الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لهو، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباًالنساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً[الأحزاب70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هجوم التتر على بلاد المسلمين، وظهور المجاهد شيخ الاسلام
إخواني المسلمين إن في التاريخ الإسلامي لعبر، وحوادث جرت بتقدير الله ؛ لابد أن يكون لنا فيها الاتعاظ الكامل بما حدث؛ لأن التاريخ يعيد نفسه غالباً؛ ولأن سنة الله ، وسننه في الكون لا تتغير، ولا تتبدل فلا بد من الاعتبار الذي أمر الله تعالى به.
وكان من الفتن العظيمة التي حدثت في تاريخ المسلمين؛ غزو التتار الكفار لبلاد المسلمين، ومبدأ هذا الأمر قد يكون فيه مخالفة لحديث رسول الله ﷺ الحسن الذي قال فيه: دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم [رواه أبو داود4302]. فإن هؤلاء من الترك الذين نهى الرسول ﷺ من الاقتراب إليهم، فحصل أن بعض المسلمين من أهل خوارزم قد آذوهم، فكان ذلك بداية امتلاكهم في الأرض فهجموا على بلاد المسلمين بأعداد كبيرة، وبوحشية بالغة، فقتلوا، ودمروا من في طريقهم من نفوس المسلمين، وأملاكهم، حتى قتل في مدينة بغداد وحدها ما يربو على ألف ألف إنسان، وفاضت خيول التتر في دماء المسلمين إلى ركبها التي في أيديها.
وكان أيها الإخوة: هذا الأمر بمثابة صدمة عظيمة للمسلمين، وجرت وقائع كثيرة، وامتدت فتنتهم سنين عديدة، حتى وصلت إلى عهد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فكانت الأحوال مضطربة، وكانت مدينة دمشق تحت تهديد عظيم من التتر، وكان الجامع لا يتكامل فيه الصف الأول، وما بعده إلا بجهد جهيد.
وبعد ذلك أيها الإخوة: في وسط هذه الظلمة الضخمة الهائلة على بلاد المسلمين، قيض الله تعالى لها مجدداً ربانياً أحيا الشريعة، ونافح على الدين، وقاد الأمة إلى الجهاد، ووضح العقيدة، ووضح المنهج، وربى أتباعه على الإسلام فاستقامت له النفوس، وصلحت، فحقق الله على يديه من إيقاف غزو أولئك الكفرة، ما يعجز مئات الناس عن تحقيقه.
ومن ذلك أيها الإخوة: أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما قدم التتر إلى أطراف البلد، وبقي الخلق في شدة عظيمة اجتمع بعض الناس في مدينة دمشق، وقرروا الخروج إلى قائد التتر لعلهم يثنونه على عزيمته في دخول المدينة، فوقف أمامه الشيخ رحمه الله تعالى، وقال له: "أنت تزعم أنك مسلم، ومعك مؤذنون، وقاض، وإمام، وشيخ على ما بلغنا، فغزوتنا، وبلغت بلادنا على ماذا"؟، وقرب إلى الجماعة يعني المسلمين طعام فأكلوا منه إلا الشيخ، فقيل له: ألا تأكل؟، فقال: "كيف آكل من طعامكم، وكله من مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس" يعني المسلمين، ثم أن قازان قائد التتر طلب من الشيخ الدعاء، فقال الشيخ في دعاءه: "اللهم إن كان هذا عبدك إنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فانصره، وأيده، وإن كان إنما قام رياءً، وسمعة، وطلباً للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا، وليذل الإسلام وأهله، فخذله، وزلزله، ودمره، واقطع دابره"، قال الراوي: وقازان يؤمن على دعاء الشيخ، ويرفع يديه، وقد ألقى الله تعالى في قلب التتر مهابة شيخ الإسلام، فكانوا يخافونه.
ثم أنه بعد ذلك حدثت موقعة شقحب المشهورة، التي كان فيها أول انتصار للمسلمين على التتر، وكان المحرك والسبب الذي قيضه الله لهذا الانتصار هو شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فإنه قد اشترك بنفسه، ودعاءه، وعلمه، وتعليمه للناس، فكان يمر عليهم، ويعدهم بالنصر، ويقرأ عليهم آيات الجهاد، وكانت الموقعة في رمضان، فجعل يأكل، ويفطر أمامهم، ويأمرهم بالفطر، ويتأول حديث رسول الله ﷺ: إنكم ملاقوا العدو غداً فأفطروا فإنه أقوى لكم[رواه مسلم1120]. وجعل يفطر أمامهم معلماً إياهم، ثم أنه جعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إن المسلمين لمنصورون، فكان بعض الناس يقولون له: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقاً لا تعليقاً، وكان يتأول آيات القرآن، ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُالحج60. فصار انتصار المسلمين على يديه، بفضل الله تعالى.
ابتلاء المسلمين على مَرِّ العصور
هذا أيها الإخوة: مختصر القصة، والأحداث فيها طويلة، ولكن لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة مهمة في هذا الشأن فيها قواعد عظيمة للشريعة، وفيها استنباطات من القرآن الكريم، وسيرة رسول الله ﷺ ما يعجز عن الإتيان به أجلاء العلماء، ونظراً لأهمية هذا الكلام فإني أسوق إليكم لنأخذ منه بعد ذلك دروساً عظيمة في واقعنا المعاصر، يقول: "فإن هذه الفتن التي أبتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام قد جرى فيها شبيه ما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله ﷺ في مغازي فكان فيها أسوة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً إلى يوم القيامة، وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم".
هذا كلام مهم أيها الإخوة: "ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمنين من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان الكافر والمنافق من المتقدمين".
وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىالنازعات25-26. لعبرة، وقال تعالى في محاصرة النبي ﷺ لبني النضير اليهود: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواالحشر2. إلى أن قال الله في آخر الآيات فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِالحشر2.
فأمرنا بأن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم، وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مضطربة، وعادة مستمرة، فقال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاًالأحزاب60. ثم قال : سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاًالأحزاب:62. فهذه السنة في تشريد المنافقين، وهزيمتهم ستتكرر على طول الأزمان، وتكرار الأيام، والسنين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله، وأيامه في عباده، ودأب الأمم، وعاداتهم لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناحية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه، وأضراسه، وكاد فيها عمود الإسلام أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، فتنة عظيمة فتنة التتار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون، والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوماً بورا.
فتنة التتر على بلاد المسلمين، ومشابهتها عند شيخ الاسلام لغزوة أحد، والاحزاب
ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاح منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم، ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل على أن يضيف اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر، والإيقان، من الذين في قلوبهم مرض، أو نفاق، أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية.
فإن الناس يعني في هذه الحادثة أيها الإخوة: حادثة التتار، واستيلاءهم على ديار المسلمين، وقارنوا هذا باستلاء اليهود اليوم على بلاد المسلمين، واعتبروا بهذه الحادثة؛ لأن فيها مخرجا؛ ولأن فيها عبرة؛ ولأن فيها سنة نسأل الله أن تتكرر في أزماننا هذه، فتفرق الناس ما بين شقي، وسعيد كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه، وأمه وأبيه إذ كان لكل أمرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه يعني: من التتار لا يلوي على ماله، ولا على ولده، ولا على عرسه، وكان فيهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، كما حمد ربه من صدق في إيمان، فاتخذ مع الرسول سبيلا، وواطأت قلوب المؤمنين من هذه الأمة المحدثون تواطأت عليها المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فتحزب الناس في تلك الحادثة ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصرة الدين، وآخر خادم له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.
ثم عقد ابن تيمية رحمه الله تعالى مشابهة عظيمة بين غزوة أحد، وهذه الغزوة والمعركة مع التتار، فقال: "مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة، وخطايا واضحة من فساد النيات، والفخر، والخيلاء، والظلم، والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة، والروم، مثل ما حدث في غزوة أحد، ثم بعد ذلك أناب بعضهم إلى ربهم، وعزموا على نصرة شرع الله، فكانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة، وقيل سنتين قد ابتلي المسلمين بغزوة الخندق، فكذلك في هذه الأيام ابتلي المسلمين بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون به في عام الخندق، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عام الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة، والعامة يسمون الزنادقة".
وفي هذه الأيام أيها الإخوة: في صفوف المسلمين كثير من المنافقين الذين يجب أن تجرى عليهم أحكام الزنادقة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم -الكلام لشيخ الإسلام- ميل إلى دولة هؤلاء التتار يعني: دولة الكفار لكونهم، لا يلزمونهم بشريعة الإسلام لماذا يميلون إلى التتار الكفار؟ لأنهم لا يلزمونهم بشريعة الإسلام، ويطبقون عليهم الحدود والشرع، بل يتركونهم، وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا فقط لا لأنهم أعداء الله، واجترائهم على الدماء، والسبي، وأما وصفهم بالجبن، والفزع، يعني حال المسلمين لما جاء التتار، قال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَالتوبة56-57.
فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين، فما هم منهم، ولكن يفزعون من العدو، فلو يجدون ملجأ إليه في الحصون، والمعاقل يفرون من الجهاد لفروا إليها، ومغارات سميت بالمغارات: من الحفر التي يغور فيها الماء، كذلك هذه الحفرة في الجبل يغور فيها الإنسان لولو إليها وهم يجمحون هذا وصف منطبق.
يقول شيخ الإسلام على أقوام كثيرين في حادثتنا، وفي قبل ما هذه الحوادث: "فإن المسلمين جعلوا يفرون من مدينة دمشق يأخذ واحد منهم أهله، وأمواله، وما استطاع؛ يفر بهم من الجهاد، فيقول: فإذا قرأ الإنسان سورة الأحزاب، وعرف من المنقولات في الحديث، والتفسير، والفقه والمغازي، كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن؟ وجد مصداق ما ذكرنا، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى ثلاثة أقسام، ويقول إن الله افتتح سورة الأحزاب بذكر الأقسام الثلاثة فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَالأحزاب1. وقال في أثناء السورة: وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَالأحزاب47-48.
هذه الثلاثة الأصناف أيها الإخوة: المؤمنون، والكافرون، والمنافقون، موجودة في كل عصر، ومصر، لا تكاد الدنيا تخلو من هذه الأصناف الثلاثة، وذكر أن في غزوة الأحزاب تحزبت قريش وحلفاؤها، من بني أسد، وأشجع، وفزارة، وغيرها من قبائل نجد، واجتمعت اليهود من قريظة، والنضير اجتمعوا على المسلمين، قال وفي هذه الحادثة: تحزب هذا العدو من مغل، وغيرهم من أنواع التتار من فرس، ومستعربة، ونحوهم من أجناس مرقدة، ومن ونصارى الأرمن، وغيرهم، ونزلوا بجانب ديار المسلمين بإزاء مدن المسلمين، ومنها مدينة دمشق، ومقصودهم الاستيلاء على الديار كما نزل أولئك من نواحي المدينة، وأرادوا الاستيلاء على مدينة رسول الله ﷺ يقول: وهذا العدو عبر الفرات سابع عاشر ربيع الآخر، وكان أول انصرافه في الهزيمة لما رجع مقدمهم الكبير قازان، ومن معه يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جماد الأولى، يعني كان مدة انهزامهم من بدأ القتال إلى انتهاء القتال تقريباً أربع وعشرين يوم، بضعة وعشرين يوماً.
فيقول: "وهذا ما حدث في غزوة الخندق، فإن المشركين اقاموا عند الخندق بضعة وعشرين يوماً، ثم صرفهم الله تعالى، ثم قال: "وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة صرف الله الأحزاب عن المدينة بها كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَاالأحزاب9. وهكذا في هذا العام، يقول: عن التتار أكثر الله فيه الثلج، والمطر، والبرد، حتى كره عن ذلك أكثر الناس، وكنا نقول لهم، يعني هو ومن معهم لا تكرهوا ذلك، فإن لله فيه حكمة، ورحمة، وكان ذلك يعني: الثلج والمطر الذي نزل، والبرد؛ من أعظم الأسباب التي صرف الله فيها العدو التتار، فإنه كثر عليهم الثلج، والمطر، والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضاً منهم ما شاء الله، وظهر في بقية خيلهم، وفيهم من الضعف والعجز بسبب البرد، والجوع ما رأوا أنه لا طاقة لهم معه بقتال، ولا بغيره حتى بلغني عن بعض كبار المسلمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا! عدونا في الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم من الضعف الذي حل في بعض نفوس المسلمين.
وقال الله تعالى في غزوة الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَالأحزاب10.
فيقول فجاء العدو التتار فعلاً من فوق المسلمين،ومن أسفلهم من جهتي الفرات فزاغت الأبصار زيغاً عظيماً، وبلغت القلوب الحناجر، ويظن بعض المسلمين أنه لا يقف قدام التتار أحد من جند الشام، وبعضهم قال: إن أرض الشام ما بقيت تسكن، وما بقيت تكون حتى مملكة الإسلام، وبعضهم يقول: لابد من الدخول في مملكة التتار؛ لأن لهم الغلبة، وبعضهم فر إلى اليمن، وقال تعالى: عن المنافقين في غزوة الخندق: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراًالأحزاب12.
المنافقون في غزوة الخندق أيها الإخوة: يثبطون المسلمون، ويقولون لهم: أين الوعد بالنصر، وأحدكم لا يستطيع أن يقضي حاجته! كذلك يقول شيخ الإسلام: كثير من المرجفين في مدينة دمشق يقولون للمسلمين: لا مقام لكم هنا العدو كثير اهربوا من المدينة، وقال بعضهم: لا مقام لكم على دين محمد، فرجعوا على دين الشرك هذا كلام المنافقين في غزوة الخندق ماذا قال المرجفون في دمشق في أيام التتر قالوا: لا مقام لكم على شريعة الإسلام، فأدخلوا في شريعة التتار وتحكيم الياسق فيكم.
وهؤلاء أيها الإخوة: هؤلاء من المرجفين المنافقين الخطر من الداخل يكون أكثر من الخطر الذي يكون من الخارج هذا جزء مما حدث، وسنتابع معكم بقية هذه الغزوة العظيمة إن شاء الله في الخطبة القادمة وصلى الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.
أنواع الفتن التي نزلت على المسلمين بقدوم التتر
يقول شيخ الإسلام أيها الإخوة: "وقد حل بقدوم هؤلاء التتر أنواع من الفتن من ترك واجبات، وفعل محرمات إما في حق الله، وإما في حق العباد تركت الصلاة، وشربت الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، وتجسس عليهم من قبل بعض المسلمين، فدلوا التتر على عوراتهم، وعلى أموالهم، وعلى حريمهم، فأخذوا أموال المسلمين وحريمهم، مثل ما دل اليهود بعض كفار قريش على عورات المسلمين في المدينة، فكانوا يدخلون إليهم الأخبار، فيقول: قال الله تعالى في شأن غزوة الخندق: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاًالأحزاب16.
فيقول عن تلك الحادثة والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن، فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا، وتفاوتوا في المصائب، والمرابطون التائبون نفعهم الله في دينهم، ودنياهم، فمات في هربهم من الهاربين مات من شاء الله منهم، والطالبون للعدو، والمعاقبون له لم يمت منهم أحد، ولا قتل من المسلمين، بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون سبحان الله العظيم إذا خرجت العناصر الفاسدة المفسدة جاء نصر الله تعالى.
وهكذا سنة الله قديماً وحديثاً، وقد ذكر أهل السيرة أن رسول الله ﷺ قال بعد غزوة الخندق: الآن نغزوهم ولا يغزونا[رواه البخاري4110]. فما غزت قريش، ولا غطفان، ولا اليهود المسلمين بعدها بل غزاهم المسلمون، فيقول: كذلك إن شاء الله هؤلاء أصحابي من المغل، ومن الفرس، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام الآن نغزوهم، ولا يغزونا، ولما انكسرت الشركة في هذه المعركة أيها الإخوة: فعلاً ما عاد للتتار موطئ قدم في بلاد المسلمين، ورجعوا إلى بلادهم.
وكذلك قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاًالأحزاب25. فكذلك بهذه المعركة لما هم العدو بفتح الشام والاستيلاء عليها ردهم الله بغيضهم بما أصابهم من الثلج العظيم، والبرد الشديد، والريح العاصفة، والجوع المزعج ما الله به عليم، وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج التي وقعت في هذه العام حتى طلبوا الاستسقاء غير مرة، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة، وسر فلا تكرهوه.
فكان من حكمته أنه فيما قيل: أصاب قاذان وجنوده حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل سبب رحيلهم، وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغولي، والكردي، وغيرهم فألقى بينهم تباغضاً، وتعادياً، فتشتت شملهم وأمرهم كما فرق الله في غزوة الأحزاب بين طوائف المشركين.
حاجة الامة في هذا العصر الى من يجدد لها أمر دينها
أيها الإخوة: ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى علماء، ومجددين يجددون شرع الله، ويحيون هذه النفوس الميته التي خربت، ولم يعد فيها للإسلام عمار، ولا قوام ما أحوج الأمة اليوم إلى علماء ربانيين يقومون في هذه الأمة، فيحيون سنة الرسول ﷺ، ويجمعون الناس على الهدى، ويوحدون الصفوف أمام أعداء الإسلام، وإن الله قد وعد أنه سيظهر على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وإن العالم الإسلامي اليوم يعيش في ضعف، وخور، وجبن، وانهزام نفسي، ومادي أمام أعداء الإسلام، وقد آن الأوان أمام هذه الظلمة لظهور هذا المجدد الذي هو إما أن يكون فرداً أو جماعة، فإن حديث المجدد ورد بلفظة من يجدد لهذه الأمة، وهي تتناول الواحدة، والجماعة، وقد آن الأوان لظهور المجدين الذين يحييون سنة رسول الله ﷺ.
فما أحوجنا أيها الإخوة: إلى الالتفاف نحو العلماء المخلصين، والمجددين الذين سيظهرهم الله تعالى إن ظهروا، ومناصرتهم على الحق حتى يعم الإسلام في أرجاء الأرض، وإن هذا سيأتي أيها الإخوة، لا تيأسوا من روح الله، ولا تيأسوا من رحمته مهما بلغ المستوى في الانحداد، والنزول فإنه لابد لسنة الله أن تتحقق، ولابد لنصر الله أن يأتي. لكن أيها الإخوة لا يأتي النصر على مثل هذه النفوس الضعيفة التي نراها اليوم في المسلمين لابد من تغيير النفوس إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْالرعد11.
هلا غيرنا من أنفسنا أيها الإخوة، هلا حلمنا أنفسنا على الطاعات، وعلى شرع الله، وعزلناها عن المعاصي، والمحرمات لابد من تغيير حتى تنطبق القاعدة، وكذلك درس لكل داعية إلى الله تعالى في ربط الواقع بسيرة رسول الله ﷺ كما قدمنا من ربط شيخ الإسلام، انظروا إلى هذا الربط العظيم الذي لا يستطيع فعله، وعمله، وكتابته إلا من عاصر واقعه، واشترك بنفسه، وماله اشتراكاً فعلياً غير بعيد عن الأمور، فإن الذي يدخل في دين الله، ويطبق شرعه هو الذي يحقق الله النصر على يديه إن شاء.
اللهم قيض لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا رب العالمين.
اللهم واحمي ديار المسلمين من أعداء الإسلام، اللهم ثبت الأمن والاستقرار في بلدنا، وبلاد المسلمين، اللهم وجعل بلدنا هذا سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا،واستغفر الله لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.