الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
هذه الأمة خير الأمم.
فإن الله قد أمر بالتقوى، وأنزل هذا الدين ليكون رحمة للعالمين، وبعث النبي الأمين بشيراً ونذيراً للعالمين، وهذه الأمة آخر الأمم، وأفضل الأمم عند الله سبحانه، جعلها الله أمة وسطاً، جعلها الله أمة رحمة، وهي أول الأمم يوم القيامة يقضى بينهم، هذه الأمة تشهد لغيرها، تشهد على غيرها من الأمم بأن الأنبياء قد بلغوهم، هذه الأمة التي هي مرحومة في دنياها وفي آخرتها، وجعل لهم كفارات في دنياهم بما يقع بينهم من الفتن، فيكفر الله بها عنهم من سيئاتهم يوم القيامة، ولذلك قال ﷺ: أمتي أمة مرحومة، جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة[رواه مسلم1844، دون ان يذكر لفظ: أمتي أمة مرحومة.
هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بالصحابة الذين كانوا مع نبيهم ﷺ في أولها، هذه الأمة أكثر أهل الجنة منهم، وجاء الإسلام بإصلاح الاجتماع عن طريق إرشاد الخلق إلى توحيد صفوفهم، ومحو العصبيات وإزالة الفوارق التي تباعد بينهم، وهذه الأمة أمة واحدة، جعل الله الوحدة فيها مبنية على التوحيد إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُسورة آل عمران19.
فالدين في التوحيد دين واحد | لم يختلف منهم عليه اثنان |
دين الإله اختاره لعباده | ولنفسه هو قيم الأديان |
إلهها واحد، ونبيها واحد، وكتابها واحد، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سورة البقرة21.ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ سورة الأنعام102.
يا عباد الله:
سبحان من جعل التوحيد جنتنا | من وحد الله حقاً فاز بالله |
أمة الإسلام أمة واحدة، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ سورة المؤمنون52. ملة التوحيد، دين الفطرة، وجعل الله مظاهر هذا الدين تدعو إلى وحدة الأمة، إنها وحدة في العبودية، بعد أن بنيت على وحدة الألوهية، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌسورة الإخلاص1. ثم إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ سورة الفاتحة5. أمر الله هذه الأمة بأن تكون واحدة، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْسورة آل عمران103. وجعل هذا الالتئام والاتحاد في شعائر دين هذه الأمة، فانظر إلى العبادات، عندما تكون الصلاة بهذا النداء الواحد في أرجاء الأرض، ويجتمع المسلمون في المساجد على إمام واحد المصلون خلفه في صفوف منتظمة، وهذه الزكاة تدعو إلى وحدة الصف، فمال الغني المسلم لإخوانه الفقراء، كأن الفقير شريك الغني في ماله، وتترابط القلوب وتتراحم النفوس على هذا، والزكاة مواساة، وإحساس الغني بالفقير اعتراف بإخوة الإيمان، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌسورة الحجرات10.
وهذا الحج بما فيه من المظهر وحدة واحدة، فملابس الإحرام وهذه التلبية، والاجتماع على الأركان الواحدة وحركة الحجاج واحدة، وهكذا يجتمعون في عرفات جميعاً، ومنها يفيضون.
والصيام إنه مظهر من مظاهر وحدة الأمة، وإذا رأى المسلم الهلال، المسلم الثقة، فأخبر به لزم المسلمين أن يصوموا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُسورة البقرة183. إنه يوحدهم، فهذا إذا بدأ شهر رمضان بدؤوا بالفريضة، فإذا رؤي هلال شوال انتهى صيامهم، وهم يتوحدون في التكبير والتهليل واجتماعهم في صلاة عيد الفطر.
عباد الله: إننا نرى مظاهر التوحيد عجيبة وعظيمة، إنها عجيبة وعظيمة في هذه الأمة، وتراهم يقومون لله في صلاة التراويح يسن الاجتماع عليها، ويعتكف المسلمون في المساجد، ويربي هذا الدين الفرد المسلم على هذه المظاهر، فيأمرهم للاجتماع لصلاة العيد، وليس لنا في الدين إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، وترتبط أعيادنا بعبادات، فليست أعيادنا عادات، فهذا عيد الفطر يرتبط بنهاية الصيام، وهذا عيد الأضحى يرتبط بهذه الشعيرة العظيمة في إنهار الدم لله ، في يوم الحج الأكبر، في أفضل أيام السنة على الإطلاق وهو اليوم العاشر من ذي الحجة.
ولنا في الأسبوع عيد وهي الجمعة نجتمع فيه لذكر الله ، إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِسورة الجمعة9. وهكذا يوحدهم في فريضة الجهاد، ويقول العلماء: إذا نزل العدو بأرض قوم لزم المسلمين فيها أن يدافعوا عنها، ويجب على إخوانهم أن يمدوهم بما يحتاجون إليه.
وهكذا نجد في أحكام الميراث أن المتوفى إذا لم يكن له ورثة، فإن ورثته هم جميع المسلمين، وأن ماله يعود إلى بيت المال لينفق منه في مصالح المسلمين، لماذا؟ لأن الله قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍسورة التوبة71. فانظر إلى هذه الولاية العامة التي جعلها الله بين المسلمين، حتى أن من لا وارث له من أقاربه يكون إرثه لجميع المسلمين.
وعندما جاء الدين بفريضة طلب العلم لأجل مصلحة الجميع؛ فنجد في الدين عدة أمثلة على فريضة الكفاية، فريضة الكفاية التي إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، فإن لم يقوموا بها أثموا جميعاً.
وانظر إلى توحد المسلمين في هذا الأذان بأوقات معينة ظاهرة جعلها الشرع آيات على دخول أوقات الصلاة، وعلامات يهتدي بها المسلمون إلى أوقات عباداتهم، فترفع هذه الأصوات لله بالتوحيد في أرجاء الأرض، وكانت لغة القرآن العربية، قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَسورة الزمر28. أنزله بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف، بل هو بيان ووضوح لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَوَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّاسورة الرعد37.وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا سورة الشورى7.إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ سورة يوسف2.
فضل اللغة العربية.
وهذه اللغة معرفتها فرض واجب؛ لأنه لا يتم فهم الكتاب والسنة إلا بها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية، عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم"، وهذا إنجاز عظيم يا عباد الله من إنجازات الصحابة، لا تستطيعه اليوم دول، حققه الصحابة، كيف؟
في الفتوحات نزلوا بلاد مصر والشام والعراق وخراسان والمغرب، وكان أهل تلك البلاد لا يتكلمون العربية، فلهم لغات رومية وفارسية وبربرية وهكذا، ألسن مختلفة، فإذا بنا نجد اليوم وبعد أكثر من ألف سنة أن لغة أهل هذه البلاد عربية، فمن الذي علمهم هذا، وقلب ألسنتهم إلى اللسان العربي، وكيف استطاع الصحابة في هذه المدة القصيرة التي دخلوا فيها تلك البلاد أن يدخلوا أهلها في اللغة العربية بعد أن أدخلوهم في التوحيد، عجباً والله من هذا العمل العظيم، الذي قاموا به ، كيف استقامت ألسن أهل تلك البلدان على العربية بعد اعوجاجها في لغات الأعاجم المختلفة.
ولذلك لما تساهلت الأمة في أمر اللغة قال شيخ الإسلام: "واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم، وصارت العربية عند كثير منهم مهجورة، ولا ريب أن هذا مكروه، فلذلك حدث ما حدث من أنواع الانحرافات، ومن أسبابه هذا، ولذلك يجب على الأعجمي أن يتعلم من العربية ما يحتاج إليه في دينه وعبادته، ومن أول ذلك تعلم الفاتحة وماذا يقول في الصلاة.
عباد الله: وهذه العربية مما يوحد الأمة، فعندما يكون لسانها واحد، ولغتها واحدة؛ فإن ذلك من دليل وحدتها، وسائل التاريخ عن وحدة المسلمين وعزتهم يوم كانت اللغة العربية صاحبة السلطان في الأقطار الإسلامية، شرقية وغربية عربية وعجمية، يوم كانت لغة التخاطب بينهم، ولغة المراسلات ولغة الأذان والإقامة والصلوات، ولغة الخطابة في الجمع والأعياد والجيوش، ولغة المكاتبات الرسمية بين خلفاء المسلمين وقوادهم وجنودهم، ولغة مدارسهم ومساجدهم وكتبهم ودواوينهم، ونحن في هذا العصر الذي زاحمتنا فيه اللغات الأجنبية، وصارت جرباً على لغتنا العربية، حتى تبلبلت ألسنتنا وألسنة أبنائنا، وخاصتنا، وعامتنا، فيتأكد علينا أمام هذا الغزو اللغوي الجائح أن نحشد قوانا لحماية لغتنا والدفاع عن وسائل بقائها وانتشارها؛ لأنها من أسباب وحدة الأمة.
عباد الله:
توحيد الكلمة على كلمة التوحيد
إن هذا التوحيد مطلب شرعي يوم كانت عزة المسلمين أن يسير المسلم من أقصى بلاد المسلمين إلى أقصاها لا يوقفه أحد.
وأينما ذكر اسم الله في بلد | عددت أرجاءه من لب أوطاني |
ومتى ضعفت الأمة؟ لما حصل فيها الاختراق بالافتراق، اخترقت الأمة بفرق، والنبي ﷺ قد حذرنا من ذلك، وأخبرنا أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهكذا ظهرت القدرية والخوارج والمعتزلة، وظهرت الصوفية بفرقها، فهذه جيلانية، وهذه رفاعية، وهذه بدوية، وهذه دسوقية، وهذه شاذلية، وهذه مولوية، وتلك نقشبندية وأخرى ملامتية، وظهرت فرق الباطنية من القرامطة والإسماعيلية والدروز والحشاشين، وظهرت فرق البابية والبهائية والقاديانية والأحباش وغير ذلك من أنواع الفرق التي تعج بها الأمة اليوم.
أيها المسلمون: لقد تكلم العلماء في التعصب المذهبي، ومعلوم أن اجتهادات الأئمة أمر طبيعي، وأن اختلاف نواحي التفكير الفقهي والاجتهاد أمر واضح ومعلوم، ولكن لا علاقة بين هذا أي: الاجتهاد في الفروع في الفقه من الأحكام، والحلال والحرام، والمستحب والمكروه، والمباح، وبين الافتراق في العقيدة؛ لأن الأمة لا يمكن أن تتحمل الافتراق في العقيدة؛ لأن العقيدة واحدة، فلماذا يتفرقون؟
وأما قضية حصول الخلاف في أمور من أحكام الشريعة، من الأحكام التي جاءت في الشريعة من هذه الأحكام الخمسة، فإنه أمر متوقع وعادي، لكن عندما يتحول إلى تعصب مذهبي، فيتعصب بعض الناس لمذهب معين، فلا يصلي هذا خلف هذا، أو يكفر هذا الآخر، ويبدعه ويضلله، والخلاف أصلاً خلاف في الفروع، خلاف فقهي، وليس اختلافاً في العقيدة، ليس اختلافاً في الأصول، فإن هذا التضليل والتبديع على أساس الاختلاف الفقهي في الأحكام هو في ذاته بدعة وضلال، وحرام لا يجوز، وتأمل كيف وصل التعصب ببعضهم أن قال: يجوز للرجل من مذهبنا أن يتزوج امرأة من المذهب الآخر، ولا يجوز للرجل من المذهب الفقهي الآخر أن يتزوج امرأة منا، وإنما يتزوج الرجل منا المرأة منهم، تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب.
فواعجباً كيف نزلوا إخوانهم في الدين وعقيدتهم واحدة، والخلاف هو مسألة فقهية في مسائل الفقه، كيف نزلوهم منازل الكفار، وقاسوهم عليهم، ولقد كان في بعض المساجد الكبار في العالم الإسلام أربعة محاريب، فهذا محراب لكل مذهب من ذاهب الفقه، فهذا تفريق بين المسلمين وضلال، ويجب معرفة الفرق بين الافتراق في العقيدة والأصول والانحراف عن التوحيد والوقوع في الشرك والبدعة، وبين الاختلاف الفقهي في أحكام الشريعة في الأحكام التي تستنبط من القرآن والسنة، فإن العقول ليست واحدة.
اللهم إنا نسألك أن توحد صفوف المسلمين على الحق، اللهم وحد هذه الأمة على التوحيد، اللهم اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً لأعدائك، نحب من تحب، ونبغض من تبغض يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا هو، وأحمده وأشكره ولا أكفره، وأخلع كل من يكفره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الرحمة المهداة، البشير والنذير، والداعي إلى الله بإذنه وسراج منير، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وعلى ذريته، وخلفائه، وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الأمر بتوحيد المسلمين عظيم، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْسورة آل عمران103. هذا الأمر بتوحيد المسلمين من أراد أن يخرقه فله النار، ولذلك كان من دعا إلى عصبية أو قاتل من أجل عصبية، كان من تعصب لقبيلة أو تعصب لبلد وجنس ولون أنه في شريعة الإسلام مذموم، وأخبر النبي ﷺ أنه من أمر الجاهلية، ويجب أن يكون المسلمون إخواناً فيما بينهم، متحابين، ولذلك حرم كل ما يؤدي إلى تفريق المسلمين وإيغار الصدور، فلماذا حرمت الغيبة، وحرمت النميمة، وحرم بيع على بيع المسلم، وشراء المسلم على شراء أخيه، وسوم المسلم على سوم أخيه، وخطبة المسلم على خطبة أخيه؛ لأنه يوغر الصدور، والشريعة تريدهم جميعاً متحدين، ولذلك كان من خرج على هذه الأمة يضرب برها وفاجرها له النار.
عباد الله: لقد شرع الإصلاح لأجل لم الصفوف، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ سورة الحجرات10.وجعل تقطيع المسلمين وجعل هؤلاء المسلمين أعداء بينهم فتن وحروب بينهم ما يقع من أسباب التفريق يعتبر فشلاً في الشريعة، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْسورة الأنفال46.
وينبغي أن يكون المسلم متواضعاً لأخيه المسلم؛ لأن الله وصفهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَسورة المائدة54.
كيف نستقبل شهر رمضان؟
أيها المسلمون: ويقترب شهر رمضان، وينبغي علينا أن نتهيأ لهذا الشهر، وهذا التهيؤ يكون بمعرفة فضائله، وإذا كان يعرفها فإنه يذكر نفسه به، يستحضرها في قلبه ويتشوق إلى هذا الشهر، ويتمنى أن يصل إليه ليعبد ربه بهذه العبادة العظيمة التي أوجبها عليه.
إن التشوق لموسم العبادة دليل على الإيمان، إن وجود الحافز في نفس المسلم للاستفادة واغتنام الوقت الذي سيأتي في طاعة الرحمن لزيادة الحسنات وتكفير السيئات، هو من أدلة قوة الإيمان في القلب.
إن الترقب والفرح بقدوم موسم العبادة دليل على محبة الرحمن؛ لأن الله لما كان يحب هذه العبادة كان فرضاً علينا أن نحبها؛ لأننا ينبغي أن نكون في محبتنا تبعاً لربنا، فإذا أحب شيئاً أحببناه، وإذا أبغض شيئاً أبغضناه، وهذا الحب في الله، والبغض في الله يقتضي أن نعمم ذلك على المواسم والأشخاص، والأعمال، والأقوال، فكل ما يحبه الله نحبه ونؤتيه، وكل ما يكرهه الله نبغضه وننأى عنه.
ويحتاج المسلم إلى إغلاق بعض الملفات قبل قدوم هذا الشهر، فنعلم بأننا عباد مقصرون، ومخطئون، ونقع في المعاصي والذنوب، وأن علينا تصفية هذه الأشياء ليقدم علينا الشهر ونحن بنقاء لنستفيد منه، وبعض الناس يظن أن معنى هذا التكثير من هذه المعاصي لتوديعها، والانغماس فيها إلى آخر لحظة عندما تعلن تلك الليلة ودخول الشهر، وليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود المبادرة إلى التوبة، والإسراع بالنأي عن كل معصية؛ لأن شعبان هذا أصلاً شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وليس شهر توديع للمعاصي، وبعضهم يظن أن الشعبنة هي: أن تودع شعبان بأنواع، والاستكثار من المعاصي حتى يقدم رمضان؛ للانشغال فيه بالعبادة، كلا،
أيها المسلمون: إن لملمة شعث النفس، والإقبال على الرب سبحانه، وتهيئة الأجواء، واستعداد الأهل والأولاد، والتهيؤ النفسي لما سيكون، وتوطين النفس على اغتنام الوقت الآن وفي المستقبل، وشهر رمضان موسم، وما قبله موسم، وما بعده موسم، ولكن هذا الشهر القادم الموسم الأعظم فيما قبله وفيما بعده، فينغي إذاً التهيؤ لهذا لكي يعظم الأجر ونستفيد من الشهر.
وإن المسلم ليرى من الآيات العظيمة لقدرة الله ، كيف يرسل الرياح؟ وكيف تأتي الأعاصير؟ إعصاراً في إثر إعصار، ولا يكاد البشر يلملمون جراحاتهم من شيء إلا ويأتيهم بشيء سبحانه، يصرف الرياح، وهذا التقدم العلمي الذي يدرسون به حركة الرياح، ويحشدون له المراكز وعلماء الطبيعة يفاجؤون بعد ذلك بأمور، فيقولون: حصل انعطاف مفاجئ للإعصار، واتجه إلى اتجاه آخر غير الاتجاه الذي نتوقعه، إنها قدرة الله ، إنها قوته ، وهؤلاء جنوده من ملائكته، وهذه الرياح التي يرسلها سبحانه، إنه هذا الماء الذي يغرق به، إنها هذه البحار وهذه الأمطار، وحتى هذه الجراثيم والفيروسات إنها صغيرة وكبيرة، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَسورة المدثر31. فسبحان الله، سبحان القوي العزيز، سبحان الحي القيوم، الذي هو على كل شيء قدير، سبحان الذي يغير ما بالناس كيف يشاء، وهو الكبير المتعال سبحانه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذا شاء أن يقتلهم قتلهم، وإذا شاء أن يشردهم شردهم، وإذا شاء أن يقضي على ممتلكاتهم قضى عليها، وإذا شاء سبحانه انهزم من يهزم، وانتصر من ينتصر، فنسألك اللهم أن تنصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، أنت الحي القيوم بحولك وقوتك انصر أولياءك أهل الإسلام والتوحيد، واهزم أعداءك أهل الشرك والكفر والبدعة يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك نصراً عاجلاً لهذه الأمة يا رب العالمين، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر هدانا إلينا، اللهم من أراد أمننا بسوء فشتت شمله، ومن أراد تفريق كلمة المسلمين فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان لبلدنا هذا وبلاد المسلمين، اللهم اجعلها معمورة بذكرك، محكومة بشرعك، اللهم إنا نسألك أن توحد صفوف المسلمين على الحق، اللهم اهد ضالنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واقض ديننا، واغفر ذنبنا، وارفع شأننا، اللهم وحد على التوحيد صفوفنا، اللهم اجعلنا إخوة متحابين، وفي سبيلك متجالسين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اغفر لنا ولذرياتنا، واجعلنا على الحق مستقيمين، هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اغفر لنا ذنبونا أجمعين، وتب علنيا إنك أنت التواب الرحيم، وبلغنا رمضان شهرك يا أرحم الراحمين، وأعنا فيه على ما حكمت فيه وفرضت يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك العون يا ذا الحول والطول، أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ووفقنا لمرضاتك، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.