثلاً-: الله له سنة مطردة في نصر أوليائه، في نصر المؤمنين، إذا فعلوا كيت .. وكيت .. وكيت.. إذا انطبقت شروط النصر جاء النصر، هذا قانون، هذه سنة إلهية.
نعم، هي متعلقة بأفعال البشر الاختيارية، هم يختاروا أن يحققوا شروط النصر أو لا يحققوا، إذا حققوا جاء، إذا ما حققوا تخلف.
هذه سنة ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير.
الموضوع قائم على أن الله خالق الأسباب والمسببات، والقرآن مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية، والثواب والعقاب على الأسباب، فيأتي ب"باء السببية" تارة، وب "اللام" تارة، وب"أن" تارة، و"كي" تارة، ويذكر الوصف المقتضى تارة، ويذكر صريح التعليل تارة، كقوله: ذلك بأنهم فعلوا كذا، وقالوا كذا.
يذكر الجزاء تارة، كقوله: وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ [الحشر: 17]. وقوله: وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 85]. وقوله: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17].
ويذكر المقتضي للحكم، والمانع منه، كقوله: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [الإسراء: 59].
وقد دل على ثبات السنن، آيات كثيرة، كقوله : فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43].
ومن المعلوم: أن كلمة: "تبديلا" وكلمة: "تحويلا" نكرة، قال الناظم:
والنكرات في سياق النفي | تعطي العموم أو سياق النهي |
فأفادت عموم الثبات، وعدم التبدل: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [فاطر: 43].
يعني لا يمكن أن يضع رحمة موضع عذاب، وعذاب موضع رحمة.
فلا يمكن أن يضع الرحمة للمكذبين، ولا يمكن أن يضع العذاب للمؤمنين، فما في تبديل ولا تحويل: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [فاطر: 43]، لا تبديل له بغيره، فلا تبديل للثواب بالعقاب، أو العقاب بالثواب، ولا يتحول عن مستحقه إلى غيره، ولا يهدد الله المحسن، ولا يؤمن المسيء.
وقال : وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح: 23].
يعني: "لن تجد يا محمد ﷺ" كما قال الطبري في تفسيره: "لسنة الله في خلقه تغييراً" [جامع البيان في تأويل القرآن: 20/329].
بل ذلك دائم، للإحسان جزاءه الإحسان، وللإساءة والكفر العقوبة والنكال.
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43].
"التحويل: نقل الشيء من مكان إلى غيره، مشتق من الحول، وهو الجانب. فلن تقع الكرامة في موقع العقاب، ولا يترك عقاب الجاني [انظر: التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور: 22/188].
ما فائدة هذا الثبات؟
اطمئنان النفوس.
فإذا واحد، يقول: أنا إذا آمنت بربي! واتبعت شرعه! سيحصل لي كذا وكذا؟ أنا أعرف النتيجة سلفاً! أنا مطمئن!.
إذاً، أنا داخل في طريق العبادة والطاعة، وأنا مطمئن على النتيجة!.
هذا يفيد الطائعين، يفيد المؤمنين.
كذلك: فيه موعظة لمن أراد الاتعاظ من المسيئين: أن النتيجة ترى أمامك في النهاية كذا وكذا! هذه نتيجة مطردة! ستقع ستقع! انتبه! اعتبر! اتعظ!.
إذاً، هذه السنن لها فائدة كبيرة، نفسية ودعوية، لها فائدة في اتخاذ القرارات، لها فائدة في اتخاذ المسلك.
كذلك الله جعل الأمور مرتبطة بالأسباب، النتائج مرتبطة بالأسباب.
والالتفات إلى الأسباب نوعان: شرك، وعبودية.
ما هو الالتفات الشركي إلى الأسباب؟
الذي يعتمد على الأسباب، ويطمئن إليها، ويتكل عليها، هذا التفات شركي إلى الأسباب.
وما هو الالتفات الشرعي للأسباب؟
أداء حق العبودية فيها، إنزال الأسباب منازلها، لا تشغله الأسباب عن المسبب. يعني: الخالق للأسباب.
فالالتفات الشرعي للأسباب: أنك تأخذ بها، وتعتمد، وتتوكل على خالقها.
