الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
معنى الإيثار
فحديثنا هذه الليلة ضمن سلسلة الأخلاق الحسنة عن خُلقٍ عظيمٍ مأخوذٍ ومذكورٍ في قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[الحشر:8]. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الحشر:9]. فما هو هذا الخلق الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة؟ إنَّه الإيثار؛ لأنَّ الله يقول في هذه الآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فأمَّا الإيثار فمعناه: أن تفضِّل غيرك على نفسك وتقدِّم غيرك على نفسك، وهذا معنى قول الله : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فيقدِّمون غيرهم على أنفسهم، والإيثار: هو تقديم الغير على النَّفس وحظوظها الدُّنيوية رغبةً في الحظوظ الأخروية، وهذا الخلق العظيم يقابل الأثرة، فالإيثار ضدُّ الأثرة، والأثرة معناها: الاستئثار بالشَّيء ومنعه من الغير، وهذا الخلق وهو الإيثار ناشيءٌ عن عددٍ من الأخلاق الأخرى والمبادئ الأخرى التي إذا استقرَّت في النَّفس أنتجت هذا الخلق، فالإيثار ينشئ عن قوة اليقين والمحبة الأكيدة للمؤمنين والصَّبر على المشقَّة، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌوالإيثار أيضاً ضدُّ الشُّح، فإنَّ المؤثر على نفسه يترك شيئاً يحتاج إليه من أجل غيره، أمَّا الشَّحيح فهو حريصٌ على ما بيده فإذا حصل شيءٌ بيده شحَّ عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشُّح، فالشَّح يأمر بالبخل كما قال النَّبيُّ ﷺ: إيَّاكم والشُّح فإنَّ الشَّح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطعية فقطعوا[رواه أبو داود1700، وصححه الألباني في سنن أبي داود1698]. فإذاً: هناك خلقان متضادان: الإيثار والأثرة، والأثرة ناشئة عن الشُّح والبخل،
سبب نزول آية الإيثار
والإيثار المذكور في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ فقد ورد في سبب نزولها عدة أشياء، وأشهرها: ما ورد في سبب نزول هذه الآية الحديث الصَّحيح الذي أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أصابني الجهد، فأرسل إلى بعض نسائه يطلب طعاماً لهذا الجائع، فقالت: والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلَّا ماء، ثُمَّ أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كُلُّهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلَّا ماء، فقال النَّبيُّ ﷺ: من يضيف هذا الليلة رحمه الله دعا له بالرَّحمة، والدُّعاء من النَّبيِّ ﷺ ليس أمراً سهلاً، ولذلك كانت حافزاً لأن ينطلق رجلٌ وينبعث إلى أهله، قال: فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟ قالت: لا، إلَّا قوت صبياني، قال: "فعلِّليهم بشيءٍ" علِّليهم: تلهيةٌ وإشغالٌ بشيءٍ لتسكيت هذا الجوع، "علِّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السِّراج وأريه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السِّراج حتى تطفيئه قال: فقعدوا وأكل الضَّيف، فلمَّا أصبح غدا على النَّبيِّ ﷺ فقال: قد عجب الله من صنعيكما بضيفكما الليلة[رواه مسلم2054]. هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ ﷺ فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلَّا الماء، فقال رسول الله ﷺ: من يضيِّف هذا فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، فهذا ليس ضيفاً عادياً هذا ضيف رسول الله ﷺ، فقالت: ما عندنا إلَّا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومِّي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهذه الخطَّة حتى لا يحرج الضَّيف من الطَّعام، قال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك، يعني: أوقديه وأشعليه، ونومِّي صبيانك، هناك: علِّليهم بشيءٍ وهنا نوِّميهم، فتعلِّلهم حتى يناموا، فهيَّأت طعامها وأصبحت سراجها ونوَّمت صبيانها، ثُمَّ قامت كأنَّها تُصلح سراجها فأطفأته، يعني: كُلُّ ذلك لأجل ألَّا يُحرج الرَّجل، فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فبعض النَّاس رُبَّما يحصل عنده لبسٌ في بعض القصص، وتكون القصَّة مثلاً: قبل نزول آية الحجاب لما كان لا يحرم النَّظر وجلوس المرأة مع الرِّجال الأجانب، فلا يلتبس هذا علينا فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، وهذه أيضاً تمثيليةٌ أخرى من أجل ألَّا يحس الرَّجل بالحرج فيتظاهران بالأكل، فالرَّجل وزوجته والأولاد كُلُّهم ناموا على جوعٍ، فلمَّا أصبح غدا إلى رسول اللهﷺ وذهب مع الضَّيف إلى النَّبيِّ ﷺ فقال: ضحك الله أو عجب من فعالكما إذا ضحك الله إلى عبدٍ فلن يعدم خيراً من ربٍّ يضحك، كما قال الأعرابي: وإذا ضحك ربُّك إلى عبدٍ فهذا دليلٌ على رضاه ، فالضَّحك حقيقيٌّ يليق بجلاله وعظمته، وهو دليلٌ على رضا الرَّب ، فالله ضحك وعجب من صنيع هذا الرَّجل الذي بيت أولاده على جوعٍ ونفسه وزوجته من أجل ضيف النَّبيِّ ﷺ: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[رواه البخاري3587]. وفي رواية أخرى للبخاري: عن أبي هريرة أيضاً قال: أتى رجلٌ رسولَ الله ﷺ فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، والرِّواية الأخرى: الماء فقط، فقال رسول اللهﷺ: ألَّا رجلٌ يضيفه هذه الليلة يرحمه الله فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله ﷺ لا تدخريه شيئاً، ضعي كُلَّ ما عندك، قالت: والله ما عندي إلَّا قوت الصِّبيان، قال: فإذا أراد الصِّبية العشاء فنوِّميهم وتعالي فأطفئي السِّراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت، ثُمَّ غدا الرَّجل على رسول الله ﷺ فقال: لقد عجب الله أو ضحك من فلان وفلانة بالاسم يعني: الرَّجل وزوجته، فأنزل الله : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [رواه البخاري4607]. فأمَّا معنى الخصاصة: فالخصاصة: هي الحاجة وليست الحاجة العادية؛ لكنَّها الحاجة الشَّديدة -كما يقول أهل اللُّغة- التي تختل بها الحال، يعني: إذا وقع الإنسان فيها اختلَّت أحواله، وأصلها من الاختصاص: وهو انفراد بالأمر، فالخصاصة: الانفراد بالحاجة، فمعنى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ يقدِّمون غيرهم ويعطون غيرهم على أنفسهم، ولو كانوا هم في فاقةٍ وحاجةٍ شديدةٍ، وردت قصصٌ أخرى في سبب نزول هذه الآية ذكرها بعض المفسِّرين مثل: بعض الرِّوايات التي فيها: ثابت بن قيس ورجلٌ من الأنصار نزل به ثابتٌ يُقال له أبو المتوكِّل، وهذه فيها تسمية الشَّخص الذي نزل عليه، وكذلك من الرِّوايات التي ذُكرت: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاةٍ فقال: إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منَّا، فبعثه إليهم فلم يزل يبعث به واحداً إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، كُلُّ واحدٍ يأتيه الرَّأس يقول: هذا جاري أحوج مني فيرسله والجار يرسله إلى شخصٍ ثالث ورابع وهكذا حتى تداوله سبعةُ أبياتٍ حتى رجعت إلى أولئك يعني إلى الأولين فنزلت:وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وفي رواية: أُهدي لرجلٍ من الصَّحابة رأس شاة وكان مجهوداً فوجَّه به إلى جار له فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثُمَّ عاد إلى الأوَّل فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وقال ابن عباس -في رواية أيضاً عن سبب نزولها- قال النَّبيُّ ﷺ للأنصار يوم بني النَّضير: إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئاًفقالت الأنصار: "بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة" أي: نعطيهم من ديارنا وأموالنا والغنيمة لهم خاصَّة ولا نشاركهم فيها، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الآية. والأصحُّ من القصص في سبب النُّزول هي القصَّة التي في الصَّحيحين في خبر الرَّجل وزوجته في إكرام ضيف رسول الله ﷺ[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي18/25].
من مواقف الإيثار عند الصَّحابة
والنَّبيُّ ﷺ لما جاء إلى المدينة مع الصَّحابة حصلت مواقفٌ عظيمةٌ من الإيثار؛ لأنَّ المهاجرين جاؤوا فقراء، فما الذي وسعهم؟ وسعتهم قلوب إخوانهم الأنصار، ولذلك الله ذكر الأنصار وأثنى عليهم؛ لأنَّهم آثروا إخوانهم المهاجرين وأعطوهم، وفيما يلي صورٌ من هذا الإيثار: روى البخاري رحمه الله تعالى أنَّ أصحاب النَّبيِّ ﷺ لما قدموا المدينة آخى رسول الله ﷺ بين عبد الرَّحمن بن عوف وسعد بن الرَّبيع، قال سعد بن الرَّبيع لعبد الرَّحمن وكان من أغنى أهل المدينة وأكثر أهل المدينة مالاً، فقال لعبد الرَّحمن: "إنِّي أكثر الأنصار مالاً فأقسمُ مالي نصفين" قد يضحِّي الشَّخص بنصف ماله لأخيه ويؤثره به؛ لكن القضية لم تقف عند المال، قال: "ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمِّها لي فأطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوَّجها" قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على السُّوق ورزقه الله وتزوَّج فجاءه المال والزَّوجة[رواه البخاري 3569]. وليس غريباً أن يتصوَّر الإنسان التَّنازل عن نصف المال ولو أنَّه في هذا الزَّمان غريبٌ، لكن الغريب أنَّ الإنسان يتنازل عن إحدى زوجتيه ثُمَّ ليست القضية أن يأتي ويقول أنا أُحبُّ فلانة أكثر فسأطلِّق الأخرى له! لا، فسعد بن الرَّبيع يقول: أي زوجتاي أحبُّ إليك -وهذا معروف قبل نزول آية الحجاب- أي زوجتاي أحبُّ إليك فسمِّها" يقول: أنا أُريد فلانة وأنا أطلِّقها وتنتظر حتى تنتهي العدَّة ثُمَّ تتزوجها، فليس من السَّهل على الإنسان أن يفارق زوجته التي قضى معها دهراً وسكن إليها وهي أمُّ أولاده وقُرة عينه وبينهما مودَّةٌ ورحمةٌ، لكن لما تكون هناك أخوَّة إيمانية أقوى من هذه العلاقة الشَّخصية تطغى ويحصل التَّضحية والإيثار، إذاً الإيثار متى يحدث؟ لما تكون هناك محبَّة قلبية تطغى على محبة المال وعلى الأشياء الدُّنيوية، وعندما تكون هناك أشياء إيمانية أقوى من الأمور الأرضية والمادية؛ فعند ذلك يحدث التَّنازل بسهولة، فإنَّ بعض النَّاس رُبَّما يريد أن يتصدَّق أو يتنازل أو يؤثر؛ لكنه يجد صعوبةً بالغةً؛ لأنَّ شعوره محكومٌ بهذه الارتباطات الدُّنيوية، فهي مهيمنة على قلبه فكيف ينزع هذا المال من نفسه وهو متعلِّق به؟ وليس هناك قوة أخرى أكبر من التَّعلق بالمال، فلا بُدَّ أن توجد قوة أكبر من التَّعلُّق بالمال وأكبر من التَّعلُّق بالدُّنيا، حتى يستطيع الإنسان أن يتنازل؛ لأنَّ الإيثار: هي عملية تنازل وترك، يتنازل عن ماله لأخيه وعن حظِّ نفسه لأخيه، ثُمَّ الإنسان إذا كان غنياً وتنازل عن بعض ماله فلا غرابة، لكن لما يكون محتاجٌ ويتنازل عن الشَّيء الذي يحتاجه فهذه أغرب، هذه هي المرتبة العالية مسألة الإيثار عندما تكون بها الخصاصةٌ الحاجة الشَّديدة، وعن أنس بن مالك قال: دعا النَّبيُّ ﷺ الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: "لا" رفضوا العرض "إلَّا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها" لماذا نأخذ نحن وهم لا يأخذون؟ نحن سواسية فأن أعطيتنا تعطيهم، قال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنَّه سيصيبكم بعدي أثرةٌ[رواه البخاري 3583]. وحدث بعد ذلك شيءٌ من التَّنافس في الدُّنيا، فالأثرة كما قلنا: هي عكس الإيثار حدثت على عهد النَّبيِّ ﷺ حوادثٌ أيضاً تُنبِّئ عن الإيثار الموجود عند أفراد ذلك المجتمع.
أنواع الإيثار
وبعض أنواع الإيثار موجودٌ في الطَّبيعة لكن شاقٌّ على النَّفس مع كونه مركوز في الطبيعة، مثلاً: أن تؤثر الأم ولدها على نفسها وعلى راحتها فهذا شيءٌ معروفٌ مركوزٌ في طبيعة الأم، لماذا؟ لحبِّها الشَّديد للولد، فهي تضحِّي بنفسها وبحاجتها وبنومها وبراحتها من أجل راحته وطعامه وشرابه وخدمته، فحبُّها للولد وتعلُّقها بالولد هو الذي يدفعها إلى هذا الإيثار، لماذا جُعل لها ثلاثة أرباع البرِّ؟ لأنَّ الإيثار عندها بالنسبة للولد قويٌّ جداً، فهي تؤثر ولدها على نفسها في راحتها وفي مالها وفي نومها من أجل أن تعطيه، ولذلك وجب عليه أن يبرها فليس كُلُّ الأمهات في درجةٍ واحدةٍ من الإيثار بالنُّسبة للأبناء، ولذلك الآن وُجد في هذا الزَّمان من الوالدات من تترك للخادمة المشقَّات فإذا الولد استيقظ في الليل فالخادمة هي التي تسكته، وإذا جاع ويريد أن يطعم فهي التي تطعمه، ولذلك الآن لا تعجب من نقص البرِّ في هذا الزَّمان؛ لأنَّ خدمة الأمهات للأبناء قلَّ مستواها، فلذلك بر الأبناء للأمهات نزل مستواه أيضاً.
لكن نريد أن نذكر قصةً تبيِّن شيئاً من القمَّة في إيثار الأم لأولادها: عن عائشة زوج النَّبيِّ ﷺ قالت: جاءت امرأةٌ ومعها ابنتان لها تسألني، ليس عندها مالٌ أتت تمدُّ يدها تسأل شيئاً أو طعاماً، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرةٍ واحدةٍ فأعطيتها إيَّاها فأخذتها فشقتها باثنين بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً، ثُمَّ قامت فخرجت هي وابنتاها فدخل عليَّ رسول الله ﷺ فحدَّثته حديثها فقال رسول الله ﷺ: من ابتُلي من البنات بشيءٍ فأحسن إليهنَّ كُن له ستراً من النَّار[رواه مسلم2629]. وفي رواية أخرى لمسلم قد تكون هذه المرأة أو غيرها؛ لأنَّ القصَّة الثَّانية فيها ثلاث تمراتٍ، قالت عائشة: جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كُلَّ واحدةٍ منهما تمرةً ورفعت إلى فيها تمرةً لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها، تريدان أخذ التَّمرة الثَّالثة من فم الأم فشقَّت التَّمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما وما أكلت شيئاً، قالت: فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله ﷺ فقال: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة وأعتقها بها من النَّار [رواه مسلم2630]. فهي أعمال عظيمةٌ جداً تعظم عند الله وتثقل في الميزان؛ بسبب قوة إيمانٍ، وقوة إيثارٍ كانت لحظة العمل، وهذا شيءٌ عظيمٌ رافق العمل مثل الذي يؤثر على نفسه وبه خصاصة يجعل العمل هذا يثقل في الميزان وتطيش كفَّة السَّيئات، فهذه التَّمرة التي وجبت لها بها الجنَّة وأعتقت بها من النَّار، وسار الصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم على هذا الخلق العظيم.
قصَّة إيثار عائشة لعمر بن الخطَّاب
ومن المواقف العظيمة التي تُذكر في إيثار الصَّحابة: قصة عائشة رضي الله عنها مع عمر بن الخطاب: فعن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت عمر بن الخطاب قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين الآن -وذلك عندما طُعن عمر- اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل: يقرأ عمر بن الخطاب عليكِ السَّلام ثُمَّ سلها أن أُدفن مع صاحبي، لأنَّ حجرة عائشة بقي فيها مكان واحد ليُدفن، أو أنَّ ذلك القسم به قبر واحد، فرغب عمر أن يُدفن بجانب النَّبيِّ ﷺ وأبي بكر الصِّدِّيق، فقالت عائشة رضي الله عنها لرسول عمر: كنت أريده لنفسي فلأُوثرنَّه اليوم على نفسي، وهذا من أشقِّ أنواع الإيثار: الإيثار بمثل هذه المنقبة والمكرمة، ولذلك جاء عن عائشة في حديث آخر رواه البخاري يقول: وكان الرَّجل إذا أرسل إليها من الصَّحابة قالت: "لا والله لا أوثرهم بأحدٍ أبداً"[رواه البخاري6897]. ولما طُعِن عمر وأرسل إليها قالت: أي والله لأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل الرَّسول وهو ولد عمر عبد الله قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين، قال: ما كان شيءٌ أهمُّ إليَّ من ذلك المضجع، فإن قبضت فاحملوني ثُمَّ سلِّموا ثُمَّ قل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادفنوني وإلَّا فردوني إلى مقابر المسلمين"[رواه البخاري 1328]. رواه البخاري. وكذلك عمر آثر شخصاً يحبُّه النَّبيُّ ﷺ على ولده في قصةٍ رواها الترمذي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أنَّه فرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وخمسمائة عطية من بيت المال، وفرض لعبد الله بن عمر ثلاثة آلاف فقط، فقال عبد الله بن عمر لأبيه: "لم فضلَّت أسامة عليّ؟ فوالله ما سبقني إلى مشهدٍ" وكان عمر يفضِّل بحسب السَّابقة والقرب، فمثلاً: نساء النَّبيِّ ﷺ ليست معاملتهنَّ في العطايا المالية مثل بقية النِّساء، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: "لأنَّ زيداً -أبو أسامة- كان أحب إلى رسول الله ﷺ من أبيك، وكان أسامة ولده أحب إلى رسول الله ﷺ منك فآثرت حب رسول الله ﷺ على حبي" قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"[رواه الترمذي3813].
إذاً: المسألة أحياناً يكون الباعث على الإيثار شيءٌ إيمانيٌّ يتعلَّق بقضية مكانة ناشئة من شيءٍ شرعيٍّ وليست من هوى شخصي؛ لأنَّ بعض النَّاس اليوم يفضِّلون مثلاً بين الأولاد أو يفضل شخصاً على شخصٍ بدافعٍ عاطفيٍّ أو بدافع هوى أو بدافع مصلحة أو بدافع رجاء أمرٍ أو مكافأة أو جائزة ونحو ذلك، أمَّا مفاضلة عمر وهو الفاروق الذي فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل فلم يكن في شيءٍ من ذلك أبداً، وإنَّما كان فضَّل من يحبُّه النَّبيُّ ﷺ على ابنه هو شخصياً.
من مواقف إيثار السَّلف
ولا شك أنَّ السَّلف رحمهم الله قد ساروا على هذا المنوال سيرة عطرة، فلو أنَّنا استعرضنا شيئاً مما كان عليه السَّلف رحمهم الله لوجدنا أشياءً عظيمةً، فمن ذلك: ما جاء في موطأ مالك من بلاغاته عن عائشة زوج النَّبيِّ ﷺ أنَّ مسكيناً سألها وهي صائمةٌ وليس في بيتها إلَّا رغيف، فقالت لموالاةٍ لها: أعطه إيَّاه، فقالت المولاة: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت أعطيه إيَّاه، قالت: ففعلت، قالت: فلمَّا أمسينا أهدى لنا أهلُ بيتٍ أو إنسانٌ ما كان يهدي لنا، يعني: هذه مفاجأة "أهدى شاةً وكفنَّها" ما هو كفن الشاة؟ جرت العادة عند العرب أو بعض العرب أنَّهم إذا أتوا إلى الشَّاة ذبحوها وسلخوها وغطوها كُلَّها بعجين البُرِّ وكفنوها به ثُمَّ علَّقوها في التَّنور، فلا يخرج من دهن الذَّبيحة شيءٌ إلَّا في ذلك الكفن، وذلك من أطيب الطَّعام عندهم، فجاءت مفاجأةٌ إلى عائشة، فقالت المولاة: فدعتني عائشة فقالت: "كلي من هذا فهو خيرٌ من قرصك"[رواه مالك 1810]. القرص الذي تمنعتي عن إعطائه هذا خير منه وهذا من المال الرَّابح والفعل الزَّاكي عند الله تعالى يعجِّل منه ما يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عنده ، ومن ترك شيئاً لله لم يجد فقده، والله يعجِّل أحياناً في الدُّنيا لمن تصدَّق ويخلف عليه ولمن آثر ويعطيه بدله وأحسن كما يشاء سبحانه، وروى الطبري: عن نافع أنَّ ابن عمر اشتكى واشتهى عنباً، اشتكى: مرض، واشتهى عنباً يعني: هو مريضٌ ويشتهي شيئاً، فاشتُري له عنقودُ عنبٍ بدرهم، فجاء مسكينٌ يسأل فقال: أعطوه إيَّاه، فخالف إنسانٌ فاشتراه بدرهمٍ ثُمَّ جاء به إلى ابن عمر فجاء مسكينٌ فسأل فقال: أعطوه إياه، ثُمَّ خالف إنسان فاشتراه بدرهمٍ، نفس العنقود يتبع المسكين فيقول له: خذ درهماً أحسن من العنقود العنب واشتر به ما شئت، فأراد السَّائل أن يرجع يطرق الباب ويطلع بعنقود ثُمَّ يشترى منه بدرهم صارت تجارة، فمنعه بعض آل عمر، فبقي العنقود عند ابن عمر، ولو كان ابن عمر قد عرف ذلك ما ذاق العنقود"[رواه الطبري12891]. وقد جاء أيضاً عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدَّار أنَّ عمر بن الخطاب رض الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صُرَّةٍ ثُمَّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثُمَّ تَلَّه ساعةً في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه فقال يقول أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثُمَّ قال: تعالي يا جارية: اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، ذهبت الأربعمائة كُلُّها وانتهت، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتلَّه في البيت ساعةً حتى تنظر ماذا يصنع فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، يعني: كما وصلني وصله الله يدعو له بالرَّحمة والوصل من الله تعالى، وقال معاذٌ: يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا واذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطَّلعت امرأة معاذ من الدَّاخل فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، نحن آل بيتك لا تنسانا من التَّوزيعة ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها، اثنين من أربعمائة فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسُرَّ عمر بذلك وقال: "إنَّهم إخوةٌ بعضهم من بعض"[رواه الطبري 16476]. يعني: الدِّين واحدٌ وعقيدتهم واحدةٌ ومنهجهم واحدٌ ودعوتهم وطريقتهم وأخلاقهم واحدة، فعندما تتطابق المعتقد وتتطابق الدَّعوة والمنهج والأخلاق والطَّريقة؛ تكون النَّتائج والتَّصرُّفات بالتَّالي متطابقةً قريبةً جداً من بعضها، وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها إذا جاءها عطاء معاوية عشرة آلاف يوزع كُلَّه في سبيل الله تعالى، وقال أبو الحسن الأنطاكي أنَّه اجتمع عنده نيِّفٌ وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الرَّي ومعه أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم أكثر من ثلاثين إنسان عندهم مجموعة من الأرغفة لا تكفي لهم فكسروا الرِّغفان وأطفئوا السِّراج وجلسوا للطَّعام حتى لا يحرج أحد جلسوا للطَّعام، فلمَّا رُفع فإذا الطَّعام لم يأكل منه أحدٌ شيئاً إيثارًا لصاحبه على نفسه، فكُلُّ واحدٍ يؤثر الآخر على نفسه، وخرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعةٍ له فنزل على نخلٍ لقومٍ فيها غلام أسود يعمل فيها إذ أتى الغلام بقوته في آخر النَّهار فجلس يأكل فدخل حائط البستان كلب فدنا من الغلام فرمى إليه قرصًا فأكله ثم رمى إليه الثَّاني والثَّالث فأكله وعبد الله ينظر، فقال: يا غلام كم قوتك كُلَّ يومٍ؟ قال: ما رأيت -ثلاثة أرغفة- قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال ما هي بأرض كلاب وإنَّه جاء من أرضٍ بعيدةٍ جائعاً فكرهت ردَّه، قال: فما أنت صانعٌ؟ قال: أطوي يومي هذا على جوع لله تعالى، قال عبد الله بن جعفر: ألام على السَّخاء! وهذا لأسخى مني! فاشترى الحائط وما فيه من الآلات واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له"[كتاب الأربعين في إرشاد السائرين168]. فإذاً: الإيثار حتى في ذات الكبد الرَّطبة التي فيها أجر فيها إيثار، وحصل نقاشٌ بين أحد النَّاس وشابٍ، قال أبو يزيد البسطامي: ما غلب أحدٌ ما غلبني شابٌ من أهل بلخ قدم علينا حاجَّاً فقال لي: يا أبا زيد ما حدُّ الزُّهد عندكم؟ فقال: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا إذا وجدت أكلت وإذا ما وجدت صبرت، فقلت له: وما حدُّ الزُّهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، شكرنا على المصيبة وإن وجدنا آثرنا أعطيناه وفرقناه"[تفسير القرطبي18/28-29].
أعظم أنواع الإيثار
فإذاً: الإنسان إذا أعطى وهو محتاجٌ فإنَّ ذلك إيثارٌ عظيمٌ، وتبيَّن لنا أنَّ هذا الإيثار: إيثارٌ شرعيُّ قد يكون في بعض أنواعه أو لبعضه أسباب طبعية: كإيثار الأم لأولادها، ولكن تُؤجر إذا احتسبت الأجر عند الله، فلا تكاد توجد أمٌّ إلَّا وهي تؤثر أولادها على راحتها، فمتى تؤجر الأم؟ هذه مهمَّةٌ لأجل تحصيل الأجر، فتُؤجر إذا احتسبت الأجر عند الله ، وعندما يكون الشَّخص الذي يؤثر أكثر عبادةً وعلماً وديناً فلا شك أنَّ الأجر يكون في إيثاره أكبر، ولذلك إيثار النَّبيِّ ﷺ على النَّفس ليس كإيثار غيره، فلذلك من القصص التي حدثت: عن بريدة قال: بينا رسول الله ﷺ يمشي إذ جاء رجلٌ معه حمارٌ فقال: يا رسول الله اركب فتأخَّر الرَّجل، فقال رسول الله ﷺ: لا أنت أحقُّ بصدر دابَّتك منِّيوهذه قاعدةٌ شرعيةٌ: صدر الدَّابة أيَّاً كانت الدَّابة فصدرها أحقُّ به صاحبها، وكذا صدر المجلس فأحقُّ به صاحب المجلس، فالإنسان لا يجلس في صدر الدَّابة أو صدر المجلس إلَّا بعد استئذان صاحب المجلس أو الدَّابة، فالصَّحابي تأخَّر إلى الخلف ليركب النَّبيَّ ﷺأمام، آثره بالموضع الحسن، يعني: من أنواع الإيثار أن تؤثر غيرك بالموضع الحسن أكثر راحةً، فقال ﷺ: لا أنت أحقُّ بصدر دابَّتك منِّي إلَّا أن تجعله لي قال: فإنِّي قد جعلته لك، فالصَّحابي آثر النَّبيَّ ﷺ، لكن يؤكِّد عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ الأحقِّية لا تسقط إلَّا بإذن، قال: فإنِّي قد جعلته لك، فركب ﷺ[رواه أبو داود 2574، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ" صحيح صحيح سنن ابي داود 2572]. والإيثار عندما نقول إنَّ الإنسان يؤثر بحاجته وحاجة نفسه وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[الحشر:9]. فمن الشَّواهد لهذا المعنى: قول الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ[الإنسان:8]. وقول النَّبيِّ ﷺ: أفضل الصَّدقة: جهد المقل[رواه أبو داود1451، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود1449]. ولأنَّ المال يحبُّه الإنسان، فإذا قلنا: أيُّ المنزلتين أعلى وأفضل؟ الصَّدقة جهد المقل أو ويطعمون الطعام على حبه أو وآتى المال على حبه؟ الصَّدقة جهد المقل؛ لأنَّ هذا كُلُّ ما عنده، أمَّا ذاك فما من أحدٍ إلا ويحبُّ المال، حتى الغني الذي عنده ملايين لو أخرج مليوناً ألا يحب هذا المال فهو صحيح يؤجر؛ لأنَّه آتى المال على حبِّه وهو يحبُّ الشَّيء، لكن الذي يُعطي الشَّيء وهو يحتاج ليس فقط يحبُّه ويحتاجه وهذا أجره أكبر، إذاً: الأجور تتفاوت بحسب الحاجة إلى الشَّيء، فإذا آثرت به فإنَّ أجرك يعظم كُلَّما كان الشَّيء الذي أنت تؤثر به أنت إليه أحوج وأنت إليه في ضرورة، ولذلك هؤلاء الذين يتصدَّقون وهم يحبِّون ما تصدَّقوا به قد لا يكون لهم به حاجة ولا ضرورة، يعني: هم يحبِّون المال الذي يتصدَّقون به، فلا أحد يحبُّ المال لكن لا يصل عندهم إلى درجة الحاجة والضَّرورة، لكن الذي يؤثر على نفسه وبه خصاصةٌ هذا أجره أكبر، فالصِّدِّيق من أصحاب المقام الرَّفيع والمقام الأول لما تصدَّق بماله كُلِّه، فقال ﷺ: ما أبقيت لأهلك قال: أبقيت لهم الله ورسوله[رواه أبو داود1680، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود1678]. فهذا الرَّجل يجوز أن يتصدَّق بجميع ماله إذا كان يصبر، فمن كان لا يستطيع أن يصبر لو تصدَّق بماله كُلِّه مدَّ يده للنَّاس هل إيثاره محمودٌ أم لا؟ لا، فإذاً يشترط فيمن يؤثر المسلمين بماله كُلِّه أن يستطيع أن يصبر ولا يمدُّ يده إلى النَّاس، فإذا استطاع أن يصبر يتصدَّق بماله كُلِّه، وإذا لا يستطيع لا يتصدق بماله كُلِّه.
ومن الصُّور العظيمة التي حصلت للإيثار مع الحاجة: الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكُلٌّ منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريحٌ مثقلٌ أحوج ما يكون إلى الماء، وكُلُّ واحدٍ يردُّه إلى الآخر، فلمَّا وصل إلى الثَّالث وأمر أن يرد للأول وجد الأول والثَّاني والثَّالث قد ماتوا ولم يشربه أحدٌ منهم ، فهذا إيثارٌ بمنتهى الحاجة؛ لأنَّ الجريح أحوج مايكون هذه اللَّحظة العصيبة ويريد ماءً، يستسقي يقول: أعطوني ماءً ثُمَّ في هذه اللحظة يؤثر غيره.
مسألة الإيثار بالطَّاعات
ونريد أن ننتقل الآن إلى مسألةٍ: وهي قضية الإيثار بالطَّاعات، فما حكم الإيثار بالطَّاعات؟ مثلاً: يأتي إنسانٌ إلى الصَّف الأول، يوجد مكان لشخصٍ واحدٍ فماذا يفعل؟ كما قلنا أيُّها الإخوة نريد أن نناقش بعض الأحكام الفقهية المتعلِّقة بكُلِّ خلقٍ من الأخلاق، أمَّا هذه المسألة فهي من المسائل التي فيها أقوال لأهل العلم: مسائل الإيثار بالطَّاعات والقرب فما هو حكم الإيثار بالطَّاعات والقرب؟ من الأقوال التي جاءت عن بعض أهل العلم ما يلي: قبل الدُّخول في هذه المسألة لا بُدَّ أن نعلم أنَّ أن الإيثار على نوعين: إيثارُ الغير على النَّفس: أن تُؤثر غيرك على نفسك بالحظوظ الدُّنيوية كالمال والطَّعام واللِّباس أو سباق على وظيفةٍ شاغرةٍ لشخص واحد وهناك اثنان وكلاهما يريد الوظيفة، فلو تركتها لأخيك المسلم ابتغاء وجه الله فهذا إيثارٌ تؤجر عليه، وأحياناً يكون لخطبة فتاةٍ يتقدما لها معاً في نفس الوقت، فإذا آثرته وتركت له هذه الفتاة وانسحبت من موضوع الخطبة لصالحه فهذا إيثارٌ مع أنَّه قد يكون بك تعلُّقٌ بهذا البيت أو بهذه الفتاة أو تريد هذه الفتاة فتركتها لله تعالى إيثاراً لأخيك المسلم، وأحياناً يختار شخصاً لبعثه فيحدث تشاحٌّ وازدحامٌ في المسألة المعروضة حيث أنَّه أكثر من شخص يريدها، فلو كان الشَّخص المتقدِّم الآخر مبتدعٌ كافرٌ فاجرٌ لو جاء في هذه الوظيفة أو هذه البعثة أو هذا المنصب أو هذا الشَّيء فليس صحيحاً على الإطلاق أن تؤثره، فكيف تؤثره لكي يتبوأ منصباً أو يأخذ ميزةً أو زيادةً ثُمَّ يفسق بها أو يفجر بها أو يتسلَّط بها على المسلمين، فهذا لا يكون أبداً، فأنت تنافسه وتزاحمه ولا مجال للإيثار هنا، حتى في القضية الدُّنيوية لا مجال للإيثار لكن أخوك المسلم التَّقي النَّقي الذي لو أنَّه صار في هذا المكان لنفع المسلمين أيضاً مثل نفعك، ورُبَّما أكثر فإنَّ إيثاره بهذه الوظيفة أو هذه الميزة من التَّطبيق لهذا الخلق العظيم وأمرٌ تؤجر عليه، نعود ونقول: الإيثار نوعان: إيثار الغير على النَّفس في الحظوظ الدُّنيوية، وهذا محبوبٌ مطلوبٌ، ما حكمه الشَّرعي؟ إذا كان يؤثر أخاه المسلم كما قلنا فهذا أمرٌ محبوبٌ مطلوبٌ يُؤجر عليه، كمن آثر غيره على نفسه بطعامه أو بشرابه وهو يحتاجه، أو آثر غيره بالحياة لو مثلاً: رأى قنبلةً سقطت بجانب شخصٍ ولا يستطيع ردَّها فوقع عليها وقايةً لأخيه المسلم فآثره بالحياة حتى يموت هو، أو الجندي مثلاً آثر حياة قائده فرأى من يطلق عليه رصاصاً فاعترض الطَّريق لكي لا يصيب القائد لينفع المسلمين أكثر؛ إذاً هذا إيثارٌ من الذي آثر الآخر بالحياة وتعرَّض هو للموت في مقابل ذلك، فالإيثار بالحياة هو أعلى درجات الإيثار، وهذا الذي فعله أبو طلحة والصَّحابة بحضرة النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، حيث أنَّ النَّبيَّ ﷺ يريد أن ينظر أن تقع السَّهام وأبو طلحة يتطاول ويقول: يا رسول الله نحري دون نحرك لا يصيبك القوم، فإذاً الأشياء التي يؤثر بها قد تكون أِشياء دنيوية، فإذا كنت تتنازل عن شيءٍ دنيويٍّ لأخيك المسلم فهذا إيثارٌ ولو كنت محتاجاً إليه إيثارٌ مع الخصاصة تُؤجر عليه أجراً عظيماً، وقد يكون الشَّيء الذي تؤثر به أمراً أخروياً ليس أمراً دنيوياً، فهل يجوز أن تؤثر به أم لا؟ هذه المسألة في الإيثار في الحظوظ الأخروية وهذا النُّوع قد اختلف العلماء فيه؛ فما حكم الإيثار بالحظوظ الأخروية؟ كما قلنا مثلاً: تكون في الصَّف فرجةً لا تتسع إلَّا لشخصٍ واحد، ولا شكَّ أنَّ هذه الخطوة إلى هذه الفرجة أمرٌ عظيمٌ وقربة إلى الله وشرفٌ، فهل تتركه ينالها وتتوقَّف عن التَّقدَّم أم ماذا؟ فنقرأ كلام الفقهاء: قال ابن عابدين في حاشية الأشباه للحموي: "وإن سبق أحدٌ إلى الصَّف الأول فدخل رجلٌ أكبر منه سناً أو من أهل العلم ينبغي أن يتأخَّر ويقدِّمه تعظيماً له"[غمز عيون البصائر2/260]. انتهى. فهذا يفيد جواز الإيثار بالقرب بلا كراهة، ونقل العلَّامة الألبيري فروعاً تدلُّ على عدم الكراهة، ويدلُّ عليه قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[الحشر:9]. وما ورد منه أنَّه ﷺ أتي بشرابٍ فشرب منه وعن يمينه غلامٌ وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال الغلام: لا والله لا أُؤثر بنصيبي منك أحداً، قال: فتله رسول الله ﷺ في يده[رواه البخاري2319]. ولا ريب أن مقتضى طلب الإذن مشروعيَّة ذلك، فكون النَّبيَّ ﷺ قال للغلام: أتأذن معناه: أنَّ هذا جائزٌ ومشروعٌ ليقدِّم الأشياخ عليه مشروعية ذلك لا كراهة، وإن جاز أن يكون غيره أفضل منه، انتهى.
وينبغي تقييد المسألة بما إذا عارض تلك القربة ما هو أفضل منها: كاحترام أهل العلم والأشياخ كما أفاده الفرع السَّابق والحديث، وينبغي أن يحمل عليه ما في النَّهر كتاب للحنفية من قوله، فإذاً قالوا يؤثر بالقربة من أجل واحدٍ أعلم أو أكبر احتراماً وتوقيراً هذا من كلام الحنفية، أمَّا السِّيوطي وهو من الشَّافعية فيقول: "الإيثار في القرب مكروهٌ وفي غيرها محبوب"[الأشباه والنظائر1/ 226]. قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌوقال النووي في باب الجمعة: "لا يقام أحدٌ من مجلسه ليجلس في موضعه فإن قام باختياره لم يكره" أي: إذا قام باختياره ليجلس شخصٌ آخرٌ في المكان لم يكره "فإن انتقل إلى أبعد من الإمام كره" لو هذا الذي قام انتقل إلى مكانٍ أبعد من الإمام كره "قال أصحابنا: لأنَّه آثر بالقربة" أي: المكان الأقرب إلى الإمام هو الأفضل، فإذا تركه لغيره وقام إلى مكان أبعد معناها أنَّه آثر غيره بالقرب وما حرص هو على الأجر وإنَّما تركه لغيره، فقالوا هذا يكره، وقال القرافي: "من دخل عليه وقت الصلاة ومعه ما يكفيه لطهارته وهناك من يحتاجه للطهارة لم يجز له الإيثار" أي: إذا كان معك ماء تحتاج إلى الطَّهارة ولا تستطيع أن تقسمه بينك وبين غيرك فهل تقدِّم نفسك أو تقدِّم الرَّجل الآخر؟ قال القرافي: "لم يجز له الإيثار، ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطَّعام لاستبقاء مهجته كان له ذلك، وإن خاف فوات مهجته" لكن إذا انتقلنا إلى قضية الطَّعام إذا كانا في مهلكةٍ في بريةٍ وما معه إلَّا طعامٌ يكفي لقمة لشخصٍ واحد يعيش والثَّاني يموت فأعطاه ومات هو فلا حرج في هذا، ولا يعتبر قاتل نفسه؛ لأنَّه آثره بشيءٍ من الدُّنيا.
كلام العلماء في مسألة الإيثار بالطَّاعات
والعزُّ بن عبد السلام رحمه الله له كلامٌ في قواعد الأحكام في هذه المسألة وهي قضية الإيثار بالطَّاعات، فتعريف القرب: هو جمع قربة، وهو كُلُّ ما يتقرَّب بها إلى الله من طاعةٍ وعبادةٍ، يقول الشَّيخ العزُّ بن عبد السَّلام رحمه الله: لا إيثار في القربات فلا إيثار بماء الطَّهارة ولا بستر العورة ولا بالصَّف الأول؛ لأنَّ الغرض بالعبادات التَّعظيم والإجلال لله " هذا هو الغرض من العبادة "فمن آثر به غيره فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه" لكي يجله غيره ويعظمه هذا المقصود من القربات، فأنت أولى أن تجل الله وتعظمه من أن تقول لغيرك أو تفسح لغيرك المجال ليجله ويعظمه، فمن آثر به غيره فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه فيصير بمثابة من أمره سيده بأمرٍ فتركه وقال لغيره: قم به، فإنَّ هذا يستقبح عند النَّاس بتباعده من إجلال الآمر وقربه، يعني: كأنَّك تقول: خذ الأجر فقد آثرتك، وهذا من التَّواني عن القيام بالعبادة والتَّرك للآخرين فأنت أولى بالحسنات، قال: "وقد يكون الإيثار في القرب حراماً أو مكروهًا أو خلاف الأولى" فقسَّمها إلى ثلاثة أقسام، ومثال الإيثار المحرَّم: إيثار غيره بماء الطَّهارة حيث لا يوجد غيره أو إيثار غيره بستر العورة في الصَّلاة، أو يؤثر غيره بالصَّف الأول ويتأخر هو، فهذا عند العزِّ رحمه الله من القسم المحرَّم، ومثال المكروه: أن يقوم رجلٌ عن مجلسه في الصَّف لغيره مثلاً: الصَّف الأول ويرجع وراء، أو في الجمعة يترك المكان الأقرب للإمام ويرجع فهذا إيثارٌ مكروهٌ استغنى عن الأجر، وكان ابن عمر إذا قام له رجلٌ عن مجلسه لم يجلس فيه كما رواه مسلم في صحيحه، ومثال خلاف الأولى: كمن آثر غيره بمكانه في نفس الصَّف، والحاصل أنَّ الإيثار إذا أدَّى إلى ترك واجبٍ فهو حرامٌ: كالماء وستر العورة، وإذا أدى إلى ترك سنةٍ أو ارتكاب مكروهٍ فمكروهٌ، أو لارتكاب خلاف الأولى مما ليس فيه نهي مخصوصٌ فخلاف الأولى، فهذا إذاً رأيه في هذه المسألة[الأشباه والنظائر1/ 226].
كلام ابن القيم في جواز الإيثار بالطَّاعات
ننتقل إلى كلام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد وفي مدارج السالكين، أمَّا الكلام الذي في زاد المعاد فيقول رحمه الله في فوائد قصَّة أبي بكرٍ الصِّدِّيق لما طلب من المغيرة بن شعبة ألَّا يبشِّر النَّبيَّ ﷺ بقدوم وفد الطَّائف مسلمين، وإنمَّا قال: أنا أُريد أن أبشره، فالموضوع هو تبشير النَّبيِّ ﷺ بقدوم أهل الطَّائف مسلمين، وهذا خبرٌ سارٌّ وإخبار النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام بما يسرُّه قربةٌ وطاعةٌ، والصِّدِّيق طلب من المغيرة ألَّا يسبقه بالخبر وأن يكون هو الذي يخبر، قال: "ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشِّر النَّبيَّ ﷺ بقدوم وفد الطَّائف؛ ليكون هو الذي بشَّره وفرَّحه بذلك، وهذا يدلُّ على أنَّه يجوز للرَّجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربةٍ من القرب، وأنَّه يجوز للرَّجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النَّبيِّ ﷺ وسألها عمر ذلك فلم تكره له السُّؤال ولا لها البذل وعلى هذا، فإذا سأل الرَّجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصَّف الأول لم يكره له السُّؤال ولا لذلك البذل ونظائره" فلا للسَّائل يكره أن يسأل صاحبه أن يدعه يدخل في الصَّف الأول ولا للباذل أن يبذل "ومن تأمَّل سيرة الصَّحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاءٌ وإيثارٌ على النَّفس بما هو أعظم محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم وتعظيماً لقدره وإجابةً له إلى ما سأله" يعني: إن تنازلت عن مقام الصَّف الأول لكن أنت ماذا كسبت في المقابل؟ زيادة محبة أخيك وإدخال السُّرور عليه ونحو ذلك "وترغيباً له في الخير، وقد يكون ثواب كُلِّ واحدٍ من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القربة" يعني: لا تستهين بقضية إدخال السُّرور على أخيك المسلم؛ فقد يكون فضل إدخال السُّرور عليه أعظم من فضل القربة نفسها "فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربةً" يعني: ضحى بقربةٍ "وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحبُ الماء بمائه أن يتوضأ به ويتمم هو إذا كان لا بُدَّ من تيمُّم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطُّهر بالتُّراب، ولا يمنع هذا كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا مكارمُ الأخلاق، وعلى هذا فإذا اشتدَّ العطش بجماعةٍ وعاينوا التَّلف ومع بعضهم ماءٌ فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزاً، ولم يقل إنَّه قاتلٌ لنفسه، ولا أنَّه فعل محرَّماً بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]. وقد جرى هذا بعينه لجماعةٍ من الصَّحابة في فتوح الشَّام وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم" وقصَّة عكرمة وتنازله عن الماء للجريح الثَّاني والثَّالث "وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثارٌ بثوابها" فإذا وهبت حجَّة لوالدك ماذا تعني هذه الهبة؟ أنَّك آثرته بأيِّ شيءٍ "بثوابها وهو عين الإيثار بالقرب، فأيُّ فرقٍ بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها وبين أن يعمل ثُمَّ يؤثرها بثوابه؟ وبالله التَّوفيق"[زاد المعاد3/505-506]. فيقول ابن القيم أنَّه لا فرق ما دام أنَّ الشَّريعة أقرت هبة الثَّواب للميت، مثلاً: حُجَّ عن أبيك واعتمر، ومن كان عليه الصَّيام صام عنه، أو تصدَّق عنها، فأقرَّ بالصَّدقة عن الميت وقال أنَّ الصَّدقة هبة الثَّواب فهل هناك فرقٌ بين أن نعمل الخير ونهبه للثواب وبين أن نفسح له المجال وتنازل له عن هذا العمل الخير ليعمله؟ فهذا هو كلام ابن القيم رحمه الله في الزَّاد في المجلد الثالث من طبعة دار الرسالة في التَّعليق على فوائد القصَّة في أهل الطَّائف. وفي مدارج السَّالكين يقول ابن القيم رحمه الله في درجات الإيثار: "الدَّرجة الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يحرم عليك ديناً ولا يقطع عليك طريقاً ولا يفسد عليك وقتاً" يقول ابن القيم: يعني: أن تقدِّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدِّي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدِّين، ومثل: أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلاً مضطراً مستشرفًا للنَّاس سائلاً، وكذلك إيثارهم بكُلِّ ما يحرمه على المؤثر دينه فإنَّه سفهٌ وعجزٌ يذم المؤثر به عند الله وعند النَّاس، وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيحٌ أيضاً، وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهمَّاتهم ومصالحهم التي لا تتعيَّن عليك، قال: "ومن هذا تكلَّم الفقهاء بالإيثار بالقرب وقالوا: إنَّه مكروهٌ أو حرامٌ كمن يؤثر بالصَّف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة، أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه، وتكلَّموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب بدفنه عند رسول الله ﷺ في حجرتها وأجابوا عنه: بأنَّ الميت ينقطع عمله بموته وبقربه، فلا يُتصوَّر في حقِّه الإيثار بالقرب بعد الموت إذ لا تقرب في حقِّ الميت وإنَّما هذا إيثارٌ بمسكنٍ شريفٍ فاضلٍ لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربة إلى الله للمؤثر"[ مدارج السالكين2/ 297- 299].
من ذهب من العلماء إلى عدم جواز الإيثار بالطَّاعات
وهنا نقطةٌ قبل الأخيرة للخطيب البغدادي حيث قال كلاماً في آداب طالب العلم في كتابه الجامع: "كره قوم إيثار الطالب غيره بنوبته في القراءة" يعني: إذا كان الطَّالب يقرأ على الشَّيخ وقال طالبٌ آخرٌ: دعني أقرأ بدلاً منك على الشَّيخ، قال: "كره قومٌ إيثار الطَّالب غيره بنوبته في القراءة؛ لأنَّ قراءة العلم والمسارعة إليه قربةٌ، والإيثار بالقرب مكروهٌ"[الأشباه والنَّظائر1/117]. آخر نقلٍ لابن حجر رحمه الله من فتح الباري في تعليقه على حديث الغلام لما شرب النَّبيُّ ﷺمن القدح وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم والأشياخ عن يساره، فقال: يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ قال: ما كنت لأُوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله فأعطاه إيَّاه[رواه البخاري2237]. وفي رواية أحمد: فقال: "لا والله لا أُوثر بنصيبي منك أحداً" فتله رسول الله ﷺ في يده[رواه أحمد23212]. يقول ابن حجر: في الحديث الذي في كتاب الأشربة من صحيح البخاري باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر في أثناء الشرح قال ابن حجر: "وعبارة إمام الحرمين لا يجوز التَّبرُّع في العبادات ويجوز في غيرها، وقد يُقال إنَّ القرب أعمُّ من العبادة، وقد أورد على هذه القاعدة تجويز سحب واحدٍ من الصَّف الأول ليُصلِّي معه ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليَّاً خلف الصَّف وحده لثبوت الزَّجر عن ذلك" ما دام أنَّه جاء حديث: لا صلاة لمنفردٍ خلف الصَّف [رواه ابن ماجه1003، رواه البيهقي5418، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه822]. فجاء واحد وسحب شخصاً من الصَّف الأول ليُصلِّي بجانبه فبعض العلماء قالوا: جائزٌ، ثُمَّ قال بعض هؤلاء: هذا إيثار ضحَّى بالصَّف الأول لكي يخرج أخاه المسلم عن بطلان صلاته أو عن تحريم صلاته بمفرده، قال: "ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثاره بقربه كانت له وهي تحصيل فضيلة الصف الأول ليحصل فضيلة تحصل للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته" هذا على ما اختلفوا فيه من أنَّ المنفرد خلف الصَّف: هل صلاته باطلةٌ أم لا؟ فابن حجر يقول: "ويمكن الجواب بأنَّه لا إيثار" يعني: فالقضية هنا ليست قضية إيثار "إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره وهذا لم يعط الجاذب شيئاً إنَّما رجَّح مصلحته على مصلحته؛ لأنَّ مساعدة الجاذب على تحصيل مقصوده ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب" يعني: المسألة هذه لا تنطبق على قضية الإيثار في القرب؛ لأنَّ الذي رجع لم يقدِّم الآخر ووضعه مكانه حتى يكون المسألة فيه إيثار بالقربة، وإنَّما رجع ليحصل مصلحة أخيه في أنَّه لا تبطل صلاته، وهناك شخصٌ دخل مسجداً ووجد جماعةً صفاً كاملاً فسحب واحداً ثُمَّ دخل مكانه وهذه من قلِّة الذَّوق، فمسألة سحب واحدٍ من الصَّف الصَّحيح أنَّه لا تفعل ذلك؛ لأنَّك إذا سحبت واحداً من الصَّف فتحت فرجةً في الصَّف وجعلت كُلَّ النَّاس في الصَّف يتحرَّكون لأجل إغلاق الفرجة وما استفدنا شيئاً؛ لأنَّ الفرجة ستبقى في آخر الصَّف فرجة الشَّخص، وفيها تشويش على المسحوب في صلاته، وفيها نقلٌ له من موضع الفاضل إلى الموضع الأقل فضلاً بدون ذنبٍ منه، فالسَّحب يظهر أن مفاسده أكثر من مصالحه، ولذلك على الذي دخل أن يبحث عن مكان إذا ما وجد بجانب الإمام وما وجد ينتظر شخصاً آخراً يأتي من خارج يصلي معه، وإذا ما وجد فبعض العلماء يقول يصلِّي وحده وراء الجماعة مقتدياً بالإمام وصلاته صحيحة، ولا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها، ولا يسحب واحداً.
التَّفصيل في مسألة الإيثار بالطَّاعات
نعود الآن إلى تلخيص القضية كُلَّها في قضية الإيثار والقرب، واضح أنَّ هناك خلاف في مسألة الإيثار بالصَّف الأول والآذان والعبادات: هل هذه العملية جائزةٌ أو مباحةٌ أو مكروهةٌ؟ هناك أقوالٌ تتراوح بين الكراهية والاستحباب، فكلام ابن القيم يفهم منه الاستحباب، وكلام العزِّ بن عبد السَّلام يفهم التَّحريم أو الكراهية، فهذه من المسائل الشَّائكة، لكن هناك أمورٌ واضحةٌ: أولاً: من آثر غيره بمحرَّم مثلاً اثنان تنافسا على امرأةٍ للزِّنا بها، فقام أحدهم وقال خذها لك يا أخي، فهذا إيثارٌ سيئٌ وإثمٌ، ولا يتصوَّر عليه أجر البتَّة، أو من آثر غيره بسكرٍ أو حفلةٍ فقال هذه بطاقةٌ واحدةٌ -لحفلةٍ محرَّمةٍ- سأُثرك بها، فهذا إيثارٌ سيئٌ، النَّوع الثَّاني: إيثارٌ مكروهٌ واضحٌ، مثل: أن يؤثر غيره بشيءٍ يشتغل به عن طاعة الله، قال: هذه اللعبة مسليَّةٌ فأنا سأُوثرك بها فاشتغل بها وضيَّع عليه وقته؛ فهذا إيثارٌ أدَّى إلى إضاعة وقت الشَّخص الآخر، فهذا إيثارٌ أيضاً ليس مستحبَّاً أبداً، وفي الجانب الآخر من الأشياء الواضحة: إذا آثرت غيرك بماء في البرِّ في مخمصةٍ أو بطعامٍ ومتَّ أنت ليشربه هو؛ فهذا مستحبٌّ ولا يعتبر انتحارٌ ولا قتل نفس، فجائز وتؤجر عليه، وكذلك إذا رمى نفسه على قنبلةٍ أو على رصاصةٍ ليقي أخاه فيموت هو ليحيا أخوه؛ فهذا أيضاً متفقين على أنَّه قُربة وجائزٌ وأمرٌ مأجورٌ عليه وإيثارٌ شرعيٌّ، وهو مذهب الشَّافعية، وكذلك ما نُقل من كلامٍ الحنفية أنَّهم لا يجيزون لمن كان عنده ماء يكفي لشخصٍ واحدٍ أن يعطيه إيَّاه ويبقى هو بدون ماء للوضوء؛ لأنَّه هو أولى، وكذلك قضية ستر العورة، وإن كان كلام ابن القيم يخالف هذا، لكن هو مخاطبٌ بتحقيق شروط الصَّلاة، وهو أولى أن يحرص عليها بقيناً، مثلاً: تنافسوا على الآذان أو على فرجةٍ في الصَّف الأول؛ فالذي أراه في هذه المسألة والله أعلم أنَّ هناك تزاحم مصالحٍ، فالآذان له أجر والصَّف الأول له أجر وهذه مصلحة، النَّاحية الثَّانية تفريحك لأخيك المسلم بإدخال السُّرور عليه بإتاحة المجال له لهذا العمل، أو حتى لو جاء إنسانٌ يريد إيصالاً بالسِّيارة، فمن الذي يوصله ليكسب الأجر؟ وقس على ذلك من الأشياء الكثيرة، فالذي أقوله: إنَّ هذه المسألة فيها تزاحم مصالح، فإنَّ كان الشَّخص الذي يترك العمل الصالح لأخيه والمجال لشخصٍ واحدٍ تركه لأخيه تهاوناً وتكاسلاً، وقال خذه أنت يا أخي، لماذا نتعب أنفسنا، فإن كان تنازله عنه تساهلاً واستهانةً بالأجر فهذا إيثارٌ غير شرعيٍّ، وإذا كان الباعث على التَّنازل الاستهانة بالأجر وإذا كان لو أنه زاحمه سيكون بينهما شحناء أو بغضاء، فرُبَّما يكون كما قال ابن القيم رحمه الله: "مصلحة التَّنازل له أكثر وأفضل وأعلى فإيثارُه في هذه الحالة إذا سيكون بينهما نتيجة الازدحام على هذه الطَّاعة شحناء بغضاء عداوة التَّنازل له أحسن وأفضل وتحتسب أنت أجر العمل، وأنَّك ما تخلَّيت عنه كسلاً وإنَّما تخلَّيت عنه سدَّاً لباب الشِّيطان أو تفريحاً لأخيك المسلم، وباقي ذلك من الحالات التي لا يكون فيها مفسدةٌ لو زاحمت فيها، فالذي أراه: أنَّ الإنسان لا يفرِّط في الطَّاعات وهو يبادر ما لم تكن مصلحة ترك الأعلى، فهو عليه أن يبادر ويزاحم في الخير: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
بقي كلامٌ يسيرٌ لكن الوقت ضاق عن إكمال الموضوع؛ فنكتفي بالنِّهاية بهذه الخلاصة في موضوع الإيثار في القربات والطَّاعات والله أعلم، ونسأل الله تعالى ونتوجَّه إليه قائلين: اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنَّا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ.