الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نص القصة
فمن روائع قصص القرآن التي قصها الله علينا في كتابه العزيز ما جاء في قوله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 21-26].
المعنى الإجمالي للقصة
وَهَلْ أَتَاكَ[ص: 21]، هل جاءك نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21]، الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكل من يصلح أن يكون الخطاب له، فهل أتاك يا أيها المؤمن يا أيها المتعظ بالقرآن هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ، ولا يقال: نبأ إلا للخبر الهام، عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ: 1-2].
فالفرق بين الخبر والنبأ: أن النبأ هو الخبر الهام، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21]، وهذه الاستفهام مع كلمة النبأ تؤدي إلى التشويق للاستماع لما بعده، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ [ص: 21] إنه يلفت النظر، تشويق ما هو هذا النبأ؟ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ يقع على الواحد والاثنين والجماعة، وقيل: إنهم جماعة؛ لأن الله قال: إِذْ تَسَوَّرُوا[ص: 21]، وهذه واو الجمع.
وتسور: تسلق.
المحراب: الحائط.
معنى ذلك: أنهم وجدوا الباب مغلقًا، أو منعوا من الدخول، فتسوروا عليه المحراب، والمحراب هنا محل عبادة داود وأصل المحراب مقدم كل مجلس وبيت وأشرفه، يقال عليه: محراب، ومنه محراب المسجد، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ [ص: 22].
والسبب أنهم جماعة دخلوا عليه من غير الباب بلا إذن، ولا استئذان، فلما دخلوا عليه بهذه الطريقة فزع منهم، وخاف، وقيل: إنه فزع لأن الدخول كان ليلاً، وفجأة في غير وقت سماع كلام الناس، أو شكاوى الناس في المجلس المخصص؛ لذلك قَالُوا لَا تَخَفْ [ص: 22]، ما جئنا لقتل، ولا لنهب، ولا لتخريب، ولا لاعتداء، وإنما نحن قال الله -تعالى-: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص: 22].
البغي: هو العدوان.
نحن طائفتان مختصمتان تعدا بعضنا على بعض بغير حق.
وقيل: رجلان.
وقيل: فريقان.
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا [ص: 22]، اقض بيننا يا داود بِالْحَقِّ [ص: 22]، بالعدل، وَلَا تُشْطِطْ[ص: 22]، لا تمل مع أحدنا، والشطط هو النقص، والجور والظلم.
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص: 22]، سواء الصراط. يعني: الصراط المستقيم، طريق الحق، وسط الصراط العدل.
قال أحدهما: إِنَّ هَذَا[ص: 23]، أخوة الدين، أو النسب، أو الصداقة، ومعنى ذلك أن بغيه أعظم؛ لأن بغي القريب أعظم من بغي البعيد، إذا بغى عليك بعيد أهون من أن يبغي عليك قريب.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة | على النفس من وقع الحسام المهند |
[ديوان طرفة: 1/ 8]
إِنَّ هَذَا أَخِي [ص: 23]، وهذا قد يرجح أنهما اثنان، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 23]، خير كثير يوجب عليه القناعة بما عنده، وما الحاجة إلى ما عند غيره؟ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ[ص: 23]، ليس لي غيرها، فطمع فيها، فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا [ص: 23] دعها لي، اجعلها في كفالتي اضممها إلى نعاجي، وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص: 23]، غلبني، وصار يجادلني حتى قهرني، فقال داود لما سمع كلام الأول: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص: 24]، والظلم في اللغة هو النقص، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا[الكهف: 33].
يعني: لم تنقص منه شيئًا، لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص: 24]، فهذا الذي أعطاه الله النعم الكثيرة، وأنت الفقير ما عندك إلا نعجة واحدة، لماذا يعتدي، ويلح ويغلبك في المخاصمة، ويصر على أن تعطيه إياها، ثم قال : وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص: 24]، لأن الظلم من شيم النفوس، الإنسان خلق ظلومًا جهولاً، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي [ص: 24]، ليبغي اللام: لام التأكيد.
الخلطاء: الشركاء.
وترى كثيرًا من الشركاء فعلاً إذا دخلوا في شراكة يبغي واحد على الآخر، إما بأن يأخذ من رأس المال له، أو يأخذ من الربح أكثر، أو يحمل الطرف الآخر خسارة ليس عليه أن يتحملها، أو يكتم شيئًا من الأرباح، أو يجعل لنفسه ربح صفقة دون شريكه، أو يعطيه صفقة تافهة، ويأخذ هو صفقة جيدة، طبعاً هذا لا يجوز في الشراكة، لو اشترك اثنان على أن يأتي ببضائع لبيعها، فقال الأول: أنا لي ربح حمولة الباخرة الأولى، ولك ربح حمولة الباخرة الثانية، لا يجوز محرم، ومن الظلم، أن شركة المضاربة المال من واحد والعمل من واحد، يأخذ المضارب المال، ويعبث به لأنه مال الآخر، فيغامر به مغامرات خطيرة غير مدروسة، ولا محسوبة فيؤدي ذلك إلى خسارة صاحب المال ماله، وربما يسافر بدرجة أعلى من المتفق عليه، وينزل في فنادق أعلى من المتفق عليه، ويبذخ في السفر، ثم يقول له: هذه كلفة الرحلة التجارية، إذًا وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ[ص: 24].
يحصل شيكات في حسابه، والشيكات الأخرى قليلة للشركة يقتسمها مع الشريك الآخر، أو يدعي أن الشركة خسرت بعدما مغامرات كثيرة، وربما يأخذ أرباح، ثم يقول: خسرنا، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص: 24]، أو يتصرف في مجال لم يؤذن له في التصرف فيه، كأن قال له: تاجر في العقار أعطيك المال للعقار، فيضعها في الرز، أعطيك الفلوس للتجارة في القماش، فيضعها في السكر، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص: 24]، والأخ الأكبر الذي يدير الشركة يأخذ الربح الكبير، ويوزع الفتات على إخوانه مع أنهم سواء في الشركة، ورثوها عن أبيهم، يحصل الإيجارات ويأكلها، ويعطيهم قليلاً، أو لا يعطيهم شيئًا، ويقول لهم: أنتم عندكم وظائف، أنا أتعب على تحصيل الإيجارات، طيب ألسنا شركاء؟ ألسنا ورثناها عن أب واحد؟ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا [ص: 24]، صنف لا يبغي من هم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ص: 24]، عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يمنعهم من الظلم، والعمل الصالح ما جمع الشرطين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].
فهذا المؤمن الذي يعمل الصالحات إيمانه وعمله الصالح يمنعه من البغي والظلم، ويجعله أمينًا لا يأكل حق غيره، ومن نقص إيمانه وعمله الصالح فإن هذا سيجعله يتردى في البغي، لكن أيهما أكثر الذين يبغون من الشركاء أو الذين يعدلون؟ الذين يبغون أكثر، لأن الله قال: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24].
قليل الأمناء الذين يديرون الشركات بإتقان، ولا يظلمون، ولا يبخسون الآخرين حقوقهم، يقولون: هذه أسهم ممتازة نوزعها على أعضاء مجلس الإدارة، وإذا زاد نعطي الآخرين، هذا حرام ما في شيء أصله اسمه ممتاز، إذا دفعوا سواء فالأسهم متساوية، متماثلة، لك سهمان، ثلاثة، عشرة، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24]، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13] كما قال في الآية الأخرى.
حِكم من حُكم داوود
وفي هذا الحكم من داوود حكم ودرر:
أنه جهر بالحق، أبلغ جهرًا، فجهر بظلم الخصم جهرًا لا محاباة فيه.
ثانيًا: أنه عرف الباغي ظلمه، وحيفه، وأن سيف العدل فوقه، ثم نفس عن المظلوم البائس بذكر ما عليه الأكثر، ويقول لهم مواسيًا: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص: 24] ليتأسى، ويتسلى لأن الذي أصيب بمصيبة وعلم أن غيره قد أصيب بنفس المصيبة تهون عليه مصيبته.
قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي | على إخوانهم لقتلت نفسي |
وما يبكون مثل أخي | ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي |
[ديوان الخنساء: 1/67].
ثم أكد داود الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة من المؤمنين، الذين يعدلون مع إخوانهم، ولا يبغون عليهم، قال: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ [ص: 24].
اختبرناه، والظن هنا بمعنى اليقين، قال تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ [البقرة: 46]، يعني: يوقنون، وقد يأتي الظن بمعنى الشك، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32]، لكن هنا ظن داود يعني: أيقن، أَنَّمَا فَتَنَّاهُ [ص: 24]، وهذه الفتنة التي فتن الله بها داود أنه دخل المحراب، وأغلق الباب، ولم يسمح بدخول الناس للتحاكم إليه في هذا الوقت.
ثانيًا: أنه سمع كلام الخصم، ولم يستمع كلام الآخر.
ثالثًا: أنه حكم للذي استمع إليه قبل، والحكم قبل سماع جواب الخصم تسرع، ولهذا كانت فتنة لداود .
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ [ص: 24]، فهذه الفتنة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ [ص: 24]، وهذه طبيعة المؤمنين إذا علم أنه أخطأ سارع إلى الاستغفار، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ[ص: 24]، لما صدر منه، وطلب المغفرة، وستر الذنوب، والتجاوز، وَخَرَّ رَاكِعًا [ص: 24]، معنى خَرَّ رَاكِعًا، يعني: خر ساجدًا، يحتمل أنه ركع أولاً ثم سجد، كما قال ابن كثير رحمه الله، ولكن الركوع فسر بالسجود هنا، لأجل كلمة خر لأن الركوع لا يحتاج إلى خرور، لكن السجود يحتاج إلى خرور، لأن الركوع مجرد انحناء، فقد يطلق على السجود ركوعًا، كما في هذه الآية وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24]، يعني ساجدًا، وهذا أبلغ في الذل لله ، وَأَنَابَ [ص: 24] إلى الله بالتوبة النصوح، فكانت العاقبة أن الله غفر له.
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص: 25] وتجاوزنا عنه، وصفحنا، ولم نؤاخذه بخطيئته.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى[ص: 25] بالإضافة إلى المغفرة هي الأهم، وهو الزلفى، والقربى، والمنقبة العظيمة، والمنزلة العالية، قريب من الله، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى [ص: 25]، قدم عندنا، يعني عند الله للشرف، وبيان المكانة، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 25]، يعني: حسن المرجع، والزيادة في الخير، والدرجة العالية في الجنة، ومع المغفرة أضاف الله هاتين الميزتين العظيمتين، وهي القرب منه ، عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 25]، هذه المرتبة في الجنة. قال بعض العلماء: هذا الخصمان من الملائكة، وأن الله أرسلهم لداود ليختبره، وهنا يذكر الإسرائيليون قصة غريبة عجيبة، منكرة فظيعة سيئة لا تليق بداود أبداً.
يقولون: "إن داود كان له تسعة وتسعون امرأة، وأن هناك رجل كان عنده امرأة واحدة، وإن داود أعجب بجمالها، وإنه أرسل زوجها في جيش جعله في المقدمة ليموت حتى يرث زوجته من بعده، ويضمها إلى التسعة والتسعين التي عنده فتصبح مائة" [تفسير جامع البيان: 21/181].
وهذا لعمر الله في غاية البشاعة، والسخف، والسوء وليس بعجيب على اليهود أن يفتروا مثل هذا، فهم معروفون بأنهم، يبهتون أنبياءهم، وأنهم يسبونه، ويشتمونهم، ويقعون فيهم، فلا غرابة من أن يحدثوا مثل هذه القصة الباطلة الواضحة السقوط، وأن يلطخوا سمعة النبي بالعشق المحرم، والمكر المحرم، والحيلة المحرمة، والظلم لكي يضم زوجة ذاك إلى زوجاته، وتالله إن كل امرئ منا ليصون -كما قال ابن حزم- نفسه، وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرض زوجها للقتل عمداً ليتزوجها، هذه أفعال السفهاء الفساق المتمردين، لا أفعال أهل البر والتقوى، فكيف بنبي الله داود ؟ فهذه القصة، وأمثالها من كذب اليهود.
وقال البرهان البقاعي: "وأخبرني بعض من أسلم منهم -يعني: من اليهود- أنهم كانوا يتعمدون ذلك في حق داود لأن عيسى من ذريته ؛ ليجدوا سبيلاً إلى الطعن فيه. [نظم الدرر: 6/373].
وهذه القصة تبين مدى ما وصل إليه اليهود من ظلم الأنبياء، وهم الذين قتلوهم، وأراقوا دماءهم، فليس بغريب أن يفتروا عليهم مثل هذه الفرى.
وذهب بعض العلماء إلى أن هذه القصة على مسألة الخصمين على ظاهرها، وأنهم رجلين من البشر اختصما في غنم، فرجعنا إلى مسألة هل هذان الخصمان من الملائكة أو من البشر؟ وهل هما ملائكة فأرسلهما الله بقصة منسوجة مثل مضروب أو هي فعلاً حصلت؟ لكن لبعض البشر، وأنهما تسورا المحراب.
الدروس والعبر المستفادة من القصة
وأيضاً فإن التثبت والبينة من علامات صحة القضاء، وينبغي أن نتروى إذا أردنا أن نحكم حتى بين الأولاد، فإن بعض الآباء يذهب ليضرب المدعى عليه مباشرة، فيأتي ولد يشتكي أخاه فيضرب الآخر قبل أن يسمع من الآخر، وكذلك تفعل الأم، ويذهب المدرس ليعاقب الطالب المشتكى عليه قبل أن يسمع منه، والقاضي يجب عليه أن يتحرى أكثر وأكثر لأن القضايا المنظورة عنده أخطر وأكبر.
ومن القصة نأخذ أسلوب القرآن في التشويق عند عرض القصص.
وأهمية إتيان البيوت من أبوابها؛ لأن عدم إتيان البيوت من أبوابها يسبب الفزع لأهل البيت، وأن الحكم بين الناس أفضل من العبادات الخاصة؛ لأن داود بالتأكيد لما أغلق الباب ما أغلقه ليلعب أغلقه ليتعبد، ذهب إلى محرابه يصلي، وأن الأنبياء يلحقهم ما يلحق الناس من جهة الطبيعة البشرية، النبي قد ينسى، يذهل، يتسرع، ممكن يحدث منه هذا، لكن أقل بكثير من غيره، يعني يخطئ النبي لكن خطأه بالنسبة لخطأ الآخرين قليل جداً، لكن للتدليل على أنه بشر وليس بملك، فيقع منه، إنا بشر من البشر أغضب كما يغضبون، أنسى كما تنسون.
وأنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على القضاة، وأما الدخول اقتحام مجلس القاضي بغير إذن فلا يصح، وأن الحاكم لا يمنعه سوء أدب الخصم في الحكم له إذا كان معه الحق، يعني قد يأتي للقاضي اثنان الحق مع واحد منهما، ولكن قليل أدب، وطويل لسان، والآخر مؤدب جداً لكنه ظلم، فلا يمنع سوء أدب صاحب الحق أن يحكم له، والآخر ولو كان مؤدب جداً إذا كان ظالمًا يحكم عليه.
وفيه حلم داود ؛ لأنه لما حصل هذا ما غضب عليهما وعاقبهما، وقال: كيف دخلتما بغير استئذان، ولأسجننكما ولأجلدنكما ولأفعلن بكما، وإنما سامح وغفر وتغاضى، ولم ينتهر، ولم يوبخ، وهذه أخلاق الأنبياء.
وفي القصة أن الإنسان لو تسبب في فزع غيره أن عليه أن يؤمنه، وأن يهدئ من روعه، لَا تَخَفْ [ص: 22].
وأن على من أراد أن يتكلم بين يدي القاضي، ألا يقول له كلامًا مسيئًا، كأن يقول: لا تشطط، لا تظلم، احكم بالعدل، لا تحكم بالظلم، فإن مثل هذا الكلام لا يليق، لم يقل القاضي شيء بعد، هو القاضي لو كان ظلم ممكن يقول، أذكره بالله، لكن القاضي الآن داود لما تكلم الآن، القصة ما عرضت، هذه أول العرض ما جاءت بعد الشكوى، ولا جاءت الدعوى، إذًا الإنسان إذا أراد أن يتكلم بين يدي القاضي يأتي بالكلام المناسب اللائق، وليس بالكلام الذي يجعل القاضي في ضيق مما يسمع.
وفي الآية أن الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير القدر جليل العلم إذا نصح لا ينبغي أن يشمئز، ولا أن يغضب.
وكذلك داود صحيح النصيحة ما كانت في محلها لكن لأنها جاءت لا تشطط، وفيها وصية، وفيها تنبيه تقبلها، وفي الآيات أن الأخوة بين المؤمنين لا تنتفي بمجرد العدوان، يعني: مع أن هذا حصل ظلم في الموضوع، لكن مع أنه حصل ظلم في الموضوع لكنه لم يمنعه من أن يصفه بأنه أخ، قال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 23].
وقد جعل الله القاتل أخًا لأولياء المقتول، مع أنه قتل وليهم، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 178].
إذًا سمى الله سماه أخًا مع أنه قتل صاحبهم، وجعل الطائفتين المقتتلتين إخوة، كما في قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 9-10].
وفي الآيات أن بعض الخصوم يكون أقوى من غيره في الخصومة حتى يغلبه، وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص: 23].
ويمكن أن نعتذر لنبي الله داود بأنه لم يسمع من الآخر أنه أراد السرعة في إنهاء القضية؛ ليتفرغ للعبادة التي احتجب عن الناس من أجلها.
وفي الآية جواز قول المظلوم لمن ظلمه: أنت ظلمتني؛ لأنه قال: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص: 22]، بعض الناس ينصحون الأقارب ألا يشارك بعضهم بعضًا حتى لا تقع خصومة، فيقول: إذا أردت أن تشارك لا تشارك صديقًا أو أخًا صاحباً، ولا قريبًا، ولا واحد من أهل الزوجة، لأنك إذا صار بينك وبينه غدًا خصومات في الشركات يكون الحرج البالغ أنك تخسر أخا زوجتك، أو تخسر ابن عمتك، أو تخسر صديق عمرك، لو تأملنا في الشراكات التي تحصل بين الناس سنجد أن هناك عددًا من الناس خسر بعضهم بعضًا، بالرغم من أنهم أقارب، أو أصهار، أو جيران، أو زملاء في العمل، أو أصدقاء عمر وطفولة، بسبب دخلوا في الشراكة وحصلت الخلافات، وأحيانًا الخلافات تحصل بسوء ظن، وتحصل بتفسيرات مختلفة للحدث الواحد كل واحد يفسرها على رأيه، ثم يتنازعان في القضية.
إذًا إذا أردت أن تدخل في شركة والعمل فيه مجال كبير للاختلاف، يعني: يخشى خشية كبيرة من الاختلاف لا تشارك فيه قريبًا، ولا صديق عمر، لأنك قد تخسره، ويصير حرج كبير؛ لأنك تتذكر السنوات الطويلة جداً التي كنت معه فيها، ثم الآن لا يكلم أحدهما الآخر، ولا يزور أحدهما الآخر، لأجل هذه القضية، أعطاه مال يشغله في النهاية خسر، قال: أنت بتفريطك، قال: أنا ما فرطت أنت فرطت، في نقص، نحتكم إلى فلان، ونأتي بمحاسب قانوني، ودبت الخلافات، فإذا كان العمل خطير، وفيه خشية من الاختلاف فيه فلا يدخل الواحد مع شخص مقرب منه جداً، لئلا تقع بينهما الخلافات، وكثير ما يدخلون بدون كتابة على أننا إخوة، ولن نختلف، ثم يختلفون، ما كتبوا لماذا لا يكتبون؟ كم نصيب كل واحد من الشركة؟ الجيب واحد، ما نختلف، فتنة أمتي في المال [رواه الترمذي: 2336، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 592].
فإذا جاءت الفلوس تغير النفوس، ولذلك قضية أننا ما نختلف والجيب واحد هذا نادر، نادر أن ترى شركاء ما اختلفوا، ولذلك الغربيون أدركوا أهمية هذه القضية، فعندهم العقود مفصلة تفصيل شديد حتى ما يكون في مجال للتنازع، يكتبون كل شيء حتى ما يكون في مجال للخلاف، وهذه المسألة مهمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة: 282].
كم مرة وردت الكتابة في الآية؟ معناه أن مسألة الكتابة مهمة، وسلمتك خمسين لا سلمتني أربعين، أنا سلمتك على أساس أنك ستفعل كذا لا أنا استلمتها على أساس أنها كذا، وتدب الخلافات اكتب كل شيء، وما الخسارة؟ اكتب، وعندك نسخة وعنده نسخة، وإذا صار شيء العقد بينكما، والمسلمون على شروطهم، وفي هذه الآيات إكرام الله لنبي الله داود .
وأن هذه الفتنة التي حصلت لداود ما نقصت من درجته عند ربه، ولا أنزلت من رتبته عند الله، بل رفعته، وأنه بعد الفتنة صار أفضل مما كان قبل الفتنة.
وهكذا بعض الناس ربما يكون له الذنب أنفع من جهة أنه يكون بعد الذنب التوبة الشديدة، ومحاولة الاستدراك، والأعمال الصالحة أفضل مما كان قبل الذنب، لكن ليس معنى هذا أن الواحد يذنب ليكون أفضل؛ لأنه قد يذنب وينتكس، ويذنب مرة ثانية وثالثة ورابعة، وإذا به في مسلسل من الذنوب والخطايا.
وفي الآيات أهمية الجمع بين الإيمان والعمل الصالح.
وأن الحاكم الذي يجلس للناس لا يصح أنه يحتجب عنهم.
أن الأنبياء يختبرون، وأن الله يبتليهم، وأن الله يفتنهم، فتن الله داود، وفتن سليمان.
وأن السجود للخضوع من سنن الأنبياء خضوعًا لله .
وأن الصلاة بعد الذنب مهمة في تكفير الذنب، كما جاء عن النبي ﷺ.
خطر اتبع الهوى
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26]، ملكه في الأرض يبلغ الناس شرع الله، ويحكم بينهم بالعدل، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص: 26]، ولا تمل مع أحد لقرابة، أو صداقة، أو صحبة، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26]، فنهى الله نبيه داود عن اتباع الهوى، فكيف بغيره من الناس؟ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26]، وسمي يوم القيامة يوم الحساب لأن الناس يحاسبون فيه.
وروى ابن أبي حاتم أن الوليد بن عبد الملك وكان خليفة قال لأبي زرعة: أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن، وفقهت.
قال: يا أمير المؤمنين أقول.
قال: قل في أمان الله.
قال: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة، ثم توعده في كتابه، فقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ص: 26]. [تفسير ابن كثير: 7/63].
فإذًا يجب الحكم بالحق، وأن هذه المرتبة العظيمة يجب أن تراعى الحكم بين الناس، وأن القاضي لا يجوز له أن يحابي أحدًا، ولا أن يقرب أحدًا على أحد، والخصمان عنده في المجلس سواء، وفي الكراسي سواء، وفي السماع، ولا يقدم شخصًا على آخر البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، ونحن قوامون لله شهداء بالقسط، ولو على أنفسنا أو الوالدين أو الأقربين.
سجدة سورة "ص"
لقد اختلف العلماء رحمهم الله في سجدة ص وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24]، هل هي موضع سجدة أم لا؟
فذهب الشافعي إلى أنها سجدة شكر يسجدها القارئ خارج الصلاة، ولا يسجدها في الصلاة.
ومذهب أحمد رحمه الله أنها سجدة تلاوة، يسجدها في الصلاة وخارج الصلاة.
وهذا هو الأرجح لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ص ليس من عزائم السجود فيها" [رواه البخاري: 1069].
وفي رواية عن مجاهد أنه سأل ابن عباس عن سجدة ص من أين سجدت؟ قال: أوما تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام: 84]، إلى أن قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، يعني: اقتد بسليمان وداود والأنبياء، فكان داود ممن أمر نبيكم ﷺ أن يقتدي به. [رواه البخاري: 4356] ، فسجدها داود فسجدها رسول الله ﷺ.
إذًا معنى "أنها ليست من عزائم السجود" ليست أنها سجدة لكن ليست بدرجة بقية السجدات في التأكد والاستحباب، فهي ليست مؤكدة غيرها لكنها سجدة يسجد فيها، أما السجدتات الأخرى مثل: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [الانشقاق: 20-21]، فهذه شديدة، فلا شك أن السجدة في سورة ص ما هي مثل سجدة سورة الانشقاق، وليست مثل سجدة سورة النجم.
نسأل الله أن ينفعنا بكتابه، وأن يرزقنا فهمه، وتدبره، وتلاوته، والعمل به.
وصلى الله على نبينا محمد.