ما هو الالتفات الشرعي للأسباب؟
أن تأخذ بها، وتتوكل على خالقها.
أما أن تأخذ بها، وتتوكل عليها، هذا التفات شركي للأسباب.
فإذاً، ترك الأسباب بالكلية قدح في العقل، والحس، والفطرة، والشرع.
والاعتماد عليها بالكلية، قدح في الإيمان، والتوحيد، والدين.
إطراد السنن الإلهية
ثالثاً: تتسم السنن الإلهية بالاطراد، فلا تتخلف، فإذا تحقق شروطها، وانتفت موانعها، لا تمتنع عن العمل، بل تعمل، لا تمتنع عن الوقوع بل تقع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والرب -تبارك وتعالى- في الحقيقة لا ينقض عادته التي هي سنته، التي قال فيها: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح: 23].
وقال: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43].
لماذا؟
لأن حكمة الله تأبى التفريق بين المتماثلات، والتسوية بين المختلفات.
حكمة الله تأبى هذا، الله ما يسوي بين المختلفات، ويفرق بين المتماثلات.
ونتيجة لهذا الاطراد، صارت قصص الأولين عبرة، ولولا القياس، واطراد السنة الكونية الإلهية، ما كان للاعتبار معنى.
يعني: كيف سيقول لنا: اعتبروا بما فعلتُ بالأمم السابقة، إذا كان من سلك مسلكهم من الجدد لن يحدث لهم مما أصاب من قبلهم ممن هو مثلهم؟
فإذاً "السنن الإلهية" من فوائدها: الاعتبار، ولولا الاطراد في "السنن الإلهية" ما كان للأمر بالاعتبار معنى، كيف يقول لنا: اعتبروا إذا كان ممكن نفعل نفس الذي فعلوه، ويصير لنا شيء ثان.
عدم محاباة السنن الإلهية وسريانها على الجميع
رابعاً: تتسم "السنن الإلهية" بالعموم: بمعنى: أنه يسري على الجميع دون محاباة ولا تمييز، وليس بين الله وبين خلقه نسب.
يجري على الجميع، حتى أنبياء الله، وأعلى البشر قدراً، تسري عليهم سننه.
والدليل على هذا؟
قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء: 123].
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ يا أيها المسلمون، يا أيها الصحابة: وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
ولذلك ابن كثير لما علق على الآية، قال: "الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كل من ادعى شيئاً حصلت له دعواه، وليس كل من قال: إنه هو المحق، سُمع قوله بمجرد ذلك... فليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه، على ألسنة رسله الكرام، ولهذا قال بعده: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]، كقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة: 7 - 8]. [انظر: تفسير القرآن العظيم: 2/417].
فإذاً، سنة الثواب والعقاب، ليست بالأماني، والله نحن يعني أمانينا! أُمنيتنا: أنه يأتينا النصر، إذاً سيأتينا، أو أننا سندخل الجنة، سندخل، ولن نمكث في النار أبداً، أو إلا أياماً معدودات.
ما هي بالأماني، وإنما هناك قانون: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123].
كانت اليهود والنصارى يقولون: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ[المائدة: 18].
يقولون: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [البقرة: 80].
كانوا يقولون، ولا زالوا يقولون: "نحن شعب الله المختار!".
وكانت بعض المسلمين تراود نفوسهم فكرة: أنهم هم الشعب المختار! -وليس اليهود-! فقيل: لا أنتم ولا هم: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123].
مما يستفاد من كون "السنة الإلهية" عامة: أنه أي مجتمع يخطئ وينحرف، ويعرض عن شرع الله ، فسيقع له العقوبة، حتى الصحابة في أحد "أهل الإيمان" لما تنازعوا وفشلوا، ومنهم من يريد الدنيا، تبع بعضهم الغنائم، حلت بهم الهزيمة، ووقعت بهم المصيبة: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران: 165]سابقاً في بدر: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].
تعلق "السنن الإلهية" المتعلقة بالبشر بكسبهم وعملهم ومواقفهم
"السنن الإلهية" في الأفراد والمجتمعات، مرتبطة بالكسب البشري، غير السنن التي في الكون -كما ذكرنا- في النجوم والكواكب -مثلاً-.
