الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده، ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
العبودية لله شرفٌ وعزٌ
عباد الله: أول أمر في القرآن في سورة البقرة يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [سورة البقرة:21]، وهذا الأمر بالعبودية لله : يتضمن أن يكون الإنسان عبدًا لله، هذه العبودية من البشر للبشر ذل، ومن البشر لله تعالى عز وتشريف ولذلك وصف الله تعالى نبيه في أشرف المقامات بالعبودية سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [سورة الإسراء:1]، ثم عرج به إلى السماء في هذه الرحلة العظيمة في هذه الرحلة إلى الملأ الأعلى وصف الله نبيه بالعبودية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1]، في مقام إنزال القرآن على هذا النبي وصفه بالعبودية، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [سورة الأنفال:41]، وصفه بالعبودية، وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [سورة الجن:19]، وصفه بالعبودية، وهذه تبين العلاقة بين العبودية والدعوة، وأن العبودية تقتضي الدعوة، وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ، يدعو إليه وكذلك يدعوه وحده كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19]، وكذلك فإن العبودية تعني تذللًا؛ لأن الطريق المعبد: هو الطريق المذلل، فمهما يكن هناك تذلل لله فلا تسمى عبودية لا بدّ أن يكون هناك استسلام لا بدّ أن يكون هنالك طاعة؛ لأنه لا يمكن أن يكون عبدًا له، ثم يتمرد عليه، لا يمكن أن يكون عبد حقيقيًا له ثم يعصيه، فلا بدّ أن يستسلم، ولا يتمرد، ولا يعترض على حكم ولا على قدر.
حقيقة العبودية
أيضًا: هذه العبودية، فيها محبة وخوف ورجاء، فالعبودية: تقتضي أن يحب المعبود، وهذا الحب ليس مجرد حب عاطفي! بمعنى أن يقول: إني أحبك، وأنا أحبك، ولكن الأفعال، والأقوال على غير هذا،محبة الله ليست مجرد محبة عاطفية لكنها محبة تقتضي طاعة؛ إن المحب لمن يحب مطيع، وهذه المحبة مقدمة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، وكذلك محبة كل ما في الدنيا من مال أو متاع مساكن ترضونها أو تجارة تخشون كسادها، فمحبة الله في العبودية مقدمة على محبة كل أحد.
محبة الله ليست مجرد محبة عاطفية لكنها محبة تقتضي طاعة؛ إن المحب لمن يحب مطيع، وهذه المحبة مقدمة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، وكذلك محبة كل ما في الدنيا من مال أو متاع مساكن ترضونها أو تجارة تخشون كسادها، فمحبة الله في العبودية مقدمة على محبة كل أحد.
محبة رب العالمين هذه التي تجعلك يا عبد الله: تطيعه تعبده تقوم بالعبادة وأنت مقبل لا طفشان، ولا أن تمل أو أنك تسأم؛ لأن العبادة التي فيها محبة تسهل القيام بالأعمال لله، وتجعلها مستحلاة، فأنت لا تقوم لصلاة الفجر وأنت نافر كاره، وإنما أنت محب، وعندما تعطي المال تعطي عن طواعية وطيب نفس لأنه لله فأنت محب، وعندما تتحمل مشاق الحج، والتعب المحبة في العبودية تهون عليك المشاق!
الإنسان لا بدّ أن يكون عبدًا لشيء، هكذا جعل الله القلب، إما أن يتملكه مال، أو يتملكه امرأة، تتملكه الدنيا، تتملكه علاقة مع معشوق يتملكه شيء، أو عدة أشياء؛ لكن إذا صار الإنسان عبدًا لإنسان، أو لشيء من الدنيا فستكون حياته شقاء، لا يمكن أن يرتاح، سيكون معذبًا بالعبودية لغير الله، ولن يكون مرتاحًا، ولا مستأنسًا، ولا مطمئنًا إلا إذا عبد الله، وتعبد لله، وصار عبدًا حقيقًا له وحده لا شريك له، وعند ذلك يتحرر من تسلط بقية الأشياء عليه، وتصبح بقية الأشياء بالنسبة له أمور يمكن إذا فقدها أن يعيش بدونها، ويمكن إذا حصل منها نسبة أن يتدبر أمره مع هذه النسبة؛ لأن العبودية لله تعوضه عن النقص في الأشياء الأخرى، هذه من فوائد العبودية أن العبد مهما فقد من الدنيا، فإن عنده الأمل، وهو يعيش ويرجو رحمة الله ولا زال الهدف الأساسي قائمًا في حياته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56]، فهو يعمل لهذا الهدف الأساس، بقية الأشياء وقفت تعطلت نقصت، لن تضر نفسيته ومسيرته لأنه قائم بالوظيفة الأساس التي خلق من أجلها لكن أهل الدنيا المتعلقين بها، الذين ليسوا عبيدًا لله، إذا صار شيء في الدنيا انتحر، انهار.
عباد الله: العبودية، تقتضي الرجاء أن ترجو ثواب الله، وهذا مما يسرع الأعمال الصالحة عند الإنسان، وكذلك يجعله يمضي فيها لأن هنالك أملًا يريده، وهو يعلم أنه لا يشترط أن يحصل عليه الآن؛ لأن النعيم المقيم الأصلي الثواب الأساس في الجنة في الآخرة وليس في الدنيا، فهو يعمل إلى النهاية، يرجو ذلك الثواب عند الله، وبذلك لا يكون عمله مؤقتًا و لا مرحليًا ولا رمضانيًا فقط، وإنما على طول مشوار الحياة، يرجو الثواب من الله في كل شيء، ولو كان شيئًا دقيقًا ولو أخر غصن شجرة عن الطريق، وكذلك فإن العبودية تقتضي الخوف من الله وهذا مهم لأنه هو العنصر الذي يمنع عن ارتكاب المعاصي هو العنصر في العبودية الذي يقي الإنسان من الوقوع في المحرمات هذا الخوف من الله الذي يجعل العبد دائم العبادة لربه يخاف من التقصير يخاف أن لا يقبل منه.
أنواع العبودية
ونلاحظ يا عباد الله: أن العبودية لله، ليست في القلب فقط، ولا في الجوارح فقط، هي موزعة على أشياء، فهناك عبوديات للقلب، الخوف الرجاء المحبة الاستحياء من الله الإخلاص الصدق التوكل على الله التفويض عبوديات كثيرة قلبية لا يمكن أن تفعل الرجاء باليد! لا يمكن أن تفعل هذا الحياء من الله بعضو من الأعضاء! لكن هذه عبودية قلب، ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، فيض العين أثر للذي حصل في القلب؛ لأن الهيبة والوجل والخوف هذه عبادة قلبية وحتى الشوق إلى الله عبادة قلبية مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [سورة العنكبوت:5] فضرب الله للمشتاقين إليه الذين يحبونه، ويحبون أن يلقونه ويحبون الأجر الذي عنده يريدون الأجر الذي عنده ضرب لهم موعدًا فقال: مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [سورة العنكبوت:5]، والعبد لا يتمنى الموت؛ لأنه يريد مزيدًا من الوقت للعبادة، لكن إذا نزل الموت اشتاق نزل وهو مقبل محب للقاء بخلاف الذي ليس بعبد أو ناقص العبودية، ولذلك من القصص حادث سيارة مؤلم فظيع أقبل الشخص على شاب في الحادث، وقد تقطع، وبقي فيه رمق، وهو يصرخ ويقول: لا أريد أن أموت! لا أريد أن أموت! أنا ما صليت، أنا ما صليت! أريد أن أصلي! لا أريد أن أموت! لكن استمر النزيف حتى وصلت سيارة الإسعاف، كان قد فارق الحياة، كلمة لا أريد أن أموت قالها عظماء، وكبراء على فراش الموت، لما نزل بهم الموت قال أحدهم من غير المسلمين: لا تتركوني أموت! لا تتركوني أموت! لأن الأمل كله كان في الحياة وملذاتها، فالآن إذا ذهبت إلى أين سيمضى وماذا سيبقى؟ العبوديات يا عباد الله: قلبية، ولسانية كهذه الأذكار من التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والحوقلة، والاسترجاع هذه الأذكار الكثيرة المؤقتة، وغير المؤقتة، والمحدودة بعدد وغير المحدود بعدد، والمقيدة بزمان، والمقيدة بمكان، مقيدة بهيئة بحال، أو غير مقيدة على اختلافها، وهناك عبوديات لليد كمصافحة المسلم للمسلم، واستلام الحجر الأسود، وتغيير المنكر، ونحو ذلك، هناك عبوديات بالأذن كسماع القرآن، وبالعين كالنظر في المصحف، وكذلك بالشم كشم الأولاد وتقبيلهم، وتمييز الشيء عن غيره في الأمانات أحيانًا، وكذلك عبوديات بالقدم كالطواف حول الكعبة ونحو ذلك، فانظر إلى توزع العبوديات هنا على الجسد بحيث تغطي سائر أحوال الإنسان وأوقاته ويكون فعلًا يعيش مع الله وهذه من معاني العبودية أن يكون عيشك معه.
اللهم اجعلنا من عبادك الأخيار، اللهم اجعلنا من الأبرار، وقنا عذاب النار، اللهم إنا نسألك العفو والعافية يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأكبره تكبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الرحمة المهداة، أرسله الله للعالمين بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك، ونبيك محمد، وعلى آله، وذريته الطيبين، وأزواجه، وخلفائه الميامين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اغتنام مواسم العبادة، وفضل الصوم في شعبان
عباد الله: إن من العبودية أن ننظر في المواسم، والأيام التي يحبها الله فنجتهد فيها وقد اقترب رمضان فهو كصلاة الفريضة؛ لأنه صيام فريضة، والصلاة لها سنة قبلية وسنة بعدية في بعض الصلوات، وكذلك رمضان له سنة قبلية: كالصيام في شعبان، وسنة بعدية: ستة شوال، دخل شعبان، واليوم أول يوم من أيام شعبان ووافق جمعة، فاستفتحنا هذا الشهر بهذه الجمعة.
شعبان قيل أنه سموه بذلك؛ لأنهم كانوا يتشعبون فيها؛ لطلب المياه، أو للغارة شعبان من شعب بين شهرين عظيمين رجب شهر الله المحرم، ورمضان شهر الصيام، ولذلك يغفل الناس فيه، ويغفل الناس عنه، كما أخبر النبي ﷺ يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان؛ لأنه وقع بين شهرين عظيمين، يحدث لبعض الناس عنه غفلة، وهذا الشهر ترفع الأعمال إلى الله، ومعلوم أن هنالك رفع يومي ورفع أسبوعي، ورفع سنوي، ورفع ختامي.
الرفع اليومي كل يوم ترفع فيه الأعمال إلى الله، ترفعها الملائكة كما قال ﷺ: يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل[1]، ورفع أسبوعي في الإثنين والخميس، ترفع فيهما الأعمال إلى الله، ورفع سنوي وهو الرفع في شعبان كما أخبر ﷺ عن هذا الشهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وكما كان يحب أن يحب أن يرفع عمله وهو صائم في الإثنين والخميس، كذلك كان يحب أن يصوم في شعبان، ويكثر الصيام في شعبان؛ لأنه يرفع فيه العمل، والرفع الختامي إذا مات الإنسان طويت صحيفته الإنسان، ورفعت إلى رب العالمين، هذا التقرير النهائي، الرفع هذا يا عباد الله: رفع تشريف عندما يتفكر المؤمن أن هذه الأعمال التي يعملها ترفع فيها تقارير وسجلات إلى رب العالمين يوميًا أسبوعيًا وسنويًا، فإنه يطيب العمل إذا أردت أن يكون التقرير جميلًا فاعمل أشياء تسجل في التقرير، حتى إذا رفع التقرير كان شيئًا جميلًا يسرك يوم القيامة أن تراه.
أن هذه الأعمال التي يعملها ترفع فيها تقارير وسجلات إلى رب العالمين يوميًا أسبوعيًّا وسنويًّا، فإنه يطيب العمل إذا أردت أن يكون التقرير جميلًا فاعمل أشياء تسجل في التقرير، حتى إذا رفع التقرير كان شيئًا جميلًا يسرك يوم القيامة أن تراه.
أنت تكتب صحيفتك بالملائكة الكرام، بالأعمال التي تقوم بها اعمل يكتب اعمل ما شئت فيكتب التقرير، سيرفع فهنالك رفع في هذا الشهر، كان عليه الصلاة والسلام يكثر الصيام فيه، يصوم أكثر شعبان، وهذا من التعبدات في هذا الشهر، وليس هنالك عبادات أخرى تشرع يخص بها شعبان عن غيره من الشهور إلا الإكثار من الصيام، والبقية العبادات المعروفة لكن الاجتهاد في شعبان جميل، والاستعداد لرمضان لتهيئة النفس لرمضان، ويشكر أولئك المؤمنون الذين منع شعبان، وقرب رمضان من أسفارهم، فقالوا: هذا شعبان يرفع فيه العمل، ورمضان قد اقترب، فنحن سنتجهز مع أولادنا، ونؤجل سفرنا بعد رمضان، مراعاة! هذه مراعاة! دليل الإيمان.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين، وأن تغفر لنا ذنوبها كلها؛ دقها وجلها، سرها وعلانيتها، لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا كربًا إلا نفسته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا عسيرًا إلا يسرته، ولا ميتًا إلا رحمته، اللهم إنا نسألك أن تنصر إخواننا المستضعفين، وأن تعلي كلمة الدين، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونعوذ بك من الوباء والغلاء والبلاء يا سميع الدعاء، اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اغفر لنا ولوالدينا، وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
- ^ رواه مسلم: (179).