الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
المقدمة
فهذه القصة التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- قصة من قصص الصحابة ، لما حصل على عهد النبي ﷺ، وهي تبين شيئاً من تضحيات أولئكم النفر العظام في سبيل هذا الدين، وكيف اصطفى الله منهم شهداء.
قصة مقتل خبيب بن عدي
وقد روى هذه القصة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب المغازي من صحيحه، وفي كتاب الجهاد والسير، وأبو داود -رحمه الله- في كتاب الجهاد من سننه، وكذلك أخرجها الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
يقول أبو هريرة : "بعث النبي ﷺ سرية عيناً، عشرة رهط وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة –اسم موضع- ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان - وبنو لحيان هؤلاء كانوا مشركين -فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر، تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد" -وهو المكان المرتفع عن الأرض- حاصرهم المشركون، العشرة هؤلاء المسلمون، في هذه الغزوة وهي: غزوة الرجيع، لجأوا إلى هذا المرتفع، وحاصرهم المشركون -"وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا –أي المشركون-: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً.
فقال عاصم –وهو أمير السرية-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقى خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم" -نزل الثلاثة المسلمون إليهم-، والبخاري -رحمه الله- عنون لهذه القصة بسؤال: "هل يستسلم الأسير، هل يستسلم المسلم للكفار أم لا؟ هل يستأسر؟ يرضى بالأسر أم لا يرضى، ويقاتل حتى يقتل-.
"فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها –ربطوا المسلمين بوتر القوس- فقال الرجل الثالث -المسلم- الذى معهما: هذا أول الغدر، –ربطنا معناها غدر- فأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل -رفض الانقياد- فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة -للكفار كفار قريش- فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر -خبيب قتل الحارث المشرك في يوم بدر، فأهل الحارث المشرك اشتروا خبيب لينتقموا منه، ويقتلوه- فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث -الآن سجنوه عند أهل الحارث هذا في البيت، فطلب موسى ليستحد بها -يعني حلق العانة -فأعارته، قالت المرأة المشركة التي كانت مشركة-: فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه -حبا إلى مكان موضع الأسير المسلم هذا- فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه -يعني خبيب ، وضع الطفل هذا- على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك منى -عرف أني فزعة الآن على الولد- وفى يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة -هو مقيد يأكل عنب، ما في عنب في مكة كلها- وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلى ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت –زدت على الركعتين- فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: "اللهم أحصهم عددا".
ثم قال:
ما أبالي حين أقتل مسلماً | على أي شق كان لله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزع |
-عضو من أعضاء الإنسان-.
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعث قريش إلى عاصم –أمير السرية الذي قتل في الطريق- ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه -يقطعوا قطعة من جسده وهو ميت- وكان عاصمٌ قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر –النحل والزنابير، سحابة من النحل تغطي جسده وتظله- فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء" [رواه البخاري: 3045، و4086، وأحمد: 8082] -ما استطاعوا مطلقاً أن يأخذوا قطعة من جسده-.
شرح قصة مقتل خبيب بن عدي
التعريف بالأماكن والأشخاص الواردة في قصة مقتل خبيب بن عدي :
هذه القصة، هي: "قصة غزوة الرجيع".
والرجيع: اسم موضع كانت هذه الوقعة بالقرب منه.
وهذه غزوة الرجيع، غير غزوة بئر معونة، هؤلاء عشرة، والذين في بئر معونة كانوا سبعين من القراء، وحديث عضل والقارة، عضل هؤلاء بطن من بعض قبائل العرب.
والقارة، أكمة سوداء فيها حجارة، نزلوا عندها، ويضرب بهم المثل في الرمي.
وقصة عضل والقارة، كانت في غزوة الرجيع، في أواخر سنة ثلاث من الهجرة.
وبئر معونة كانت في أوائل سنة أربعة من الهجرة.
والنبي ﷺ أرسل عاصم بن ثابت، مع هؤلاء الصحابة العشرة، فغدر بهم بنو لحيان هؤلاء.
سبب إرسال النبي ﷺ ل "خبيب" وأصحابه:
ما هو سبب إرسالهم؟
النبي ﷺ أرسلهم سرية.
وقيل: إنه أرسلهم يأتون له بأخبار قريش، بعثهم النبي -عليه الصلاة والسلام- عيوناً له ﷺ، وأمّر عليهم: عاصم بن ثابت.
تتبع المشركين ل "خبيب" وأصحابه ومحاصرتهم لهم:
لما كانوا في الطريق بين عسفان ومكة؛ خرج لهم هؤلاء القوم من بني لحيان المشركين، فتبعوهم بقريب من مائة رام، وفي رواية: "مائتي رجل" [رواه البخاري: 3045] مائة رماة، ومائة من غير الرماة.
فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر.
الصحابة هؤلاء نزلوا في الرجيع، في هذا المكان، في السحر، وأكلوا تمر عجوة، فسقطت نواة في الأرض، وكانوا يقفون آثارهم، كان عيون النبي ﷺ يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار، لكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ويتخذ منهم شهداء، سقطت نواة من نوى تمر يثرب؛ لأنه التمر الذي كان معهم من تمر المدينة.
فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً، فرأت النواة، فأنكرت صغرها -صغر النواة- بالنسبة لحجم النوى في تلك المنطقة، فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أوتيتم!.
فجاؤوا في طلبهم، فوجدوا، اقتصوا آثار الصحابة، حتى لحقوهم، ففوجئ الصحابة بهؤلاء القوم قد غشوهم، وحاصروهم.
خداع المشركين ل "خبيب" وأصحابه
لجأ هؤلاء الصحابة، المجموعة العشرة، إلى مرتفع من الأرض، وبدأ المشركون بالخداع، وقالوا: نعطيكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا مستسلمين: أن لا نقتل رجلاً منكم! ولا نريد أن نقاتلكم!.
رفض عاصم بن ثابت رضي الله عنه الاستسلام للمشركين
فعاصم -أمير السرية- قال: "أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ولا أقبل عهد مشرك". هؤلاء ناس ما يخافون الله، يعطوننا العهد والميثاق، ما لهم عهد ولا ميثاق: لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة: 10]. رفض أن يستسلم وقاتل.
دعاء عاصم بن ثابت رضي الله عنه الله أن يبلغ النبي صلي الله عليه وسلم حصار المشركين له ولأصحابه
وقبل أن يموت، قال: "اللهم أخبر عنا رسولك".
عاصم دعا الله أن يبلغ خبر حصار المشركين لهم، وما حصل لهم، للنبي ﷺ، فاستجاب الله لعاصم، وأخبر رسوله بالخبر، فأخبر النبي ﷺ أصحابه في المدينة بالخبر في اليوم نفسه.
وقوع خبيب وأصحابه رضي الله عنهم في الأسر
قتل عاصم وسبعة أشخاص من العشرة، بنبل هؤلاء الرماة المشركين.
وبقي خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، هؤلاء الثلاثة رأوا أن يستأسروا، يعني ينزلوا أسارى.
فلما نزلوا أرادوا ربطهم، فرفض الثالث أن يستسلم، فجرجروه، أو جروه، وحاولوا أن يأخذوه، فما طاوعهم! فقتلوه!.
وبقي خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، أخذهما هؤلاء المشركون، حتى باعوهما بمكة.
انتقام قريش من خبيب وقتلهم له:
انتهزوا فرصة أن قريش تريد الثأر من قتلاها يوم بدر، فباعوا الأسيرين: خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة إلى الكفار.
خبيب -كما تقدم- قتل الحارث بن عامر يوم بدر، وكان من المشركين، فأهله أرادوا الانتقام، فاشتروا خبيباً ليقتلوه، ويكون ذلك انتقاماً من مقتل أبيهم.
فمكث خبيب أسيراً عندهم، حتى إذا أجمعوا على قتله، لما انقضت الأشهر الحرم، أخرجوهما إلى التنعيم لقتلهما.
وجاء في رواية: أنهم أساؤوا إليه في الأسر أولاً، فقال لهم: "ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم" فأحسنوا إليه، وجعلوا عند امرأة تحرسه [سنن سعيد بن منصور: 2/300، وفتح الباري: 7/382].
وفي رواية: "أنهم جعلوه عند موهب مولى آل نوفل، فقال له خبيب -للحارس-: "يا موهب أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب، وأن تجنبني ما ذبح على النصب، وأن تعلمني إذا أرادوا قتلي" [فتح الباري:7/382].
لا تعطني طعاما مذبوحا على الأصنام! مذبوحا على النصب! للأصنام والآلهة!.
استعداد خبيب رضي الله عنه للقتل
حتى إذا أجمعوا قتله، أراد أن يتهيأ للقتل، فيحتاج إلى إزالة الشعر الذي لا بد من إزالته، فاستعار موسى، لأجل حلاقة العانة، طلب موسى من هذه المرأة "زينب بنت الحارث" أخت عقبة بن الحارث، وعقبة بن الحارث الذي قتل خبيباً.
وقيل المرأة هذه التي تحرس خبيب أخته أو زوجته.
فاستعار منها موسى، فدرج ولد لها صبي، كان عندها صبي غفلت عنه، فالصبي هذا درج، حتى وصل إلى مكان الأسير الموثق بالحديد، المربوط، وبيده الموسى، فنظرت إليه، وانتبهت فزعة، وظنت أنه يريد أن يقتله، أنه ما دام هو مقتول! ومقتول! فلينتقم منهم بقتل الولد! ما دام قد قدر عليه! ولكن الأسير المسلم ما كان ليقتل الأطفال، وما ذنب الأطفال، ما كان ليقتل طفلاً، فتركه، وقال: "أظننت أن أقتله، لا، لا أقتله إن شاء الله.
إكرام الله ل خبيب رضي الله عنه أثناء الأسر
تقول هذه المرأة -في ذكرياتها عن خبيب-: أنها رأته وهو في الأسر وهو مقيد، في يده عنقود عنب-كبير-، مثل رأس الرجل، يعني في الحجم، يأكل منه، ومكة كلها ما فيها عنب ولا فيها تمر أصلاً.
فهي تذكر هذا المشهد جيداً، وأن خبيباً رزق من الله بهذا القطف من العنب.
خروج قريش ب خبيب رضي الله عنه إلى الحل لقتله
ولما خرجوا بخبيب من منطقة الحرم إلى التنعيم؛ لأن التنعيم خارج الحرم، في الحل، ولذلك يحرم منها من أراد العمرة من أهل مكة، ومن في حكمهم ممن ذهب إليهم، وأقرب موضع من الحل إلى الحرم هو التنعيم، الذي فيه مسجد عائشة اليوم، وهو المكان الذي أحرمت منه عائشة -ضي الله عنها-، وفيه مسجد كبير موجود إلى اليوم يحرم الناس من عنده.
وإلا الحرم الذي يخرج الإنسان منه فيحرم، قد يخرج منه لعدة أماكن: الجعرانة، والتنعيم، وغيرها.
أقرب منطقة من مناطق الحل إلى الحرم، هي التنعيم.
أخرجوه خارج الحرم؛ لأن قريش كانت تعتقد أنه لا يجوز القتل في داخل منطقة الحرم، وفي الأشهر الحرم، فانتظروا الأشهر الحرم حتى تمضي، وأخرجوا خبيباً خارج منطقة الحرم إلى التنعيم ليقتلوه.
صلاة خبيب رضي الله عنه ركعتين قبل قتله
فلما أرادوا قتله، قال: "دعوني أصلي" فصلى ركعتين في موضع مسجد التنعيم -موضع المسجد المعروف الآن-، وقال للكفار: "لولا أنكم تظنون أنني أخشى الموت بالزيادة، لزدت صليت ركعتين أخريين" لكنه اكتفى بهاتين الركعتين.
دعاء خبيب رضي الله عنه على كفار قريش
ثم دعا الله، قال: "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا –يعني متفرقين-، ولا تبق منهم أحدا"، وفي رواية قال: "اللهم إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام، فبلغه" [سنن سعيد بن منصور: 2/301، وفتح الباري: 7/383]. وفي رواية: "فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء، قال: فلبَّد رجل للأرض خوفاً من دعائه" [انظر: فتح الباري: 7/383].
كانت قريش تعتقد أن الإنسان المدعو عليه، إذا نزل بالأرض، وألصق جنبه بها، فاتته الدعوة، يعني لم تصبه الدعوة، فواحد من الكفار لما خبيب دعا، لبَّد بالأرض مباشرة!.
وجاء عند ابن إسحاق: أن معاوية بن أبي سفيان كان مع أبيه، وكان أبوه مشركاً في ذلك الوقت، قال: كنت مع أبي، فجعل يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب، أول ما سمع أبو سفيان الدعاء ألقى معاوية إلى الأرض، مخافة أن تصيبه الدعوة، بحسب ما كانوا يعتقدون، فأخبر جبريل النبي ﷺ بخبر خبيب.
أبيات شعرية قالها خبيب رضي الله عنه قبل استشهاده
وقال خبيب هذه الأبيات العظيمة:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً | على أي شقٍ كان لله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزعِ |
"أوصال" جمع وصل، والوصل هو العضو.
"شلو" الشلو: هو الجسد.
"ممزع" يعني مقطع.
وقد ساق ابن إسحاق في روايته عدة أبيات قالها خبيب، ربما وصلت إلى ثلاثة عشر بيتا.
وبعضهم ينكر أن تكون له.
والذي في صحيح البخاري هذان البيتان.
وعند أبي إسحاق:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا | قبائلهم واستجمعوا كل مجمع |
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم | وقربت من جذع طويل ممنع |
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي | وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي |
فذا العرش صبرني على ما يراد لي | فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطمعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزع |
وقد خيروني الكفر والموت دونه | وقد هملت عيناي من غير مجزع |
وما بي حذار الموت إني لميت | ولكن حذاري جحم نار ملسع |
فو الله ما أرجو إذا مت مسلما | على أي جنب كان في الله مضجعي |
[دلائل النبوة، البيهقي: 3/328، وانظر: تهذيب سيرة ابن هشام، ص: 280].
على أية حال: هذان البيتان في صحيح الإمام البخاري -رحمه الله- من الأبيات التي قالها خبيب.
رثاء حسان بن ثابت ل خبيب رضي الله عنه
وقيل: إن حسان بن ثابت قد رثاه بأبيات، منها:
ما بال عينك لا ترقى مدامعها | سحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلق |
على خبيب فتى الفتيان قد علموا | لا فشل حين تلقاه ولا نزق |
فاذهب خبيب جزاك الله طيبة | وجنة الخلد عند الحور في الرفق |
ماذا تقولون إن قال النبي لكم | حين الملائكة الأبرار في الأفق |
فيما قتلتم شهيد الله في رجل | قد أوعث في البلدان والرفق |
[الروض الأنف في شرح غريب السير: 3/372، تهذيب سيرة ابن هشام، ص: 280].
فرثاه حسان بن ثابت بهذه الأبيات، وكان لسان إعلام المسلمين، ويسير الركب بأبياته.
حماية الله لجسد عاصم بن ثابت رضي الله عنه بعد موته
وأما بالنسبة لعاصم بن ثابت -رضي الله تعالى عنه-، الذي هو أمير السرية، فإنه لما قتل أراد الكفار قطعة من جسده.
وقيل: إنهم أرادوا أن يأخذوا رأسه؛ لأن قريبة لهم أرادت أن تشرب الخمر في قحف رأسه، قريبة المقتول المشرك الذي قتله عاصم في بدر، نذرت أن تشرب الخمر في قحف رأسه، فطلبت رأسه، أرسلوا رسلاً منهم ليأتي برأس عاصم الذي قتل صاحبهم المشرك في بدر، لإعطائه إلى قريبته هذه، لتشرب الخمر في قحف رأسه، كما نذرت، فأرسل الله ظلة، هذه السحابة من الزنابير، ذكور النحل، فحمته منهم، فما استطاعوا أن يمدوا أيديهم ليأخذوا شيئاً من جسده، فلم يقدروا منه على شيء، ولا أخذوا ولا قطعوا منه شيئا.
بعض الفوائد المستفادة من قصة مقتل "خبيب بن عدي رضي الله عنه
هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية:
تضحية الصحابة في سبيل الله:
ومنها: تضحية صحابة النبي ﷺ، وخروجهم لنصرة الله ورسوله، بالرغم من الأخطار التي كانت موجودة.
وثانياً: أن العلماء قد تكلموا في مسألة المسلم: هل يجوز له أن يستأسر؟ أم أنه لا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أجل أن يجري عليه حكم الكافر؟
فقال العلماء: هنا عزيمة ورخصة.
فالعزيمة: أن المسلم يمتنع من الأسر حتى لو قتلوه.
والرخصة: أنه يجوز له أن يقع أسيراً.
يعني إذا رأى من المصلحة أن يوقع نفسه أسيراً أوقع نفسه أسيراً.
وإذا أخذ بالعزيمة، أخذ بالعزيمة، وقال أقاتلهم حتى يقتلوني، وأرفض الوقوع في الأسر، فإنه مأجور على فعله ذلك.
الورع في قتل أولاد المشركين
وكذلك في هذا الحديث: الامتناع عن قتل الأولاد –أولاد المشركين وأطفال المشركين- التورع عن قتل أولاد المشركين.
كرامات أولياء الله -تعالى-
وكذلك في هذا الحديث: كرامات أولياء الله -تعالى- واضحة جداً من هذه القصة، فإن قطف العنب عند خبيب كرامة من الله، ما في مكة عنب، فوجئت المرأة بعنقود من عنب كبير بحجم رأس الرجل بين يدي خبيب!.
وكذلك عاصم بن ثابت حماه الله بالظلة -السحابة من النحل تظله-، هذه كرامة من كرامات الله -تعالى-.
تبليغ الخبر للنبي ﷺ أيضاً لما دعوا الله أن يبلغ نبيه ﷺ الخبر، ووصل الخبر في الوقت نفسه، من كرامات الله له.
عقيدة أهل السنة في كرامات الأولياء
كرامات أولياء الله ثابتة من عقيدة أهل السنة والجماعة، أننا نوقن ونعتقد أن الله يخرق العادة لبعض أوليائه، يجري الله -تعالى- كرامات على أيدي أوليائه، يكرمهم بخرق العادة لهم، فقد يكون خرق العادة بأن يأتيهم بطعام لا يوجد في البلد مثله، يأتيهم بشيء من فاكهة الصيف في الشتاء، أو العكس.
مثلما كان لمريم -عليها السلام- رزق في مكان صلاتها من الله، ما أحد أتى به من البشر، من الله، موجود عندها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران: 37].
ربما يكرمهم الله بالمشي على الماء، الخيول تخوض الماء، مع أن العادة جرت: بأن الخيل لا يركب البحر أبداً، ويغرق، ومع ذلك ركبت خيول المسلمين البحر في بعض الغزوات، وما ابتل منهم شيء، ما فقدوا شيئاً، حتى أن بعضهم فقد مطهرة، فلما عبروا إلى الشاطئ الآخر، قال: "رب مطهرتي!" فرماها البحر بعد قليل إلى الشاطئ، وأخذ المطهرة -الإناء- الذي يتطهر به.
وكان بيد بعض الصحابة نور، جعل الله نوراً في يده في الظلام، ينير له الطريق: أسيد بن حضير، وعباد بن بشر .
وسلمت الملائكة على عمران بن حصين .
وطعام أبي بكر الصديق كفى أعدادا من الناس، كلما أكلوا لقمة ربا من تحتها مكانها، والطعام أكثر تركوه أكثر مما بدأوا عندما بدأوا الأكل.
الكرامة هذه منة من الله يعطيها من يشاء من أوليائه.
وكرامات الصحابة كثيرة.
الفرق بين خوارق أولياء الله وخورق السحرة والمشعوذين
فإن قال قائل: ما هو الفارق بينها وبين الخارقة التي تكون للساحر والكاهن والمشعوذ؟
ربما يعني يعملون كرامات! ربما الساحر والمشعوذ يطير في الهواء! ويمشي على الماء!.
فهذه خوارق وهذه خوارق؟!
نقول: نعم، الفارق، أو الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان:
أولاً: ولي الله الذي يجري الله على يده الكرامات، حاله، متمسك بشرع الله، صحيح العقيدة، يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات.
المشعوذون والسحرة مشركون، عقائد فاسدة، ويتعاملون مع الشياطين، ولا يصلون، وربما يمتنعون عن الواجبات، ويفعلون المحرمات، وربما يشربون الخمر، ويزنون، ويفعلون الموبقات!.
ولذلك الواحد ما يغتر بخرق العادة! العادة قد تنخرق!.
الدجال من فتنته: أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تخرج كنوزها فتخرج كنوزها.
يقسم رجل قسمين، يضربه بالسيف نصفين بينهما مسافة بعيدة ثم يرده، ويقول: "قم" فيقوم بأمر الله، الناس يشاهدون ذلك.
معه جنة ونار، معه جنة يحركها، متنقلة.
فالدجال معه خوارق عظيمة جداً جداً، لكن مع ذلك هو كافر يهودي بن يهودي.
ولذلك الفرق الأساسي بين الولي وبين المشعوذ أو الدجال: الحال، حال هذا، وحال هذا.
ولذلك لا بد أن ننظر في حال الشخص الذي يدعي الخوارق، أو الذي حصلت له خارقة، ننظر في حاله، هل هو مستقيم على الشريعة أم رجل منحرف؟ صحيح العقيدة أم رجل مشرك ومبتدع؟ هل هو يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات؟ أم إنسان يرتكب الموبقات؟
ثم إن الولي إذا حصلت له الخارقة ما يخبر الناس، ويقول: يا أيها الناس! حصل لي كذا وكذا! وإنما يظهرها الله بطريقة، وما يدرى عنها، وتنتقل وتنتشر، وربما لم تعرف إلا بعد وفاته.
أما الدجال المشعوذ، يقول لك: تعال! شوف! يدعوك لرؤية ما عنده، ويتظاهر، ويتباهى بما عنده.
أما أولياء الله، إذا حصل لهم شيء فما يخبرون، فما يقول: أنا كنت في الصحراء وعطشت، وأوشكت على الموت، فرأيت الله أرسل لي قربة ماء بين السماء والأرض، فشربت منها، ما يقول هذا وإن حصل له، يكتمها من باب الإخلاص، حتى لا يدعي الولاية، ويتباهى بذلك، بخلاف ذلك المشعوذ.
ثم إن هؤلاء كثيراً ما يكون خرق العادة بالنسبة لهم من جهة التعاون مع الجن.
الجن -مثلاً- يخدعون أعين الناس.
الجن -مثلاً- يمكن أن يجعلوا سيخ الحديد يخترق جسد هذا المشعوذ، بدون قطرة دم، ويعينوه على أشياء.
وممكن يمشون على المسامير الحادة جداً.
وممكن يدخل النار ولا يصيبه شيء.
وقد يكون هذا الشيء الذي يفعله بحيلة -مثلاً- يطلي جسده بنوع زيت النارنج، أو يدهن نفسه ببعض الأشياء المقاومة للنار.
-الآن- في كراسي وجلود وأشياء مصنعة مقاومة للنار، مقاومة للاحتراق، يعني، يقول لك: هذه قاعة المحاضرات كلها ضد النار! ضد الاحتراق! يعني ما يحترق لا سجاد، ولا المقاعد، ولا السقف، ولا الجدران؛ لأنها مطلية كلها بمادة مقاومة للاحتراق، فيمكن أن يكون هؤلاء، كما ناظر ابن تيمية -رحمه الله- الفرقة البطائحية الصوفية المنحرفين.
قالوا: نحن ندخل النار ولا يضرنا! نحن وإياك!.
قال: أولاً: نغتسل كلنا! تغتسلون أمامي! أغسلكم أولاً! ثم أدخل أنا وأنتم إلى النار!.
فرفضوا ذلك!.
وقصة مناظرته لهم معروفة مشهورة.
الخلاصة: أن هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- من الأشياء التي حصلت لهم: كرامات الله لهم-.
ابتلاء الله للعباد بما شاء
وكذلك في هذه القصة أيضاً من الفوائد: أن الله يبتلي العباد بما يشاء.
مع أن هذه كانت ضربة ولا شك، وفي المجتمع المسلم أن يفقد عشرة من أفضل أفراده، لكن الله له حكمة: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].
يريد الله أن يكرم هؤلاء المسلمين، عنده جزاءً لهم، والله يريدهم لهذا الجزاء، والله يعلم أن ذهابهم إليه أفضل من بقائهم في الدنيا.
-الآن- حياة خبيب بعد الموت أفضل له من حياته قبل الموت، من ناحية الهم والغم، والحزن، والمرض، والشقاء، والتعب ما في، بعد الموت نعيم، لمثل هؤلاء.
-الآن- هو في قبره مرتاح إلى آخر درجة، يملأ عليه قبره خضراً إلى يوم يبعثون، ينور له، يأتيه عمله الصالح في أحسن حال، يفتح له باب إلى الجنة، فتحة الباب إلى الجنة هذه تكفي عن كل الذي في الدنيا، من أحسن قصر، ونظرته إلى أهله وماله من هذه الطاقة التي في القبر إلى الجنة، يعني ينظر إلى أهله الحور العين، وماله الذي هو في الجنة، وهو في القبر، أحسن له من كل الدنيا هذه.
ولذلك ليس شيئاً محزناً من جميع النواحي أن يقتل خبيب وأصحابه؛ لأن في المقابل في كرامة ونعيم عند الله أحسن من هذه الدنيا.
فالله من محبته لأوليائه يعجل بوفاتهم، يعجل برحيلهم عن الدنيا، هذا سر مهم أن الله يحبهم، فيريدهم أن ينتقلوا إليه بسرعة.
ماذا قال أبو بكر وعمر لأم أيمن لما بكت؟
قالا لها: "أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله؟".
ذهب أبو بكر وعمر ليزورا أم أيمن، كما كان النبي ﷺ يزورها في حياته. قالوا النبي ﷺ مات وكان له عادة حسنة في زيارة هذه العجوز، المرأة الكبيرة، أمه من الرضاعة، نواصل عادة النبيﷺ.
ذهبا إلى أم أيمن، لما جلسا عندها، العجوز الكبيرة -رضي الله عنها- بكت، ظنا أنها بكت حزناً على فراق النبي ﷺ وموته.
فقالا لها: "أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله؟" يعني ما عند الله أفضل من بقائه عندنا، الذي عند الله أفضل للنبي ﷺ، من بقائه عندنا، في الدنيا، هموم، غموم، وأحزان، وأمراض، ما عند الله خير وأبقى، قالت: نعم، تعلم ذلك، ولكنها تبكي أن الوحي قد انقطع [انظر الحديث رواه مسلم: 6472].
يعني الخسارة أنا خسرنا سورا، خسرنا توجيهات، خسرنا أشياء، خسرنا وحياً، الوحي انقطع، أحاديث، كان النبي ﷺ وحي يوحى، يقول لنا أحاديث، خسرنا أحاديث كنا سنسمعها، هكذا لأجل هذا حزنت.
سنن الفطرة
وكذلك في هذا الحديث: أن من سنن الفطرة: حلق العانة.
والفطرة سنن كثيرة، جاء مجموع عشر منها في حديث واحد، ومن أحاديث أخرى تصل إلى أكثر من عشرة.
فالمضمضة من سنن الفطرة، والاستنشاق من سنن الفطرة، والسواك من سنن الفطرة، واللحية من سنن الفطرة، وغسل البراجم والأشاجع، غسل ما بين الأصابع، وما كان في هذه الانثناءات الموجودة في الأصابع هذا من الفطرة؛ لأن يتجمع فيها الزهومة والوسخ، فغسلها والاعتناء بغسلها، اعتناء بغسل ما تثنى من الأصابع وما بين الأصابع، هذه من الفطرة، الختان من الفطرة، نتف الإبط من الفطرة، قص الأظافر من الفطرة، حلق العانة، ما حول القبل من الشعر الخشن من الفطرة، هذا الذي أراد أن يفعله خبيب .
وقد ذكر العلماء: أن الحلق بالموسى أفضل من القص بالنسبة للعانة، كما أن النتف في الإبط أفضل، لكن لو أزاله بأي مزيل جاز.
يعني لو واحد، قال: أنا لا أقوى على نتف الإبط! يؤلمني جداً! فهل يجوز أن أستخدم مزيلاً لإزالة الشعر الذي في الإبط؟
نقول: نعم، لا بأس بذلك، المهم الإزالة، منعاً للروائح الكريهة.
الإسلام يعتني بنظافة المسلم، بنظافة جسده، فتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وغسل البراجم، وكل هذه الأشياء التي وردت: الاستنشاق والاستنثار، هذه كلها نظافة للمسلم.
وأيضاً حفاظاً على الهيئة الحسنة، اللحية، وكذلك الختان، حتى لا يتجمع الأوساخ، تتجمع الأشياء الضارة، فلذلك صار الختان واجباً للذكور، مستحباً للإناث.
فالختان أيضاً من الفطرة.
فإذا، الدين يأمر بكل ما فيه تنظيف وتطهير وتطييب لجسد المسلم.
فالشاهد: أن الاستحداد -يعني استخدام الحديدة الموسى في حلاقة العانة أو الشفرة- أفضل من قصه أو إزالته بأي مزيل، مع أن الإزالة بأي مزيل آخر جائز.
التجسس في الحرب
وكذلك في هذا الحديث: أن التجسس في الحرب من الأشياء التي كان النبي ﷺ يهتم بها.
وهذا من باب الأخذ بالأسباب، يعرف ماذا تفعل قريش، ماذا يريدون، ماذا يخططون، هل خرج منهم جيش، هل خرجوا يريدون المدينة بسوء.
الأثر يدل على المسير
وكذلك في هذا الحديث: أن الأثر يدل على أصحابه، فهؤلاء اكتشفوا المسلمين من نواة صغيرة، قالوا: هذا نوى يثرب! النوى الذي عندنا طويل، كبير، في منطقتنا، هذا النوى نوى يثرب صغير، نوى صغار.
ولذلك ينبغي على المسلم: أن يحتاط ولا يترك وراءه أثراً يدل العدو عليه.
أهمية الخبرة في الحروب
وأن الخبرة نافعة في الحروب.
هذه المرأة لما كانت تعرف يثرب، فخبرتها هذه كانت بالنسبة لقومها مهمة، دلتهم على المسلمين، فالخبرة حتى بطعام الطرف الآخر، الخبرة بطعام العدو مفيد، فيكون الأثر دالاً على القوم.
عزة المسلم:
كذلك فيه عزة المسلم، عندما رفض عاصم بن ثابت النزول أسيراً عند الكفار، قال: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر.
هذه عزة المسلم، وأنه رفض أن يكون تحت أسر كافر، أو يقع ذليلاً عند الكافر؛ لأن الأسير ذليل، فرفض الذل، وقال أبداً، ولم ينزل أسيراً عليهم، وإنما قاتل حتى قتل.
أهمية الرمي في الإسلام
وفيه: أن الرمي قوة. هؤلاء الرماة، ولذلك قتلوا سبعة رمياً بالنبل. وفيه: أهمية الرمي، والنبي ﷺ قال: ألا إن القوة الرمي [رواه مسلم: 5055].
دور الأخلاق الحسنة في نشر الإسلام
وفي هذا الحديث كذلك: أن المسلم يعكس بخلقه الحسن، وتصرفه الطيب، صورة مشرقة عن دين الإسلام.
هذا خبيب بتصرفه الحسن، وهو في بيت المرأة هذه عندها من بني الحارث، لما رأت أفعاله، ولما رأت كيف أنه ترك الولد من غير أن يمسه بسوء، مع أنه قادر على نحره، قادر على أن ينحر الولد، وهو مقتول مقتول، ينتقم منهم قبل قتله، لكنه لما لم يفعل، كسب في نفس هذه المشركة، ومن نقلت الخبر إليه، موقعاً عظيماً، ولذلك المرأة، قالت: "والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب".
وكذلك في هذا الحديث: أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
تعظيم قريش للأشهر الحرم
وفي الحديث: تعظيم قريش للحرم، وأنهم حتى وهم مشركون، ما كانوا يقتلون الأسرى في الحرم، فيخرجونهم خارج الحرم، ولا يقتلونهم في الأشهر الحرم.
بعض المسلمين سينتهكون حرمات الشهر الحرام، والبلد الحرام، يفعلون فيه من الموبقات والأشياء، ما أن بعض الكفار لا يفعله، وهذا يدل على هوان هذا، منزلة الحرم في نفوس بعض المسلمين.
ولذلك -مع الأسف- تجدهم في الحرم، ربما يلحقوا امرأة، ويعملوا منكراً، وينظر إلى المرأة الأجنبية، وربما فعل أشياء، يعني لولا لطف الله لجاء العذاب؛ لأن الله يغار على حرماته، يغار أن تنتهك حرماته ، كيف إذا انتهكت حرماته في الحرم؟! وفي المسجد الحرام؟! أنبئوني!. فهؤلاء إذا ذهبت ورأيت هؤلاء الذين بلغ بهم الفسق هذه الغاية، حتى في حرم الله ما يتورعون عن فعل المعاصي الشنيعة، لربما واعد امرأة في الحرم، فلذلك المسألة في غاية الخطورة!.
هؤلاء الكفار عندهم اعتبار وزن قدسية للمكان، ما قتلوا خبيبا داخل، أخرجوه إلى التنعيم.
مشروعية صلاة ركعتين عند القتل
وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: مشروعية صلاة ركعتين عند القتل.
في الرواية قال: فكان خبيب أول من سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا.
-طبعاً- ما أحد يشرع في الدين إلا الله ورسوله بأمر الله، فكيف نفهم هذا؟
نفهمه بإقرار النبي ﷺ، يعني لما النبي ﷺ أقر خبيباً على فعله، وما أنكره، ووصلت القصة، ولم يعترض النبي ﷺ على هذا الفعل، ولا قال: رحمه الله أخطأ -مثلاً-، أو أن هذا لا يجوز، ونحو ذلك، وإنما أقره، عرف أن من هنا صارت هاتين الركعتين مشروعة عند القتل، فيشرع للمسلم إذا قدم للقتل أن يصلي ركعتين.
الدعاء على الكفار
وفيه -كذلك-: الدعاء على الكفار بهذا الدعاء: "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا".
فالدعاء على الكفار يدل على العداء في نفس المسلم لهم.
أما بعض الناس الذين يقولون: ما نريد الدعاء على الكفار.... الكفار إخوة في الإنسانية! ولا بد أن يكون عندنا تعايش سلمي مع الكفار، ويعني اليهود والنصارى والمسلمون كلهم أصحاب ديانات سماوية! وكلهم يعني إخوان! ويسمونها الملة الإبراهيمية!.
ما الملة الإبراهيمية؟
يكون يعني النصارى واليهود والمسلمون كلهم يجتمعون في إبراهيم!.
لماذا ما نسوي وحدة أديان؟! وزمالة أديان؟!.
خلاص كلهم الملة الإبراهيمية! ونجتمع في إبراهيم! يعني نسميها: الملة الإبراهيمية، ونتآخى ونعيش بسلام؟!.
نقول:
أين: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123]؟
وأين قول الله -تعالى-: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]؟
هذه الآيات الأخيرة التي نزلت من القرآن.
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36].
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:14-15].
قَاتِلُوهُمْ الله يقول: قَاتِلُوهُمْ ومنهم من يقول: نحن وإياهم في سلام وإخاء ووئام! والملة! وإخوان في الإنسانية! والملة الإبراهيمية! وزمالة الأديان! ويعني لماذا ما نعمل مع النصارى؟ ونزورهم؟ ونعمل معهم مناقشات للتقريب بين الأديان؟!.
التقريب بين الأديان! دعوة ماسونية، من أكفر الكفر الموجود على الأرض!.
كيف تقرب بين من يقول: "لا إله إلا الله، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" وبين واحد يقول: "عيسى هو الله! عيسى ثالث ثلاثة؟!"
هو واحد من أمرين: إما أن نقترب منهم، أو هم يقتربوا منا.
إذا اقتربنا منهم يعني كفرنا، إذا اقتربوا منا يعني أسلموا، في النهاية يسلمون.
فإذا كان المراد بالتقريب أن نقربهم إلى ديننا نحن، وما نتنازل عن شيء، فنعم.
أما أن نقول: نحن نتنازل عن الجهاد! وأنتم تتنازلون عن كذا! فمعنى ذلك: أن المسألة صارت كما يقولون: شوربة! لأن الإسلام دين متميز، لا يقبل الله -تعالى- غيره: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
ما في نصف إسلام! وربع إسلام! وعشر إسلام! الإسلام كل لا يتجزأ! خذوا الإسلام جملة أو دعوه، لا يمكن أننا نقبل بأنصاف حلول، أو نقول هذا بعض الإسلام.
إذا كنا عاجزين عن الجهاد، فإننا نشكو أمرنا إلى الله، ونعد العدة.
أما أن نقول: ألغينا الجهاد في الإسلام! هذه مصيبة! لا يمكن لأحد أن يلغي شيئاً من شريعة الله ، ولا يُلغى أصلاً حتى لو ألغاه! هو من هو حتى يلغيه؟! هو باق إلى قيام الساعة.
فعلى أية حال: إن هذا الدين متين، وقد أنزله الله -تعالى- ليبقى.
إثبات الذات لله عزوجل
وأيضاً في هذا الحديث من الفوائد العقدية: إثبات الذات لله ؛ لأنه قال:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزعِ |
لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها
وفيه: أن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها، يعني هو إذا مات الإنسان في سبيل الله، بعد ذلك مثَّلوا به، شرحوه، قطعوه، ما يضره، فإن على أي جنب يقع ما هو مشكلة، القضية أن يموت في سبيل الله.
ولست أبالي حين أقتل مسلماً | على أي شقٍ كان لله مصرعي |
ليس مهما أن يقع هنا، أو في الناحية الأخرى، المهم أن يقتل مسلماً في سبيل الله، والله إذا رضي يبارك على أوصال مقطعة ممزعة، يبارك عليها، ويقبل عمل صاحبها.
خوف بعض الكفار من الدعاء عليه
وكذلك في هذا الحديث: أن بعض الكفار كان يخشى من الدعاء عليه، ولذلك بعض من حضر قتل خبيب أغمي عليه.
وكانت دعوة خبيب لها أثر عظيم عليهم، بل ربما كانت مقدمة لإسلام بعض هؤلاء.
يعني بعض الكفار لما أسلموا، ما أسلموا من أول حدث، أو من أول خبر سمعوه، بل توالت عليه عدة أحداث، حتى وقر في قلبه الإسلام أو الإيمان وأسلم.
فلا شك أن هذا المنظر المؤثر، خصوصاً: أن أبا سفيان يقول في بعض الروايات لخبيب، وهو مربوط مصلوب على خشبة ليقتل: "أيسرك أن محمداً مكانك وأنك لا تشاك بشوكة" سليم، ما عليك شيء "ومحمد ﷺ مكانك" فقال: لا، أبداً، وهو في هذه الحال، -الآن- في هذه الحال ما قال: لو أن محمداً مكاني وأنا نجوت، كان يعني أسر بذلك. كلا، وإنما أصر على موقفه إلى أن مات رضي الله -تعالى- عنه [انظر: الدرر في اختصار المغازي والسير: /160 - 161].
ولا شك أن هذا الموقف له أثر في نفوس المشركين، لما يرون من تعظيم النبي -عليه الصلاة والسلام- عند المسلمين.
والحديث فيه فوائد كثيرة، نكتفي بهذا منها.
ونسأل الله أن يرحم أولئك النفر، وأن يلحقنا بهم، وألحقنا بالصالحين.