ولذلك ما ذكر الله أمة دمرها أو عاقبها إلا ذكر بجانب العقوبة والتدمير جريمتها وذنبها، فأخبر عن جريمة قوم نوح، وجريمة قوم صالح، وجريمة قوم هود، وجريمة قوم فرعون، قوم موسى، وهكذا..
فالله يذكر السبب الذي بناءً عليه نزلت، أو صارت، أو مضت، سنته في المؤمنين أو الكافرين: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ [غافر: 21].
قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41].
إذاً، ترتبط "السنن الإلهية" في البشر، بكسبهم وعملهم ومواقفهم.
إذا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم: 41] هذه العقوبة، وهي سنة إلهية، مرتبطة بماذا؟
بالكسب البشري، بدليل قوله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
كذلك لما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]. فيبين لهم إذا فعلوا هذا سيفعل هذا، ولن يتخلف وعده .
حكم معرفة السنن الإلهية
العلم بهذا الموضوع -أيها الإخوة- من فروض الكفايات؛ لأنه جزء من الدين. أليست "السنن الإلهية" هذه من القرآن؟ وما حكم تعلم القرآن؟ تفاصيل القرآن هذه؟
فالسنن التي بينها الله -تعالى- في كتابه وسنة نبيه ﷺ جديرة بالتأمل، جديرة بالفهم، جديرة بالاعتبار، جديرة بالجمع، جديرة بالتحليل، جديرة بالفقه فيها.
الفرق بين استشراف المستقبل عند المسلمين وعند الكفار
هذه تفسر لنا ما يحدث في العالم، وأيضاً تساعد على استشراف المستقبل.
الآن يوجد في العالم علم اسمه: "استشراف المستقبل" وفي مراكز عالمية تقوم على استشراف المستقبل.
ما الفرق بين مراكز المسلمين، لو فرضنا: أنه في مركز إسلامي ل "استشراف المستقبل" وفي مركز علماني نصراني، يهودي: ل "استشراف المستقبل"؟
المركز الإسلامي لاستشراف المستقبل، يعتمد في الاستشراف على "السنن الإلهية" اعتماداً كبيراً. الاستشرافات الأخرى، ما عندهم إيمان بالقرآن، ولا ب "السنن الإلهية".
ولذلك استشرافهم للمستقبل فيه نقص كبير، استشرافنا للمستقبل فيه علم كثير.
هذا من الفروق.
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89].
فإذاً، مما يتعلق بأمور الدين: أحوال الأمم مع أنبيائها، وعادة الله فيهم، سنن الله جزء من معرفة الدين، وجزء من فهم القرآن، ولذلك يجب أن يكون في مجموع الأمة من يفقه موضوع السنن الإلهية؛ لأنه علم من القرآن، وعلم من الدين، ولا يجوز أن تجهل الأمة كلها هذا العلم.
فوائد فهم السنن الإلهية والعلم بها
فلو قال واحد: ما هي أهمية فهم السنن الإلهية والعلم فيها؟
نقول: أشياء كثيرة منها هذا.
توضيح معاني الشريعة
من أهمية العلم بالسنن الإلهية: توضيح معاني الشريعة، حتى يفحص الناس نفوسهم، يفحصون موافقهم، يفحصون أحوالهم: لماذا حل بنا هذا؟ لماذا نحن في تخلف؟ لماذا نحن في هزيمة؟ كيف نغير الوضع الذي نحن عليه؟ ما هي الأشياء التي إذا أخذنا بها سيتغير هذا الحال؟
كذلك: ما هي أسباب ما يحدث في العالم الآن من التغيرات؟ -مثلاً- اضطرابات مالية! أو كوارث مالية ضخمة! أمراض جنسية خطيرة وفتاكة! ثورات! وقلاقل! وفتن! وفي تغيرات! وفي إهلاك ظالمين! وفي أخذ طغاة! وفي إذلال جبارين!.
الآن يحدث إذلال جبارين!.
إذلال الجبارين والطغاة الآن هذه سنة إلهية تحدث! وممكن أن يراها الإنسان قبل حدوثها بزمن طويل، إذا كان عنده من نور الإيمان والقرآن سيراها، ويتوقعها قبل حدوثها، وينتظر حصولها.
إذاً، تفسر لنا الواقع، تساعدنا على استشراف المستقبل.
فهمها أصلاً من الدين، وفرض كفاية على الأمة.
تساعدنا على تغيير حالنا وواقعنا.
زيادة الإيمان
وكذلك: زيادة الإيمان، بالاطلاع على حكمته تعالى؛ لأن موضوع "السنة الإلهية" مرتبط بالحكمة الإلهية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[الفرقان: 2].
من فوائد فهم "السنن الإلهية": أن الإنسان يتعامل مع أشياء ذات مواصفات ثابتة.
الناس ترتاح لما يكون أمامها قانون ثابت! الموظف في الشركة يرتاح لما تكون بنود العمل وعقد العمل واضحة جداً في الإجازات! في الترقيات! في العقوبات! انتدابات! إلخ..
لما تكون بنود عقد العمل واضحة، الموظف في الشركة مسيرته غير!.
أنت يا مسلم، وأنت في هذه الدنيا، مسيرتك تختلف عند فهمك للسنن الإلهية، عما إذا لم تفقها! ولم تدر عنها شيئاً!.
عزة المؤمن واطمئنانه لتحقيق وعد الله
"السنن الإلهية" أيضاً: تُشعر المؤمن بالعزة، والاطمئنان إلى تحقيق وعد الله؛ لأن "السنن الإلهية" فيها أشياء، إذا حصل هذا سيحصل هذا.
نحن مسلمين؟ نصبر على ماذا؟ الآن في قتل وفي تشريد؟! وفي ابتلاءات؟! حتى متى؟! سنستمر إلى متى؟! هل في بارقة أمل؟! هل هناك نور في نهاية النفق؟!
يعني الواحد لما يقدم تضحيات، وعنده وعد من الله، غير لما يقدم تضحيات وما يدري!.
أصلاً تقديمه للتضحيات! استعداده للبذل! درجة صبره! ستختلف!.
وهذه مسألة مهمة جداً في قضية "السنن الإلهية": تُشعرك بالعزة، والأمان والاطمئنان، وتصبرك، وتجعلك تعطي المزيد، وتبذل وتضحي! وتقدم؛ لماذا؟
لأن عندك قانون، عندك سنة مطردة، عندك شيء واضح، أنت تسير عليه، في نهايات معينة ستأتي: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43] هناك أشياء إذا حصلت هزم الله الكفار، ونصر المؤمنين.
المؤمن إذا تعلم "السنن الإلهية" وأتقنها، ومشى وفق قوانينها، سيكون له فوز ونجاة في الدنيا وفي الآخرة.
تجنب مواطن الخطأ التي وقعت فيها الأمم السابقة
كذلك: تُجنبه مواطن الخطأ التي وقع فيها الآخرون الذين عاقبهم الله، حتى لا يصير له مثل ما حصل لهم، ولا تكون نهايته وخيمة كنهايتهم، ولا يكون شأنه إلى سفال ووبال كما حصل لهم.
ما في داعي نجرب ما وقع فيه الآخرون مرة أخرى! فنحن عرفنا أنه إذا فعلوا هذا جاءهم عذاب أو عقاب، فلماذا نفعل مثلهم؟
الاطلاع على عدل الله في خلقه
من فوائد معرفة "السنن الإلهية": الاطلاع على عدل الله في خلقه:
أنت تشهد -عبد الله- ما في مجال للمحاباة، سنن الله ما تفرق بين شخص وآخر، ولا بين أمة وأخرى، عرب عجم، أسود أبيض، شرق شمال غرب، كلهم واحد.
اختصار طريق النصر والتمكين
من فوائد معرفة "السنن الإلهية": اختصار الطريق:
اختصار الطريق إلى النصر، اختصار الطريق إلى التمكين، اختصار الطريق إلى العزة والكرامة.
الله له سنن من عرفها وصل إلى مراده بسرعة.
الاطمئنان إلى عظمة الشريعة
ومن فوائد معرفة "السنن الإلهية": أنها تُشيع في النفس الاطمئنان إلى عظمة الشريعة، وعظمة القرآن، خصوصاً لما ترى في الواقع الانطباق، فتزداد إيماناً، لما ترى الانطباق في الواقع تنتعش، لما الله يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة: 276] ثم ترى كوارث مالية.
لما يقول الله: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279].
الحرب حرب، ثم ترى الكوارث تقع، والاضطرابات تقع، نتيجة ماذا؟
التحليلات كلها: الربا!.
فما استطاعوا يسددوا سندات الخزينة.
الفوائد المركبة، الربا الذي حصل كان سبباً.
إذاً، هذا الكلام، أو هذا الواقع الذي تشهده أنت الآن؛ يعطيك مزيداً من الثقة في الشريعة، وفي نصوصها.
الأجر والثواب:
العلم ب "السنن الإلهية" فيه امتثال وفيه ثواب.
لو واحد قال: وماذا بالنسبة للأجر والحسنات؟
نقول: في ثواب.
فإن قال: من أين الثواب؟ -يعني: موضوع "السنن الإلهية" هذا إذا فهمناه، فمن أين سيأتينا الأجر؟-
نقول:
من قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل: 69]. قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام: 11]. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43].
فإذاً، الله الذي أمرنا بالنظر والتفكر والاعتبار.
إذا فهمنا "السنن الإلهية" سنأخذ أجراً على ذلك؛ لأننا امتثلنا، وأطعناه في أمره لنا بالتفكر والاعتبار.
ومن أعظم مجالات التفكر والاعتبار: السنن الإلهية، وانطباقها في الواقع: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ هذا أمر: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137] هذا أمر.
وهذا الموضوع يغفل عنه كثير من الناس.
كثير من الناس عندهم في قضية الحلال والحرام اتباع -مثلاً-، عبادات معينة! مناسك الصلاة، الطهارة، الحج، الصيام، الزكاة.
وفي موضوع الاعتبار والتفكر في أمور كثيرة، ومنها: "السنن الإلهية" في تقصير.
ومنهم أصلاً من لا يعرف هذا الجانب أساساً.
ولذلك: فُرصة للتعرف على جانب من جوانب الدين أُهملت.
مضت في القرون من قبلنا أحداث وقائع في أيام لله! مثلات! أشياء خلت! فيها عبر! صارت بناءً على نواميس إلهية كونية! صارت بناءً على عادات لله في خلقه! صارت بناءً على طرائق لله في عباده! تأملوها! اختبروها! اعتبروها! جرت على الماضين ستجري على اللاحقين!.
كل موضع أمر الله -تعالى-، يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين": "أمر الله -تعالى- فيه بالسير في الأرض سواء كان سيراً حسياً على الأقدام، أو السير المعنوي بالتفكر والاعتبار، أو كان اللفظ يعمهما، وهو الصواب" يقول ابن القيم: "فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك" [إعلام الموقعين: 1/132].
تعريف اللاحقين بسبب إهلاك الله للمفسدين السابقين
معرفة سنن الله في الأمم السابقة، ديناً ودنيا، فيه تعريف اللاحقين كيف أهلك الله المفسدين بسبب فسادهم وظلمهم.
فأنت الآن لما ترى ما يفعله المجرمون، وما يفعله الطغاة، وما يفعله سفاكو الدماء، وما يفعله مغتصبو الأغراض، وما يفعله نُهاب الأموال، وما يفعله الشبيحة والنبيحة، وإلخ... لما ترى الآن ما يفعله هؤلاء في الواقع أنت ماذا؟
وإذا أردت أن تربط، وتدرس، وتتفكر، وتقيس، وتعتبر، وتقول يعني بناءً على ما حصل لمن هو في مثل حالهم، كانت النتيجة: أخذ الله!.
الآن يعني اعتداء صريح جداً جداً على توحيد الألوهية والربوبية، لما يقول هذا -مثلاً-: "لا إله إلا فلان" المخلوق!.
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌغيّروها! صارت: قل هو الله... ! خلاص المخلوق! غيّروها!.
لما ترى الآن الاعتداء على توحيد الألوهية والربوبية اعتداءً صارخاً واضحاً جداً! وجنود يأمرون الناس بالكفر الصريح! وأن ينطقوا الشهادة بناءً على أن الله فلان! ما معنى هذا؟!
تفكرها، قال الله عن فرعون: فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات: 24].
النتيجة: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى[النازعات: 25].
عظة للسابقين واللاحقين، لازم يحدث هذا لفرعون الجديد كما حدث لفرعون السابق.
أليست هذه سنة إلهية؟ أليست ماضية؟ أليست هذه سنة مطردة؟ أليس القياس والاعتبار بمصير اللاحقين على السابقين يقتضي الأخذ؟
إذاً، الأخذ قادم لا محالة، ما في احتمال أنه هؤلاء ينجون بفعلهم، ويسلمون، ويُكملون مشوار حكمهم وطغيانهم، وإفسادهم في الأرض، وبدون نتائج فيها أخذ وإهلاك، وبطش وإذلال؛ ما يمكن؛ لأنه في سنة إلهية.
بعض الناس يقولون: تأخرت؟!
نقول: تأخرت عندي وعندك، نحن البشر: خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37]. وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج: 47].
تأخرت عندي وعندك، لكن عند رب العالمين ما تأخرت.
تداخل السنن الإلهية وترابطها مع بعضها
ثم في سنة أخرى لازم تفهم -وهذا سنتطرق إليه -إن شاء الله-: تداخل السنن مع بعضها- سنة الأخذ، لكن في سنة الإمهال، فما يمكن أن نفهم سنة الأخذ، بدون سنة الإمهال، ما يمكن تعزل سنة أخذ الله للجبابرة والطغاة والظلمة، عن سنة الإمهال، ما يمكن تعزلها عن سنة الاستدراج، هو في مستوى معين من الطغيان والظلم إذا بلغوه سيأخذهم الله، ويقصم ظهورهم.
فماذا يحدث الآن؟
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178].
فإذا وصلوا الحد قصمهم الله، في قدر معين، وقدْر معين، ومستوى معين، وفي قدَر لا بد يأتي، فإذا وصل الأمر إلى القدْر المعين جاء القدر المعين.
لا نستطيع أن نفهم سنة الأخذ والإذلال، بدون سنة الإملاء والاستدراج.
بعض حِكم إمهال الله للظالمين
والتأخير فيه حِكم:
الله يصطفي شهداء.
يتبين للناس فناء الدنيا وحقارتها.
يُخرج الله من الناس حب الدنيا، ويصيروا مضطهدين، في فقر، في شدة، يزدادون إلحاحاً، ودعاءً واقتراباً من ربهم، وعبودية.
وأحياناً -تلاحظ-: أنه كلما ازداد المجرم إجراماً، ربما يزاد له في الإمهال، حتى يأتي وعد الله بالأخذ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 17].
فلا تستعجلوا! الحضارة الغربية، أو الحضارة الشرقية، أو غيرها، كلها الدور عليها آتٍ: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58].
ما يبقى أحد، لا بد من الاعتبار بمصائر الأمم الغابرة.
يتشابه الكفار وأعداء الله عبر السنين، لما فُتحت قُبرص، وفُرق بين أهلها، بكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، يقول جُبير بن نُفير، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: "ويحك يا جُبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، حتى تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى" [سنن سعيد بن منصور: 2/248].
عدم التسويف في التوبة
سنن الله -تعالى- تعلمنا: عدم تسويف التوبة، وتأخير العودة إلى الله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ[غافر: 85].
فإذاً، لماذا نؤخر التوبة؟ ونؤخر العودة إلى الله؟ ونؤخر الإيمان؟ إذا كان لو حصل القدر وجاء العذاب، ما ينفع الندم، ولا تنفع التوبة؟
معرفة سنة الله في إهلاك المنافقين
معرفة سنة الله في إهلاك المنافقين أيضاً؛ لأن في أناس يقولون: في كفار خُلص، وأعداء واضحين، وفي ناس متخفين، يُفسدون كل يوم في الأرض ولا يصلحون؟!
نقول: لله فيهم سنة، اصبروا: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافقون