الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تقدم في الدرس الماضي: ذكر أنهار الجنة وعيونها، وأنها تجري من غير أخدود.
وذكرنا: أن أنهار الجنة تتفجر من وسط الجنة، وأعلاها، وهو الفردوس -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها-، وأن في الجنة أربعة بحار تتشقق منها أربعة أنواع من الأنهار، وهناك نهران ظاهران، ونهران باطنان، والمراد بذلك قوله: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان، من أنهار الجنة [رواه أحمد: 7535، وقال محققو المسند: "صحيح"].
ومن أنهار الجنة أيضاً: نهر الكوثر.
وتحدثنا عن عيون الجنة، وأنها جارية، ومنها: عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ[الرحمن: 66].
ومن عيون الجنة: السلسبيل، وهي العين التي يشرب منها الزمرة الأولى من الجنة، أول ما يدخلون.
وكذلك: الزنجبيل، على قولٍ، وعين تسنيم أيضاً.
ثم تحدثنا عن طعام أهل الجنة، وأن أول ما يطعمونه زيادة كبد الحوت، والثور الذي يُنحر لهم عندما يدخلونها، ثم يشربونه عليه الماء السلسبيل، وأن الأرض تكون خبزة واحدة، نزلاً لأهل الجنة يوم القيامة.
وذكرنا الفواكه والثمار في الجنة، وذكرنا اللحم، وأنهم يأكلون ما يشتهونه منه، سواءً كان من طير أو من غيره، وذكرنا نعومة لحوم طير أهل الجنة، وأنها عجيبة، يشتهيها المؤمن، فتخر بين يديه مشوية.
وذكرنا تنوع طعام أهل الجنة، وكذلك شراب أهل الجنة، ومن ذلك: الخمر، وصفة خمر الجنة، وأن من شرب الخمر ولم يتب منها ومات لا يشرب الخمر في الآخرة، حتى لو دخل الجنة، قيل: ينزع الله منه شهوتها، فلا يشتهيها، ولو دخل الجنة.
وأما من تاب، أو صبر على عدم شربها في الدنيا، فإن الله يعقبه أن ينيله من خمر الجنة يوم القيامة، وهي الخمر العظيمة، الخمر اللذيذة، الخمر الطيبة التي تكون فيها اللذة بدون صداع ولا مغص.
وكذلك في الجنة: عين السلسبيل، سميت بذلك لسلاستها في الحلق، وسرعة جريها، ولين شربها.
وأيضاً من أشربتهم: الزنجبيل، وهو مزاج شراب الأبرار، يمزج.
وأشربتهم كذلك منها: تسنيم، كما قال: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ[المطففين: 27]وهو أشرف شراب أهل الجنة، وأعلاها، قاله أبو صالح والضحاك.
ومن أشربتهم أيضاً: الكافور، وذكرنا كيف يذهب الطعام الذي في بطونهم، وأنه بعرق كرشح المسك، فتضمر بطونهم، ليأكلوا ويأكلوا ويتمتعوا أيضاً.
وذكرنا: لباس أهل الجنة، وأن منه الحرير والديباج، وأنها تخرج من ثمار أهل الجنة، تخرج من أكمام أهل الجنة، وهذه الثياب لا تبلى أبدًا، وأن من منها: خمار المرأة في الجنة، وهو خير من الدنيا وما فيها، وأن اللباس في الجنة لا يعدله شيء من لباس الدنيا.
زينة أهل الجنة
"حلي وأساور أهل الجنة"
وأما الحلي والأساور في الجنة، فقد أخبر تعالى أن أهل الجنة يتزينون بأنواع من الحلي كما يتزينون من الثياب، قال : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌفاطر: 33].
وهذه الزينة هي زينة الحلي، بالإضافة إلى الثياب، كما قال : يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ[الإنسان: 21].
إذًا، هذه الأساور، وهذا الحلي من الذهب، من الفضة، ومن اللؤلؤ، وهناك ذهب مرصع باللؤلؤ، كما هي قراءة الجمهور في قوله: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤِ وفي قراءة: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا فيكون الحلي لؤلؤ، لكن: من أساور من ذهب ولؤلؤٍ يعني الأسورة ذهب مرصع باللؤلؤ.
هذه الحلي لها ضوء شديد، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ قال: وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ، لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ[رواه الترمذي: 2734، وأحمد: 1467، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 2538].
بعض الناس اليوم من الرجال، أشباه الرجال، يتشبهون بالنساء، فيلبسون أساور بأيديهم، والنبي ﷺ: "لعن المتشبهين من الرجال بالنساء" [رواه البخاري: 5885].
وهذا اللعن حري بأن يعاقب صاحبه، فيمنع من ذلك الحلي إلا أن يتجاوز الله عنه.
ولذلك لو شاهد الواحد من هؤلاء اليوم، فإنه يتذكر أنه بصبره على عدم التشبه بالنساء، وأنه لا يلبس قرطًا ولا أساور، ولا يلبس قلادة، وأن هذا من شأن النساء، فإن هذا الرجل موعود بصبره وطاعته لربه، إذا دخل الجنة، بأساور وحلي، فإنها ستكون في أيدي الرجال أيضاً.
و تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء كما قال النبيﷺ [رواه مسلم: 609].
فإذا أسبغت وضوءك يا عبد الله، وكذلك الأنثى إذا أسبغت وضوءها، فإن الحلي سيبلغ ما يبلغ الوضوء من المؤمن، ولذلك عندما يكون مسبغًا في مسحه لرأسه، وغسله لوجهه، ويديه إلى المرفقين، ورجليه، إن هذه مواضع حلي، وفي الدنيا معروف ما تلبسه النساء من الحلي، فيوم القيامة سيكون حليًا آخر للرجال والنساء في الجنة.
فإن قال قائل: فالرؤوس ماذا يوضع عليها من الحلي؟
فالجواب: قال النبيﷺ: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة يعني من دمه ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها... [رواه الترمذي: 1663، وابن ماجه: 2799، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 1663].
إذًا، يوضع على رأسه الوقار، هذا تاج ليس تاج معنوي، بمعنى أنه ليس يُرى، وليس حسيًا، كلا، بل هو تاج حسي، فيه يواقيت، ولذلك: ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها.
وعن بريدة قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ القرآن وتعلمه، وعمل به، ألبس والداه يوم القيامة تاجًا من نور ضوءه مثل ضوء الشمس، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان: بما كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن[رواه الحاكم: 2086، وقال: "صحيح على شرط مسلم" وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1434].
وهم الملوك على الأسرة فوق ها | تيك الرؤوس مرصع التيجان |
والحلى أصفى لؤلؤ وزبرجد | وكذاك أسورة من العقيان |
ما ذاك يختص الاناث وانما | هو للإناث كذاك للذكران |
التاركين لباسه في هذه الد | نيا لأجل لباسه بجنان |
أو ما سمعت بأن حليتهم إلى | حيث انتهاء وضوئهم بوزان |
[القصيدة النونية: 2/82].
أمشاط ومباخر أهل الجنة
من أدوات الزينة لأهل الجنة: الأمشاط والمباخر، وقد أخبرنا النبي ﷺ أن لهم أمشاطًا من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود طيب، مع أن روائح المسك تفوح من أبدانهم، فقال ﷺ في ذكر صفة أهل الجنة: آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة-قال أبو اليمان: يعني العود- ورشحهم المسك[رواه البخاري: 3246، ومسلم: 7330].
المجَامر كما قال في [النهاية: 1/807]جَمْع مِجْمَر ومُجْمَر، فالمِجْمَر هو الذي يُوضَع فيه النار للبَخُور، والمُجْمَر الذي يُتَبَخَّر به وأُعِدّ له الجَمْر.
وأما الألوة، فقد قال النووي-رحمه الله-: إنها العود الهندي[المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 2/217].
وقد يقال: إن رائحة العود، إنما تفوح بوضعه في النار، والجنة لا نار فيها.
فيقال: إنها تشتعل ب"كن"، وهذا الذي تشتعل به لا ضرر فيه، ولا إحراق، أو يفوح بغير اشتعال، والله على كل شيء قدير، يمكن أن يجعل العود يفوح بغير اشتعال.
حكمة وجود المشط في الجنة
قال القرطبي-رحمه الله-: "وقد يقال: أي حاجة لهم إلى المشط وهم مرد؟ -أهل الجنة جرد مرد، كما سيأتي- وشعورهم لا تتسخ؟ وأي حاجة لهم من البخور وريحهم أطيب من المسك؟
فالجواب: أن نعيم أهل الجنة من أكل، وشرب، وكسوة، وطيب، ليس عن ألم جوع، أو ظمأ، أو عرى، أو نتن، وإنما هي لذات متتالية، ونعم متوالية.
والحكمة في ذلك: إنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا"[انظر: فتح الباري، لابن حجر: 6/325].
فإذًا، الآن تركوا أواني من الذهب والفضة، ما شربوا فيها، ولا أكلوا فيها، ولا تبخروا فيها، منعوا أنفسهم من آنية الذهب والفضة، إرضاءً لله.
إذًا، يعوضهم الله يوم القيامة هذه المجامر، وهذه الحلي، وأمشاط الذهب أيضاً، فإنها تزيدهم جمالًا إلى جمالهم.
خدم أهل الجنة وصفاتهم
فماذا عن خدمهم؟
أما خدمهم وغلمانهم، فأمر في غاية النضارة والنعومة والجمال.
يطوف هؤلاء الغلمان على أهل الجنة في كل وقت بأشهى الأشربة والأطعمة، في أجمل الأكواب والأباريق، وهؤلاء مخلدون، لا يبيدون، ولا يكبرون، ولا يتغيرون، قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ[الواقعة: 17 - 18].
وقال : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا[الإنسان: 19]. وقال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ[الطور: 24].
فيتحصل مما ورد في صفات هؤلاء:
أولاً: أنهم ولدان، والولدان، جمع وليد، وهو الصغير من الأولاد الذي لم يبلغ.
ويدل على أنهم ذكور، قوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ[الطور: 24]؛ لأن الولد ممكن يكون ذكر أو أنثى، لكن: "غلام" يعني ذكرا، ففسروا الولدان بأنهم غلمان في الآية الأخرى.
فإذًا، هم ذكور.
ثانيًا: أنهم مخلدون، وفي قوله: مُّخَلَّدُونَ ثلاثة أقوال للمفسرين:
الأول: مخلدون من الخلد، وهو البقاء، يعني لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون، وهو قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم.
القول الثاني: مخلدون، يعني مقَرطون بالخِلدة في آذانهم، وجمعها خُلد، وهي الأقراط، كقولك: خلَّد جاريته، إذا حلاها بهذا الخَلد، وهي القِرْطة، واحتجوا بأن الخلود عام لكل من دخل الجنة، فلا بدّ أن تكون الولدان موصوفين بتخليد مختص بهم، وذلك هو القِرْطة.
القول الثالث: الجمع بين القولين، فقالوا: ولدان لا يعرض لهم الكبر والهرم، وفي آذانهم هذه القراطة، فمن قال: مقرطون، أراد هذه المعنى أن كونه ولدانًا أمر لازم لهم، هذه ذكرها ابن القيم في [حادي الأرواح، ص: 147].
ثالثًا: أنهم كاللؤلؤ المكنون، وهو اللؤلؤ المصون الذي لم يخرج من صدفه، في غاية الحسن والجمال، شبههم بذلك لبهائهم ونظافتهم، وحسن منظرهم، وملبسهم.
رابعًا: أنه شبههم باللؤلؤ المنثور، قال ابن القيم-رحمه الله-: "وشبههم سبحانه باللؤلؤ المنثور لما فيه من البياض، وحسن الخلقة.
وفي كونه منثورًا فائدتان:
إحداهما: الدلالة على أنهم غير معطلين، بل مبثوثان في خدمتهم وحوائجهم.
الثاني: أن اللؤلؤ إذا كان منثورًا، ولاسيما على بساط من ذهب أو حرير، كان أحسن لمنظره، وأبهى من كونه مجموعًا في مكان واحد"[حادي الأرواح، ص: 147].
فإذًا، هؤلاء الغلمان مبثوثون في الأماكن المختلفة، أنى التفت رآهم، يدعو من يشاء، وهذا يأتيه أيضًا يطوف عليه، يطوف عليه، يأتونهم يطوفون عليهم، قال ابن كثير-رحمه الله-: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة: مُخَلَّدُونَأي على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن.
ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم بالأقرطة، فإنما عبر المعنى بذلك؛ لأن الصغير الذي يليق له ذلك، دون الكبير.
وقوله تعالى: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا[الإنسان: 19] أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم وصباحتهم وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًاولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
وقال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو: "ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه" [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 8/292].
حكمة جعل خدم أهل الجنة من الولدان الصغار
لماذا كان الخدم في الجنة من الولدان الصغير؟
لعل السبب -والله أعلم- أن الصغير لا يُستحيا منه، فعندما يدخل على مخدوم من أهل الجنة، وهو في قصره، جالسًا مع حوريته، لا يخاف، ولا تأخذه الغيرة؛ لأن هذا صغير لا يشتهي النساء.
هل الولدان "خدم أهل الجنة" من أهل الدنيا أم خلقوا في الجنة لخدمة أهلها؟
هل هؤلاء الولدان من أهل الدنيا، أو أنهم خلقوا خصيصًا لخدمة أهل الجنة؟
القول الأول: أنهم أولاد المسلمين الذين يموتون، ولا حسنة لهم ولا سيئة لهم، فيكونون خدم أهل الجنة، ولدان أهل الجنة، إذ الجنة لا أولاد فيها، قاله علي والحسن، وروى الحاكم عن الحسن في قوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ[الواقعة: 17]قال: لم يكن لهم حسنات ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا بهذا الموضع.
القول الثاني: أنهم أبناء المشركين الذين ماتوا وهم صغار، يعني كافر عنده ولد صغير مات، ذكر، فجعله الله خدمًا لأهل الجنة، جاء في حديث أبي مالك الأشعري قال: سئل النبي ﷺ عن أطفال المشركين، فقال: "هم خدم أهل الجنة" [أخرجه ابن مندة في المعرفة: وأبو نعيم في الحلية: 6/308]. والبغوي في معرفة الصحابة: 21/7].
القول الثالث: أن الله ينشئهم في الجنة، كما أنشأ الحور العين، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- وتلميذه ابن القيم، قال ابن القيم: "والأشبه أن هؤلاء الولدان مخلوقون من الجنة، كالحور العين، خدمًا لهم، وغلمانًا، كما قال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ [الطور: 24].
وهؤلاء غير أولادهم، فإن من تمام كرامة الله -تعالى- لهم: أن يجعل أولادهم مخدومين معهم، وليسوا خادمين، مخدومين، أولاد المؤمنين يدخلون معه الجنة، منعمين مخدومين، ولا يكونون خدمًا، بل يكونون مخدومين [انظر: حادي الأرواح، ص: 148].
وقال شيخ الإسلام-رحمه الله-: "والولدان الذي يطوفون على أهل الجنة، خلق من خلق الجنة، ليسوا من أبناء الدنيا، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة كمُل خلقهم كأهل الجنة على صورة أبيهم" [مجموع الفتاوى: 4/279].
وأهل الجنة يدخلون كلهم على أعمار ثلاثة وثلاثين سنة.
ماهية السماع الذي يسمعه أهل الجنة
طيب كلام أهل الجنة
هل يوجد في الجنة أغاني؟ هل لهم غناء يسمعونه؟
قال تعالى: لَايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَاتَأْثِيمًا [الواقعة: 25]. وقال: لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَاكِذَّابًا [النبأ: 35].
قال ابن كثير في تفسيره: "أي لا يسمعون في الجنة كلامًا لاغيًا، أي غثًا خاليًا عن المعنى، أو مشتملاً على معنى حقير، أو ضعيف، كما قال: لَّاتَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً [الغاشية: 11]أي كلمة لاغية، وقال: وَلَاتَأْثِيمًاأي ولا كلامًا فيه قبح: إِلَّاقِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[الواقعة: 26]تسليم الملائكة عليهم، وتسليم بعضهم على بعض، كما قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [إبراهيم: 23].
وكلامهم أيضاً سالم من اللغو ومن الإثم[انظر: تفسير القرآن العظيم: 7/524- 525].
فماذا يسمعون في الجنة؟
سماع أهل الجنة لكلام الله ومخاطبته لهم
هم يسمعون كلام الملائكة، ويسلم بعضهم على بعض، لكن سماعهم لكلام الله، ومخاطبة الله لهم، ألذ وأشهى وأعظم في نفوسهم وأجلى، وهذا الكلام كما وصفه الله وأخبره عنه بقوله: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [يــس: 58].
بوب البخاري عليه: "باب كلام الرب -تبارك وتعالى- مع أهل الجنة"[صحيح البخاري: 9/184]وساق فيه أحاديث. فأفضل نعيم أهل الجنة: رؤية وجهه -تبارك وتعالى-، وأفضل ما يسمعونه في الجنة، وألذ مسموع: صوت الرب وهو يخاطبهم، وهو يسلم عليهم.
وإنكار هذا الكلام إنكار لنوع من نعيم الجنة، بل هو أعلى نعيم الجنة، وأفضل نعيم الجنة، الذي ما طابت الجنة لأهلها إلا به.
ومن أراد أن يحرم نفسه منه فليحرم نفسه، وليقل: إن الله لا يتكلم! لكنه له كلام عظيم، يسمعه أهل الجنة.وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي ﷺ: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك، فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا[رواه البخاري: 7518، ومسلم: 7318].
سماع أهل الجنة لكلام الملائكة
أهل الجنة يسمعون أيضاً: كلام الملائكة، وهم يسملون عليهم: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم[الرعد: 23- 24].
إنهم يهنئونهم بدخلوهم، ويهنئوهم بسلامتهم، ويهنئوهم بالتقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وقال تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا[الفرقان: 75]من الله، ومن الملائكة، ومن بعضهم على بعض، والسلامة من المنغصات والمكدرات.
وقال عن خزان الجنة الذين يخاطبون أهلها، فيقولون لهم: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر: 73]فيقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[الزمر: 74].
قال علي بن الحسين: "فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين" [الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 9/313].
ويسمع أهل الجنة: نداء المنادي من الملائكة، كما قال النبي ﷺ: ينادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدافذلك قوله : وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]. [رواه مسلم: 7336].
غناء أهل الجنة
أين الغناء؟ وهل يوجد غناء؟
الجواب: نعم، يوجد غناء بلا ريب ولا شك.
من مسموعات أهل الجنة: الغناء، ألم يصبروا في الدنيا عن الغناء المحرم؟ وعن هذه الموسيقى؟
إن الموسيقى اليوم والغناء فتنة عظيمة جداً، صار لها صناعة كاملة، قنوات، مواقع، أشرطة، أنواع من الحوافظ الإلكترونية التي تحفظها، وتشغلها، وتنشرها، وتقنيات عالية في الأصوات، التي تجعل تأثير الموسيقى في النفوس عجيبًا، إنها خمر حقيقي، إنه يذهب العقل، إنه يسبب الخدر، إنه يهيء النفس للرذيلة، إنه يطرد سماع كلام الرحمن، لا يجتمع مع الغناء في جوف العبد، لا بدّ أن يخرج أحدهما صاحبه، ولذلك الذي يصبر عن سماع الغناء اليوم، ويعرض عن هذه القنوات، وعن الأشرطة، والأقراص المدمجة، وأنواع المؤثرات الصوتية.
هذه الأغاني والموسيقى، والمؤثرات الصوتية المنتشرة اليوم، التي تسبب اللذة والنشوة والطرب، وتفعل في النفوس أحيانًا أشد من فعل الخمر، حتى أنهم ينتحرون بسببها ... متن، بلاك متن، أنواع من الأغاني والموسيقى الآن، حتى عباد الشيطان لهم موسيقى خاصة يسمعونها، وكذلك الذين يريدون النوم على الموسيقى الحالمة، والأكل في المطاعم الراقية، إنها جُعلت في كل مكان أجهزة في الألعاب، الهاتف، موسيقى حتى في المساجد، لما صار هذا الغزو للنفوس والقلوب في الغناء والموسيقى، لا بدّ أن نعلم أن الصابر عنها، الممتنع عنها، المجاهد نفسه كي لا يسمعها، لا بدّ أن يكون له أجر عظيم، وأن يكون له بدلاً من هذا الذي منع نفسه منه، ما هو أفضل منه وأعلى بكثير.
غناء الحور العين في الجنة
يسمع أهل الجنة في الجنة: غناء النساء، إنهم يسمع غناء الحور العين.
إن غناء الحور العين لذيذ جداً، إنه يطرب النفس، إنه يجعل هذه النفس تتنعم بلذة الصوت، وما يكون من حسنه، هذا الغناء الذي أخبر النبي ﷺ عن الحور العين، وهن يغنين أزواجهن بكلام لم يسمع مثله بشر قط، بهذا الصوت، ما سمع أحدًا مثله أبدًا.
وسيأتي غناء الحور العين في صفة الحور العين، وماذا يقلن في غنائهن.
صفات أهل الجنة الخَلْقية والخُلُقية
ما هي صفات أهل الجنة الخلقية والخلقية؟
خلق أهل الجنة على صورة آدم -عليه السلام-:
إنهم على أجمل الصفات، وأكمل الهيئات، إنهم على صورة آدم-عليه السلام- قال ﷺ: خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا ثم قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعًا[رواه البخاري: 6227، ومسلم: 7342].
أهل الجنة جرد مرد مكحلون أبناء ثلاثة وثلاثين
وهم جرد مرد، مكحلون، أبناء ثلاثة وثلاثين، كما قال ﷺ: يدخل أهل الجنة الجنة جردًا والأجرد الذي لا شعر له في جسده مردًا وهو الذي لا لحية له: مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة[رواه الترمذي: 2545، وأحمد: 22159، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 2545].
أهل الجنة لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا يبأسون ولا ينامون
أيضاً: لا يبأسون، كما قال ﷺ: ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا الصحة تامة، ما في أمراض، ولا أوجاع، ولا صداع، ولا أسقام نفسية، ولا بدنية، ولا وصب، ولا تعب، ولا نصب، لا هم ولا غم ولا حزن.
الجسد سليم، والصحة تامة، والشباب موفور، قال: وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا فذلك قوله : وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]تقدم الحديث [رواه مسلم: 7336].
وقالﷺ: من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه[رواه مسلم: 7335].
النوم يقطع عن اللذة؛ لأنه إذا نام غاب عن الوعي بالنوم، ولذلك أهل الجنة لا ينامون أصلا.
وهل هناك تعب يحتاجون منه إلى راحة الجسد؟
لا، ولماذا ينامون والنوم يغيبهم عن الواقع، والواقع الذي يعيشون فيه كله نعيم، ولذلك لا ينام أهل الجنة.
وقال ﷺ: أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان-يعني على الأقل، كل واحدة منهما- يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشيًا، لا يسقمون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة العود الذي يتبخر به ورشحهمعرقهم المسك [رواه البخاري: 3246، ومسلم: 7330]. وجاء في لفظ: أخلاقهم على خلق رجل واحد[رواه مسلم: 7329].
إذًا، الأعمار واحدة.
أهل الجنة مضيئون
أيضاً: أهل الجنة مضيئون، لكن يتفاوتون في الإضاءة بحسب مراتبهم؛ لأنه قال: إنه في الزمرة الأولى على صورة القمر ليلة البدر فهذا إذًا منير مضيء.
قال: والذين على أثرهم كأشد كوكب إضاءة-طبعًا- هذا سيكون أقل من ضوء القمر، لكن لامع مضيء، قال ﷺ: تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر [البخاري: 6542]-طبعًا- هذا ليس هو حقيقة ما يكون، لكن يريد أن يقرب الصورة للأذهان، أما الحقيقة لا يمكن أن ندركها، لكن يريد أن يقول إنها تضيء حقيقة، ليس في الإضاءة، يعني معنوية، أو الإضاءة هنا مثلاً كناية عن شيء، إضاءة حقيقية، ألا ترون القمر مضيئا ليلة البدر إضاءة حقيقية، فكذلك.
أما الكيفية، فلا يعلمها إلا الله.
لا شك أن وجوههم أجمل من القمر ليلة البدر بكثير، ولا مقارنة، هذه الرواية في [البخاري: 6542].
وفي لفظ لمسلم: ثم هم بعد ذلك منازل.
وقد ذكرنا: أن أولهم كالقمر ليلة البدر، ثم كأشد كوكب في السماء إضاءة، ثم هم منازل.
أهل الجنة يسبحون الله ويحمدون
إنهم يسبحون، والتسبيح والذكر هذا، هل يأخذ منهم جهداً؟ هل هو يتعبهم؟
اللسان والصوت إذا أكثر الإنسان الكلام يتعب صوته، لكن في الجنة لا يتعبون من هذا، ولا يجدون أي جهد ولا مشقة، قال ﷺ: يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس[رواه مسلم: 7329] أنت كيف تتنفس الآن بشكل تلقائي طبيعي جداً وغير متعب، هم يلهمون كذلك التسبيح، كما نتنفس نحن.
قال القرطبي: "هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام ... ووجه التشبيه: أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بدّ له منه، فجعل تنفسهم تسبيحًا، وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب -تبارك وتعالى-، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره [فتح الباري: 6/326].
أهل الجنة صفات النقص منفية عنهم
كذلك قال ﷺ: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون لا بصاق ولا بلغم ولا نخاعة ولا نخامة، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء، ورشح كرشح المسك [رواه مسلم: 7331].
وعند أحمد من حديث زيد بن أرقم: حاجة أحدهم عرق يفيض من جلودهم يخرج من مسامه مثل ريح المسك، فإذا البطن قد ضمر[رواه أحمد: 19288، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3739].
انهضم الطعام، وانضم البطن، وصار متسعًا للمزيد.
وفي هذا نفي لجميع صفات النقص عنهم، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "لما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال، لم يكن فيها أذى ولا فضلة تستقذر، بل يتولد عن تلك الأغذية أطيب ريح وأحسنها".
قال القرطبي: "نعيم أهل الجنة من أكل وشرب وكسوة وطيب، ليس عن ألم جوع أو ظمأ أو عري أو نتن، وإنما هي لذات متتالية، ونعم متوالية".
وقال النووي: "مذهب أهل السنة: أن تنعم أهل الجنة على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة" فهو في التقابل، في طعام وشراب ولباس ونساء وأنهار وأشجار، وعنب، ورمان، ونخيل، لكن الكيفية تختلف، الطعم يختلف، قال النووي: "ودل الكتاب والسنة على أن نعيمهم لا انقطاع له"[انظر: فتح الباري: 6/325].
أخلاق أهل الجنة متوافقة
ما هي الأخلاق؟ وكيف هي؟
متوافقة عند الجميع، قال ﷺ: قلوبهم على قلب رجل واحد يعني متوافقة متطابقة في الصفاء والجلاء، كلهم لا يحسدون، كلهم لا يحقدون، كلهم ما في صدورهم غل، قال: لا اختلاف بينهم ولا تباغض[رواه البخاري: 3245، ومسلم: 7330].
وجاء عند مسلم: أخلاقهم على خلق رجل واحد [رواه مسلم: 7328].
القوة البدنية لأهل الجنة
ما حال القوة البدنية؟
جاء عن أنس عن النبي ﷺ قال: يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع قيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: يعطى قوة مائة [رواه الترمذي: 2536، وصححه الألباني لشواهده، كما في مشكاة المصابيح: 5636].
وفي حديث زيد بن أرقم مرفوعًا أيضاً قال: والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع[رواه أحمد: 19288، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3739].
قال ابن القيم -رحمه الله-:
يعطي المجامع قوة المائة التي أجـ | ـتمعت لأقوى واحد الانسان |
لا أن قوته تضاعف هكذا | إذ قد يكون لأضعف الأركان |
ويكون أقوى منه ذا نقص من الـ | إيمان والأعمال والاحسان |
[القصيدة النونية: 2/85- 86]
فإذًا، هم يتفاوتون أيضاً في هذا بتفاوت إيمانهم وأعمالهم.
صفات الحور العين وصفات نساء الجنة
ما هي أخبار الحور العين؟ وما هي أخبار نساء أهل الجنة، وهؤلاء الذين صبروا عن الفواحش في الدنيا وما وقعوا في الزنا، رغم كثرة المغريات والصور والأفلام والتبرج الحادث في الشوارع والأسواق والطرقات، وهذه الاتصالات، وتطور ووسائل الاتصالات وما فيها من الجاذبية والإغراءات، ورغم ما في هذه المجلات والشاشات، ورغم ما في هذه السبل الكثيرة للحرام الموجودة، هؤلاء الذين حبسوا أنفسهم عن الحرام، وصبروا عن الحرام، وما وقعوا في الحرام، وتابوا إلى ربهم من الحرام، فلا بدّ أن يكون لهم مكافأة؟
وعد الله الصالحين بالزوجات الجميلات، كما وعد الصالحات بأنه ليس منهن امرأة عازبة، ولا رجل أعزب، كلهم في الجنة، كلهم ذو أزواج، من النساء ومن الرجال، قال تعالى: كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ[الدخان: 54].
والحور، جمع حوراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة، نقية اللون والجلد، لبياضها، شديدة بياض العين وسوادها، شديدة بياض البياض، وشديدة سواد السواد، وقد شبهن تعالى بأنهن كأمثال اللؤلؤ المكنون، فقال : وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ[الواقعة: 22 - 23].
واللؤلؤ المكنون، هو المصون الذي لم يخرج من صدفه، وهو في غاية الحسن والجمال والبهاء.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها[رواه البخاري: 2796].
وحسبك شهادة لجمالهن الباهر، وأنه بلغ الغاية في الحسن والمنتهى في الجمال، أن الله شهد بهذا، فقال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ[الرحمن: 70].
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌفي الخلقة والأخلاق، جمعن بين جمال الظاهر، وجمال الباطن.
أما نساء الدنيا الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، نساء أهل الدنيا من الصائمات القانتات الذاكرات لله كثيرًا، فهن أفضل من الحور العين جمالاً وجلالاً، وقدرًا وأخلاقًا.
ومن كانت منهن ليست ذات زوج في الدنيا، فإنها تزوج يوم القيامة في الجنة، إذا دخلت الجنة، فقد تزوج بمن لم يتزوج ومات وهو من أهل الجنة، أو بغير ذلك، مما يريده الله -تعالى-.
الصفات الخلْقِية للحور العين
أما صفات الحور العين الخلقية؟
أولاً: بياض البشرة وصفاؤها، كما قال تعالى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ[الصافات: 48 - 49].
قال السدي: "بياض البيض، حين ينزع قشره".
إذا نزعت القشرة كيف ترى هذه البيضة في صفائها ولينها ونعومتها وطراوتها، هي أعظم من ذلك، لكن يريد أن يقرب لك الصورة، كي تحس أن هذا النعيم حقيقي، وليس نعيمًا وهميًا: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ"واختاره ابن جرير لقوله: مَّكْنُونٌقال: "والقشرة العليا يمسها جناح الطائر والعش وتنالها الأيدي بخلاف داخلها" [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 7/14].
وقال: إنه بيض النعام المكنون في الرمل، وهو عند العرب أحسن ألوان البياض.
وقيل: اللؤلؤ قبل أن يبرز من صدفه، هذا البيض المكنون.
وقيل غير ذلك.
وقال تعالى أيضاً في وصفهن: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ[الرحمن: 58].
قال مجاهد والحسن والسدي وابن زيد: "في صفاء الياقوت، وبياض المرجان".
فالحور العين بشرتهن بيضاء صافية كالمرآة، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال في أهل الجنة: ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن[رواه البخاري: 3245، ومسلم: 7330].
وقوله: مخ سوقهما من وراء اللحم المخ ما في داخل العظم، والمراد وصفها بالصفاء البالغ، وأن ما في داخل العظم لا يستتر بالعظم واللحم والجلد، من رقتها ونعومتها وصفائها، ما في داخل العظم لا يستتر بالجلد، وهذا في الداخل في غاية الجمال، فيراه من خارج.
ووقع عند الترمذي: ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة، حتى يرى مخها[رواه الترمذي: 2533، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب: 2220 من حديث ابن مسعود] وجاء نحوه عند أحمد من حديث أبي هريرة [رواه أحمد: 9433، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"].
وقد فسر بعض المفسرين: معنى: الحور العين، بالبياض وصفاء اللون.
قال ابن عباس: الحور في كلام العرب: البيض.
وكذا قال قتادة: الحور البيض.
وقال مجاهد: الحوراء التي يحار فيها الطرف من رقة الجلد، وصفاء اللون.
وقال مقاتل: الحور بيض الوجوه.
وقال مجاهد: الحور العين التي يحار فيهن الطرف باديًا مخ سوقهن من وراء ثيابهن[انظر: حادي الأرواح، لابن القيم، ص: 150].
هذا عجب، عجب عجب، أن الثياب سبعين حلة ما تستتر صفاء لونها، ويرى الناظر وجهها فيهن كالمرآة، من رقة الجلد، وصفاء اللون.
ثانيا: ثم جمال العيون واتساعها، قال تعالى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ[الصافات: 48].
جمع عيناء، وهي الواسعة العين، وجمعت أعينهن مع السعة صفات الحسن والملاحة، قال ابن القيم عند شرحه لمعنى: الحور العين: "والصحيح أن الحور، مأخوذ من الحور في العين، وهو شدة بياضها، مع قوة سوادها، فهو يتضمن الأمرين ... والحور في العين، معنى يلتئم من حسن البياض والسواد، وتناسبهما" هذا البؤبؤ الشديد السواد في هذه العين شديدة البياض "واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر" هذا شدة السواد يكتسب حسن من شدة البياض، وشدة البياض يكتسب حسن من شدة السواد، هذا الحسن المركب بعضه من بعض، هو بذاته جميل جداً، وإذا اجتمع مع غيره أجمل وأجمل.
قال: "وعين الحوراء إذا اشتد بياض أبيضها، وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء، حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد.
والعين، جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء، ورجل أعين إذا كان ضخم العين، وامرأة عيناء، والجمع عين.
والصحيح: أن العين اللاتي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة، قال مقاتل: العين حسان الأعين، ومن محاسن المرأة: اتساع عينها في طول" -طول شق العين- "وضيق العين في المرأة من العيوب" [انظر: حادي الأرواح، ص: 150 - 151].
وكذلك ثالثًا في صفات الحور العين: أنهن مطهرات من الأنجاس والأقذار، قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة: 25].
قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس: مطهرة من القذر والأذى، فلا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن.
قال مجاهد: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين ولا يمنين، ولا يحضن ولا يتنخمن، ولا يلدن.
وقال قتادة: مطهرة من الإثم، والأذى طهرن الله -سبحانه- من كل بول وغائط وقذر ومأثم[انظر: حادي الأرواح، ص: 149].
رابعا: أتراب في السن، قال : وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ[ص: 52].
وقال سبحانه: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة: 35 - 37].
قال ابن عباس وسائر المفسرين: مستويات على سن واحد، وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: أتراب أمثال.
قال إسحاق: هن في غاية الشباب والحسن.
وقال أبو عبيدة وأبو إسحاق: أقران أسنانهن واحدة.
والمعنى من الإخبار لاستواء أسنانهن، أنهن ليس فيهن عجائز، قد فات حسنهن، ولا ولائد لا يطقن الوطء [انظر: حادي الأرواح،ص: 152].
خامسا: أبكار، قال تعالى: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة: 35 - 36].
وقال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَاجَانٌّ [الرحمن: 74]. قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهنّ ولم يجامعهنّ قبلهم أحد[فتح القدير: 7/112].
وقال أبو الهيثم: "يقال للمرأة: طمثت، إذا أدميت بالافتضاض [حادي الأرواح: ص: 152].
والبكر أفضل من الثيب.
وعندما يطأ الرجل حوريته في الجنة ترجع بكرًا مرة ثانية! هذا من أعجب العجب!.
سادسا: كواعب، قال : إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ: 31 - 33].
الكواعب، جمع كاعب، وهي المرأة التي تكعب ثديها، وأصل اللفظة من الاستدارة.
والمراد: أن ثديهن نواهد كالرمان، ليست متدلية إلى أسفل، ويسمين: نواهد، وكواعب[انظر: حادي الأرواح، ص: 157].
الصفات الخُلُقية للحور العين
هذا بالنسبة للخلقة، فماذا بالنسبة للخلق؟
فاسمع يا عبد الله، واسمعي يا أمة الله:
أولاً: قاصرت الطرف، وصفهن بقصر الطرف في ثلاثة مواضع، قال تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَاجَانٌّ[الرحمن: 56]. وقال: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ[الصافات: 48]. وقال: وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ[ص: 52].
والمفسرون: كلهم على أن المعنى: قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يطمحن إلى غيرهم، ولا يردن غيرهم، فلا يرين شيئًا أحسن في الجنة من أزواجهن، قاله ابن عباس وقتادة وعطاء الخرساني وابن زيد[انظر: تفسير القرآن العظيم: 7/504].
وأنت تعلم يا أيها الرجل: أن من أعظم النعيم في الحياة الزوجية أن المرأة لا ترى رجلاً أحسن من زوجها، وأن تكون مقتنعة به تمام الاقتناع، هذا متحقق تمامًا في الجنة إلى أقصى درجة، وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: "والله ما أرى في الجنة أحسن منك ولا في الجنة شيء أحب إليّ منك، فالحمد لله الذي جعلك لي، وجعلني لك" [تفسير القرآن العظيم: 7/504].
وقيل: قصرن طرف أزواجهن كلهن فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن، فهي قصرت طرف زوجها عليها، من شدة جمالها.
ثانيًا: أنهن عربًا، قال : عُرُبًا أَتْرَابًا[الواقعة: 37].
والعروب، هي: المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيأتها، ودلالها وجمالها، ومحبتها.
فهي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصًا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة، والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها، ملأت قلب بعلها فرحًا وسرورًا، وإن برزت من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحًا طيبا، ونورًا، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، ص: 234].
قال صاحب "تاج العروس": العربة، هي الغنجة، والغنج في الجارية تكسر وتدلل[تاج العروس: 6/134].
وقال في "أبجد العلوم": هي الأصوات التي تصدر عن العذارى، والنساء الجميلات المهيجة للشوق، وهذا الغنج إن وقع أثناء المباشرة، وحال المخالطة والتقبيل، وغير ذلك، كان محركًا أقوى لقوة الوقاع[انظر: أبجد العلوم، القنوجي: 2/392].
إذًا، لو قال: الآن في نساء يتصلن بالهاتف، ونساء.. وصوت الواحدة يسبي العقل! وهذا خضوع بالقول! وهذا يفسد القلب! وهذا يجعل الإنسان كالأسير؟!
فنقول: اصبر عنه، فإنك ستسمع ما هو ألذ من هذا بكثير، وإنما الدنيا ساعة فاجعلها طاعة، وبعد ذلك فإنما في الجنة سينسي كل ما في الدنيا، من الصبر عن المحرمات، وعلى الطاعات.
ثالثا: طهارة من جميع الأخلاق السيئة، قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة: 25]مطهرات من الأنجاس والأقذار، هذه طهارة حسية، لكن أيضاً مطهرات من الأخلاق السيئة، قال ابن القيم-رحمه الله-: "فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ"[حادي الأرواح، ص: 149].
تمتع أهل الجنة بالحور العين
ثم ماذا جاء من التمتع بالحور العين؟
تمتع أهل الجنة بسماع غناء الحور العين
لا شك أنه يكون بالحواس المختلفة في البصر لا يقع على أجمل منها، ولا يطمح إلى غيرها من جمالها، والكلام يلتذ بسماعه، والغناء، وهذا الغناء من أعظم النعيم من الحور العين، قال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ[الزخرف: 70].
هذا الدليل على أن الجنة فيها غناء، وأنهن يسمعن غناء الحور العين؛ لأن قوله: تُحْبَرُونَ، الحبر اللذة والسماع، قال مجاهد وقتادة: "ينعمون" [تفسير القرآن العظيم: 6/307] لذة الأذن بالسماع، هذا الحبور، وهذا النعيم.
وقد أخبرنا النبي ﷺ أن الحور العين في الجنان يغنين بأصوات جميلة عذبة؛ كما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام ينظرن بقرة أعيان، وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتن، نحن الآمنات لا يخفن، نحن المقيمات فلا يظعن[رواه الطبراني في الكبير: 11/364، رقم: 849، وفي الأوسط: 5/149، رقم 4917، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3749].
فيالذة الأبصار إن هي أقبلت | ويالذة الأسماع حين تكلموا |
تمتع أهل الجنة بشم ريح حور العين
أما الشم، فاطيب ريح يشم منهن، وقد جاء في الحديث الصحيح: ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ما بين السماء والأرض ولملأته ريحًا يعني من طيبها ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها[رواه البخاري: 2796].
أهل الجنة بملامسة الحور العين
أما الملامسة؟
فبجميع معانيها، قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ[يــس: 55].
ما هو الشغل؟ ما معنى: فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ [يــس: 56]؟
قال ابن عباس وغيره: "شغلهم افتضاض الأبكار"[تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 6/582].
ويعطى الرجل في الجنة قوة مائة، فعن أنس عن النبي ﷺ قال: يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماعقيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: يعطى قوة مائةحديث صحيح[رواه الترمذي: 2536، وصحح الألباني لشواهده، كما في مشكاة المصابيح: 5636].
هذه الحوراء، إذا كانت لزوج صالح، له زوجة في الدنيا تؤذيه، فإنها تغار عليه من المؤذية هذه، وقد قال ﷺ في الحديث العجيب الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا[رواه الترمذي: 1174، وابن ماجه: 2014، وأحمد: 22154، وقال محققو المسند: "إسناده حسن].
قال رجل لزوجته: لا تؤذيني! ترى الآن الحوراء تدعي عليك؟! قالت: اضمن الجنة أولاً!!.
فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في زوجها أضاءت الجنة من ضحكها! وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها! وإذا حاضرت زوجها -فكاهته بالكلام وحادثته- فيا حسن تلك المحاضرة! وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة!.
وحديثها السحر الحلال إن طال لم يمل! وود المتحدث أنها لا توجز! وإن غنت فيا لذة الأبصار والأسماع! وإن آنست وأمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع!.
فيا خاطب الحسناء إن كنت باغيًا | فهذا زمان المهر فهو المقدم |
وكن مبغضًا للخائنات لحبها | فتحظى بها من دونهن وتنعم |
وصم يومك الأدنى لعلك في غد | تفوز بعيد الفطر والناس صوم |
[حادي الأرواح، ص: 6].
عدد زوجات المؤمن في الجنة
كم للرجل من زوجة في الجنة؟ وكم عدد الزوجات؟
-ذكرنا- أن لكل واحد منهم زوجتان، ولكن هنالك أحاديث أخرى تدل على أن لبعضهم أكثر، فقد قال ﷺ: في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة واسعة التجويف عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن[رواه البخاري: 4879، ومسلم: 7338].
هذه الزوايا أكثر من ثنتين، وكل واحدة فيها أهل، معناها أكثر من اثنتين، والأهل لا يرى بعضهم بعضًا.
وروى الترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله ﷺ: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين [رواه الترمذي: 1663، وقال: "حسن صحيح غريب" وابن ماجه: 2799، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1375].
فما المقصود إذًا بزوجتين -كما في - الرواية الأولى؟
قال بعض العلماء: زوجتان من نساء الدنيا، وهو فهم أبي هريرة، وهو راوي الحديث في صحيح مسلم، وورد بذلك أحاديث، لكنها شديدة الضعف، فلم يبق عندنا مستند لهذا القول إلا قول الصحابي، وأنعم به.
وقيل: المراد أن يكون لكل منهم زوجتان موصفتان بأن يرى مخ ساقها من ورائها.
وهذا لا ينافي أن يحصل لكل منهم كثير من الحور العين، غير البالغة إلى هذه الغاية، فقالوا: في حديث الثنتين في التي يرى مخ ساقها، وأكثر -التي لا يرى مخ ساقها، ليس لها هذه الميزة- جمعًا بين الروايات.
وقيل: المراد أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان، وهذا ما ذهب إليه ابن حجر-رحمه الله-[فتح الباري: 6/325].
وقد ورد حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في هذا، قال ﷺ: إن أدنى أهل الجنة منزلة...إلى أن قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: فيقول ما أعطي مثلما أعطيت [رواه مسلم: 482] يظن نفسه أعلى واحد! وهذا أدنى واحد!.
فكيف يتساوى مع من هم أعلى منه درجة؟
وفي هذه الأقوال الثلاثة لا تعارض بينها.
ويؤيد الثاني والثالث: ما جاء عند [الدارمي: 2832]: ما في الجنة أحد إلا له زوجتان، إنه ليرى مخ ساقهما من وراء سبعين حلة، ما فيها من عزب قال محقق الدارمي الشيخ حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".
ويؤيد الأول، فهم الصحابي أبي هريرة .
وأجاب بعضهم: باحتمال أن تكون التثنية تنظيرًا لقوله: "جنتان" و"عينان" ونحو ذلك.
أو المراد تثنية التكثير والتعظيم، نحو: "لبيك وسعديك"[انظر: فتح الباري، لابن حجر: 6/325]ليس المقصود بالسعدين اثنين فقط، بل المقصود الكثير، ولا مفهوم لهذه التثنية، وهذا عليه ملحظ، على هذا التوجيه.
فإذًا، ممكن نقول: من أوجه الأقوال: أقلواحد عنده ثنتين من الحور العين.
شمولية نعيم الجنة للرجال والنساء
لكن هذه الزيادة: ما فيها من عزب[رواه الدارمي: 2832، وقال الشيخ حسين سليم أسد: "إسناده صحيح"]مهمة في بيان الأمر للنساء، عندما يقلن: الرجال لهم الحور العين؟ فماذا للنساء؟
نقول: هي مخدومة، مزوجة، ليست عزباء، لا يوجد في الجنة امرأة بلا زواج، يزوجها الله -تعالى-، والنساء في الجنة نعيمهن عظيم، وليس نعيم الجنة خاص بالرجال، حتى هذه الشهوة للجماع، وغيرها، للنساء أيضاً؛ لأن الله قال عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آلعمران: 133]يعني من الجنسين.
وقال : وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَيُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 124].
وقال : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
لما ذكر الله -تعالى- هذه المغريات الموجودة في الجنة، من أنواع المأكولات، والمناظر الجميلة، والملابس والمساكن، فإن ذلك يعم الجنسين، الذكر والأنثى؛ لأن أم عمارة الأنصارية أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ما أرى كل شيء إلا للرجال؟ وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت: هذه الآية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[الأحزاب: 35]. [رواه الترمذي: 3211، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح الترمذي: 2565].
إذًا، كل ما يذكر من نعيم في الجنة للرجال والنساء.
حِكم تخصيص الرجال بالتشويق والترغيب في الحور العين
ولكن يتساءل الكثير من النساء: بأن الله قد أغرى الرجال وشوقهم، بذكر الحور العين! والشهيد له اثنين وسبعين من الحور العين! والنساء الجميلات! وذكر وصف الحور العين بهذه الدقة! فما هو المقابل للنساء؟
الجواب: إن من طبيعة النساء الحياء، كما هو معلوم، ولذلك من حكمته تعالى: أنه لم يذكر لهن في تشويقهن للجنة ما يستحيين منه، ولو ذكر لها كيف تشتهي في الجنة، وماذا يكون حالها، لاستحت، وإلا لها، موجود بلا ريب ولا شك.
ولو ضربن مثلاً لذلك في الدنيا عندما يكون الابن شديد البر بأبيه، لا يرى والده حرجًا في أن يتحبب إلى ابنه البار، وأن يعده بتزويجه من أجمل الفتيات، ويصف له ما في خاطره وذهنه وعقله أن يزوجه إياه.
لكن الأمر ذاته لا يحدث عندما تكون البنت بارة بأبيها، ويريد أن يحدثها بنيته في تزويجها، فهو لا يقول: أريد أن أزوجك رجلاً كذا وكذا وكذا، من صفته؛ لأن البنت تتحرج بفطرتها من الإصغاء إلى هذا الكلام، ولذلك عدم ذكره، لا يدل على عدم وجوده، بل هو موجود. هذه مسائل الشهوة واللذة، كلها للنساء موجودة، وافرة تامة، ألم يقل الله -تعالى-: لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] فما تشاؤه المرأة، وما تهواه، موجود ومهيأ، لكن هذا الكلام المحفوظ المصون لها، المناسب لحيائها.
وأيضاً نلاحظ: أن الله لما شوق الشهداء للحور العين، كلف الرجال بالجهاد، ولم يكلف النساء بالجهاد، فناسب أن يقول للشهيد كذا كذا.
وأيضاً: فإن شوق المرأة للرجال، ليس كشوق الرجال للمرأة، ولذلك يقال لمن يلوم زوجته على عدم مجاراتها له دائمًا في شهوته، مما يقال له في التهوين عنه في هذه المسألة: ليست شهوة المرأة للرجل كشهوة الرجل للمرأة، فراع هذا فيها.
ولو كان هذا موجود فيهن لكثر الفساد في النساء أضعاف مضاعفة! هو الآن مصية! فكيف لو كان مثله؟!
ولذلك في أشياء خلقية، تتعلق بالخلقة، والصفات والحياء، مراعاة في قضية عدم توصيف أشياء للنساء في مسائل الشهوة في الجنة، مثلما للرجال، ومن تأمل في هذا، عرف، فلذلك لا ينبغي أن تحس المرأة المسلمة الصالحة أبداً أنه هناك نقصًا، أو أنها ليس لها مثل الرجل، أو أنها ممنوعة ومحرومة، فهذا لا يمكن في الجنة: وَفِيهَا مَاتَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ[الزخرف: 71]كل ما تشتهيه، أليست نفسًا؟
أحوال النساء في الجنة
أما أحوال المرأة في الجنة مع زوجها في الدنيا وغير المتزوجة، فهناك حالات لا تخرج عنها المرأة:
أولاً: إما أن تموت قبل أن تتزوج.
ثانيا: أن تموت بعد طلاقها ولا تتزوج بآخر.
ثالثا: أن تكون متزوجة، ولكن لا يدخل زوجها الجنة، هذا فرعون زوجته آسيا، هو في النار، وهي في الجنة.
رابعا: أن تموت بعد زواجها، وهي في عصمة زواجها.
خامسا: أن يموت زوجها وتبقى بعده بلا زوج، حتى تموت.
سادسا: أن يموت زوجها، فتتزوج بعده غيره.
فما مصيرها في الجنة بناءً على هذه الحالات؟
المرأة التي ماتت قبل أن تتزوج
أما المرأة التي ماتت قبل أن تتزوج، فإن الله -تعالى- يزوجها لمن تقر عينها به في الجنة؛ لأن الزواج من جملة النعيم الذي وعد به أهل الجنة، وهو مما تشتهيه النفوس، وتتطلع إليه.
ماتت بنت ولم تتزوج، في الجنة متزوجة قطعًا؛ لأن هذه الشهوة لا يحرم منها أحد في الجنة لا ذكر ولا أنثى، ولذلك ذكروا في المرأة تموت بجمع شهيدة، البكر تموت بغشائها لم تمس، وأنها شهيدة، يعني ماتت عفيفة، ماتت على عفة، لذلك هذه البنت التي ماتت ولم تتزوج، أو صارت عجوزعمرها ثمانين سنة، وماتت وما تزوجت، في الجنة مزوجة لو دخلت الجنة، وأمرها معروف، وليس في هذا شك؛ لأن الله لما قال: وَفِيهَا مَاتَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ[الزخرف: 71]والمرأة نفس وتشتهي.
إذًا، لا بدّ أن تتزوج.
وقال تعالى: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
ويؤكد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ ... وما في الجنة أعزب[رواه مسلم: 7325]. "ما" نافية، ما في الجنة أعزب، لا ذكر ولا أنثى.
قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: "وإذا لم تتزوج -أي المرأة في الدنيا-، فإن الله -تعالى- يزوجها ما تقر به عينها في الجنة، فالنعيم في الجنة ليس مقصورًا على الذكور، وإنما هو للذكور والإناث، ومن جملة النعيم: الزواج" [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 2/53] فكيف تدخل جنة، وتحرم منه؟!
المرأة التي ماتت وهي مطلقة ولم تتزوج بزوج آخر
ومثلها المرأة التي ماتت وهي مطلقة، وكذلك المرأة التي لم يدخل زوجها الجنة، لو زوجها مرتد كافر، لن يدخل الجنة أبداً، وهي مؤمنة، لكن هي ما ذنبها؟ فلذلك تزوج في الجنة، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة، ولم تتزوج، أو كان زوجها ليس من أهل الجنة، فإنها إذا دخلت الجنة، فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال" [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 2/52]أي فيتزوجها أحدهم، وأيضاً في رجال يدخلون الجنة، وزوجاتهم لا يدخلن الجنة، نوح ولوط -عليهما السلام- زوجة نوح، وزوجة لوط، خانتاهما: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ[التحريم: 10].
وقد قيل: إن مريم-عليها السلام- تكون من زوجات نبينا محمد ﷺ.
ما لها زوج؟
وهكذا، وآسيا امرأة فرعون.
إذًا، فلتطمئن المرأة لهذا تمام الاطمئنان.
المرأة التي ماتت بعد زواجها أو مات عنها زوجها ولم تتزوج بعده
وأما المرأة التي ماتت بعد زواجها، أو مات عنها زوجها وبقيت بعده ولم تتزوج حتى ماتت، وكلاهما دخلا الجنة، ما هي النتيجة؟
هي زوجته في الجنة، فإذا كان الزوجان من أهل الجنة، فإن الله -تعالى- يجمع بينهما فيها، بل يزيدهم من فضله، فيلحق بهم أبناءهم ويرفع درجات الأدنى إلى الأعلى، ويلحقه بمن فوقه؛ كما قال عن دعاء حملة العرش من الملائكة يدعون للمؤمنين: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[غافر: 8].
وقال : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ[الطور: 21].
لو الأب أعلى من قرة العين التي يعطيها الله للأب أن يلحق به ولده، إذا دخل الجنة، ولو كانت مرتبة الولد أدنى، يرفعه الله للأب، لتقر عينه.
وقال : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد: 23]. وقال: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ[يــس: 56]. وقال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ[الزخرف: 70].
المرأة التي تزوجت في الدنيا بأكثر من زوج
وأما المرأة التي تزوجت في الدنيا بأكثر من زوج، فإن من فارقها بطلاق، حل زواجه بطلاقه، فتعين افتراقهما في الآخرة كما افترقا في الدنيا.
هذا جواب -والله أعلم- على سؤال من سأل: واحد طلق زوجته، وماتا، فهل تكون معه في الجنة؟
ولو أتاك، وقال: أصلاً أنا مطلقها! ما أريدها في الدنيا! تجيني في الجنة؟!
نقول: أول شيء ادخل الجنة! ويكون خيرا!.
ثانيًا: قال بعض العلماء: إنها لا تكون معه، حل الزواج بالطلاق، انتهت العلاقة، صار مثله أي رجل أجنبي عنها، وهي امرأة أجنبية، عنه، انتيها.
فأين يكون مصيرها لو ماتت بدون زواج؟
فنقول: ستزوج في الجنة ولا بدّ.
أقوال العلماء في المرأة التي تزوجت في الدنيا أكثر زوج بعد موت أو طلاق
وأما المرأة التي تزوجها أكثر من شخص، فبعد موت الأول تزوجت الثاني، ثم طلقها الثاني، فتزوجت الثالث -مثلاً- فمع من تكون من هؤلاء؟
للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تكون مع أحسنهم خلقًا، كان معها في الدنيا.
الثاني: أنها تخير بينهم.
الثالث: أنها لآخر أزواجها.
واحتج من قال: بأنها تكون مع أحسنهم خلقًا، بما جاء عن أنس: أن أم حبيبة زوج النبي ﷺ قالت: يا رسول الله المرأة يكون لها الزوجان في الدنيا ثم يموتون ويجتمعون في الجنة لأيهما تكون للأول أو للآخر؟ قال: لأحسنهما خلقًا كان معها -يا أم حبيبة- ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة[التذكرة في أحوال الموتى والآخرة، ص: 560].[رواه الطبراني في الكبير: 18928، والعقيلي في الضعفاء: 768، والخرائطي في مكارم الأخلاق: 45].
ولكن الحديث ضعيف جداً، وممن نص على ضعفه: الذهبي، والعراقي[تخريج أحاديث الإحياء: 4/66]،والألباني[ضعيف الترغيب والترهيب، رقم: 1604، وابن عدي في [الكامل: 7/53]،وابن الجوزي في [العلل المتناهية: 2/650].
الثاني: تخير بين أزواجها، فذكره القرطبي بصيغة التمريض: "وقيل: إنها تخير إذا كانت ذات زوج" كما في كتابه: [التذكرة، ص: 560].
ولعل مستند هذا القول: أن الله وعد المؤمنين بالجنة بأن لهم ما تشتهيه الأنفس، وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ[الزخرف: 71].
وهذا معناه: أنها تختار من تشاء منهم، رجحه الشيخ العثيمين في فتاويه [انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 2/53].
وأما من قال: أنها تكون لآخرهم في الدنيا، فله عدة أدلة -في الحقيقة-:
أولاً: ما رواه الطبراني عن عطية بن قيس الكلاعي قال: خطب معاوية بن أبي سفيان أم الدرداء الصغرى بعد وفاة زوجها -من هو؟ أبو الدرداء الصحابي- فقالت أم المرأة: إني سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أيما امرأة توفي عنها زوجها، فتزوجت بعده فهي لآخر أزواجها، وما كنت لأختارك على أبي الدرداء[رواه الطبراني في الأوسط: 3130، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1281].
أنا زوجي الأول!.
تقدم معاوية لخطبتها رفضت، قالت: أريد أن أموت وأنا على زوجي الأول!.
الحديث فيه خلاف، ضعفه الهيثمى والعراقي، وصححه الألباني [السلسلة الصحيحة: 1281]، وقال البوصيري: "إسناد رجاله ثقات".
وأخرج أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان، عن ميمون بن مهران، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء: أن النبي ﷺ قال: إن المرأة لآخر أزواجهاورجال الحديث ثقات مشهورون [رواه الأصبهاني في طبقات المحدثين: 4/145، 1120، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1281].
وروى ابن عساكر عن عكرمة: أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديدًا عليها، فشكت ذلك إليه، فقال: "يا بنيه اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها، فلم تزوج بعده، جمع بينهما في الجنة" [التذكرة، ص: 560]،قال الشيخ الألباني: "ورجاله ثقات، إلا أن فيه إرسالاً؛ لأن عكرمة لم يدرك أبا بكر، إلا أن يكون تلقاه عن أسماء بنت أبي بكر -والله أعلم-"[انظر: السلسلة الصحيحة: 1281].
فأقوى الأقوال الثلاثة من جهة الأدلة: القول الثالث: أن المرأة لآخر أزواجها في الجنة.
والقول الذي يليه في القوة: أنها تخير، وبما أنها في الجنة لها ما تشتهيه النفس، تخير، على أنها لو كانت لآخر أزواجها لا إشكال، لأنها عندما تعطى لهذا الزوج، وهو آخرهم، تكون أشد شوقًا إليه، ما تفكر في غيره، خلاص، تتغير طباع الداخلين للجنة، ولذلك فليس في الجنة عجوز، ليس في الجنة مسن.
من صفات نساء الدنيا في الجنة
ومن صفات نساء الدنيا في الجنة: يكن في الجنة شابات أبكار، جميعهن على سن واحدة، كما ورد في الحور العين، فليس في الجنة عجوز ولا ثيب.
وقد أخبر تعالى: أنه يعيدهن جميعهن إلى سن الشباب، قال تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا[الواقعة: 35 - 37].
إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً يعني نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا، فهذه نشأة كاملة لا تقبل الفناء.
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا يعني صغارهن وكبارهن.
وهذا يشمل الحور العين، ويشمل نساء الدنيا، وأن هذه الوصف، وهو البكارة، ملازم لهن في جميع الأحوال.
فهذه المرأة لو تزوجت كذا زوج في الدنيا، واحد وراء واحد، يوم القيامة إن دخلت الجنة تدخل بكرًا، تكون بكرًا.
وقوله: عربًا، المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيأتها ودلالها وجمالها ومحبتها.
وتقدم أيضاً معنى: أترابًا، وأنهن في سن الثلاث والثلاثين، جميعًا.
هل الواحد عنده زوجتان في الجنة، فهو في نكد من الضرائر، وما بين الزوجات من الإيذاء؟
لا، ليس بينهن هذا أبداً، هذا من التغيير الذي يطرأ على نساء الجنة، ما في غيرة من بعضهن من بعض، فهن مؤتلفات، راضيات، مرضيات، لا يحزن، ولا يُحزن، أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار، في مخالطتهن.
وقد روى الترمذي في الشمائل عن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ادعوا الله أن يدخلني الجنة؟ فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي، فقال أخبروها: أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله -تعالى-: يقول: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا[الواقعة: 35 - 37] حديث حسن[رواه الترمذي في الشمائل: 240، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2987، وفي مختصر الشمائل:205].
أيهما أجمل نساء الدنيا في الجنة أم الحور العين؟
أيهما أجمل نساء الدنيا الصالحات اللاتي يدخلن الجنة، أو الحور العين المخلوقات من الجنة لأهل الجنة من الرجال؟
بين ابن القيم-رحمه الله-: أن نساء الدنيا يكن أجمل من الحور العين في الجنة، لماذا؟
لأنها صبرت، وصابرت، وتعبت، وعبدت، وذكرت، ودعت، وعملت الصالحات، وآمنت، ودخلن الجنة جزاء على أعمالهن، وإحسانهن.
أما الحور العين، الله خلقهن في الجنة ثوابًا وجزاء لأهلها، فلم يوجد عندها مجاهدة نفس، ولم يوجد عندها مصابرة على الحرام، ولم يوجد عندها هذه الأعمال، التي فيها التعب والنصب والمشقة، فلذلك صارت المرأة التي تدخل الجنة من أهل الدنيا أجمل وأحسن، وأرفع قدرًا وشأنًا، من الحورية المخلوقة في الجنة، فالأولى ملكة سيدة، قال: وأما الحور العين، فإنما خلقهن الله في الجنة ثوابًا وجزاء لأهلها، من الرجال، وشتان بين من دخلت الجنة جزاء على عملها الصالح، وبين من خلقت ليجازى به صاحب العمل الصالح، فالأولى ملكة سيدة آمرة، والثانية على عظم قدرها وجمالها إلا أنها لا شك دون الملكة، وهي مأمورة من سيدها المؤمن الذي خلقها الله -تعالى- جزاء له.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: هل الأوصاف التي ذكرت للحور العين تشمل نساء الجنة؟
فأجاب: "الذي يظهر به أن نساء الدنيا يكن خيرًا من الحور العين، حتى في الصفات الظاهرة -والله أعلم-" [فتاوى نور على الدرب: 12/59].
هل الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟
النساء أكثر أهل النار
دلت السنة على أن أكثر أهل النار النساء، هذا معروف من حديث آخر، رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال قال رسول الله ﷺ: أريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء[رواه البخاري: 29، ومسلم: 7114، وهذا لفظ البخاري].
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ أنه قال: يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير [رواه البخاري: 304، ومسلم: 250] يعني نعمة الزوج.
هل الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟
وفي صحيح مسلم: كان لمطرف بن عبد الله امرأتان، فجاء من عند إحداهما، فقالت الأخرى: جئت من عند فلانة؟ فقال: جئت من عند عمران بن حصين، فحدثنا أن رسول الله ﷺ قال: إن أقل ساكني الجنة النساء[رواه مسلم: 7118].
-طبعًا- هذا حديث حق، لكن أراد أن يعظ به زوجته، لذلك اختلف أهل العلم: أيهما أكثر في الجنة الرجال أم النساء؟ وهو خلاف قديم، روى البخاري ومسلم، واللفظ له، عن محمد بن سيرين قال: "إما تفاخروا وإما تذاكروا، الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟"[رواه البخاري: مسلم: 7325].
وفي رواية لمسلم أيضاً: "اختصم الرجال والنساء أيهما في الجنة أكثر، فسألوا أباهريرة، فقال أبو هريرة : أولم يقل أبو القاسم ﷺ: لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب[رواه مسلم: 7325].
يعني يقصد أبو هريرة إذا لكل واحد من الرجال زوجتان من الحور العين، إذا أخذت على مجمل النساء الإناث اللاتي منهن الحور العين، والنساء الصالحات في الدنيا، دخلن الجنة، المجموع سيكون للنساء أكثر.
فالقول الأول: أن النساء أكثر لهذا الحديث، وهو قول أبي هريرة .
الثاني: أن الرجال أكثر؛ لأن النزاع إنما هو في نساء الدنيا ورجال الدنيا، يعني إذا قارنا الرجال الذين سيدخلون الجنة من أهل الدنيا، والنساء اللاتي سيدخلن الجنة من أهل الدنيا، أيهما أكثر؟
فاستدلوا بحديث: أكثر أهل النار النساء، على أن الرجال أكثر.
أما حديث أبي هريرة: فليس فيه أن هاتين الزوجتين هما من نساء الدنيا، والظاهر أن هذا من فهم أبي هريرة قال ابن القيم-رحمه الله- في حديث أبي هريرة: والظاهر أنهن من الحور العين، أن الثنتين البكورتين من الحور العين، ويدل لذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لكل امرئ زوجتان من الحور العين يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم [رواه مسلم: 7325].
لكن قد يقال: إن النبي ﷺ ذكر للنساء سبب كونهن أكثر أهل النار، وهو قوله: بكفرهن قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قطمتفق عليه[رواه البخاري: 1052، ومسلم: 2147].
وهذا يقتضي: أن السبب في دخولهن النار ليس الكفر بالله، ولا يقتضي الخلود في النار، هذا الكفر كفر نعمة الزوج، لكن تعذب عليه، ثم تخرج، وحينئذ فالاستدلال بأن أكثر أهل الجنة الرجال؛ لأن الحديث الآخر: أكثر أهل النار النساءلا يستقيم هنا من جهة أن هؤلاء النساء يخرجن بعدما ينلن من العذاب، ويدخلن الجنة، فيزداد عدد النساء في الجنة، فلا يلزم أن يظل الأمر على ما كان عليه بعد خروج نساء أهل التوحيد من النار، بالشفاعة، وغير ذلك من الأسباب، يزيد عددهن.
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: "ويجاب بأنه لا يلزم من أكثريتهن في النار نفي أكثريتهن في الجنة، لكن يشكل على ذلك قوله ﷺ في الحديث الآخر: اطلعت في الجنة، فرأيت أقل ساكنها النساء، ويحتمل أن يكون الراوي رواه بالمعنى الذي فهمه، من أن كونهن أكثر ساكني النار، يلزم منه أن يكن أقل ساكني الجنة، وليس ذلك بلازم لما قدمته -يعني أنهن إذا جوزين وعوقبن سيخرجن من النار، ويدخلن الجنة- "ويحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة"[فتح الباري: 6/325].
فهذا بالنسبة لهذا الأمر.
وعلى أية حال: لا يفيد كثيرًا البحث في هذا الموضوع، ولكن قد يحصل تنافس بين النساء والرجال، ويحصل السؤال أكثر أهل الجنة النساء، وإلا الرجال؛ لأن الأمر محسوم في النار، فماذا بالنسبة للجنة؟
أبيات شعرية في التشويق إلى الجنة والترغيب في العمل لها
اعمل لدار البقاء رضوان خازنها | الجار أحمد والرحمن بانيها |
أرض لها ذهب والمسك طينتها | والزعفران حشيش نابت فيها |
أنهارها لبن محض ومن عسل | والخمر يجري رحيقًا في مجاريها |
والطير تجري على الأغصان عاكفة | تسبح الله جهرًا في مغانيها |
من يشتري الدار بالفردوس يعمرها | بركعة في ظلام الليل يخفيها |
أو سد جوع مسكين لشبعته | في يوم مسغبة عم الغلاء فيها |
-الآن الغلاء في بعض البلدان التي يقصفها اليهود، عجب! بطاقة الشحن! ماكينة الصراف ما فيها فلوس! الناس تبحث عن اللقمة! مشردون في كل مكان!-.
أو سد جوع مسكين بشبعته | في يوم مسغبة عم الغلاء فيها |
النفس تطمع في الدنيا وقد علمت | أن السلامة فيها ترك ما فيها |
[انظر: بستان الواعظين ورياض السامعين، ص: 167].
عبارات رائعة عن نعيم الجنة
كيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكراماته، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيرها؟
فإن سألت عن أرضها وتربتها، المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها، فهو عرش الرحمن، وإن سالت عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها، فلبنة من فضة، ولبنة من ذهب.
وأشجارها ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب.
وكذلك ورقها أحسن ما يكون، وأنهار من لبن وخمر وعسل وماء، وطعامها هذه الفاكهة يتخيرونها، ولحم الطير مما يشتهون، والشراب التسنيم والزنجبيل والكافور.
نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وأن يرزقنا الفوز بها، وأن يعلي درجاتنا فيها، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى.
اللهم إنا نٍسألك العتق من النيران، والفوز بالجنان، يا رحيم يا رحمن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.