الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمة للثقلين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا.
عن محبوبات النبي ﷺ فمن محبوباته من الأشخاص ما تقدم، وكذلك من المآكل والمشارب ما عرفناه، وهناك من محبوباته أيضًا ما يحبه من الأمكنة، والأزمنة، والثياب، والألوان.
ما يحبه النبي ﷺ من الأمكنة
حب النبي صلى الله عليه وسلم لمكة
فقد كان النبي ﷺ يحب مكة، وقال: ما أطيبك وأحبك إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك [رواه الترمذي: 3926]، وهو حديث صحيح [صححه الألباني مشكاة المصابيح:2724].
وقال عبد الله بن عدي بن الحمراء: رأيت رسول الله ﷺ وهو على ناقته واقف بالحزورة -موضع بمكة-، والحزورة في اللغة: التل الصغير- يقول: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ -وهذا الشاهد من الحديث- والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت[رواه ابن ماجه: 3108]، وهو حديث صحيح. [صحح الألباني صحيح ابن ماجة: 2523].
فهذه أم القرى، والبلد الحرام، والبلد الأمين، وبكة، خير أرض الله على الإطلاق، وأحب الأرض إلى النبي ﷺ.
وكان ﷺ يحب أن يتوجه إلى الكعبة، يحب اتجاه القبلة إلى بيت أبيه إبراهيم، كما جاء في البخاري: كان رسول الله ﷺ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله ﷺ يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة : 144]. [رواه البخاري: 399].
وعن مجاهد قال: "إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا" يعني كيف يخالفنا في أشياء ويتبع قبلتنا "فنزلت الآية. [فتح الباري: 1/502].
وكان رسول الله ﷺ كما في رواية عن ابن عباس- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فنزلت. [فتح الباري: 1/502].
حب النبي عليه الصلاة والسلام للمدينة
كان ﷺ أيضًا يحب المدينة: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا المدينة وهي وبيئة" -يعني ذات وباء، ويطلق على الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض لاسيما للغرباء من غير مستوطنيها- "قالت: فاشتكى أبو بكر" -يعني مرض- "واشتكى بلال، وعامر بن فهيرة، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله | والموت أدنى من شراك نعله |
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته" والعقيرة" الصوت.
قال الأصمعي: في أصل العقيرة أن رجلاً انعقرت رجله فوضعها على الرجل الأخرى، وصار يصيح، فصار كل من رفع صوته يقال: رفع عقيرته، وإن لم يرفع رجله". [غريب الحديث للحربي: 4/103].
وقال ثعلب: هذه من الأسماء التي استعملت على غير أصلها، فإذًا رفع عقيرته يعني رفع صوته". [فتح الباري: 7/263].
ماذا كان بلال يقول إذا أقلع عنه الحمى؟"
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة | بواد وحولي إذخر وجليل |
وهل أردن يومًا مياه مجنة | وهل يبدون لي شامة وطفيل" |
وقول بلال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد، يقصد واد مكة، بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: 37].
وأما قوله: "الجليل": فهو النبت الضعيف الذي يحشى به خصاص البيوت لسد الفراغات.
وأما "مياه مجنة": فإنها موضع على أميال من مكة كان بها سوق.
وأما "شامة وطفيل": فهما جبلان بقرب مكة، وكان بلال إذا أنشد هذا يقول: "اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء".
وقال عامر -وهو المشتكي المريض الثالث-:
"إني وجدت الماء قبل ذوقه | إن الجبان حتفه من فوقه |
فلما رأى رسول الله ﷺ شكوى أصحابه -يعني بلغت هذه الحد- قال: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها يعني اجعل بيئة المدينة صحية، وهواء المدينة صحي، وجو المدينة صحي، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحول حماها إلى الجحفة؛ لأن المدينة كان فيها الحمى، قالت: "وقدمنا المدينة، وهي أوبأ أرض الله، فكان بطحان يجري نجلاً" يعني ماء آجنًا. [رواه البخاري: 1790، وأحمد:24405].
لدرجة أن المدينة كان يجري فيها هذا النهر الوبيء، والماء الآجن، المتغير، الماء يجري في الواد في بطحان ماء متغيرًا يسبب الأمراض والأوبئة، هذا كان وضع المدينة، لما جاءها النبي ﷺ فقال داعيًا ربه: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشديعني: أكثر وأعظم.
فهل معنى هذا أن المدينة أفضل من مكة؟ جمهور العلماء على أن مكة أفضل خلافًا لمالك رحمه الله وقوله: لمكة إنك أحب البلاد إلي،ّ وإنك أحب أرض الله إلى الله هذا على ظاهره، وقصد بالحديث الآخر زيادة منزلة المدينة، ومحبة المدينة في قلوب أصحابه؛ لئلا يميلوا كل الميل إلى مكة، وتصبح المدينة لا شيء لها في قلوبهم، وأنها مجرد أرض وباء فأراد أن تزيد قيمة المدينة في قلوبهم، لا أن تنقص قيمة مكة.
وقوله: صححها لنا أي من الوباء -كما قال القاري- اجعل هواءها وماءها صحيحًا.
وبارك لنا في صاعها ومدها طيب كون مكة أفضل هل يستلزم أن يكون ما في للمدينة أشياء أفضل من مكة؟
لا يستلزم فقد يكون الشيء أفضل من الشيء، وفي الأقل فضلاً ميزات ليست موجودة في الأول، كما قال ﷺ في البخاري: اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة [رواه البخاري: 1885]، وهذه البركة حصلت في المكيلات؛ بحيث يكفي المد فيها ما لا يكفي في غيرها.
قال النووي: "وهذا أمر محسوس عند من سكنها". [فتح الباري: 4/98]، البركة في المدينة من جهة الطعام واضحة.
وقال القرطبي: "إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة، ولا يستلزم دوامها في كل حين، ولكل شخص". [فتح الباري: 4/98]، فيمكن يوجد ناس عندهم موانع تمنع المباركة لهم فلا يشعرون بالبركة.
وقوله في الحديث: وحول حماها إلى الجحفة يعني حول وباءها وشدتها إلى الجحفة، لماذا؟
لأن ساكني الجحفة في ذلك الوقت الذي دعا فيه كانوا يهودًا من أشد اليهود إيذاء وعداوة للمؤمنين، ولذلك دعا أن تنقل الحمى إليهم، وفي هذا دليل على الدعاء على الكفار، -كما قال شراح الحديث- بالأمراض، والأسقام، والهلاك، خصوصًا المعادين للمسلمين الذين آذوا المسلمين، فالدعاء عليهم بالقحط، وبالهلاك، وبالدمار، وبالوباء صحيح سائغ؛ لأنهم آذوا المسلمين، وكذلك فيه الدعاء للمسلمين بالصحة، وطيب البلد، والبركة فيها، وكشف الضر والشدائد.
قال الزرقاني: "فاستجاب الله تعالى دعاءه، فطيب هواءها، وترابها، ومساكنها، والعيش بها". [شرح الزرقانى: 5/50].
قال النووي: "وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة محمد ﷺ فإن الجحفة من يومئذ مجتنبة، ولا يشرب أحد من مائها إلا حم". [شرح النووي على مسلم: 9/150].
يعني أصابته الحمى، نحن نعرف أن الجحفة من المواقيت، لكنها شبه مهجورة، ولعل آثار الوباء موجودة فيها إلى يوم الدين ولذلك مجتنبة، الشراح يقولون: ومن زمان مجتنبة الجحفة.
ومن حب النبي ﷺ للمدينة أنه كان يحرك دابته عند رؤية منازل المدينة إذا ظهرت له من الطريق، ففي البخاري عن أنس : أن النبي ﷺ كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جدرات المدينة أوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها من حبها [رواه البخاري: 1886].
ومعنى "جدرات": يعني جدران جمع جدار.
و"أوضع": يعني أسرع السير.
"من حبها": يعني بسبب حب المدينة يعجل الدابة، ويحرك الدابة لتسرع، وهذا من فضائل المدينة.
قال ابن حجر: "وفيه مشروعية حب الوطن، والحنين إليه". [فتح الباري لابن حجر: 3/621]. والوطن: ما استوطنه الإنسان، وجعله بلدًا له.
حب النبي عليه الصلاة والسلام لجبل أحد
ومن الأماكن التي كان بحبها ﷺ جبل أحد: فعن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى" -وهي مدينة قديمة بين المدينة والشام- "إذ امرأة في حديقة لها".
يعني في بستان، فالبستان المسور يقال له: حديقة، إذا ما له سور ما يطلق عليه حديقة في اللغة.
"فقال رسول الله ﷺ: اخرصوها، يعني: احزروا كم يجيء من تمرها، وفيها امتحان العالم أصحابه بالتمارين الذهنية، تقدير تخمين.
"قال: اخرصوها، فخرصناها، وخرصها رسول الله ﷺ عشرة أوسق"، -تخمينه عشرة أوسق أن تمر هذا النخل عشرة أوسق- ".
وقال للمرأة: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله، يعني: في طريق العودة، "وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله ﷺ: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة" -فعلاً- "فقام رجل" -خالف وعصى- فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء".
وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة للنبي ﷺ من إخبار عن أمر وقع، وفيه كذلك خوف الضرر على الناس، والنهي عن القيام عند هبوب الريح، إذا اشتدت الريح لا يقف الإنسان ينزل، وفيه ما كان ﷺ من الشفقة على أمته، وتحذيرهم مما يضرهم في الدنيا والدين، وإنما أمر بشد الجمال لئلا يتفلت منها شيء، فيحتاج صاحبها للقيام في طلبه، فيلحقه الضرر ضرر الريح.
طيب ماذا حصل في هذه المناسبة؟
جاء في الرواية: وجاء رسول ابن العلماء" -من هو ابن العلماء؟
هذا حاكم أيلة المعروفة على البحر، وكان نصرانيًا، واسمه يوحنا بن دوبة، والعلماء اسم أمه- "فبينما كان النبي ﷺ هناك، جاءه رسول ابن العلماء صاحب أيلة بكتاب من صاحب أيلة إلى النبي ﷺ، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله ﷺ ببحرهم".
يعني ببلدهم لأن البحار هي القرى في اللغة.
كتب إليه مقرًا له عليها مع التزام الجزية، وكساه بردًا" فلعل هذا الذي كان عنده حاضرًا، وهدية مقابل هدية.
قال: "ثم أقبلنا حتى قدمنا واد القرى مرة أخرى، فسأل رسول الله ﷺ عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟" سأل المرأة.
"فقالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله ﷺ.
فقال رسول الله ﷺ: إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، فلما رأى أحدًا، قال: هذا جبل يحبنا ونحبه -وهذا موضع الشاهد من الحديث- ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟، قالوا: بلى. لأن الأنصار أحياء، قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار -وذلك لفضلهم، وسابقتهم في الإسلام، وآثارهم الجميلة في الدين- ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بني الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير فلحقنا سعد بن عبادة.
فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله ﷺ خير دور الأنصار، فجعلنا آخرًا" -فكأنه حزن ليش قومه آخر ناس في الترتيب في دور الأنصار-.
"فأدرك سعد رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرًا؟
فقال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟. [رواه مسلم: 1392].
يعني كلهم فيهم خير، فحسبكم أنكم من الخيار، ومن الأخيار، وطبعًا هذا التفضيل الذي ذكره ﷺ بحسب سبقهم إلى الإسلام، ولا بد من مدح الذين بكروا بالدين قبل غيرهم، وهذه أشياء قدرية من الله، ولذلك لا اعتراض.
فالله قدر أن يتقدم هؤلاء، ويتأخر هؤلاء، وجعل الناس مراتب ودرجات، وقسم بينهم ذلك.
وقوله في الحديث: هذا جبل يحبنا ونحبه على الحقيقة، يعني ما في داعي للتأويل، وأن يقال: هذا مجاز، وأن المقصود الذين يسكنون حوله، وأنه مثل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ[يوسف: 82]، يعني أهل القرية، كلا.
قال النووي: الصحيح المختار أن معناه أن أحدًا يحبنا حقيقة، جعل الله تعالى فيه تمييزًا يحب به، كما قال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74].
يعني: من الحجارة، فالحجارة تخشى الله، وتدحرج من الخشية، وكما حن الجذع اليابس، وكما سبح الحصى، وكما فر الحجر بثوب موسى في القصة المشهورة.
وكما قال نبينا ﷺ: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل البعثة [رواه مسلم: 2277]، هذا من التمهيدات للبعثة، وكما دعا الشجرتين المفترقتين فاجتمعتا، النبي ﷺ كان يريد أن يقضي حاجة، ويريد حائل، ويريد أن يكون شيء يستره، فكان هناك شجرتان فدعاهما، فأقبلتا حتى التأمتا عليه، فلما قضى حاجته رجعتا إلى مكانهما بأمر الله.
قال النووي: وكما كلمه ذراع الشاة، أخبره أنه مسموم في قصة اليهودية، وكما قال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء : 44]" [شرح النووي على مسلم: 9/140].
فإذا أحد يحبنا حقيقة، والله على كل شيء قدير، قادر أن يخلق في الجبل التمييز، والمحبة، والمشاعر، الله على كل شيء قدير.
قال السهيلي: كان ﷺ يحب الفأل الحسن، والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية، جبل أحد، ومع كونه مشتقًا من الأحدية فحركاته حروفه الرفع -يعني همزة مضمومة، والحاء مضمومة أحد-، قال: فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي ﷺ لفظًا ومعنى فخص من بين الجبال بذلك، والله أعلم" . [فتح الباري: 7/378].
وكان من عادته ﷺ أن يستعمل الوتر، ويحبه في شأنه كله إشعارًا للأحدية، فوافق اسم هذا الجبل ذلك المقصد، وقد تكرر من النبي ﷺ إخباره بحب جبل أحد، فقال ذلك وهو راجع من تبوك، وقال ذلك وهو راجع من خيبر، وقال ذلك لما رجع من الحج، وعن أنس قال: خرجت مع رسول الله ﷺ إلى خيبر أخدمه فلما قدم النبي ﷺ راجعًا وبدا له أحد، قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ثم أشار بيده إلى المدينة، فقال: اللهم إني أحرم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا [رواه البخاري: 2889، ومسلم: 1374].
نسب التحريم إلى إبراهيم باعتبار دعائه وسؤاله، وإلا فإن الذي حرمها هو الله، لكن كان هنالك سبب وهو دعاء إبراهيم.
وقوله: إني أحرم ما بين لابتيها، ما هما اللبتان؟
الحرتان لأن المدينة تقع بين الحرة الشرقية والحرة الغربية، واللابة هي الأرض الملبسة حجارة سوداء، وهذا يعني أن المدينة لها حرم لا يقطع شجره، ولا يؤخذ صيده فحدد الطرف الشرقي والغربي، ولم يحدد الشمالي والجنوبي؛ ولذلك قال بعضهم: إن حرم المدينة كالدائرة على محيطها الحرة الشرقية والحرة الغربية والباقي مستدير، فهم بعضهم هذا، وكلامهم كثير في قضية تحديد حرم المدينة من الجهتين الأخريين؛ لأنه من الشرق والغرب محدد، وهذه بعض المواضع التي كان يحبها النبي ﷺ الأماكن.
ما يحبه النبي ﷺ من الأزمان
حب النبي صلى الله عليه وسلم ليوم الخميس
فماذا كان يحب من الأزمان كان يحب يوم الخميس، فعن كعب بن مالك قال: لقلما كان رسول الله ﷺ يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس [رواه البخاري: 2949].
وخرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس [رواه البخاري: 2950].
وخروجه يوم الخميس لمعنى يجب أن يحمل عليه، ويتبرك به؛ لأن لنا في رسول الله أسوة حسنة، واختياره
يوم الخميس يحتمل وجوه:
الأول: أنه يوم مبارك ترفع فيه الأعمال إلى الله، وقد كانت سفراته لله، فيحب أن يرفع العمل له في هذا اليوم، وهو السفر لله جهادًا، وعمرة، وحجًا.
ثانيًا: أنه أتم أيام الأسبوع عددًا، يعني أحد اثنين ثلاثاء أربعاء خميس خمسة، خلاص أتمها عددًا.
وثالثًا: أنه كان يتفاءل بالخميس في خروجه، وكان من سنته أن يتفاءل بالاسم الحسن، طيب الخميس في اللغة يطلق على الجيش؛ لأنه مكون من خمس قطع: مقدمة، ومؤخرة، والميمنة، والميسرة، والوسط، فيسمى الجيش خميسًا لأنه خمس فرق، فكان يرى من الفأل الحسن أن يخرج يوم الخميس ليستولي على خميس الكفار، وهو جيش الكفار، وأنه سيظفر بهم، ويتمكن منهم.
وقيل: تفاؤلاً بتخميس الغنيمة، أنه سيأخذ الغنائم ويخمسها، خمس لبيت المال، وأربع أخماس للمقاتلين، وكونه ﷺ يحب الخروج يوم الخميس لا يعني أنه لم يخرج في أي يوم آخر أبدًا، فقد ثبت أنه ﷺ خرج لحجة الوداع يوم السبت، فقد تقتضي مصلحة ما السفر في غير الخميس، لو شخص حرص أن يسافر الخميس صباح الخميس ما حصل حجز خلاص سيخرج في يوم آخر.
حب النبي صلى الله عليه وسلم لشهر شعبان
وكان ﷺ يحب من الشهور شعبان، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها كان أحب الشهور إلى رسول الله ﷺ أن يصومه شعبان [رواه النسائي: 2659]، وهو حديث صحيح [صححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 4628].
فالإكثار من الصيام في شعبان كالسنة القبلية في الصلاة، وصيام ستة شوال كالسنة البعدية في الصيام كما هي السنة البعدية في الصلاة.
ما يحبه النبي ﷺ من الملابس
ماذا كان ﷺ يحب من الملابس؟
حب النبي صلى الله عليه وسلم للقميص
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان أحب الثياب إلى النبي ﷺ القميص [رواه الترمذي: 1762]، وهو حديث صحيح. [صححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب: 2028].
ما هو القميص؟ المخيط المفصل الذي له كمان وجيب.
ما هو الجيب؟ مدخل الرأس والرقبة، هذا اسمه جيب في اللغة، والكمان معروفان، فأي لباس له فتحة في الرقبة وكمان يسمى في اللغة قميصًا، فإذًا الثوب الذي نلبسه نحن ونقول: هذا ثوب اليوم هو في اللغة قميص، كما يسمى في بعض البلدان الدشداشة والجلابية، ونحو ذلك.
لماذا كان يحبه ﷺ؟
لأنه لا يحتاج إلى حل وعقد، يعني ربط وشد وفك، فلبسه سهل ميسور، وكذلك لستره لأنه يستر.
حب النبي صلى الله عليه وسلم للحبرة
وكان من أحب الثياب إليه ﷺ الحبرة: فعن قتادة قال: "قلت له -يعني لأنس : أي الثياب كان أحب إلى النبي ﷺ أن يلبسها؟ قال: الحبرة [رواه البخاري: 5813].
فما هي الحبرة؟ الحبرة بوزن عنبة، وهي ثوب من قطن أو كتان مخطط يصنع باليمن، يؤتى به من اليمن، سميت حبرة لأنها محبرة يعني مزينة، لأن التحبير في اللغة هو التزيين والتحسين.
وقيل: إنها كانت هي أحب الثياب إلى النبي ﷺ لأنه ليس فيها كثير زينة وتكلف.
وقيل: لأنها كانت تحتمل الوسخ لأن هذا الوسخ يتحمل الأوساخ.
وكذلك فإن في الحديث جواز لبس المخطط للرجل واستحباب لبس الحبرة، ولما توفي النبي ﷺ سجي ببرد حبرة كما جاء في البخاري عن عائشة. [صحيح البخاري: 5814]
ما يحبه النبي ﷺ من الألوان
حب النبي صلى الله عليه وسلم للون الأبيض
من الألوان كان ﷺ يحب الأبيض، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ: البسوا البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم [رواه الترمذي: 2810، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2027].
وفي رواية: عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم [رواه أبو داود:3878، و صححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب:2026].
إذًا أطهر لا دنس ولا وسخ فيها، وأطهر لأن الوسخ يبين فيه بسرعة، فيغسل لذلك، وأطيب لأنه يدل على التواضع غالبًا.
وروي عن الإمام الزهري رحمه الله أنه قال: خرج أمية بن أبي الصلت في سفر، فنزلوا منزلاً، فأمّ أمية وجهًا، قصد جهة، وصعد في كثيب، فرفعت له كنيسة فانتهي إليها" -يعني وصل إليها- فإذا شيخ جالس، فقال لأمية حين رآه: إنك لمتبوع، فمن أين يأتيك رأيك؟
قال: من شقي الأيسر.
قال: فأي الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها" -الجني هذا الذي يخرج-.
قال: السواد.
قال: كنت تكون نبي العرب، ولست به، هذا خاطر من الجن وليس بملك، إن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه الملك من شقه الأيمن، وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض".
هذه قصة فيها أن أمية ابن أبي الصلت.
وكان النبي ﷺ يحب شعره حتى سمع من شعره أكثر من نحو مائة بيت، والرجل صاحب اهتمامات دينية، ويهتم بالتوحيد بس ما كان عنده تفاصيل دين.
ففي هذه القصة أنه وصل إلى كنيسة، ووجد عندها شيخ في الكنيسة جالس، فقال لأمية حين رآه: إنك لمتبوع، فمن أين يأتيك رأيك؟ قال: من شقي الأيسر، قال: أي الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها؟
قال: السواد. قال: كدت تكون نبي العرب، ولست به، لماذا؟
قال: نبي العرب عندنا مكتوب أن الملك يأتيه من شقه الأيمن، وأحب الثياب أن يلقاه فيه البياض، والله أعلم بصحة هذا، لكن هذا متوافق مع عموم الدلائل النبوية، والقصة في هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم الجوزية رحمه الله. [هداية الحيارى: 3/179].
حب النبيصلى الله عليه وسلم للون الأخضر
ماذا كان النبي ﷺ يحب من الألوان أيضًا؟ الخضرة. فعن أنس قال: كان أحب الألوان إلى رسول الله ﷺ الخضرة [رواه الطبراني: 8027، والبيهقي في شعب الإيمان: 5916]، وقال الهيثمي: رجال الطبراني ثقات [مجمع الزوائد: 5/227].
الأخضر من أنفع الألوان للأبصار، ومن أجملها في أعين الناظرين، وقيل: أن النظر إلى الخضرة والماء الجاري يقوي البصر، ولهذا كان له ميزة على سائر الألوان.
قال ابن القيم: كان أحب ألوان الثياب إليه البياض، والحبرة، وهي البرد المحبرة، ولم يكن من هديه لبس الأحمر، ولا الأسود، ولا المصبغ، ولا المصقول، وإما الحلة الحمراء التي لبسها فهي الرداء اليماني الذي فيه سواد وحمرة وبياض، كالحلة الخضراء، فقد لبس هذه وهذه، فإذًا يحب الأخضر، ولبس الأخضر، ولبس المخطط، ولبس ما كان فيه خطوط سوداء وحمراء، بس ما لبس أحمر خالص، وكان يحرص على البياض". [زاد المعاد: 4/217].
حب النبي ﷺ للنساء والطيب
ومن الأشياء التي كان النبي ﷺ يحبها من هذه الدنيا الطيب، كما قال: حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة [رواه النسائي: 8887، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 3124].
وقال: إنما حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب [سنن البيهقي: 13232].
وفي هذا الحديث بيان حب النبي ﷺ للعطر والروائح الطيبة، وكان له سكة يتطيب منها، وكانت الريح الطيبة من صفته ﷺ وإن لم يمس طيبًا، فذاته الشريفة تفوح منها رائحة الطيب، وكان ﷺ جمع أطيب الأشياء من الأخلاق، والأعمال، والمطاعم، والروائح، وكان من أخلاقه التطيب، ويحب أن يكثر منه.
وكان ﷺ يتميز بطيب الرائحة، حتى قال أنس: ولا شممت ريحًا قط، أو عرفًا قط أطيب من ريح أو عرف النبي ﷺ [رواه البخاري: 3561، ومسلم: 2330].
وكان يعرف بطيب رائحته إذا أقبل أو أدبر، كما روى أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح -كما قال الحافظ في الفتح- عن أنس كان رسول الله ﷺ إذا مر في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك، فقال: مر رسول الله ﷺ". [المطالب العالية: 3834، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8/502، ورجال أبي يعلى وثقوا].
وقوله: جعلت قرة عيني في الصلاة يعني: النساء والطيب ما شغلاني عن الصلاة، فمن أمور الدنيا كان يحب النساء بالحلال، زوجات وإماء، والطيب المعروف، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة [رواه مسلم: 1467]، وكان ﷺ يكثر التطيب، وتشدد عليه الرائحة الكريهة، وتشق عليه، والطيب له تأثير في حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام، كما قال ابن القيم. [زاد المعاد: 4/308].
ما يحبه النبي ﷺ من الدواب
ماذا كان ﷺ يحب من الدواب الخيل؟ حتى قال أنس : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله ﷺ من الخيل وقال الهيثمي: [رواه أحمد: 20327]، والطبراني ورجال أحمد ثقات [مجمع الزوائد:9321].
وذكر الخيل لأجل الغزو في سبيل الله.
كان عليه الصلاة والسلام يحب العراجين
فعن أبي هريرة قال: "عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم، وهو في صلاة يسأل الله خيرًا إلا أتاه إياه وقللها أبو هريرة بيده، فلما توفي أبو هريرة قلت: والله لو جئت أبا سعيد فسألته عن هذه الساعة أن يكون عنده منها علم، فأتيته، فأجده يقوم عراجين" -جمع عرجون، وهو القضيب الأصفر المتقوس الذي يكون عذق الرطب فيه- "فقلت: يا أبا سعيد! ما هذه العراجين التي أراك تقوم؟
قال: هذه عراجين جعل الله لنا فيها بركة، كان رسول الله ﷺ يحبها، ويتخصر بها" -ما معنى يتخصر بها؟ يتكئ عليها، يتوكأ عليها، ويتخذ منها مخصرة، والمخصرة من شعار الملوك، والمخصرة ما يتوكأ عليه من العصا والسوط ونحوه- "قال: فكنا نقومها، ونأتيه بها، فرأى بصاقًا في قبلة المسجد، وفي يده عرجون من تلك العراجين فحكه، وقال: إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصق أمامه، فإن ربه أمامه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه.
المسجد كان ترابًا وحصى، فإن لم يجد مبصقًا، ففي ثوبه أو نعله، "قال ثم هاجت السماء من تلك الليلة، فلما خرج النبي ﷺ لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان" -يعني رأى في ضوء تلك البرقة قتادة- "فقال: ما السرى يا قتادة؟" -السرى السير ليلاً يعني المراد ما الذي أخرجك ليلاً، يعني لما برقت البرقة في السماء كانت الدنيا مظلمة لما برقت البرقة رأى قتادة بن النعمان، فقال ما الذي أخرجك في الليل؟- "قال علمت يا رسول الله أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها، قال: فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك فلم انصرف أعطاه العرجون، وقال: خذ هذا فسيضيئ أمامك عشرًا والظاهر أن المراد عشرة أذرع، وخلفك عشرًا، فإذا دخلت البيت وتراءيت سوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن يتكلم، فإنه شيطان ففعل قتادة هذا، قال: فنحن نحب هذه العراجين لذلك.
قلت: يا أبا سعيد، إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة، فهل عندك منها علم؟
قال: سألت النبي ﷺ عنها فقال: إني كنت قد أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر ثم خرجت من عنده، فدخلت على عبد الله بن سلام، فسألته عنها".
فقال يعني أنه يعلمها- "فقلت: أخبرني بها، ولا تضنن بها عليّ" -لا تبخل بها عليّ- "فقال عبد الله بن سلام: خلق الله آدم يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وقبضه يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة، فهي آخر ساعته آخر ساعة في يوم الجمعة، فقلت: كيف تكون بعد العصر وقد قال رسول الله ﷺ: لا يوافق عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها؟"
قبل المغرب ليس وقت صلاة منهي، فقال عبد الله بن سلام: أليس قد قال رسول الله ﷺ: من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة، قلت: بلى. قال: فهو ذاك. [رواه أحمد: 11642]. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح [مجمع الزوائد: 2/377]، وبعضه في سنن الترمذي [491].
إذًا قوله: وهو قائم يصلي يعني ينتظر الصلاة، وقال: بعضهم يصلي: يعني يدعو.
فهذه طائفة مما كان يحبه ﷺ من الأمكنة، والأزمنة والثياب، والألوان، وكذلك من الدنيا الطيب والنساء، والخيل، والعراجين.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا اتباع السنة، وأن يحيينا عليها، ويميتنا عليها، إنه سميع مجيب قريب، وصلى الله على نبينا محمد.