الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
المقدمة
درسنا في هذه المجموعة الرابعة من حماية منهج السلف الدرس الأخير في هذا الأسبوع، وقد تكلمنا في المحاضرة السابقة عن مظاهر الانحراف في أبواب البدعة والتبديع، وذكرنا بعض جوانب الغلو في هذا الباب، ومن ذلك التبديع بالخلاف الفقهي السائغ، والأمور الاجتهادية، ورمي المخالف بالبدعة، وذكرنا تعريف المسائل الخلافية، والمسائل الاجتهادية، والفرق بينها، وأن الخلط قد أدى إلى أخطاء كثيرة، ثم ذكرنا أمثلة على كل نوع من هذه المسائل، وذكرنا حكم التبديع بهذه المسائل، ثم ذكرنا نماذج من مسائل الاجتهاد التي حدث بسببها اختلاف، ومنازعات، وشحناء، وهجر، وتبديع.
وذكرنا أيضاً من الانحرافات، والغلو في التبديع، عدم التفريق بين الداعي إلى البدعة، وغير الداعي، وعدم التفريق بين من يظهرها ومن يكتمها في أبواب الإنكار والهجر، والتأليف مع الغلو في الهجر، وتكلمنا عن فقه هذا الباب، وبينا أن مسألة الهجر وعدمه مبنية على المصلحة سواء في حق العاصي أو المبتدع، كذلك في حق جماعة المسلمين.
وذكرنا أيضاً من الانحرافات والغلو في التبديع تبديع من ترك الانتساب اللفظي للسلفية، وإن كان على منهج السلف.
وذكرنا كلام الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- ومنه قوله: والواجب أن تكون الأمة الإسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا التحزب لمن يسمى السلفيين، فهناك طريق السلف، وهناك حزب قد يسمي نفسه بهذا، والمطلوب اتباع طريقة السلف، وليس إيجاب الانتساب إلى الأحزاب على الناس.
وذكرنا أيضاً من الانحرافات عدم التفريق بين التبديع المطلق، وتبديع المعين، أو عدم التفريق بين التبديع بالنوع والتبديع بالعين، وبهذا اختتمنا الكلام على مظاهر الغلو في باب البدعة والتبديع.
واليوم -إن شاء الله- نذكر بعض المسائل الهامة التي كانت مدخلاً لانتشار البدع، ومن هذه المسائل ما يسمى بالمصلحة المرسلة.
الحقيقة أن المصلحة المرسلة هذا عنوان حاول الكثيرون الدخول من خلاله، واختراق سور السنة للوقوع في البدعة، والمصلحة المرسلة موجودة في كلام العلماء، ولها معان صحيحة، ومدلول صحيح، ولها مفهوم مهم، ولكن تستغل هذه القضية قضية المصلحة المرسلة حتى يبرر للناس الوقوع في البدعة، هذا هو المردود.
وعدم التفريق بين البدعة والمصالح المرسلة من أسباب الانحراف، من مظاهر الانحراف في باب البدعة الخلط بين البدعة والمصلحة المرسلة، إذ أن كل من البدع والمصالح المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة، وكل منهما لم يقم على خصوصه دليل شرعي خاص، فكلما أنكرت عليه بدعة، قالوا: جمع القرآن ما حدث في عهد النبي ﷺ، لم يفعله في حياته، لماذا تنكرون علينا أننا أتينا بوجه من وجوه التقرب إلى الله، وهذه مسألة جمع القرآن فعلها الصحابة، وما فعلها النبي ﷺ من ناحية التأصيل العلمي جمع القرآن يصلح مثالاً على المصلحة المرسلة، لكن لا يمكن الاحتجاج به أبدًا على البدعة، والذين يستحسنون البدع يقولون: أبو بكر استحسن جمع القرآن، وعثمان استحسن تعميم النسخة، مصحف عثمان على الأمصار، وهذه أشياء ما كانت في عهد النبوة، فنحن إذا اخترعنا عبادات ما كانت في عهد النبوة لماذا تنكرون علينا؟
ولكي نرد على هذا الكلام، ونبين حقيقة الأمر لا بدّ أن نفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة، وإلا لن تتضح القضية، وسيستمر الخلط، ونعود إلى تعريف البدعة، ونعرف المصلحة المرسلة، ونرى ما هو الفرق بينهما؟ وكيف أنه لا يمكن النفاذ إلى البدعة بطريق المصلحة المرسلة.
قلنا: إن البدعة هي عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله ، إذًا البدعة يقصد صاحبها التقرب إلى الله، ولذلك فرقنا بين البدعة والمعصية، المعصية صاحبها ما يتقرب إلى الله، هو عاص، البدعة صاحبها يتقرب إلى الله ؛ لكن يتقرب إليه بطريق لم يشرعه، يتقرب إليه بعبادة لم يأذن بها سبحانه، يتقرب إليه بعبادة بطريقة هو اخترعها، واستحسنها صاحبها، وليس عليه دليل شرعي.
وقلنا: إن الطرق إلى العبادة مسدودة إلا بدليل، يخترع طريقة يتعبد بها فهي باطلة، من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[البخاري:2697، مسلم:1718] يعني باطلة إلا إذاقام دليل شرعي على مشروعية هذه الطريقة، هذا تذكير بتعريف البدعة.
تعريف المصلحة المرسلة
ما هي المصلحة المرسلة؟
المصلحة في اللغة: هي المنفعة سواء كانت دنيوية أم أخروية، إذًا أول مدخل الآن يعطينا تنبيهًا أنه ترى البدعة هي في أمور الدين، المصلحة المرسلة ممكن تكون في أمر ديني وممكن تكون في أمر دنيوي، يعني: كلمة المصلحة معروفة، أي واحد يفهم معنى كلمة المصلحة المنفعة.
المرسلة: التي ما ورد عليها دليل، مرسلة عن الدليل، مرسلة غير مقرونة بدليل، مرسلة عارية عن الدليل، لما أقول شيء مرسل يعني المفكوك عن الدليل مطلق، ناقة مرسلة مطلقة، ما هي مقيدة.
فالمرسلة في اللغة: المصلحة المرسلة المطلقة.
يعرفها العلماء: هي المصلحة التي لم يشهد الشرع لها لا بإلغاء ولا باعتبار، لا جاء عليها دليل يقرها ويعتبرها ويشرعها، ولا جاء دليل يلغيها ويردها ويرفضها، هذه هي المصلحة المرسلة، وقد يقول المجنون أو غير العاقل كلام بس لا يمكن يعتبر مصلحة، أو واحد متهور يفترض شيئًا ليس مصلحة، نحن نتكلم عن شيء مصلحة فيه مصلحة لكن لم يشهد لها الشرع بإلغاء ولا باعتبار، لو أخذنا مثال على المصلحة المرسلة في أمر ديني جمع القرآن في مصحف واحد، النبي ﷺ في عهده كان يكتب القرآن في اللخاف، الألواح، العظام، الجلود، لكن كان مفرقًا، ليس مجموعًا، عند هذا أشياء مكتوبة، وعند هذا أشياء مكتوبة، فلان من كتبة الوحي، معاوية من كتب الوحي، لكن هل هي مجموعة بين دفتين أولها الفاتحة وآخرها الناس؟
الجواب: لا، جاء أبو بكر باقتراح من عمر ولجنة برئاسة زيد بن ثابت، وجمع كل هذه الأشياء في موضع واحد، ثم جاء عثمان وطور الفكرة، وعمم المصحف الإمام على الأمصار حتى يكون هو المعتمد.
فإذا قال قائل: النبي ﷺ لم يجمع المصحف في عهده، ولا عممه على الأمصار، من أي باب فعله أبو بكر وعثمان ؟
فعلوه من باب المصلحة، هذا جانب ديني.
إشارات المرور فيها مصلحة، هل شهد الشرع بإشارات المرور بدليل خاص اعتبارًا أو إلغاء، تشريعًا أو تحريمًا، إذن أو منعًا؟ تسجيل الأنكحة والمواليد في السجلات هل جاء الشرع بدليل سجلوا مواليدكم؟ لم يرد.
هل الشرع نهى أن تسجل المواليد؟ لا يوجد نص يمنع، ولا عندنا نص يشرع ذلك أو يأمر به أو أذن به.
إذًا لاحظوا البدعة تتعلق بأمور الدين، المصلحة المرسلة ممكن تكون في أمور الدين، وممكن تكون في أمور الدنيا.
شروط المصلحة المرسلة
المصلحة المرسلة لابدّ من ضبطها، وإلا ممكن تكون مدخل للباطل، ممكن يدخلون على الدين أشياء باسم المصلحة المرسلة، ولذلك لا بدّ من ضوابط للمصلحة المرسلة، لا بدّ من شروط، فقد وضع العلماء شروطًا لهذا.
وهذه مسألة التأصيل الشرعي حتى يفهم ماذا يوجد عند العلماء، حتى تتقعد المسائل في ذهنك، والنفس تتشرب، لا بدّ من الغوص في كلام أهل العلم، تفهم ماذا قالوا في الأمر هذا.
بالنسبة للمصلحة المرسلة قالوا من شروطها حتى تكون صحيحة وما تكون مدخل للباطل: لا بدّ من وجود شروط حتى نقول هذا مصلحة مرسلة صحيحة:
أولاً: أن تكون المصلحة حقيقية غير متوهمة، لأن المصلحة المتوهمة لا ينظر إليها، فلو قال قائل: لماذا ما نساوي الذكر بالأنثى في الميراث؟ أليس هذا من العدل؟ هذا الكلام هو مصادم للشريعة مباشرة، لكن الإنسان الذي اقترحه في الغالب اقترحه لمصلحة يراها، مثلاً حتى لا ينتقدنا الكفار، أو حتى نساء الكفار يدخلن في الإسلام، المرأة الكافرة إذا رأت أن عندنا المرأة نصف الذكر في الميراث تقول: هذا اضطهاد، وهذا تمييز ضد المرأة، فنبغى أن نسوى بينهما، أليس الكلام هذا ممكن يكون في ظاهره له وجهة نظرة؟
نقول: لكن هذه مصلحة متوهمة، وإن بدت عند بعض الناس شيء إيجابي لكن هي في الحقيقة شيء سلبي، والله خالق البشر أعلم بما يصلحهم، والذي أمر بدعوة الكفار رجالاً ونساء أعلم بما يشجعهم على الدعوة وما لا يشجعهم، وهو تعالى محيط بالمصالح من جميع الجهات، مصلحة دعوة الكفار، ومصلحة الذكور، ومصلحة الإناث، ومصلحة المجتمع، والمصلحة المالية، وربنا محيط، وبالتالي فإنه لما شرع قانونًا إلى قيام الساعة للذكر مثل حظ الأنثيين فإن هذا هو المصلحة، وأي شيء مخالف -حتى لو واحد ظهر له فيها مصلحة متوهمة- وهمية ليست حقيقة، وإن ترك فرض من فرائض الإسلام أعظم مفسدة بكثير من قضية الكفار ما يعجبهم.
المصلحة المرسلة قلنا: أولاً: لازم تكون مصلحة حقيقية وليست متوهمة.
ثانيًا: ألا تعارض نصًا من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع الصحيح؛ لأنها إذا عارضت فهي مرفوضة ومردودة، وأنها لو ظهرت مصلحة لبعض الناس، إما أنها ستنتج مفسدة أكبر عند التطبيق، أو تفوت مصلحة أكبر، أن هذه المصلحة التي ظهرت لبعض الناس وقال بها لما ننفذها إما تؤدي إلى مفسدة أكبر، وإما تفوت مصلحة أكبر.
لو قال قائل: لماذا تمنعوا الزنا يقضي شهوته وهو راض وهي راضية ما هى المشكلة؟ هذا واضح أن هذا الكلام مخالف لنص صريح، والله سماه فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا[الإسراء:32]، وبغضه وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا[الإسراء:32] ما هو فقط لا تزنوا.
وضع له احترازات كثيرة قضية، تحريم النظر إلى العورات، تحريم الخلوة، وإيجاب الحجاب، ووجوب الاستئذان عند الدخول، وإلى آخره، لنأخذ مثالا أدق، يمكن هذه مسألة واضحة قضية تحريم الزنا.
جئنا بسارق لنقطع يده بعد توفر شروط الحد: بلغ المسروق نصابًا، أخذ من الحرز، ليس جائعًا مضطرًا، توافرت شروط الحد، فقال لنا هو أو ذووه وأقاربه وسفير بلده: تقطعوا يده حسب الشريعة مرحبا؛ لكن نريد طلباً واحداً نريد أن تعطونا اليد المقطوعة بعد قطعها، من فضلكم لا تغمسوها بالزيت بعد قطعها؛ لأنه إذا انغمست بالزيت بعد قطعها مجاري الدم تغلق فلا فائدة من إعادة التركيب.
ماذا تريدون أن تفعلوا؟ قالوا: نريد أن نخيطها، شرعكم على الراس والعين، اقطعوا، لكن تعطونا اليد نفعل عملية جراحية لإعادة خياطتها، نأخذه على المستشفى اتفقنا مع طبيب المستشفى.
إعادة تركيب اليد المقطوعة سيعود على الحد بالإلغاء، كأنه ما حصل، والآن عمليات تقدم العمل في مسألة إعادة الأعضاء المبتورة، منشار كهربائي حادث يعيدونها، وأحيانًا بطريقة احترافية حتى ما تظهر الآثار، معنى ذلك أن هذا سيعود على إقامة الحدود الشرعية بالإبطال، نوع من الاستهزاء، يصير إقامة الحد مسألة شكلية، سنرجع كل شيء مثلما ما كان، فصارت قضية إقامة الحد كأنها سقطت، وبطل مفعولها، والهدف منها ما تحقق.
إذًا هذه المصلحة ملغية ملغاة، ولا يمكن اعتبارها؛ لأنها تنافي أصلاً قصد الشارع؛ لأن الشارع ما قصد من قطع اليد مجرد القطع الشكلي الذي تعود اليد بعده كما كانت.
ثالثًا: يشترط في المصلحة حتى تكون صحيحة ألا تعارض مصلحة مساوية لها أو أعظم منها، فإذا تعارضت المصالح قدمنا ورجحنا أقواها أثرًا وأعمها نفعًا، وإذا تعارضت مصلحة فرد مع مصلحة عامة قدمنا المصلحة العامة للمسلمين، مثال على قضية تعارض المصالح: ممكن واحد يقدم فكرة فعلاً مصلحة، لكن هناك مصلحة أخرى أكبر منها ستفوت وتختل.
مثال: مقترح يقدم إلى مجلس عام من مجالس البلد على مستوى إعلامي: أن عندنا نصف المجتمع نساء تقريبًا 50% النساء، أكثرهن في البيوت، نريد أن نقدم خطة عمل لتشغيل هؤلاء النساء خارج البيوت في شركات، ومصانع، ومؤسسات، ومنشآت، قطاع عام، قطاع خاص، بحيث نستفيد من طاقة المرأة، المرأة هذه أليس لها طاقة عقلية وجسدية؟ نريد أن نستثمر طاقتها، عندنا مشاريع كثيرة في المجتمع ممكن نشغل فيها النساء، تستوعب كل النساء في المجتمع، وبالتالي يصير الإنتاج الزراعي أحسن، الإنتاج الصناعي أكثر، التجاري أوسع، التقني أكثر تطورًا، هذه الفكرة أليست حقيقية؟ أليس فعلاً الآن لو أخرجنا النساء من البيوت وشغلناهن في المصانع والمزارع والمنشآت في جميع القطاعات أليس الناتج القومي الإجمالي الناتج العام -يسموه Gross National Product (GNP) -، هذا الناتج العام في البلد ألن يكون أفضل أكثر أعلا؟ فهذه مصلحة حقيقية، يعني سوف يتحسن الاقتصاد؛ ولكن إذا نظرنا إلى المصالح الأخرى التي ستختل لأجل تحقيق هذه المصلحة، والمفاسد الأخرى التي ستنشأ كيف نحقق هذه المصلحة؟
فإن العاقل المنصف سيشهد بأن هذه المصلحة في الحقيقة مرجوحة لأنها ستفوت مصالح أعلا، وتنشئ مفاسد أشد، ستنشأ مفاسد في قضية حقوق الزوج وتربية الأولاد، ويخرج عندنا نشأ الأولاد ما له علاقة بالأمهات، والمسألة في التربية مختلة، وحقوق الزوج مختلة، وستنشأ عندنا قضايا من جنس الاختلاط، واحتكاك الرجال بالنساء، وإيجاد الثغرات الكثيرة الوقوع في أنواع الحرام، وإلى آخره فتقوية الاقتصاد الذي هو حفظ المال من الضرورات الخمس صارت على حساب حفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وإلى آخره.
فيقول علماء الإسلام: أن هذه مصلحة مرفوضة، وأن المرأة تعمل للحاجة، سواء حاجتها أرملة مطلقة ما عندها مصدر دخل تحتاج للعمل، فتخرج للعمل، أذن لكن أن تخرجن في حوائجكن، أو في حاجة المجتمع لها، ممكن تكون هي مستغنية مستكفية، ولكن المجتمع يحتاج إليها لأمر خاص مثل طبيبة التوليد، تعليم النساء، فالشرع المصلحة الشرعية تقتضي أن خروج المرأة لحاجتها هي أو لحاجة المجتمع لها، وأما تقديم خطة عامة بخروج كل النساء للعمل هذا مرجوح، ومفاسده أشد، والمصالح التي ستفوت بسببه أكثر، ونحن بهذا الطرح راعينا أن في نساء محتاجات تخرج للحاجة بالشروط الشرعية، حاجتها للعمل، أو حاجة المجتمع لها لتعمل في قطاعات خاصة، أما الإخراج الجماعي تفويت المصالح فيه أعظم، وحصول المفاسد فيه أشد، والطرح الشرعي تحت السيطرة، الطرح الآخر خرج كل النساء لا يوجد السيطرة.
هم لما درسوا في الغرب مفاسد عمل المرأة اتضح لديهم حتى اقتصاديًا أن ما سينشأ من المشاكل المكلفة -جرائم يخرج الولد عن أمه ستنشأ عقد نفسية، ستنشأ عنها حالات غير سوية، ستنشأ عنها جرائم، ستنشأ عنها أشياء تتطلب علاجًا، وحاضنة وتكاليف أخرى، ولذلك وصل الأمر ببعض عقلاء الغرب إلى المطالبة بدفع راتب للمرأة التي هي ربة منزل؛ لأنه اتضح أنه في الناهية سيكون الأربح للمجتمع هذا.
رابعًا: أن تكون المصلحة المرسلة في مواضع الاجتهاد، لا في المواضع التي فيها نصوص توقيفية، يعني: ما يمكن واحد يدخل من باب مصلحة مرسلة في قضية اشتقاق أسماء لله جديدة مثلاً، أسماء الله وصفاته هذه توقيفية، وبالأدلة، ومعروفة، وما يمكن الدخول لزيادات فيها، كذلك لا دخل للمصلحة المرسلة إطلاقًا في أخبار البعث والجزاء، والجنة والنار، لا مدخل للمصلحة المرسلة في أصول العبادات، هذه توقيفية، لا يمكن نخترع عبادة جديدة بالمصلحة المرسلة، ولا يجوز الاجتهاد لإثبات عبادة لم يثبتها الشرع، أو الزيادة فيها، أو النقص منها، أو التعديل عليها، فيمكن الاجتهاد في إعمال المقاصد الشرعية بتحقيق بعض المصالح مثل ضرب العملة التي يتعامل بها الناس، مثلاً النبي -عليه الصلاة والسلام- هل صك عملة في عهده؟ لم يصك عملة في عهده، بعد ذلك ظهرت فكرة في الدولة الإسلامية بصك عملة للمسلمين لها وزن معين، لها صفات معينة إلى آخره.
قضية تسجيل الأنكحة والمواريث في السجلات، إشارات المرور إلى آخره، هذه مجالها تدخل فيه المصلحة المرسلة، هذا الاجتهاد فيه صحيح، بعض الناس تختلط عنده البدعة بالمصلحة المرسلة، ويظنهما من باب واحد، وذلك لأن البدعة تجتمع مع المصالح المرسلة في بعض الوجوه، لكن في فروق بين البدعة والمصالح المرسلة.
حتى نأخذ نظرة في الموضوع هذا لا بدّ أن نعرف ما هي مناطق الاشتراك؟ ما هي المساحات المشتركة بين البدعة والمصلحة المرسلة؟ وما هي مواضع الافتراق والاختلاف بين البدعة والمصلحة المرسلة؟ من الذي تصدوا لشرح هذا الموضوع؟ والموضوع يحتاج إلى عمق، ويحتاج إلى قدرة تحليلية عالية، ويحتاج إلى ذهن وقاد، ويحتاج إلى قدرة على التصور والتحليل، والتفريق والتقسيم من العقليات التي مرت على التاريخ الإسلامي، ويعتبر من المكاسب العظيمة، في هذه الأمة عقلية فذة جداً في الحقيقة هو الإمام الشاطبي -رحمه الله- صاحب الموافقات والاعتصام.
نسبة إلى شاطبة، شاطبة من بلادن الأندلس، أخرجت علماء كثيرين منهم هذا الإمام الذي صار كأنه أشهر واحد في البلدة هذه الشاطبي، لأن عندنا أيضاً الشاطبية في القراءات.
الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام عقد بابًا عنوانه: "الفرق بين البدع والمصالح المرسلة"
وقال: "هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة، فإن كثيرًا من الناس عدوا أكثر صور المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات" الاعتصام للشاطبي [2/ 111].
إذًا الشاطبي -رحمه الله- ذهب إلى قضية التفريق والتمييز هذه لأن هناك خلطًا حصل، أن هناك ناس جعلوا المصالح المرسلة بدعاً؛ وقالوا: لكن الصحابة سموها مثل عثمان في جمع المصحف، إذًا البدع صحيحة، هذا خلط خطير، ولذلك شرع رحمه الله في التفصيل لكي تتضح المسألة أكثر.
مقارنة بين البدعة والمصلحة المرسلة
سنذكر بعض الفروقات والاتفاقات بين البدع والمصالح المرسلة:
وجوه اجتماع البدعة والمصالح المرسلة:
ما هي مناطق الاشتراك بينهما؟ ممكن تشترك البدعة مع المصلحة المرسلة أن كلاهما طريقة جديدة، كلاهما لا دليل عليه، يعني: المصلحة المرسلة خالية من الدليل والبدعة خالية منه،
العنصر المشترك الأولى: أن كلاً من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة.
ثانيًا: أن كلا من البدعة والمصلحة المرسلة خال عن الدليل الخاص المعين.
وجوه الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
ما هو الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة؟
المصلحة المرسلة تكون في أمر ديني وأمر دنيوي، وأما البدعة في الأمور الدينية فقط؛ لأنه يتقرب بها إلى الله، اختراع عبادة إذًا تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية، وما يلتحق بها من أمور الدين، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها مناسبة معقولة تدخل في أمور شرعية وأمور دنيوية.
تنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها التقرب إلى الله، بخلاف المصلحة المرسلة، فهي تدخل تحت باب الوسائل، لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، فإذًا المسألة مهمة في المصالح المرسلة، المصلحة المرسلة الصحيحة تحقق مقصدًا شرعيًا، والمقاصد الشرعية: حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ العرض، وحفظ النفس، ومنهم من أضاف حفظ النسل، وبعضهم أدخله في العرض.
لو قال قائل: ما فائدة المصلحة المرسلة؟
المصلحة المرسلة تحقق لنا مقاصد الشريعة، أو بعضها، لازم تساهم في تحقيق شيء من هذا.
ثالثًا: تنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين، وزيادة الحرج عليهم، لأنه هي البدعة أليس عملاً، أليس أمرًا الآن يضيفه المبتدع إلى الدين، فيكون إما أن يوجبه أو يستحبه، فهو زيادة تكليف، فيها زيادة مشقة.
مثلاً: صلاة الرغائب بدعة أول جمعة من رجب، صلاة ليلة النصف من شعبان، أليس هذا عملاً يقوم به المكلف بزعمهم، ولاحظ قول الله -تعالى- عن النصارى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ[الحديد:27]، النصارى لما ابتدعوا هذه الرهبانية، وحرموا على أنفسهم مثلاً الزواج على رجال الدين، لأنه رجال الدين فوق مستوى الشهوات، البابا وجماعته لا يتزوجون، كذلك مثلاً بعضهم حرم اللحم، وبعض الرهبان اعتكفوا في الصوامع، لا ينزل إلى المجتمع ولا يخالط الناس.
رابعًا: فالبدعة في حقيقتها نوع تشديد ومشقة، يشعر الواحد فيها بأنها تضيق عليه، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها تصير إلى التوسعة والتخفيف على الناس، ورفع الحرج عنهم، وحفظ أمورهم الضرورية، ووقايتهم من الشرور والمفاسد.
خامساً: تنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة هادمة لها، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها لا بدّ أن تكون مندرجة تحت مقاصد الشريعة خادمة لها، وإلا لا تكون مصلحة معتبرة.
سادساً: تنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المتقضي لها أو وجود المانع، يعني: لماذا ما فعلها النبي ﷺ؟ لماذا ما جمع القرآن في عهده؟ لماذا ما صلى بالناس التراويح في كل رمضان؟
الجواب: انه لم يقم بجمع القرآن في عهده لعدم وجود المقتضي لذلك، القرآن في الصدور، بعد ذلك في حرب اليمامة حروب المرتدين الحفاظ يقتلون ويموتون، لو استمرت العملية في الحفاظ ممكن يذهب هذا القرآن من الصدور بقتل الحفاظ، وكانوا دائمًا في طليعة الجيوش الإسلامية.
فإذًا جوابنا لماذا فعل أبو بكر وعثمان أشياء ما فعلها النبي ﷺ لأن هذا قد يكون فيه باب في الرد على أهل الرفض الباطنية يتهمون الصحابة، لازم نفهم الموضوع هذا أيضاً، نقول: لأن جمع القرآن يحقق المقاصد الشرعية، فأول مقصد من المقاصد الخمسة حفظ الدين، هذا جمع القرآن يعين على حفظ الدين، ويساهم في حفظ الدين، إذًا ما كان له مقتضي أو داعي في عهد النبي ﷺ، لكن وجد المقتضي بعد ذلك، وجد الداعي.
لماذا ما جمع النبي ﷺ الناس على التراويح جماعة في كل رمضان؟
خشية أن تفرض عليهم، فصلى بهم جماعة وقتًا معينًا، ثم توقف، وهو الرفيق الشفيق بأمته، رفيق بهم، شفيق عليهم، لما مات ﷺ زال المحذور، انقطع الوحي، أبو بكر كان مشغول بحرب المرتدين، وفترة خلافته قصيرة، عمر بعدما وقعت الفتوحات، واستتبت الأمور جمع الناس على أبي، فأعاد تلك السنة التي توقفت في العهد النبوي، كان هناك مانع وزال المانع، فإذًا أي شيء صحيح النبي ﷺ ما فعله إما أنه ما كان يوجد مقتضي له في عهده، أو أنه كان في مانع يمنع منه.
فإذا هناك مصالح مرسلة الصحابة قالوا بها بعد النبي ﷺ تحقق مقاصد الشريعة.
إذًا المصالح المرسلة إذا روعيت شروطها فهي مضادة للبدع، لو كانت مصلحة متوهمة ملغاة تؤدي إلى مفاسد أكبر تفوت مصالح أكبر لا نقول بها، ولا نعتبرها مصلحة مرسلة صحيحة.
بين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ضابطًا مهمًا للتمييز بين البدع والمصالح المرسلة، فقال: "ما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان أمرًا حدث بعد النبي ﷺ من غير تفريط منا، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه" -لاحظ المدينة على عهد النبي ﷺ كانت صغيرة، يعني: مساحة الحرم النبوي الآن تغطي المدينة القديمة كلها، لما توسعت المدينة في عهد الصحابة أكثروا أكثر؛ لأنها هي مركز الخلافة، فيها أبو بكر، وفيها عمر، وفيها عثمان، لما توسعت وصارت الأسواق احتاج الناس إلى ما ينبه على صلاة الجمعة، لا يكفي أذان عند دخول الخطيب، فيتفاجأ الناس على المنبر، فيحتاج إلى تنبيه قبل ذلك الناس يغلقوا أسواقهم، والذي ما اغتسل يغتسل، والذي نام، الذي عليه جنابة، فرأى عثمان بإجماع الصحابة، هذا ما هو اجتهاد خاص بعثمان، وحتى جمع المصحف بإجماع صحابة، الفكرة من واحد ثم يجمع البقية عليها، وإذا عارضوه، قال بعضهم اعترض مثال أبو بكر في كلامه مع المرتدين، قال ضمن الكلام في قضية السلاح والشروط بعد هزيمتهم: وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، تدفعون دية قتلانا ولا ندفع دية قتلاكم، عمر اعترض قال: لا قتلانا شهداء أجرهم عند الله، لا أجر في الدنيا لا دية، ووافق الصحابة عمر مع أن الذي اقترح الموضوع الخليفة نفسه أبو بكر ، على العكس قتال مانعي الزكاة كان عمر ومن معه يرى أنه لا يقاتلون، فلما بين أبو بكر بين أن الزكاة حق المال، ولو منعوني عقالاً، رجع ناس إلى قول الصديق كلهم، هذه القرارات المصيرية، هذا إجماع من الصحابة ليس رأي فردي.
إذًا قضية السبب المحوج إذا ما كان موجودا في العهد النبوي يقول ابن تيمية: "فإن كان أمرًا حدث بعد النبي ﷺ من غير تفريط منا، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إذا كان المقتضي لفعله قائما على عهد النبي ﷺ لكن تركه النبي ﷺ لمعارض أو مانع زال بموته": كصلاة التراويح جماعة فنعود إليه، ونقيمه.
يقول ابن تيمية: وأما ما لم يحدث سببًا يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد" كتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين بحجة أن الناس يتركون، ويمشون، ولا يسمعون الخطبة، قال: "فهنا لا يجوز الإحداث".
لو أقترح أحد: أن توضع حول الكعبة سيور كهرباء، وفيها كراسي والناس تجلس والسير يمشي سبعة أشوط ثم الدفعة التي بعده، السبب المحوج له مزيد من الراحة لحجاج بيت الله الحرام، هنا لا نوافق على أن هذه مصلحة مرسلة.
أقتراح ثاني: نمدد أنابيب من المخيمات في منى، ومن مزدلفة، وحتى من العزيزية في مكة إلى الجمرات، ومن مكة أضغط زراً والحصاة تصل هناك وأنت جالس مكانك. ولو فتحت الباب العبادات كلها تصير في مهب الريح.
قال شيخ الإسلام: "فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد النبي ﷺ موجودًا لو كان مصلحة ولم يفعله يعلم أنه ليس بمصلحة" الآن، ليس مصلحة صحيحة كالآذان في العيدين" اقتضاء الصراط المستقيم [1/ 278-279].
تقسيم البدعة الى حسنة وسيئة
ثانيًا: ومن المسائل التي دخل منها التفريط في باب البدعة استغلال تقسيم بعض العلماء للبدع إلى بدع حسن وبدع سيئة، في ترويج البدع، فقد قسم بعضهم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، يمكن بعضهم لما ألف وصنف وكتب يمكن كان له نظرة، هذا الاجتهاد سبب مشكلات، تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ولو كان فيهم أفاضل كالعز ومحي الدين -رحمهم الله-، ويرى هؤلاء أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة، فإن وافقت السنة فهي حسنة، وإن خالفت السنة فهي سيئة، لكن عندنا نظر: إذا وافقت السنة هل هي بدعة؟ أصلاً ما هي بدعة، وهذا تناقض، النبي ﷺ قال: كل بدعة ضلالة [ابن ماجه:42، وصححه الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة:2735]، وكل من ألفاظ العموم، فلماذا بعد لفظ العموم نقول: بدعة حسنة، كل بدعة ضلالة، فهم كان لهم نظرة أنه إذا وافقت السنة، إذا وافقت السنة ما صارت بدعة أصلاً، فصار كل من اخترع يقول: بدعة حسنة، هذا بسبب هذا التقسيم، هذا ليس موفق نتائجه سلبية.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قوله ﷺ: كل بدعة ضلالةمتعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة، والمتصوفة، والمتعبدة، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة، والكلام في التدين المبتدع، ادعوا أن لهم ألا بدعة مكروهة، إلا ما نهي عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهي عنه، أو كل ما حرم، أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة"، وهذا تقييد ينتج عنه بدع كثيرة، وتجعلها خارج الانتقاد، وخارج التحليل بهذه الطريقة.
قال: "وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل مالم يشرع من الدين فهو ضلالة، وما سمي بدعة وثبت حسنة بأدلة الشرع فأحد الأمرين لازم فيه":
إما أنه سنة، يعني: ليس بدعة أصلاً.
قال شيخ الإسلام: "إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة، كما قال عمر: "نعمت البدعة هذه" [البخاري:2010].
وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة، وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم، وفي قاعدة السنة والبدعة وغيره" [مجموع الفتاوى:10/ 371].
وقال في الاقتضاء: "ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله ﷺ الكلية، وهي قوله: كل بدعة ضلالة بسلب عمومها وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة" بل هناك بدعة حسنة.
قال: فإن هذه إلى مشاقة الرسول ﷺ أقرب منها إلى التأويل" [اقتضاء الصراط المستقيم:1/ 274]، هذا معارضة للنص مصادمة للنص.
وكلام عمر : "نعم البدعة هذه":
أولاً: قالها في صلاة التراويح، وصلاة التراويح النبي ﷺ جمع الناس عليها في ليال من رمضان، فهي سنة ثابتة، وإنما تركها خشية أن تفرض عليهم، فإذًا ماذا يقصد عمر ؟ المفهوم اللغوي للكلمة فقط، ولا يقصدها من ناحية الشرع أبدًا، إذ كيف يطلق على أمر فعله ﷺ، وجمع الناس في ليلة ثلاثة وعشرين، وخمسة وعشعرين، وسبعة عشرين قالوا: "خشينا أن يفوتنا الفلاح" -السحور- [أبو داود:1377، وصححه الألباني صحيح أبي داود:1227] يعني: ورجعوا مسرعين إلى البيوت، قام بهم أكثر الليل، كيف يقال عنها: بدعة، يقصد عمر رجوع الأمر إلى ما كان عليه، هذا الشكل الجديد الذي انقطع جزء من وقت النبي ﷺ، وخلافة الصديق، وصدر خلافة عمر، الآن رجع مرة ثانية، فصار كأنه شيء جديد استجد، وهذا وجه قوله: "نعمت البدعة هذه"، هذا مستجد، صارت كأنها إحياء، إعادة الأمر إلى ما كان عليه، الناس الذين ما كانوا عايشين في عهد النبي ﷺ بالنسبة لهم فوجئوا، وعمر جمع الناس على أبي شيء جديد بالنسبة لهم، لكن في الحقيقة ما هي بدعة، هي أصلاً سنة، فأصل الاجتماع في تهجد رمضان قد فعله ﷺ.
قال الشاطبي -رحمه الله-: "إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله ﷺ واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي".
وعند ذلك لا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه" -الذي نحن الآن بصدده، يعني: أصل البحث-قال: "لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه"، يعني: إذا كان استعملنا عبارة عمر في القضية- "فقد قالت عائشة : "إن كان رسول الله ﷺ ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم" [رواه البخاري: 1128، ومسلم: 718]. هذا كلام الشاطبي في الاعتصام. [1/195].
ماذا يتعلق به أصحاب البدعة الحسنة من النصوص؟
ممكن يستدلوا بحديث: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء[رواه مسلم: 1017].
الجواب: الدليل عام من سن سنة حسنة، كذا الموقف الذي قال فيه النبي ﷺ هذه العبارة، الموقف الذي قال فيه العبارة قضية مهمة مثل أسباب النزول، من أجل تعرف شرح الآية، وكذلك أسباب ورود الحديث الشريف، هذه وردت في قصة لما جاء هؤلاء القوم جياع، والنبي ﷺ تكدر من هذا، فقر المدقع وعراة ما عندهم ما يستر إلا شيء بسيط، وجياع، والنبي ﷺ ندب الناس: تصدق رجل من صاع بره، من صاع تمره، وكذا صاع اتقوا النار ولو بشق تمرة، فجاء رجل من المسلمين بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي ﷺ، وقال: من سن سنة حسنة فله[مسلم: 1017].
إذًا قال: هذه الكلمة تعقيبًا وتعليقًا على فعل مسلم لما ندبهم للتبرع والتصدق جاب صرة عظيمة، وفتح الباب، فتتابع الناس فقال: من سن سنة حسنة، فكأنه ذكر الناس بالعمل المشروع، وكان قدوة لهم بالعمل المشروع، فسن السنة عمل بها في الواقع، وأعادت التذكير بها، وأحياها بين الناس، وهذا الحدث يفسر الجملة التي قيلت بمناسبة، فأنه لا يمكن فصل جملة عن المناسبة التي قيلت فها.
فإذًا الصدقة أصلاً مشروعة والحديث حديث جرير بن عبد الله الطويل في الناس الذين جاؤوا حفاة عراة مجتابي النمار، والنبي ﷺ ذكر يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة فجاء رجل بهذه الصرة، فقال ﷺ: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء [مسلم: 1017].
قال الشاطبي: فتأملوا أين قال رسول الله ﷺ: من سن سنة حسنة، ومن سن سنة سيئة تجدوا ذلك" -تجدوا الجواب للتوضيح- "فيمن عمل بالمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حيث أتى بذكر الصرة فانفتحت بسببه الصدقة على الوجه الأبلغ، فسر بذلك النبي ﷺ حتى قال: من سن في الإسلام سنة حسنة، فدل على أن السنة ها هنا مثل ما يفعل ذلك الصحابي"، وهو العمل بشيء مشروع في الدين الصدقة، وليس المقصود البدعة. [الاعتصام: 1/183].
فإذًا هذا واضح ولا يحتاج إلى نقاش، القضية محسومة.
الذين قسموا البدعة وقعوا في مسلسل بدعة واجبة، وبدعة مندوبة، وبدعة مباحة، وبدعة مكروهة، وبدعة محرمة، ولكن في الحقيقة أن هذا الكلام ليس وبوجيه، ولو كما قلنا يعني دخل فيه العز وتلميذه القرافي، وحاولوا، وقالوا البدعة الواجبة كتدوين القرآن، والبدعة المحرمة كالمكوس، والبدعة المندوبة صلاة التراويح جماعة، والبدعة المكروهة تخصيص أيام الفاضلة بنوع من العبادات، والبدعة المباحة اتخاذ المناخل للدقيق.
أصلاً هذه الأشياء الصحيحة التي فيها ما تسمى بدعة أصلاً، لماذا تسميها بدعة؟
قال الشاطبي -رحمه الله-: "هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو نفسه متدافع، وفيه تناقضات؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعد، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعًا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين أو متناقضين" [الاعتصام: 1/192].
قال الشيخ عبد الرحمن البراك: هذا التقسيم يصح باعتبار البدعة اللغوية، أما البدعة في الشرع كلها ضلالة ما يمكن.
من مظاهر الانحراف في البدعة الاحتجاج على البدعة بالأدلة الشرعية العامة، أو بالاحتجاج بالعموم على الخصوص، وهذا له أمثلة، مثلا يقول قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] فيخصص عددا سبعة وعشرين صلاة، أو الصيغة "اللهم صل على نور الهدى محمد، اللهم صل على شمس الضحى محمد، اختراع صيغ، ويحتج بالآية.
الجواب: هذا احتج بالعموم على الصيغة الخاصة التي اخترعتها، لماذا ما تفسر الآية بالصلاة الإبراهيمية؟ وبما ورد، ليس لك حق في هذا.
والاستحسان ختامًا هو السبب الذي يدخل منه بعض هؤلاء الناس؛ لأن "من استحسن فقد شرع" كما قال الشافعي. استحسانات لكنها في الحقيقة مخالفة لحديث الإسلام وقواعده، مثل: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد [البخاري: 2697، ومسلم: 1718]، من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد [مسلم: 1718].
بذلك نكون قد أنهينا ما يتعلق بموضوع البدع والتبديع، وهذا نهاية هذه الدورة في هذا الموسم، ولعلنا نعود -إن شاء الله في مناسبات قادمة للمزيد من الكلام عن موضوع منهج السلف الصالح، وحماية منهج السلف الصلاح.
نسأل الله أن يحيينا على السنة، وأن يميتنا عليها، ونسأله أن يحشرنا في زمرة محمد بن عبد الله ﷺ وأن يجعلنا لسنته آخذين، وعنها منافحين ومدافعين، أنه سميع مجيب، والله تعالى أعلم.