الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[سورة النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورة الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الأسرة نعمة ومسؤولية
أيها المسلمون: لقد امتن الله على عباده بنعم كثيرة لا تحصى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [سورة النحل:18]، والله يعلم أن حياة المجتمع لا تقوم إلا بالأسر التي تتكون على طاعة الله، وتنشأ كما أمر الله، فامتن الله علينا بمقومات الأسرة، وأنشأها لنا، وجعلها قائمة، وأمرنا بسياستها حسب الشريعة، وقال الله سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21]، انظر كيف يجعل الله الأسرة قائمة، كيف يكون الله الأسرة، بأن جعل للرجال من أنفسهم أزواجاً، كما خلق حواء من ضلع آدم: خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21]، هذا هو السكن النفسي، ولكن الأسرة تحتاج إلى سكن مادي كذلك، فقال الله : وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [سورة النحل:80]، هذه نعمة الزوجة، السكن النفسي، ثم أعطانا البيوت، السكن للجسد، والسكن المادي، فأنشأت الأسر، وقامت الأسر، ويتكون المجتمع من الأسر.
ثم أمرنا الله، أن نسوس الأسر بالشريعة، وجعل لنا من الدين في شرائعه وأحكامه ما يسعد الأسرة، ويسبب تماسكها وقيامها على المبنى الشرعي الذي أراده الله ليكون المجتمع في النهاية مجتمعاً صالحاً، مجاهداً في سبيل الله، فيعم الإسلام في الأرض، ولما ضيعنا الأسرة، لما ضيعنا الأسر فسدت المجتمعات، فتخلف المسلمون، لما ضيعنا الأسرة وفقدنا مقومات الأسرة المسلمة عم الشقاء والنكد، وأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق.
أمرنا الله، أن نسوس الأسر بالشريعة، وجعل لنا من الدين في شرائعه وأحكامه ما يسعد الأسرة، ويسبب تماسكها وقيامها على المبنى الشرعي الذي أراده الله ليكون المجتمع في النهاية مجتمعاً صالحاً، مجاهداً في سبيل الله، فيعم الإسلام في الأرض، ولما ضيعنا الأسرة، لما ضيعنا الأسر فسدت المجتمعات، فتخلف المسلمون، لما ضيعنا الأسرة وفقدنا مقومات الأسرة المسلمة عم الشقاء والنكد، وأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق.
الأسرة محضن تربية، ومشاعر حب وحنان، وهي رحمة وتكافل، ولكننا -أيها الإخوة- إذا نظرنا اليوم إلى حال الأسر لوجدنا كثيراً من الأسر تعيش في تعاسة وشقاء؛ للابتعاد عن الشريعة، وتضييع الأحكام، وسنضرب الأمثلة على ذلك مع ذكر بعض الأسباب التي تؤدي وأدت إلى تفكك الأسر وتمزقها، ولكننا لا بد أن نضرب مثالاً في البداية، من حال الأسر السعيدة، الأسر الإسلامية، الأسر التي قامت على المنهج الإلهي، قال الله سبحانه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [سورة الأنبياء:89]، التجأ إلى الله بالدعاء، كما قال الله في مطلع سورة مريم: كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [سورة مريم:1-2]، هذا ذكر الله لرحمة عبده زكريا، وهذه هي القصة: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا [سورة مريم:3] للإخلاص الذي عنده، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي رق عظمي، والعظم مكون للجسد، المكون الأساسي، فإذا وهن العظم وضعف، فمعنى ذلك أن الجسد كله يضعف.
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً انتشر الشيب في الشعر، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً [سورة مريم:4] لقد عودتي يا رب على الإجابة، ما كنت شقياً، أسأل بهذا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي من سأتركهم ورائي من بعدي بعد موتي لا يصلحون لإقامة الدين، ولا للدعوة، وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً لا تلد، فإذن يطلب فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، ليست وراثة المال، لكن وراثة النبوة.
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [سورة مريم:5-6] ترضى عنه، فبشره الله ثم بشرته الملائكة بولد سماه الله ولم يسمه هو، لم يسمه لا أبوه ولا أمه، سماه الله باسم لم يسم به أحد قبل من الناس قط، سماه يحيى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا هذه الأسرة المسلمة التقية النقية الطائعة لله، كيف كانوا يفعلون؟ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ الأسرة كلها تتجه إلى العبادة، والمسارعة في مرضاة الله، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً في حال الشدة والرخاء يتوجهون إلينا بالعبادة، وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [سورة الأنبياء:89-90] خاشعين لله، لم يكونوا منصرفين عن العبادة إلى هذه الدنيا فقط، وإنما كانوا يعبدون الله ، هكذا كانت الأسر.
تخيل أسرة فيها داود وسليمان، داود الأب وسليمان الابن، كيف يكون حالها؟
وللانهيار أسباب
ثم تعال معي -يا أخي المسلم- الآن لننظر في حال هذه الأسر التعيسة والشقية المبثوثة في مجتمعات المسلمين اليوم.
هناك خطر داهم يتهدد مجتمعنا، ألا وهو التمزق الأسري، تفكك الأسرة صار علامة بارزة من علامات المجتمع، وسمة من سماته، وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الشريعة، وترك الدين.
كثير من الأسر متفككة من الداخل، وإن بدا لك من الخارج أن بيتاً يضمهم، لكن كل واحد منهم يعيش في عالمه الخاص، كل واحد منهم له همومه الخاصة، ومشاغله ومشكلاته التي لا يشاركه فيها أحد، لا يشعر بالتزام نحو الآخرين، ولا أنه ملزم بشيء، هذا لا يكلم هذا، وهما في بيت واحد، والأب ينام في غرفة، والأم تنام في غرفة، هذا مثال بسيط، لكن الأمثلة على تحطم الأسر، وانهيارها في المجتمع كثيرة، ولهذا أسباب، فمن أسباب تفكك الأسر ما قاله ﷺ:كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت[1] كثير من الأولياء مضيعون لأولادهم، مضيعون لبيوتهم، لا يقومون بالحق، طلق امرأة، تزوج بأخرى، عنده أولاد من الأولى، أدخلت في ذهنه أن أولاده يريدون التفريق بينه وبينها، سوء ظن الآن، وأنهم سيضعون له سحراً، ثم اتهمهم بأنهم يريدون أن يضعوا له السم، ثم طلقها، طلق الأولى، وطرد الأولاد الذكور، ثم قالت له الثانية: إما أنا أو بنتك في هذا البيت، أخرج البنت، أخرجها ورماها، وضعها عند بيت أختها المتزوجة، الأخت الأخرى، وهي تجد حرجاً عظيماً كيف تعيش في بيت، وهي غريبة، وزوج أختها موجود، لكن لا مأوى لها في الواقع، وهكذا يعيش سائر أولاد هذا الأب الذي طردهم من البيت، ولم ينفق عليهم، منهم من يعيش عند جدته، ومنهم يعيش عند أخواله، وهذه بنته تعيش عند أختها المتزوجة، وتسأل تقول للبنت: أين إخوتك الذكور؟ فتقول: لا أدري، طردهم أبي منذ زمن بعيد، ولا أدري أين هم الآن، أسأل من؟ وأنا امرأة ضعيفة.
وهذا أخذه أهل السوء، وقرناء السوء، فأشغلوه بالملذات، ينفق راتبه على السفريات والمحرمات، رمى المرأة وأولادها، ولا يأتي إلا البيت إلا نادراً، والأولاد فيهم معوقون، وفيهم ضعفة، والمدارس ستفتح، والبنات يحتجن إلى مصاريف، وهو متغيب، والإيجار طاف عليه تسعة أشهر، وصاحب البيت يشتكي، والمرأة ضعيفة لوحدها في البيت، وهو يطرق الباب يريد الإيجار، وأهل الخير يُعطون الزوجة المساعدات، هو -ذلك المجرم- يأتي كل شهر مرة، يفتح شنطة زوجته، ويأخذ مال التبرعات ويمشي، بالبيت لا يدخل البيت إلا دقائق في الشهر، ولا يسأل عن أولاده: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
الطلاق والمخدرات انهيار أكيد.
من أسباب انهيار الأسر، التسرع في الطلاق، وكثرة الطلاق، ولو قلنا: إن الطلاق اليوم من الأمور المنتشرة لما كنا كاذبين، واسأل المحاكم، وسائل السجلات عن حالات الطلاق لأتفه الأسباب، وهذه الماديات التي فرقت بين الزوجين، وهذه المشكلات التافهة والشجار البغيض، لا الأب تربى على الإسلام، ولا الأم نشأت على الإسلام كما ينبغي، ولذلك الشجار لأتفه الأسباب، والطلاق لأتفه الأسباب، والنتيجة انهيار الأسر، وتشرد الأولاد، فهم إما مع الأب، أو مع الأم، فلا يرون أباهم، أو لا يرون أمهم، أو هم متوزعون بينهما، وهذا يؤجج هؤلاء على الآخر، وهكذا.
طلق أمها وعمرها شهرين، والآن البنت عمرها 28 سنة، لم تره إلا مرة واحدة، في زيارة عارضة، لا سأل عنها، ولا أنفق عليها، ثم يتقدم الخطاب، وهو يتشرط في رفضهم.
وآخر طلق زوجته ومعها ولد، مكث أربع سنوات لا يسأل عن الولد، ولا يراه، وأصيبت الأم بمرض، وماتت، ولم يأت حتى للعزاء، ولا جاء حتى يسأل عن الولد إلى هذه الساعة، وماذا نملك له إذا نزع الله الرحمة من قلبه؟.
قبل أن تطلق فكر في الأولاد: ماذا ستفعل غداً؟ هل ستزورهم لتطمئن عليهم؟ أم ستنشغل في ترتيب وضعك الجديد؟ وبعد ذلك لن تر الأولاد وسيضيعوا، وإذا جئت تسأل عنهم يطالبك الطفل الصغير أنت تدخل على أمه، ويقول: لماذا تقاطع أمي؟
من أسباب التمزق الأسري، وتحطم الأسر فشوُّ المخدرات في المجتمع، هذا الداء الوبيل، والمرض الخطير الذي يلتهم شبابنا كل يوم، ويحطم الأجساد.
هذه المخدرات التي روجها الأعداء، وعندنا شباب لم يتربوا على الإسلام، ولا نشؤوا على الإسلام، فماذا تتوقع أن يفعلوا إذا أعطوا هذه الحبوب، وهذه المخدرات؟ ثم البطالة الموجودة عندهم التي تدفعهم إلى الاتجار بالمخدرات للحصول على الأموال، ثم هذه النشوة واللذة الموهومة التي يُحسون بها، ويريدون أن يغيبوا عن الواقع من كثرة المشاكل الموجودة في الواقع، من المشاكل الأسرية والظلم، وغير ذلك، ثم أن الآباء لا ينتبهون من يمشي مع أولادهم، وقرناء السوء يغشون البيت يومياً، وهم مصدر المخدرات، لكن الذي لا يخاف الله في أولاده هل سينتبه لمثل هذا؟ فتفتك المخدرات بهؤلاء الشباب، ثم تصل إلى الصغار، وقد وصلت إلى الكبار قبل ذلك، ومنهم أناس متزوجون، وعندهم أولاد، ويتعاطون المخدرات، وينفقون الرواتب على المخدرات، وتبقى الأسرى بلا نفقة؛ لأن الأموال راحت في المخدرات، ويفقد وظيفته، وكل شيء.
ويا إخواني لا يوجد حل لمشكلة المخدرات إلا الدين، أبداً، هؤلاء الكفرة حاولوا قبلنا كثيراً جداً، سنوا الأنظمة، ووضعوا القوانين، وخوفوا وهددوا، وفعلوا وفعلوا، وطاردوا، وعندهم أجهزة أمنية رهيبة، وأشياء متخصصة لمكافحة المخدرات، لكن لا فائدة، لا يحل قضية المخدرات إلا العودة إلا الدين، وجربوا ما شئتم.
هذا بيت فيه بنات مستضعفات، وأولاد سكيرون عرابيد يتعاطون المخدرات، والبنات يغلقن على أنفسهم بالليل الغرف، ولا يخرجن إلا بعد النظر من ثقب الباب، أو من أسفل الباب؛ ذلك لأنهن يخشين خشية حقيقية مدعومة بالشواهد والسوابق من هذا العربيد الذي لا شعور له، وهذا الذي يتحول وحشاً كاسراً بعد تعاطيه لهذه المخدرات.
عنده بنتان وولد، عمره ثلاثون عاماً، يستعمل المخدرات من خمس سنين، ضاعت الوظيفة، وضاعت النفقة، وتهدمت الأسرة، وصبرت الأم، واحتسبت ومات، وقامت توفي ديونه مما تجمعه من أقربائها والمحسنين حتى جمعت مبلغاً من المال، وحجت عنه، هل يستاهل هذا الزوج الوفاء؟
مشاعر مفقودة وسحر منفوث.
من أسباب انهيار الأسر فقدان العاطفة، لا يوجد حنان، ولا مشاعر صادقة في البيت، لا عطف من الأب، ولا حنان من الأم، الأب يأتي من الوظيفة يأكل ويشرب وينام، وعنده شلة السهرة، والأم موضات ومواعيد وأزياء وسهرات، ولا وقت لديها لإلقاء النظرة على أطفالها؛ لأنها وكلتهم إلى الخادمات، واللاتي يشتغلن ويعملن يرهقها العمل ويشغلها، والمرأة ضعيفة، ومشاكل العمل تؤثر في تلك النفسية العاطفية المرهفة الحساسة، فهي منشغلة بمشكلات العمل، لا تجد وقتاً حتى لإلقاء نظرة على الطفل قبل أن تغادر البيت، بل صرحت بعض الأمهات أنهن قد مللن من الأولاد، ومللن من الأبناء، ولا روح لها لكي تنظر في حالهم.
والأب يقول: الأولاد لا ينقصهم شيء، أكل أحسن أكل، وشراب أحسن الشراب، والملابس نشتري لهم أحسن الملابس، وأدوات المدرسة أفخر الأنواع، وألعاب وكمبيوتر، لكن يا أيها المسكين، يا أيها الأب المغفل ينقصهم شيء واحد حنان، عاطفة، صلة أبوية، وتربية، هذا الذي ينقصهم.
أنت تنفق على الجسد، أنت تغذيه بالطعام، وتكسوه بالثياب، وتعطيهم ألعاباً، لكن ما أعطيتهم شيئاً مهماً يحتاجون إليه، ما أعطيتهم عطفاً ولا حناناً، ولا جلست معهم، ولا قعدت بينهم، ليس المهم أن تشتري الألعاب وترميها إليهم، لكن لاعبهم أنت ليحسوا أن هناك أباً موجود في البيت، تابعهم أنت ليحسوا بشخصيتك بينهم.
قال الله عن يحيى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [سورة مريم:12]، النبوة والعلم، وماذا آتيناه أيضاً؟ وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا [سورة مريم:13]، إذن آتيناه حناناً، إذن من منة الله على يحيى أنه آتاه حناناً، وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا، وحناناً عطفاً، وشفقة، ورحمة في قلبه، وَكَانَ تَقِيًّا، هذا الحنان الذي جعله كما قال الله: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا [سورة مريم:14].
ومن أسباب التفكك الأسري انتشار السحر، والتعامل به، حتى راج وعم، وكثر السحرة في البلد، والسفر إلى خارج البلد لجلب السحر، وهذا ينتقم من هذا، وهذا يُحسد هذا، فيريد أن يعمل له سحراً، وهكذا، وإذا انحسر التوحيد فشا الشرك، ومن أنواعه السحر، وهو مضاد للتوحيد، والسحر حقيقة، وله مفعول، قال الله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا من الملكين اللذين أرسلا ابتلاءاً للعباد فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ، لا يضر -والله الذي لا إله إلا هو، ليس له مفعول إلا إذا أذن الله، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ، وتعاطاه، وتعامل به مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ، الساحر حده القتل، لو ضُبط الساحر متلبساً بالسحر يقتل حداً، هذا حد الساحر، يقتل، بل الساحر كافر، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:102].
والناس الآن في السحر مساكين، لا يدرون، حيارى، يظن السحر أنه قاتله، لا عقيدة صحيحة تجلب التوكل على الله: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[سورة الطلاق:3]، والتوكل يمنع مفعول السحر، نفوس ضعيفة، خاوية على عروشها، لا إيمان، ولا طاعات، ولا عبادة، ملذات وشهوات، هؤلاء سيتضررون بالسحر، ما الذي منع عنهم السحر، وما الذي يعطل مفعول السحر، لا إيمان، ولا دين، ولا توكل على الله، ولا صحة عقيدة، وكذلك لا يوجد محافظة على الأذكار الشرعية، لا أذكار الصباح، ولا المساء، ولا قبل النوم، ولا بعد الصلوات: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق:1] ثلاث مرات مهجورة، لا تقال بعد الصلوات، ولا قبل النوم، ولا في الصباح والمساء، كـ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس:1]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، والمعوذات لا يوجد أفضل منها مطلقاً لعلاج السحر، ولا لمنعه.
وكذلك لا يوجد حذر في إدخال المشبوهين إلى المنزل، يدخل أهل السوء، وأهل الشر، ولا يوجد رقابة على البيت في الضيوف، ولا في الداخلين، فيدخل من يضع سحراً ونحو ذلك، أدخل أهل الدين، واترك أهل الفسق، وراقب بيتك.
ثم بعد ذلك يقولون: نريد الذهاب للساحر لفك السحر، والذهاب إلى الساحر لا يجوز، ولو قالوا لك: جربنا ونفعَنا، فنقول: سلامة العقيدة والدين أهم من سلامة الأبدان، توكل على الله، وارق نفسك بالأذكار الشرعية، والمعوذات، ثم بعد ذلك تجد الحل إن شاء الله، الرسول ﷺ سحر، سحره يهودي، ما الذي فك سحره؟ هذه المعوذات، هي التي فكت السحر، وحي من الله لنبيه ﷺ، ففك السحر بإذن الله، وببركة هذه القرآن العظيم الذي تقرأه النفوس الصادقة، فيقع الموقع الصحيح، فيؤثر وينفع.
اللهم إنا نسألك ممن يقيمون حدودك في بيوتهم، اللهم اجعلنا ممن يؤسسون أنفسهم على الإسلام، ويربون أبناءهم على الإسلام، ويقيمون بيوتهم على الإسلام، نستغفرك ونتوب إليك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهار، مالك الملك، الكبير المتعال، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء، وهو الجبار، خلق وسوى، وقدر فهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، والرحمة المهداة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
شاشة تمزق أسرة
أيها المسلمون: من أسباب التفكك الأسري وجود الفيديو والتلفزيون في البيوت بما يَعرضه من السموم والأفلام، والخلاعة والمجون، والأمثلة الحية لتعليم الفسق لأبناء العائلة من الذكور والإناث، والآباء والأمهات، ويتصور بعض الناس أن اجتماع العائلة على التلفزيون يقرب العائلة، ويجعل بعضها مجتمعاً إلى بعض، لعلهم أخذوا هذا التصور من بداية دخول التلفزيون عندما كان دخل بأعداد قليلة، والبيت الذي كان عنده تلفزيون في القرية يأتي الأقرباء والأصدقاء والجيران، وتصبح لمَّة ويجتمعون، ويسلم بعضهم على بعض عند الدخول والمغادرة، فيتوهمون أن التلفزيون قد جمعهم، لكن الآن في بعض البيوت، الآن زال الكلام هذا، في بعض البيوت كل غرفة يوجد فيها تلفزيون، وعد لي -بالله عليك- عدد الهوائيات الموجودة فوق الأسطحة، أنا فقط نريد إلقاء نظرة على الهوائيات الموجودة فوق الأسطحة، اعدد واغلط في العد، واعدد ما شئت من قرون الشياطين الموجودة.
لقد تبين بالدراسة أن الفيديو والتلفزيون يمنعان الإنسان من الاستمتاع بما حوله من العلاقات الاجتماعيات والقراءة والتثقيف، بل يساعد على العزلة، ويقلل من غرس التفاهم بين الأزواج، كما يُشغل الطلاب عن المذاكرة، فالفيديو والتلفزيون لا يساعد على تقوية الأواصر في الأسرة الواحدة، ولا يوجد تفاعل بين أعضاء الأسرة المجتمعين حول هذا الجهاز؛ لأنهم يشاهدون بأجساد متجاورة لكن الحقيقة أن أذهانهم منفصلة تماماً، ونفوسهم منعزلة، والجلوس أمام الجهاز لا يشجع على المحادثات الجماعية المتبادلة بين أفراد الأسرة كما ينبغي أن تكون، ولو قام الواحد بتعليق لأسكته الآخرون لمتابعة الفلم.
وقد وجد بالدراسة أن الأطفال لا يقضون وقتاً طويلاً مع بعضهم البعض كما هو محتاجة إليه طفولتهم بعد دخول جهاز التلفزيون إلى البيت، هذا بالإضافة إلى ما ذكرنا مما يتسرب منه من ألوان الفساد إلى الأسرة، وهذا موضوع طويل يحتاج إلى بسط، لكنني أرشد إلى مرجع مهم جداً في هذا وهو كتاب: "الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون" للمؤلف مروان كجك، هذا الكتاب في غاية الأهمية، يجب على كل واحد أن يقرأه حتى يعلم أضرار هذا الجهاز، "الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون"، حتى نختصر الكلام.
بيوت بلا تربية
ثم لننتقل معكم إلى قضية أخرى في مسألة انفكاك الأسر، وانفراط عقدها، وانهيار بنيانها ألا وهو سوء تربية الأولاد، انعدام التربية بالكلية، أو قلتها قلة شديدة جداً.
بنت لوحدها ليس عندها أخوات تجلس عند الهاتف، أبوها وأمها من الكبار، يتصل عليها الثعبان، والذئب اللئيم، وينساب كلامه عذباً عبر الأسلاك ليدخل إلى ذلك الذهن الخالي من الإيمان والقلب المريض لكي تصبح الشبكة قوية، وترجع من المدرسة لا تخلع مريولها لتجلس عند الهاتف، لتنتظر المكالمة، والطائش يمدحها بألفاظ، ويطيرها في السماء، وتنخدع به، ويعدها بالزواج، ويفعل ويفعل، وفي النهاية يقول: هاتي نسخة من مفتاح البيت، إذا صار أهلك خارج البيت أعطيني خبراً، وبعد ذلك تقع الفاحشة، ويحدث المكروه، وتقوم المصيبة، وتفقد البنت أشرف ما تملك، وأعز ما لديها في نفسها وجسدها، ثم يترك الخطاب الباب، وماذا تقول لهم؟ ويتصل هذا مرة أخرى ليطالب ويطالب، ولو تابت تبقى الحسرة في نفسها، السبب انعدام الرقابة، غياب التربية، ضياع الأولاد؛ لأنه لا يوجد هناك متابعة من الآباء والأمهات.
بنت عمرها سبعة عشر عاماً وقعت في حب الموسيقى والأغاني الغربية والأجنبية، ثم استدلت من البلاء والمجلات التي تصل إلى البيت على جهة أجنبية لها عنوان بريدي، فصارت تراسل الجهة وتتصل، وتقول: أتمنى أن أهرب من البلد، وألتحق بديانتكم، وأن أعيش معكم، وعندي بعض العوائق المادية، لكن سآخذ من ذهب أمي، وأدبر المبلغ، وأهرب من البيت، سئمت من أهلي وأبي وأمي، أرجو أن تساعدوني في الهروب، وتستقبلوني، مئات المكالمات، وتأتي الفاتورة.
مراهق عمرة ثلاثة عشرة عاماً فقط يسرق من محلات السوبر ماركت، ولا صلاة بطبيعة الحال، ونسي ما كان قد حفظه في حلقة التحفيظ التي دخلها هكذا، والألفاظ البذيئة والفاحشة أمام أخواته، ويضرب أمه، ويساعد في ترويج المخدرات، ويحتك بالشباب الذين ينقل إليهم ومنهم الحبوب، ويختلط بأصحاب الفواحش، وربما فعل الفواحش على سطح البيت، أو سلم العمارة، وأطفأ كواية الملابس في يد أخته.
يا جماعة البيوت هذه التي نعيش فيها هذه أمانة، ونحن ضيعنا كثيراً جداً، والمصائب تتوالى، والله ليتفككن المجتمع لو لم نعد عودة صادقة إلى الاعتناء بالأسر والبيوت، وإلا سنصل إلى ما وصل إليه الكفرة في مجتمعاتهم من التمزق والانحلال، وسيوضع كبار السن في ملاجئ العجزة في النهاية، وسينفرط عقد الأسرة، وتتمرد البنات، ويخرجن في الشوارع، وسنسير على ركب كثير من المتفرنجين من أبناء المسلمين، قد ساروا على ركبه فعلاً، والبوادر قد ظهرت، فهل من عقلاء يعودون عودة صادقة إلى الله لكي ينظروا في هذا الشتات الذي وصلوا إليه، وأوصلوا إليه أولادهم وأسرهم.
ولتسألن يومئذ عما استودعتموه من هذه الأمانات التي وضعها الله بين أيديكم، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يقول: كل إنسان نفسي نفسي، لا أب ولا أم، ولا أخ ولا أخت، تقطعت بينهم الأواصر والعلاقات، وهذا الحضور بين يدي الله في مشهد الجزاء والحساب في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسين ألف سنة، يحتاج فعلاً أن تكون ذكرى ذلك اليوم حية في أذهاننا حتى نبدأ في تصحيح الأوضاع.
اللهم أصلح أحوالنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم اجعلنا بالإسلام قائمين، وأحينا بالإسلام قاعدين، وأحينا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهم طهر بيوتنا من المنكرات، اللهم واجعل أسرنا مستقيمة على شرعك يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا، اللهم إنا نسألك مغفرة لا تدع لنا ذنباً، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
- ^ رواه أبو داود (1692).